حب أبي زيد للأميرة العالية بنت جابر

لم ينجح في الوصول إلى مقر ومخبأ أبي زيد الهلالي سوى الأمير الشاب يونس الابن الأكبر للسلطان حسن بن سرحان حين جد في ترصد خطاه والبحث عنه، تنفيذًا لوصية والده المثقل بالأحزان على موت والدته الأميرة شماء بنجد، وما صاحب موتها من تكاثر الوفود القادمة من كل كيان وموطن وصوب للمشاركة في العزاء والوقوف على وصية الأميرة — الأم — قائدة التحالف الهلالي، وحيث اضطلعت الأميرة نور بارق أو الجازية باتخاذ مكانها في القيادة «المشورة والمحاربين».

وكان السلطان قد استدعى ولده يونس واحتد في وجهه صارخًا: الجميع يسألون عن أبي زيد، أين أخبئ وجهي من الضيوف والمعزين يا يونس؟

ثم قاربه محتدًّا عاصفًا: لن تعود إلى هنا إلا بصحبة ذلك الماكر أبي زيد.

كان السلطان حسن على دراية بمدى الحب الجارف الذي يكنه أبو زيد الهلالي لولده الأكبر يونس، وكيف أنه لا يرفض له طلبًا، كما كان على دراية بمدى معرفة يونس بكل صغيرة وكبيرة في حياة أبي زيد وخفاياه التي لا تنتهي.

ومن فوره اصطحب يونس كوكبة من فرسانه وأطلق العنان لحصانه في مقدمتهم، بحثًا عن أبي زيد في كل مكان إلى أن فتح عليه مخبأه السرى داخل أغوار وسراديب أشلاء حصن قديم مهجور على أطراف «يثرب» يقال إنه حصن آخر ملوك «التباعنة» جمع تبع، وهو الملك سيف بن ذي يزن، الذي بناه وزيره، الذي كان قد أعطى المدينة اسمها «يثرب».

ذلك أن يونس اندفع من فوره، ومنذ أن أعلمه أبو زيد بمدى حبه الذي تفجر للعالية منذ الومضة الأولى للقائهما، وقبل أن يصل اسمها إلى أسماعه ينطق والده السلطان حسن: الأميرة العالية بنت جابر.

فاعترته الرعدة التي لم يحسها وصادفها يومًا في أجيج معاركه وهنًا، ففر هاربًا إلى منفاه.

انطلق يونس من فوره يعمل متحركًا محققًا لأبي زيد رغبته في نيل محبوبته، وبدء صفحة جديدة في تاريخ الهلالية، قوامها التلاحم ونبذ البغضاء التي تفتُّ كمثل داء متغلغل في عظام الجسد الواحد.

وهكذا أسر يونس في أذن والده نبأ لقاء العالية وأبي زيد داخل ديوان الحريم وحبهما المتبادل واتفاقهما على الزواج.

– على خيرة الله.

ومن فوره فاتح السلطان حسن ابن عمه الأكبر الأمير جابر لإعلان خطبة أبي زيد لابنته الأميرة العالية. ومن جديد تزاحمت دموع الأمير الشيخ الضرير جابر — والد العالية — دون أن يفصح عن جواب، لحين تدخل الأمير غانم والد دياب وبقية الموجودين في الحث والإسراع بجمع الشمل، توثبًا للخطوات الجديدة الملحة التي أصبحت تدفع بالهلاليين اليوم قبل غدٍ، إلى التخطيط بعيدًا حسب وصية الأميرة الأم المتوفاة «شماء» دونما التفاتة إلى الوراء.

– الخيرة فيما اختاره الله يا عرب.

على هذا النحو صدرت موافقة الأمير جابر ومباركته للزواج المرتقب الذي يضع الحب مكان البغضاء.

هنا اندفع السلطان حسن بنفسه منتصبًا آخذًا طريقه إلى داخل ديوان المحصنات من نساء الهلالية، حتى إذا ما وقعت عيناه على أبي زيد في اكفهراره جالسًا إلى جانب العالية بجمالها المشع الباهر، لم يتمالك نفسه من تقبيلهما معًا مهنئًا والعودة بأبي زيد معابثًا: ألن تشبع منها وتكتفي من مجالسة النساء الجميلات؟ تعال.

وختمت الليلة بقراءة الفاتحة وإعلان الخطبة وشهودها والاتفاق على عقد الزواج عقب انقضاء موسم العزاء والجنازة على موت الأميرة الأم الذي امتد أربعين يومًا بتمامها.

