الفصل الثاني والعشرون

محمود باشا الفلكي

العالم الرياضي الفلكي المصري
وُلد (رحمه الله) في بلدةٍ اسمها الحصة في مديرية الغربية سنة ١٢٢٠ﻫ، ولم يكد يترعرع حتى تُوفِّي والده فاحتضنه أخوه، وكانت النجابة تتجلى في وجهه منذ صباه، فأدخله أخوه في مدرسة الإسكندرية سنة ١٢٤٠ﻫ، فأقبل على الدرس والمطالعة، وأكبَّ على اكتساب العلم بهمة ونشاط، فلم تمضِ عليه بضع سنوات حتى نال رتبة بلوك أمين، فانتقل من هذه المدرسة إلى غيرها من المدارس الأميرية المصرية، وكان حيثما حلَّ اشتُهر بالنباهة والذكاء؛ وخصوصًا في الفنون الرياضية، فلما أتمَّ دروسه عيَّنته الحكومة أستاذًا للعلوم الرياضية والفلكية في مدرسة المهندسخانة، وكانت إذ ذاك برئاسة لامبير بك، فترقى فيها إلى رتبة صاغقول أغاسي، أنعم بها عليه المغفور له محمد علي باشا الكبير سنة ١٢٦٢ﻫ.
figure
محمود باشا الفلكي ١٢٢٠ﻫ–١٣٠٣ﻫ.
ولا يخفى ما كان للرتب من المنزلة إذ ذاك؛ فكانت الحكومة لا تنعم على أحد برتبة ما لم يأتِ عملًا عظيمًا يمتاز به عن أقرانه، أو يقوم بخدمةٍ ذات بال، فحصول صاحب الترجمة على هذه الرتبة دليل على علوِّ همته ورفع منزلته، على أنها كانت داعيًا إلى تنشيطه، فأكبَّ على التبحُّر في العلوم، فاختارته الحكومة المصرية سنة ١٨٥١م وبعثت به إلى أوروبا لإتمام علومه الرياضية والفلكية، فثابر على ذلك تسع سنوات متوالية، لازم في أثنائها مرصد باريس، وكان لا يترك فرصة لا يستفيد بها شيئًا حتى آن الامتحان، فقدمه وحاز به قصب السبق، فنال الشهادات وعاد ظافرًا منصورًا في عهد المغفور له سعيد باشا، فأنعم عليه برتبة أميرالاي، وكلَّفه رسم خريطة للديار المصرية، فأخذ في مباشرة هذا العمل — وهو أول من باشره من المصريين — فرسم خريطة الوجه البحري رسمًا مدققًا يدل على طول باعه ومهارته في التخطيط والهندسة، وهي خريطة مشهورة باسمه، يرجعون إليها عند التدقيق، ولعلها أول مؤلَّف وضعه، ثم أردفه بمؤلفات أخرى بين رسائل وكتب، بعضها في العربية وبعضها في الفرنساوية، وهاك أسماءها ومواضيعها:
  • (١)

    الخريطة المتقدم ذكرها، وقد أشرنا إلى ما نالته من المنزلة الرفيعة.

  • (٢)

    رسالة في التقاويم الإسرائيلية الإسلامية، نشرها سنة ١٨٥٥م، بعد أن قدمها لمجمع العلوم في البلجيك، وخلاصة موضوعها تعيين زمن ابتداء تاريخ اليهود، وهو عندهم في ٧ تشرين أول سنة ٣٧٦١ قبل الميلاد، ويريدون به اليوم الذي تمت الخليقة فيه، والنظر في حدود يومهم، وهو يبتدئ عندهم في الساعة السادسة إفرنكية مساءً، ويقسم إلى ٢٤ ساعة، وتقسم الساعة إلى ١٠٨٠ قسمًا، يقسم كلٌّ منها إلى ٧٢ جزءًا، وبحث في أسبوعهم وشهرهم وسنتهم والأيام التي تبتدئ بها شهورهم وسنوهم، مع تعيين أعيادهم، ومقارنة تاريخهم بتاريخ الميلاد المسيحي.

