خَطَأُ الْمُقَارِنينَ لَا خَطَأُ الْمُقَارَنَةِ

تصدر باللغة الإنجليزية مجلة كبيرة تسمى «تاريخ اليوم» History Today تختار أصحاب الشهرة بالمباحث التاريخية للكتابة في المبحث الذي تفرغوا له وتوفروا عليه، وتعرض المناسبة للكلام عنه تعليقًا على حادث مشهور من حوادث العصر الحاضر، وقد كانت قضية فلسطين إحدى المناسبات التي دعت هذه المجلة إلى اقتراح الكتابة في تاريخ الخليفة عمر رضي الله عنه، فندبت لكتابة هذا التاريخ الأستاذ سوندرز Saunders المحاضر الأول لدروس التاريخ بجامعة كانتربري بزيلانده الجديدة، ونشرت له في عددي شهر مارس وشهر أبريل الماضيين مبحثًا مطولًا في هذا الموضوع بعنوان «الخليفة عمر المستعمر العربي!» يخرج منه القارئ بنتيجة من أغرب النتائج عن الدعوة المحمدية والدولة الإسلامية، فحواها أن دخول الإسلام إلى فلسطين إنما كان مصادفة كمصادفات الضرورات السياسية أو العسكرية، وأن نبي الإسلام — صلوات الله عليه — لم يكن يفكر قط في الدعوة إلى دينه خارج الجزيرة العربية، وأن الخليفة عمر بن الخطاب هو ناشر هذه الدعوة، وموجه الإسلام إلى العالم بوحي من ضرورات السياسة، بدا لخلفاء النبي بعد فتنة الردة وقلق الخلفاء على المسلمين أن يبقوا في حدود الجزيرة العربية بغير شاغل يصرفهم عن منازعاتها وعن مشكلات الساعة التي تتولد بين قبائلها وشعوبها.

ويقول الأستاذ سوندرز في أول مقاله المطول: «ما من دليل وافٍ يدل على أن محمدًا — صلوات الله عليه — كان يتصور الإسلام دينًا عالميًّا لجميع الناس، أو يتصور أنه أرسل لهداية شعب من الشعوب غير شعبه العربي، وليست قصة رسائله إلى الإمبراطور هرقل وشاه فارس وملك الحبشة وغيرهم من الرؤساء للدخول في دينه بالقصة التي تقوم على أساس.»

ثم يقول: «ولا شك أن محمدًا لم يفكر في فتح العالم، وإنما اعتقد أن واجبه الأول أن يمهد لأبناء أمته أسباب الإيمان بدينه، فإذا صدوه عن دعوته فواجبه إذن أن يقابل القوة بالقوة.»

ويرى الأستاذ الخبير باللغة العربية وتاريخ الإسلام! «أن كلمة «أمير» باللغة العربية تعني أولًا إمارة الجيش، وأن تحويل لقب عمر من خليفة رسول الله إلى أمير المؤمنين كان على ما يظهر فاتحة عصر الفتوح؛ إذ يصبح الخليفة قائدًا أول للإمبراطورية التي أخذت في الاتساع …»

وبعد هذه المقدمات يسترسل المؤرخ في تفصيل هذه الفكرة، فيستند في قواعدها إلى مصدرين بارزين: هما الأمير كايتاني الإيطالي والمبشر الفرنسي المتعصب بيير لامنس الذي خلق قصة الثالوث المتسلط على دولة الإسلام الأولى من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة!

ولا حاجة إلى الإطالة في بيان جهل المؤرخ بالموضوع الذي تصدى له وحسبته المجلة المتخصصة للتاريخ في العصر الحاضر أهلًا للاعتماد عليه دون غيره في هذه المسائل الإسلامية؛ فإن هذا المؤرخ لم يكن مطالبًا بقراءة شيء عن الدعوة المحمدية غير ما وصفت به هذه الدعوة في كتاب الإسلام الأول؛ فإنه يعلم من القرآن في كل وصف الدعوة المحمدية أن محمدًا — عليه السلام — كان رسول رب العالمين إلى جميع العالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وأن رب الناس وملك الناس هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.

