الدِّينُ والسِّياسَة في باكِسْتان

كانت تصفية الاستعمار شغلانًا جديدًا للباحثين في علم السياسة أو علم الدولة والحكومة، وهو العلم الذي يبحث في تكوين الدول وفي العناصر الاجتماعية التي تهيئ مجتمعًا من المجتمعات لإقامة الدولة أو الحكومة المستقلة فيه.

وقد زال الاستعمار عن بلاد كثيرة كان بعضها خليطًا من الشعوب والأجناس والعقائد واللغات والمصالح الاقتصادية والمواقع الجغرافية، بغير رابطة تجمعها إلى وحدة مشتركة غير سيطرة الدولة المستعمرة عليها جميعًا بسلطان القوة والسطوة، فلما ارتفعت عنها هذه السيطرة تفرقت فاشتغلت كل منها بسبب من أسباب الاستقلال، وتجدد البحث العلمي في عناصر الوحدة التي تصلح لقيام الدولة المستقرة في وطن من الأوطان.

هل هي وحدة الجنس والعنصر؟ نعم، قد تكون هذه الوحدة قوام الدولة، ولكنها قد تتم في بلاد ولا تتم في بلاد أخرى توافرت لها معالم الدولة المستقلة، كالبلاد السويسرية التي ينتمي سكانها إلى أمم الجرمان والطليان والفرنسيين، ويتكلمون اللغات الثلاث، ويدينون بمذاهبَ مختلفةٍ منَ المسيحية.

هل هي وحدة المصلحة المشتركة؟ نعم أيضًا، ولكن البلاد قد تتولاها حكومة واحدة وهي في قطر من أقطارها زراعية، وفي القطر الآخر صناعية، وفيما بينهما أو في جوارهما تجارية تتعارض مصالحها المتفرقة في هذه المرافق ثم تجمعها فوق ذلك مصلحة أهم منها وأدعى إلى الوفاق والاتحاد، كالولايات المتحدة وبعض الجمهوريات الأمريكية أو الأوروبية.

هل هي الوحدة الجغرافية أو الوحدة التاريخية؟ نعم أيضًا، ولكن مع الاستثناء الواضح في كثير من الحالات؛ فإن «باكستان» تنقسم إلى قسمين بينهما مئات الأميال، والجزر البريطانية وحدة جغرافية متقاربة، ولكنها أشتات من المواضي والتواريخ والسلالات البشرية.

هل هي وحدة الدين؟

لقد سُئِلَ هذا السؤال وهمَّ علماء السياسة بالإجابة عليه بالنفي، وكادوا ينسبون مطالبة المسلمين من أهل الهند بالاستقلال إلى شذوذ «الرجعية الإسلامية» لولا أن حركة الاستقلال في الهند كانت مقرونة بظهور اسم إسرائيل في معترك السياسة الدولية، فتعذر على العلماء «المنصفين» أن يتهموا إسرائيل بالرجعية الدينية كما شاءوا أن يتهموا بها طلاب الاستقلال من أبناء باكستان، وتعذر عليهم من الجهة الأخرى أن يفرقوا بين الوحدتين في المصطلحات العلمية، فسمحوا بالعامل الديني مع العوامل الأخرى التي تهيئ البلاد لوحدة الدولة أو وحدة الحكومة.

ولقد كان مؤسس العلم السياسي ابن خلدون يفطن لهذه العوامل ولا ينسى منها عامل الدين في مقدمته الوافية؛ حيث يقول عند الكلام على قوة الدين وقوة العصبية: «إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها … وإن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتفرد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء؛ لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه، وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل …»

ولكن الباحثين العصريين الذين يذكرون كلام ابن خلدون ولا يهملونه في هذا الصدد يستشهدون به ثم يعرضون عنه؛ لأنه لم يعمل على «تطوير» هذه الفكرة وإدماجها في أبواب التقسيم العلمية، وهكذا صنع الأستاذ ليونارد بايندر Binder صاحب الكتاب الذي تراجعه في هذا المقال، واسمه: «الدين والشئون السياسية في باكستان Religion and politics in Pakistan».

إن الأستاذ «بايندر» مؤلف الكتاب عضو في قسم الدراسات السياسية المتخصصة لمسائل الشرق الأوسط والشرق الأدنى، وله مباحث يجريها في البلاد المصرية من قبل معهد روكفلر، ويظهر من تعليقاته على آراء المختلفين من أصحاب البرامج السياسية والدينية في الأمم الإسلامية أنه يجتهد في الحيدة بينها غاية اجتهاده، فلا يتورط في العصبية على النحو الذي ينساق إليه خدام التبشير والاستعمار.

يرجع المؤلف إلى موقف المسلمين في الهند من الدولة البريطانية ومن الحضارة الغربية على التعميم، فيلاحظ الحقيقة التاريخية المتفق عليها؛ وهي يقظة المسلمين للدفاع عن كيانهم على أثر الاحتكاك بالسياسة البريطانية ومظاهر الحضارة الحديثة التي كان لها جانباها من الأثر الحسن والأثر السيئ في التعليم والعادات الاجتماعية.

فاجتمعت كلمة الدعاة المسلمين على وجوب التبديل والإصلاح، واختلفوا في المنهج على حسب اختلافهم في تعليل أسباب الضعف التي أصابت العالم الإسلامي بأسره، ومنه المسلمون الهنديون.

