حكاية

على ضفة ذلك النهر، في ظل أشجار الجوز والصفصاف جلس ابن زراع يتأمل في المياه الجارية بسكينة وهدوء، فتى رُبِّي بين الحقول حيث يتكلم كل شيء عن الحب، حيث الأغصان تتعانق والأزهار تتمايل والطيور تتشبب، حيث الطبيعة بأسرها تكرز بالروح، ابن عشرين رأى بالأمس على الينبوع صَبِيَّةً جالسة بين الصبايا فأحبَّها، ثم علم أنها ابنة الأمير فلام قلبه وشكا نفسه إلى نفسه، ولكن الملامة لا تميل بالقلب عن الحب، والعذل لا يصرف النفس عن الحقيقة، والإنسان بين قلبه ونفسه كغصن لين في مهبِّ ريح الجنوب وريح الشمال.

نظر الفتى فرأى زهرة البنفسج قد نبتت بقرب زهرة الأقحوان، ثم سمع الهزاز يناجي الشحرور فبكى لوحدته وانفراده، ثم مرت ساعات حُبِّهِ أمام عينيه مرور الأشباح، فقال وعواطفه تسيل مع كلماته ودموعه:

«هو ذا الحب يستهزئ بي، ها قد جعلني سخرية وقادني إلى حيث الآمال تعد عيوبًا والأماني مذلةً، الحب الذي عبدته قد رفع قلبي إلى قصر الأمير وخفض منزلتي إلى كوخ الزراع، وسار بنفسي إلى جمال حورية تحيط بها الرجال ويحميها الشرف الرفيع، أنا طائع أيها الحب فماذا تريد؟ قد اتبعتك على سبل نارية فلذعني اللهيب، قد فتحت عيني فلم أر غير الظلمة، وأطلقت لساني فلم أتكلم بغير الأسى، قد عانقني الشوق أيها الحب بمجاعة رُوحية لن تزول بغير قُبَلِ الحبيب، أنا ضعيف أيها الحب فلمَ تخاصمني وأنت القوي؟ لماذا تظلمني وأنت العادل وأنا البريء؟ لماذا تذلني ولم يكن غيرك ناصري؟ لماذا تتخلَّى عني وأنت موجدي؟ إن جرى دمي بغير مشيئتك فأهرقه، وإن تحرَّكت قدماي على غير طرقك فشلها. افعل مشيئتك بهذا الجسد وخلِّ نفسي تفرح بهذه الحقول المستأمنة بظل جناحيك، الجداول تسير إلى حبيبها البحر، والأزهار تتنسم لعشيقها النور، والغيوم تهبط نحو مريدها الوادي، وأنا — وبي ما لا تعرفه الجداول ولا تسمع به الأزهار ولا تدركه الغيوم — قد رأيتني وحيدًا في محنتي، منفردًا في غرامي، بعيدًا عن التي لا تريدني جنديًّا في كتائب أبيها ولا ترضاني خادمًا في قصرها».

وسكت الفتى هنيهة كأنه يريد أن يتعلَّم الكلام من خرير النهر وحفيف أوراق الغصون، ثم عاد فقال:

«وأنتِ يا من أخاف من أمها أن أدعوها باسمها، أيتها المحبوبة عني بستائر العظمة وجدران الجلال، أيتها الحورية التي لا أطمع بلقائها إلا في الأبدية حيث المساواة، يا من تطيعها الصوارم وتنحني أمامها الرقاب وتتفتح لها الخزائم والمساجد! قد ملكت قلبًا قدَّسه الحب، واستعبدت نفسًا شرَّفها الله، وخلبت عقلًا كان بالأمس حرًّا بحرية هذه الحقول، فصار اليوم أسيرًا بقيود هذا الغرام، رأيتك أيتها الجميلة فعرفت سبب مجيئي إلى هذا العالم، ولما عرفت رفعة منزلتك ونظرت إلى حقارتي علمت أن للآلهة أسرارًا لا يعرفها الإنسان، وسبلًا تذهب بالأرواح إلى حيث المحبة تقضي بغير الشرائع البشرية، أيقنت لمَّا نظرت إلى عينيك أن هذه الحياة فردوس بابه القلب البشري، ولما رأيت شرفك وذلي يتصارعان صراح مارد ورئبال، علمت أن هذه الأرض لم تعد وطنًا لي، ظننت لما وجدتُك جالسة بين نسائك كالوردة بين الرياحين، أنَّ عروس أحلامي قد تجسَّدَتْ وصارت بشرًا مثلي، ولما تخبَّرْتُ مجد أبيك وجدت أن دون اجتناء الورد أشواكًا تدمي الأصابع، وأن ما تجمعه الأحلام تفرقه اليقظة …».

وقام إذ ذاك ومشى نحو الينبوع منخفض الجناح، كسير القلب، مجسمًا الأسي والقنوت بهذه الكلمات:

«تعالَ يا موت وأنقذني، فالأرض التي تخنق أشواكها أزهارها لا تصلح للسكن، هلم وخلصني من أيام تخلع الحب عن كرسي مجده وتقيم الشرف العالي مكانه، خلصني يا موت فالأبدية أجدر ببقاء المحبِّين من هذا العالم، هناك أنتظر حبيبتي، وهناك أجتمع بها».

بلغ الينبوع وقد جاء المساء وأخذت الشمس تلم وشاحها الذهبي عن الحقل، فجلس يذرف الدموع على حضيض وَطِئَتْهُ أقدام ابنة الأمير وقد حنى رأسه على صدره كأنه يمنع قلبه عن الخروج.

في تلك الدقيقة ظهرت من وراء أشجار الصفصاف صبيَّة تجر أذيالها على الأعشاب، ووقفت بجانب الفتى ووضعت يدها الحريرية على رأسه، فنظر إليها نظرة نائم أيقظه شعاع الشمس، فرأى ابنة الأمير واقفة حذاءه فجثا على ركبتيه مثلما فعل موسى عندما رأى العليقة مشتعلة أمامه، ولما أراد الكلام أُرْتِجَ عليه فنابت عيناه الطافحتان بالدمع عن لسانه.

ثم عانقته الصبيَّة وقبَّلت شفتيه، وقبَّلت عينيه راشقة المدامع السخينة، وقالت بصوت ألطف من نغمة الناي:

«قد رأيتك يا حبيبي في أحلامي، ونظرت وجهك في وحدتي وانقطاعي، فأنت رفيق نفسي الذي فقدتُه، ونصفي الجميل الذي انفصلت عنه عندما حُكِمَ علي بالمجيء إلى هذا العالم، قد جئتُ سرًّا يا حبيبي لألتقي بك، وها أنت الآن بين ذراعي فلا تجزع! قد تركت مجد والدي لأتبعك إلى أقاصي الأرض وأشرب معك كأس الحياة والموت، قم يا حبيبي فنذهب إلى الْبَرِّيَّةِ البعيدة عن الإنسان».

ومشى الحبيبان بين الأشجار تخفيهما ستائر الليل ولا يخيفهما بطش الأمير ولا أشباح الظلمة.

هناك في أطراف البلاد عثر رواد الأمير على هيكلين بشريين في عنق أحدهما قلادة ذهبية، وبقربهما حجر كتبت عليه هذه الكلمات:

«قد جمعنا الحب فمن يفرقنا، وأخذنا الموت فمن يرجعنا؟».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