ففي كل آية من آيات الدعوة المحمدية غنى للمؤرخ المحقق عن الرجوع إلى إسناد كإسناد كايتاني ولامنس، وعن اصطناع «الدقة العلمية» في استقصاء أخبار الرسائل النبوية إلى هرقل وكسرى والمقوقس والنجاشي، ولو ثبت له بعد ذلك الاستقصاء أنهم لم يوجدوا في زمانهم ولم تبلغهم رسالة من رسول … فمن جهل رسالة القرآن كلها فالعجب أن ينتظر الخبر اليقين من قرطاس مطوي في بيزنطة أو في غيرها يحتمل الشك والإنكار!

إن ضخامة الخطأ مع سهولة العلم بالصواب خليقة أن تفتح باب الاتهام في سلامة المقصد قبل الاتهام في سلامة التفكير، وإذا كانت القضية قضية فلسطين فما أكثر الشبهات التي تحوم حول كل تاريخ يتصل بتاريخها الحديث! وما أكثر الدفائن والخبايا التي يستخرجونها من أعماق الزمن المجهول لتزييف الحاضر المعلوم!

يجوز أن يكون المقصد من ذلك «التحقيق العلمي» أن يعلم أبناء العصر أن دخول الإسلام إلى فلسطين إنما كان بعض الطوارئ العارضة التي لم يقصد إليها نبي الإسلام إلا انقيادًا لمطمع عاجل من مطامع الاستعمار.

يجوز هذا، ويعززه أن عدد شهر مارس الذي ظهر فيه المقال الأول عن «الخليفة المستعمر!» قد تحلت صفحته الأولى بصورة النبي «موسى واضع الشريعة»، ودارت أخباره كلها على «تأصيل» علاقة العبريين بفلسطين من عهد إبراهيم الخليل، ثم على تسويغ هذه العلاقة بهجرة العبريين من مظالم وادي النيل إلى أرض الميعاد!

يجوز هذا، ويدل مع هذا على «عمق أغوار» الدعاية التي تحيط بهذه القضية، ولا تتورع عن تسخير العلم والتاريخ لتأصيل الدعوى حول جذورها من وراء السياسة والتبشير.

وعلينا عند النظر في أقوال هؤلاء المؤرخين للإسلام أن نرقب مقاصدهم، ومظانَّ الشبهة في آرائهم ودعاواهم؛ لأن النيات والأعمال بمنزلة واحدة في قضايا الإسلام العصرية، حيثما اشتبكت بمساعي الدول والحكومات.

ولكن الشبهة الغالبة في مجال البحث الديني إنما هي تلك الشبهة التي تملك عقولهم ونياتهم ولا يملكونها أو يملكون القصد والاختيار فيها، وإنما ترد عليهم تلك الشبهة الغالبة من قبل هذه الدراسات الحديثة التي أولعت بعضهم «بالمقارنة بين الأديان»، فذهبوا — مخلصين — في الْتِمَاسِ وجوهِ الشبهِ بينها حيث يوجد الشبه وحيث تنقطع كل لمحة من ملامح المشابهة من قريب أو بعيد.

وأخطر هذه المشابهات والشبهات على عشاق المقارنة: أن المراجعة «السطحية» تقارب عندهم بين تواريخ الأنبياء الكبار في نشر دعوتهم أثناء حياتهم وبعد انتهائهم من أداء رسالتهم، فقضى موسى — عليه السلام — قبل أن يدخل أرض الميعاد، وقام بولس الرسول بالعبء الأكبر في نشر المسيحية بعد ختام رسالة السيد المسيح، وهكذا ينبغي في تقديرهم أن يكون عمر بن الخطاب هو ناشر الإسلام ومؤسس شريعته بعد النبي وصاحبه الصديق.

والخطأ — كما قلنا في عنوان المقال — إنما هو خطأ المقارنين وليس بخطأ المقارنة بين الأديان على إطلاقها، أو خطأ المقارنة بين نشر المسيحية ونشر الإسلام على الخصوص.

ومرجع الخطأ في تقدير المقارنين أنهم نظروا إلى الحركات الظاهرة ولم ينظروا إلى أسبابها الأولى في طبيعة كل من هذه الدعوات وفي سيرة كل من أصحاب الديانات الذين اشتركوا في إبلاغها إلى الناس، على نهج لم يتفق بين رسولين ولا بين رسالتين.

