الفصل الثامن

فقر السلوك

كلما سافرت وأوغلت في بُعدي عن الشرق الأوسط، أحسستُ بمدى ما للعرب من خطورة وأهمية في عالم اليوم، أو بالتحديد في عالم الثمانينيات، هذه المرة كنتُ أحضر مؤتمرًا عالميًّا آسيويًّا أفريقيًّا للقصة القصيرة في الهند، وانتهزت الفرصة وزرت كثيرًا من بلاد جنوب شرقي آسيا، وفي هذه الجولة أحسست بمدى وخطورة الدور الذي يلعبه العرب الآن، ليس فقط في الوضع الاقتصادي العالمي، ولكن خطورة ما يُمكن أن يلعبوه في الوضع السياسي، بل والثقافي العالمي.

إن العالم — وبالذات في هذه المنطقة الزاخرة بالبشر من العالم — يَنظر إلى العرب نظرة ليست بسيطة بأي حال، بل هي معقَّدة بالغة التعقيد، فيها نظرة من نظرات الفقير في أي مكان من العالم، إلى أيِّ ثري من أثرياء العالم؛ الحسد مرة، والحلم بامتلاك جزء من ثروته مرة، ونفاقه مرة، وتقديم آيات الاحترام له مرة، الخضوع الظاهر له، والتمرُّد الباطن عليه وعلى الحظ النفسي الذي جعَل البترول يتفجَّر في أرضه الصحراوية القاحلة فيُحيل منطقة من أفقر مناطق العالم طبيعةً وجوًّا إلى مكان يضمُّ أثمن كنز ادَّخرته الجيولوجيا لشعب من شعوب الأرض.

ولكنَّ الذي لا شك فيه أن جنوب شرقي آسيا من الأمكنة التي يَحظى فيها العرب باحترام عميق.

فالإحساس الأول الذي انتابني وأنا أسمع آراء الناس من مختلف الفئات، كُتَّابًا ومثقَّفين، وتكنوقراطيين، وحِرَفيين، وسائقي تاكسي، وأُناسًا من عامة الشعب؛ الإحساس الأول أننا كعرب لا نعرف بالضبط مدى ولا كُنهَ قوَّتنا، ويبدو أننا بخلافاتنا العربية الصغيرة والكبيرة، بمُشاحناتنا، بصراعاتنا الداخلية التي تَستنزِف معظم تفكيرنا وطاقاتنا، استغرَقَنا هذا كله إلى درجة لم نجد وقتًا بعد لنتصوَّر وضعنا «الكُلي» وسط العالم، ولا انتبهنا تمامًا لكيف ترانا عيون العالم، كل انتباهنا لا يزال مُوجَّهًا إلى الصور الكاريكاتورية التي تُشنِّع بها الصحف في كثيرٍ من بقاع الدنيا على الشخصية العربية الغنية، يفور دمُنا في عروقنا لدى رؤيتها، ونسبُّ راسميها وناشريها، ونكظم الغيظ ضد هذا الغرب الذي يسخَر مِنَّا، وأبعد من هذا لا نرى.

الناس في آسيا، وبالذات في جنوب شرقي آسيا، لا يقرءون الصحف اللندنية ولا الغربية، ولا يرون العرب كثيرًا بالعقال، ولكنهم يسمعون ويعرفون تمامًا المملكة العربية السعودية وأبو ظبي وقطر والإمارات العربية والكويت، يَعرفون العراق وليبيا، يعرفون مصر، ويُتابعون أخبار القضية الفلسطينية وموقف إسرائيل. باختصار يَعرفوننا كدول وكسياسة، وحُلم كل طبيب في الهند أن يعمل في السعودية، وكل سباك في الفلبين أن يَحظى بعقد عمل في أبو ظبي، وكل ممرضة في الفلبين تَحلُم بمستشفى في بلاد البترول.

وهم ليسوا كالناس في أوروبا يَخافون على الحضارة الغربية من أن يَغتالها العرب المتوحِّشون؛ إذ هم يَعرفون أن العرب مثلهم آسيويون شرقيون، ولا يُفكِّرون أبدًا في الهجوم على دول الخليج واحتلال مناطق البترول، ولا يضعون الخطط لقوات التدخل أو الاحتلال السريعة، ولا شيء أبدًا من الأفكار الجشعة التي تهجس بها خواطر الناس في أمريكا وأوروبا.

الحقيقة أفكار مسالمة تمامًا هي ما كنتُ أسمعها، أحلام بأعمال ومشاريع ومقاولات وشركات مشتركة، أشياء جعلتني أكاد أُوقن بأن التفكير في استعمار الآخرين واحتلالهم واستعبادهم ظاهرة أوروبية محضَة، ربما نمت كامتداد لفكرة التبشير التي انشغَلَت بها الكنيسة في أوروبا القرون الوسطى ردحًا طويلًا من الزمان وإلى الآن. في آسيا، مع كثرة الديانات واختلافها الشاسع، لا أحد يريد لأحد آخر أن يَعتنق دينه، ربما العكس هو الصحيح، فكل طائفة تُقاوم أن يدخلها آخرون أو على الأقل تجعل دخولها أمرًا صعبًا في حاجة إلى تلمذة ومران طويلين.