•••

هنا تنفس الأمير دياب بن غانم فارس تحالف عرب الجنوب — القحطانيين — الصعداء، وأصبح الطريق أمامه مفتوحًا على مصراعيه لطلب يد الأميرة نور بارق أو الجازية، خاصة بعدما تخلى عنها أبو زيد بحبه الجديد للعالية، وما أشيع عن عمق صداقتهما وتعلق الجازية به وبأفكاره وشخصه وخططه حربًا وسلمًا عامة، مما جعل دياب يرجئ الطلب في كل مناسبة سنحت قبلًا.

خاصة وأن الجازية أخذت مكان والدتها الأميرة الأم شماء، في القيادة والاستحواذ على ثلث المشورة وحدها لعرب بني هلال.

لذا فبزواج دياب بن غانم من الجازية يمكن تحقيق بعض التوافق والتوازن بين قطبي التحالف، الذي ترجح فيه كفة العرب العدنانيين أو القيسيين الشماليين ومركزهم على أشقائهم الجنوبيين القحطانيين أو اليقطانيين الذين يتزعمهم دياب بن غانم الزغبي.

أما بالنسبة إلى أبي زيد، فلقد كان دياب يحس على الدوام موقعه تحت الظل بإزائه، صحيح أن أبا زيد يفوقه حقًّا حنكة ومعرفة في رسم الخطط والتحايل والخداع المحنك للإيقاع بأعداء الهلالية، إلا أن دياب بن غانم الزغبي الأقدر منه جلدًا على الشجاعة والقتال، وتغنى الشعراء بثقل حربته، فله على الدوام الباع الأكبر في تحقيق الانتصار سواء في أواسط آسيا أو على ما تسميهم السيرة بالأعاجم، وهو القائل عن نفسه: أتى دياب الخيل ذبَّاح الفوارس.

فدأبت السيرة على أن تصفه عقب كل انتصار حين يعود ضرجًا بالدم كمثل شقيقه؛ الأرجوان الأحمر القاني، منشدًا:

مقالات الفتى الزغبي دياب
ولي عزم كما الصقر الأصم
ولي همة كهمة ليث غاب
أنا الزغبي دياب المسمى.

بل كثيرًا ما أكرمه أبو زيد ذاته منشدًا:

كم واقعة أشفيت هلال
أنت يا ذكي الجدود!

فما أروع احتفاء السيرة ببطولات دياب بن غانم! ومن أسمائه أبو موسى، فكان عادة ما ينوط به الهلاليون إنزال الانتقام لكبار شهدائهم:

أسألك يا إلهي أكون طيرًا
عقابًا كيما أخفق بالجناحِ
أطير بهمتي وأنزل سريعًا
وأعدى بين مشتبك الرماحِ
لأخذ الثأر عن خالي بدير
وبدر وأخوه زيدان الرياحي.

كما أن من مفاخره:

قال أبو موسى دياب المفتخر
فارس الهيجاء خيال الوعر
حامي الزينات سور المحصنات
مفرج الكربات في يوم العسر.

فإذا ما كان أبو زيد الهلالي هو الرأس المفكر للهلالية، سواء في وضع الخطط الحربية والاتجاه إلى أقصر المسالك لتحقيق الانتصار، فإن دياب بن غانم هو الذراع المنتقمة الضاربة، وفي كل واقعة خاضها الهلاليون مشرقًا ومغربًا.

لكن برغم كل ذلك كان دياب بن غانم يُعاني على الدوام من غبن مشاعر وأحاسيس الرجل الثاني بالمقارنة بأبي زيد الهلالي، سواء من حيث اتساع علم أبي زيد أو رؤيته وإتقانه للغات واللهجات والتحايل والخداع التي تتطلبها الحروب، وسواء من حيث إلمامه بالمسالك والخرائط وعلوم زجر الطير والكيمياء والمعادن والفلك.

يضاف إلى كل ذلك تفوق أبي زيد الهلالي في المعرفة بالطرق البحرية وعلوم البحر، الذي ظل دياب على عداء معه — أي البحر — فهو كبدوي يخافه ويخشى ركوبه، بل ومجرد الاقتراب من شواطئه بفرسته الشهيرة الخضراء.

ولكم تندر النجديون وعرب الشمال عامة من تخوف دياب من البحر وركوبه!

بل إن هناك واقعة شهيرة أضحكت الجميع وخاصة الجازية ذاتها، حدثت لدياب بن غانم بسورية الشمالية التي سبق لدياب افتتاحها والوصول إلى حلب الشهباء وقتل حاكمها المدعو «بدريس».

فكان بحلب تاجر جشع كبير من أتباع صاحب جزيرة قبرص المدعو بالملك الهراس، لما نهب دياب تجارته الواسعة أراد الانتقام من دياب بالاتفاق مع ملك قبرص الذي من فوره أرسل إلى دياب ثلاثة محتالين محملين بالهدايا الباهرة الثمينة، نزلوا اللاذقية مقتفين آثار بني هلال، إلى أن وصلوا مقر الأمير دياب في مدينة «حماة الأطلال».