فمن الحركات الظاهرة أن الرسول بولس كان في مبدأ سيرته أشد الأعداء على المسيحية، ثم آمن بها فكان أكبر الناشرين لها خارج بلادها، ويشبه هذا أن عمر بن الخطاب كان عدوًّا للإسلام ثم انتصر به الإسلام في موطنه وانتصر به بعد ذلك في مواطن الفرس والروم.

فالمقابلة — إذن — تامة بين الدعوتين، وبين الرجلين.

ولكنها — عند الرجوع إلى الأسباب الأولى — مقارنة مبتورة تبتدئ بعد منتصف الطريق، وتنسى وجوه الاختلاف، وهي — عند البحث عنها — أظهر من جميع هذه المشابهات.

فالسيد المسيح لم يجاوز في نشر دعوته مدى أربع سنوات، ولم يبلغ هذا المدى في رأي بعض المؤرخين.

والنبي محمد — عليه السلام — قضى نحو عشرين سنة، ولم يبقِ بقية لأحد من أصحابه يتمم رسالته أو يعلم المسلمين ركنًا من أركان الدين لم يحفظوه من آيات القرآن ومن سنة رسوله.

وقد كان النبي — عليه السلام — يدعو العرب وغير العرب إلى الدخول في دينه، وكان يخاطب بني إسرائيل برسالته، كما كان يخاطب بها المهاجرين والأنصار من أبناء قومه، وكان رسولًا من الأميين إلى الأميين وإلى جميع العالمين كما علم منه أهل الكتاب والمشركون في مكة وفي المدينة، وفي كل مكان بلغت إليه الدعوة من الجزيرة العربية وما وراءها، وليس جواب المقوقس له ولا زواجه — عليه السلام — من السيدة مارية القبطية بالخبر الذي يتوقف على تحقيقات «لامنس» ومن استمع إليه.

أما بولس الرسول فقد خاطب الأميين لأنه يئس من خطاب بني إسرائيل، وقد روى بولس وغيره عن السيد المسيح أنه بعث «لهداية خراف بيت إسرائيل الضالة»، وأن الخبز الذي يحتاج إليه أبناء البيت حرام أن يطرح أمام الكلاب، وقد ضرب المثل في الأناجيل بالوليمة التي أعرض عنها المدعوون إليها، فأمر السيد عبيده بدعوة الغرباء إلى البيت حتى يمتلئ ولا يبقى فيه مكان لمن دعاهم فلم يستجيبوا الدعاء.

ولم يكن في وسع بولس الرسول أن يدعو اليونان والرومان إلى المسيحية ليقول لهم: إن السيد المسيح قد بعث لخلاص بني إسرائيل منهم، وإن الأمم الأخرى لا يحق لها أن تطمع في الخلاص بهذه الرسالة وهو يدعوهم إليها، فلم تكن لبولس الرسول من قبلة يلجأ إليها غير هذه القبلة، ولم تكن خطة الخليفة الثاني ولا الخليفة الأول تجديدًا لهذه الخطة أو وجهًا من وجوه المقارنة بين نشر الدعوة العالمية في الإسلام، ونشر تلك الدعوة من قبل في المسيحية، وإنما تقع المقارنة هنا للمقابلة بين حالتين متناقضتين؛ إذ كانت دعوة بولس للأمم بديلًا من دعوة بني إسرائيل المعرضين عنها، وكانت قبلة بيت المقدس في الإسلام أول قبلة أقيمت عليها الصلاة الجامعة، ثم استقامت هذه القبلة على البيت الذي يستقبله أهل المشرق والمغرب من أمم «العالمين».

•••

وإذا انتهينا من هذه المقارنات إلى المجال الذي اختاره «مؤرخو العصر» لتحقيقاتهم «العلمية»، فقد نعلم — إذن — أن دخول الإسلام إلى فلسطين لم يكن فلتة من فلتات المصادفة العشواء، ولكنه كان نتيجة منتظرة لمقدمات مقررة، وجوابًا من القدر على عناد بني إسرائيل ووفاء لوعد اللهِ خليلَه إبراهيمَ مع أبناء له غير أبنائه الذين تنكروا لكل نبي من ذريته الصالحة، من قبل موسى وهارون إلى ما بعد عيسى والحواريين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