وربما لهذا لا يفكر أحد في التحكُّم في أرض أحد آخر أو مصيره، بل كانت دائمًا هذه البلاد ضحايا لغزو تتري مرة أو مغولي مرة أو أوروبي مرة أخرى.

•••

أقول هذا لأنني أعتقد أننا نحن العرب أطَلْنا التطلع إلى الغرب أكثر بكثير من اللازم، زمنًا وانبهارًا وتقديرًا يرتفع إلى حد التقديس، بل نحن لا نَزال إلى الآن نتطلع إلى ما يحدث في باريس أو لندن أو نيويورك، وكأنها عواصمنا الوجدانية والعقلية، في حين أن الغرب في حقيقة أعماقه يَزدرينا ولا يفكر فينا إلا لكي يستغلنا أو يُخضعنا أو يَسلبنا آخر درهم في محافظنا. ومع هذا، وكلما فعل هذا، بل كلما اتَّضحت لنا نذالته وقسوته وأنانيته أمعنَّا في إراقة ماء وجوهنا تحت قدميه، وكأنه الحبيبة الجميلة الشرسة البيضاء نحبُّها حُبًّا مازوكيًّا ليس له نهاية، كلما عذبتنا تغنَّينا بعذوبة تعذيبها وجمال وحشيتها وروعة أن نذوق الأمرين في وصالها.

وطوال الوقت نحن نُولي ظهورنا إلى من يُقدِّروننا حضارةً وتاريخًا ودينًا ووجودًا، حتى حين جاءنا الثراء لم يَحسدونا حسدًا جماعيًّا عليه، وإنما لم يتعدَّ حسدُهم حدود الحلم بأن يعملوا معنا أو لدينا.

والمؤلم أننا نقدر مكانتنا في العالم متبنِّين نظرة الغرب إلينا، ولأنه لا يُقدرنا حق قدرنا، فنحن أيضًا لا نُقدِّر أنفسنا حق قدرها، نحن «نُشنِّع» على أنفسنا أضعاف أضعاف ما «يُشنع» به الغرب علينا، وفي قرارة أنفسنا لا نحترم خصالنا ولا عاداتنا بالضبط مثلما يَحقرها الغرب وينظر إليها من علياء سمائه، بينما في خصالنا الكثير الجدير بالاحترام والقليل الجدير بالنقد، ولكنه ليس نقد المازوكي الهاوي تعذيب نفسه، إنما نقد الرجل الواثق بنفسه حين يُراجع ذاته وخصاله ويَشجب بكل الثقة ودون أدنى إخلال بكيانه الكُلي ما يراه غير جدير به من صفات، أو بدل الإمعان في نقد الذات أحيانًا ما تركبُنا العزة بالنفس الجهول ونَتمادى وكأن العيب كل العيب أن نقول لأنفسنا أو يقول لنا أحد: لقد أخطأت، وإليك قصة:

كنتُ راكبًا الأتوبيس المنتظم الذي يُقلُّ المسافرين من مصيف «بتايا» في تايلاند إلى العاصمة بانجوك، هي في العادة عُطلة نهاية الأسبوع يهرع إلى الشاطئ الناسُ هربًا من حرِّ بانجوك ورطوبتها ويقضون ثلاثة أيام حافلة، ثُمَّ يحملهم الأوتوبيس المنتظم إلى العاصمة مرة أخرى.

كانت الساعة تُقارب التاسعة، والناس في الأوتوبيس وقد استيقظوا مبكرين يُمنُّون أنفسهم بساعتين ونصف من الإغفاءة وهي المسافة بين المصيف والعاصمة، وكان من ركاب الأوتوبيس خمسة من بلد عربي شقيق، جلس أربعة منهم في المؤخِّرة، وجلس الخامس على أول مقعد، ومن لحظة أن ركبنا الأوتوبيس وهم بأصوات عالية يَتصايَحون ويُنكِّتون ويَضحكون ويتبادلون التعليقات العالية الصاخبة مع زميلهم الجالس في المقعد الأول، وكانوا يتفاخَرون — وأنا الوحيد الفاهم — بما فعلوه في «بتايا»، وبالقطط السمراء «المقطقطة» التي اقتنصوها.