وفي المساء حملوا هداياهم الثمينة الغالية معهم إلى قصر دياب، ومن بينها سيف معقرب وخنجر من ذهب، وإبريق من جوهر، وثلاثة مماليك يساوي الواحد منهم أكثر من ألف دينار.

وعندما دخلوا ديوان الأمير دياب وقدموا الهدايا رحب بهم وسألهم عن حالهم، فقال كبيرهم: نحن ثلاثة إخوة يا أمير، ونُهبت تجارتنا العظيمة في اللاذقية التي نهبها مع عشرة آلاف دينار حاكم حلب «بدريس»، الذي سبق أن قتلته ففرحنا بهذا، إلا أن الجزء الأكبر من تجارتنا ما يزال في حوزة أتباعه باللاذقية.

هنا وصلت الحمية بدياب إلى حد قطعه على نفسه عهدًا بإنقاذ ثروتهم وإرجاعها لهم.

فركب الثلاثة هجنهم وركب الأمير بعد العشاء وجدوا السير إلى ظهيرة اليوم التالي حتى أشرفوا على البحر المالح، فسمع دياب صوت دوي الماء مثل الطبل، فداخله الوهم، ورفض النزول معهم إلى مركب البحر التي بها تجارتهم وكنوزهم، فأمرهم بالنزول قائلًا: أما أنا فلن أخطو خطوة واحدة.

ثم نزل عن الخضراء شاهرًا سيفه منتظرًا عودتهم إلى أن عادوا من الغليون، أي المركب، ومعهم خيمة باهرة من الحرير الأصفر مكللة ومطرزة بالدر والجوهر والياقوت والمرجان والزمرد الأخضر.

وختمت حيلتهم بإطباق تلك الخيمة — الفخ — على دياب وقيدوه بالحديد بمساعدة أعوانهم بعدما خدروه بالبنج، وأنزلوه إلى المركب حيث رفعوا المراسي، ولما قطعوا مسافة طويلة في عرض البحر أعطوه مضادًّا للبنج، فلما نظرهم في قبعاتهم السوداء تعرف على حيلتهم وغدرهم وهو الذي أكرم وفادتهم في قصره.

وما إن وصلوا قبرص حتى أدخلوه مقيدًا على ملكها «الهراس»، وكان يمقت العرب فسجنه وأثقل في عذابه.

إلى أن عرف أبو زيد بأسره عند حاكم قبرص فأخذ عشرة فرسان ورحلوا إلى قبرص، فتنكر أبو زيد في ثياب راهب من بيت المقدس يُدعى سلامة، والتقى بالملك الهراس وهو يُحادثه باليونانية القديمة في مختلف الأمور الفلسفية وأهداه ثلاث شمعات «فيها مخدر»، وطلب منه أن يشفي غليله من دياب بن غانم الذي قتل ولديه في حلب وبيت المقدس.

إلى أن نزلوا إليه في أسره وقيوده، فتقدم منه الراهب سلامة «أبو زيد» إلى أن واجهه في بلائه، ثم رفع يده وضربه كفًّا أطار الشرر من عينيه! فصاح دياب بقوة: الله يقطع يدك!

فعاجله أبو زيد غامزًا: وأنت الله يقطع عمرك من هذا السجن!

وبعد أن تعرف أبو زيد على مسالك سجن دياب الذي يضم اثني عشر ألفًا من الأسرى، شكر الملك الهراس متقربًا منه بكل الحيل.

وبعد بضعة أيام احتال باستخدام شمعاته ذات المخدر وحجر المغناطيس للوصول إلى دياب وفك أسره وقيوده وفك أسر بقية الأسرى، واستعان بهم في الهجوم ليلًا على قصر الملك الهراس وقتله وسبي أمواله التي لا تُعد ولا تُحصى.

وظل أبو زيد يضحك ويتندر من مخاوف دياب من البحر وهديره خلال رحلة عودتهم البحرية إلى اللاذقية، ومنها إلى مضارب الهلالية في حماة الأطلال، فاستقبلتهم النساء والبنات بالزغاريد والغناء والترحاب والأشعار، إلى أن وصلوا ديوان السلطان حسن بن سرحان.

فأقيمت الولائم لمدة عشرة أيام، وأشيع على كل لسان مدى تخوف دياب بن غانم من البحر وأهواله الذي كم دأب على ذكره دياب: أكره البحر وأخشاه منذ الصغر.

وضحكت الأميرات الهلاليات وتندرن كثيرًا بعقدة دياب بن غانم تلك ونوادره مع البحر وأمواجه العاتية، وهو البدوي الذي لم يتربَّ عليه، كما هو الحال مع أبي زيد الذي لا تخفى عنه من المحيط إلى الخليج خافية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