فالذين عللوا ضعف المسلمين بإعراضهم عن العلوم الحديثة طلبوا الإصلاح من طريق العمل الحثيث على مجاراة الأوروبيين في حضارتهم، وضاعفوا السعي إلى هذه الغاية بعد شعورهم بغلبة مواطنيهم عليهم؛ لأنهم أقبلوا على التعليم الأوروبي فكثر منهم المرشحون لوظائف الدولة والأعمال العامة.

والذين عللوا ضعف المسلمين بإعراضهم عن آداب دينهم وابتعادهم عن منهج السلف في أخلاقهم ومسالكهم طلبوا الإصلاح من طريق حركة «الإحياء»؛ وهي حركة التجديد الإسلامي بالعودة إلى سنن المسلمين الأولين، وقصروا جهودهم في إحياء الماضي على تجديد تاريخ السلف الإسلامي دون السلف القريب الذي ارتبط بتاريخ دول المغول.

وقد عصم هذه الحركة أن تكون رجعة إلى الوراء؛ أن طلاب الإحياء إنما طلبوا الرجوع إلى الأصول الأولى بغير استثناء أو تمييز بين المراجع إلا أن يقضي به الاجتهاد في التوفيق بين السنة المختارة والضرورة العصرية، فوجب على أصحاب هذه الدعوة — إذن — أن ينبذوا التقليد ويعتمدوا على الاجتهاد في اتباع السنة التي يهديهم إليها التفكير المستقل والنظر في مطالب الزمن ودواعي المصلحة الحاضرة، وكادت هذه الدعوة المستقلة أن تقارب بين الفريقين المتعارضين، وهما فريق التعليم الحديث وفريق الإحياء على سنة السلف مع الاجتهاد في الاختيار والاستقلال بالتفكير؛ لأن هذا الاستقلال خليق أن يعصم الحركة من جمود التقليد الأعمى وكراهة التجديد إصرارًا على القديم بغير تبديل.

ولما ووجهت الباكستان بالمشكلة الاقتصادية كان فريق من دعاة الإصلاح يجنح إلى نظام سماه بالديموقراطية الإسلامية، وترجمه المؤلف إلى الإنجليزية بكلمة الديموقراطية الإلهية Theo-democracy.
وكان فريق آخر — وعلى رأسه لياقت علي خان — يدعو إلى الاشتراكية الإسلامية، ويقول في تصريحاته السياسية: إنه لا يعرف «إزمًا» يدين به غير الإزم الذي يلحق باشتراكية الإسلام! ويعني بالإزم هذه الحروف الأجنبية Ism التي تلحق بأسماء المذاهب عند الغربيين، فلا مذهب له في السياسة ولا في الاجتماع غير مذهب الاشتراكية على حسب عقائد الإسلام، وفسر كلمة الدولة الإسلامية بقوله: إنها «هي الدولة التي سلمت من المنازعات الداخلية؛ حيث يجزى كل إنسان بعمله ولا يحتمل بقاء الطفيليين، وإن من الواجب الأول على الحكومة الإسلامية أن تبطل كل ضرب من ضروب الاستغلال والتسخير.»

قال المؤلف: ولكن دعوة لياقت خان كانت تبدو أحيانًا كأنها دعوة إلى شيء يخالف الفهم المعتاد للاشتراكية كما يخالف الفهم المعتاد للإسلام، وخلاصة هذا المذهب أنه يسعى إلى توفير القوت والكساء والمأوى والعلاج والتعليم لعامة الفقراء، ومن الصعب في رأي المؤلف أن نذكر نظامًا من النظم الاقتصادية لا يزعم أن هذا المسعى غرض مباشر أو غير مباشر من أغراضه المقصودة.

ويمضي المؤلف فيقول: إن السند الإسلامي للنظام الاشتراكي يقوم على فريضة الزكاة، وواجب الصدقات وأحكام المواريث وتحريم الربا وحماية الملكية، واعتبار الدولة مسئولة عن توفير أسباب المعيشة لجميع رعاياها، ومن ذلك في صدر الإسلام فريضة الأرزاق التي كان الخليفة عمر بن الخطاب يفرضها لبعض المستحقين.

وعقب المؤلف قائلًا: إن ما سماه لياقت خان اشتراكية إسلامية لا يعدو أن يكون مزيجًا من نظام رأس المال ثم الضمان الاجتماعي ثم «الله» … وإن هذه الفكرة الغامضة قد استندت إلى ركن يؤيدها من «ضرورة الرأسمالية الحكومية»، وهي ضرورة محسوسة حيث تتأخر الصناعة في البلاد كما هي الحال في باكستان، ولم يغفل الداعون إلى الإصلاح الاجتماعي على هذه القواعد عما يستتبعه من «الإجراءات الإدارية» عند التطبيق، ولكنهم نظروا إليها نظرتهم إلى صعوبة تعالج في الطريق ولا تستدعي تقرير مبدأ سابق كفرض الادخار الجبري أو الاستيلاء أو إلغاء المصارف وما إليها.

وأشار المؤلف في ختام الكتاب إلى طائفة من فقراء الطبقة الوسطى بين أبناء باكستان تميل إلى إقامة «وطنية باكستانية» منعزلة عن الصبغة الدينية، وهو اتجاه لا يستطاع الحكم على نتائجه منذ الآن، ويتوقف التطور الديمقراطي في البلاد، آخر الأمر، على تقدم الإصلاح الاقتصادي وانتشار التعليم معًا على خطوة واحدة، وبذلك يصبح النظام الإسلامي بذاته مصدرًا مستقلًّا في عوامله السياسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