كنتُ أراقب الركاب وعيونهم تُوشِك أن تنغلق إغفاءة ثُمَّ لا تلبث أن ترغمها قهقهة مدوية أو صوت صاحبهم السمين العالي جِدًّا، وكأنه في أرضٍ لا أول لها ولا آخر، وهو يُرغم زميله راكب المقعد الأول على مشاركته الحديث الصائح، عيونهم تُوشك أن تنغلق، ثُمَّ ترغم على التفتح وتستدير رءوسهم وكأنما ترجو المتحدِّث رجاءً مبتهلًا صامتًا أن يَكُف، ولكن أحدًا لم يكف، ربع ساعة مضَت، نصف ساعة، ساعة بأكملها مضت والحديث عن القطط هو الحديث، والصياح هو الصياح، وضاقت صدور الركاب وكلُّهم صامتون، حتى أولئك الذين كانوا يُحدِّثون جيرانهم همسًا صمتوا لكي يظل المتصايحون الأربعة هم وحدهم الغوغائيين؛ إذ إن زميلهم الخامس آب إلى سكون خجل مستمر.

إلى أن انبرى راكب من الركاب وطلَب منهم بأدب جم أن يخفضوا أصواتهم، لأن الناس في الأوتوبيس مُنهَكون والرحلة لا تزال طويلة، وكأنما وقعت الواقعة، وكانت التعليقات كالآتي:

– أهو يريد أن يتحكم فينا ابن اﻟ «…».

– حسن، إذا كان يريد أن نَسكُت فسنُعلي أصواتنا أكثر ويا …

– ابن اﻟ «…» هذا الصعلوك يريد أن يعلمنا الأدب …

– أطفال نحن حتى يُسكتنا ابن «…».

وتضاعفت الضجة، وسمعتُ الراكب الذي أمامي يميل على زوجته ويهمس لها: عرب؟! أليس كذلك؟ فهزَّت رأسها بالإيجاب، ونظرت إليه وكأنما تنظر إليهم بامتعاض لم أرَ له مثيلًا في حياتي.

الحقيقة بلَغ بي الضيق منتهاه، فماذا فعل الشعب العربي المؤدَّب بطبعه حتى يحيق به خمسة مُراهقين كهؤلاء وإن كانوا رجالًا بشوارب ضخمة وكروش أضخم، حتى يحيقوا به لعنةً لن تزول، فإن أحدًا من هؤلاء الركاب لن يَنسى أبدًا تصرفًا كهذا، نغَّص عليه حياته ساعتين ونصف الساعة بلا توقُّف، وأحسست أن عروبتي تُملي عليَّ أن أفعل شيئًا.

وتسللتُ إلى الراكب الأمامي، ومِلت عليه، وأفهمته الموقف الذي لم يكن بحاجة إلى إدراكه، ورجوته أن يَرجوهم أن يخفضوا أصواتهم فقط وليس حتى أن يكفُّوا عن الحديث.

وكان الرجل طيبًا تمامًا، وفيم كنتُ أعود إلى مقعدي كان هو يتحرك من مكانه ويذهب إلى حيث يجلسون في مؤخِّرة الأوتوبيس، ويتبادل معهم حديثًا قابلوه باحتجاج، ولعلمهم أني عربي مثلهم وأني سأفهمه فلم يسبوا ولا لعنوا، ولكن بصوت عالٍ راحوا يتحدثَّون عن «حريتهم» في الحديث التي لا تَحتمِل تدخلًا من أحد.

وإمعانًا في التمتُّع بحريتهم ظلوا سادرين في حوارهم الصاخب حتى تعبوا، وحينئذٍ فقط كفُّوا.

أحدهم، فقط، كان بين الحين والحين يتذكَّر «حريته»، فيفاجئ زملاءه والركاب بتعليق صارخ لا معنى له، وحين لا يجد جوابًا، يعود للسكوت.

•••

أقارن هذه القصة، ونحن بعدُ ما زلنا في آسيا، بما يفعله أي سائح ياباني؛ فقد رجَتِ الحكومة اليابانية منذ بضعة أعوام كل سائح ياباني أن يكتب لدى عودته إلى اليابان تقريرًا عما رآه في رحلته السياحية تلك، وبالذات عن الأشياء الجميلة التي رآها في البلد الذي زاره والتي لا توجد في اليابان حتى تَقتبسها بلاد لتجملها أكثر وأكثر، وتصوَّروا آلاف وملايين التقارير لو حفلت مائة منها كل عام بشيء جميل ممكن تحقيقه، ألن يوصل هذا اليابانيين إلى أن يجعلوا من بلادهم جنة؟

ربما لو طلبت حكومتنا فقط من كل سائح عربي، ليس أن يكتب تقريرًا، وإنما أن يعتبر نفسه وحده مسئولا عن صورة العرب في عيون الشعب الذي يسافر إليه، ربما لو حدث هذا لتغيَّرت صورة العرب في عيون العالم؛ ذلك أن بعضنا يتطوَّع بتشويه الصورة، وقدَّم للدنيا متطوعًا مادة سخرية أو كُرْهٍ تَنال من سمعتنا بصورة تُغضب أول ما تُغضب أي عربي مهما تواضَع مستواه.

لو كان ذلك الأوتوبيس في لندن، لما حدث ما حدث، لأننا نرى الإنجليز في مستوى أعلى من مستوى النظر، بينما الناس الذين يَحترموننا حقيقة، كالناس في آسيا، نَنظُر إليهم من عَل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