  • (٣)

    رسالة في الحالة الحاضرة للمواد المغناطيسية الأرضية بباريس وضواحيها، تلاها سنة ١٨٥٦م على المجمع العلمي الفرنساوي، وقد أعدَّ موادها أثناء تجواله في أوروبا.

  • (٤)

    كتاب في التقاويم العربية قبل الإسلام، نشره سنة ١٨٥٨م، وهو من أجلِّ كتبه، بحث فيه عن يوم ولادة صاحب الشريعة الإسلامية، فوصل إلى نتيجةٍ مآلها أنه وُلد في ٩ ربيع الأول، الموافق ٢٠ أبريل سنة ٥٧١ للميلاد.

    ودقق النظر في حال التقويم قبل الإسلام، فحكم بأنهم كانوا يعملون بالحساب القمري الصِّرف، وبحث فيه أيضًا عن عمر النبي عند وفاته، فبلغ ستين سنة شمسية و٢٨ يومًا، أو ٦٣ سنة قمرية و٣ أيام، وارتأى أن العرب في جاهليتهم لم يكونوا يعرفون الساعات التي ينقسم إليها اليوم، وهو رأى كوسين دي برسفال المؤرخ الفرنساوي وشوسن.

  • (٥)

    رسالة في الكسوف الكلي الذي ظهر بدنقلا في ١٨ يوليو سنة ١٨٦٠م، وشاهده هو بنفسه هناك، وكانت تلك الرسالة داعيًا إلى اشتهاره بين علماء الفلك.

  • (٦)

    رسالة في الإسكندرية القديمة، وصف بها تلك المدينة في أقدم أزمانها، مستشهدًا بما اكتشفه هو من شوارعها ومراسحها وأبنيتها، وأرفق الكتاب بخارطة أوضح بها ذلك.

  • (٧)

    رسالة في الإيضاح عن أعمار الأهرام، بحث فيها بحثًا دقيقًا، فتبيَّن له الغرض الأصلي من بنائها مطابقتها للشعرى، ومن رأيه أن الأهرام إنما بُنيت لغرض فلكي؛ قال مختار باشا المصري: «وعلى ذكر هذه الرسالة يجدر بي إيراد عبارة هي في حد ذاتها صادرة عن أفكار شخصية، فقد كنت موجودًا مع المرحوم عند شروعه في أخذ مقاييس الأهرام وموقعها من التناسب الفلكي، وأعلم علم اليقين بأنه وصل للاطِّلاع على الغرض من تشييدها، إذ وجد تحكيمها في رسم يقابل بالضبط كوكب الشعرى عند طلوعه، فكأن الآمر ببنائها أراد أن يجعلها مزولة يعرف بها يوم شم نسيم العلماء، ولأجل تعريض جثث المدفونين فيها لموافاة صعود الكوكب المذكور، فيسبغ عليه من آياته رحمة وغفرانًا؛ إذ ليس بخافٍ أن كوكب الشعرى كان عند الأقدمين، وخصوصًا المصريين، من أجلِّ المعبودات، حتى عبَّر عنه بعضهم بإله الآلهة.»

  • (٨)

    رسالة في التنبؤ عن ارتفاع النيل قبل ارتفاعه.

  • (٩)

    بحث في ضرورة إنشاء مرصد لمراقبة الحوادث الجوية في مصر.

  • (١٠)

    رسالة في مقياس مصر ومكيالها وميزانها، ومقابلة ذلك بالأقيسة الفرنساوية.

  • (١١)
    رسالة في مشابهة «كان» الناقصة بالفعل الفرنساوي «Avoir».
  • (١٢)

    رسالة في توحيد موازين العملة في القُطر المصري، باشر كتابتها، والموت حال بينه وبين إتمامها.

وتقلَّد محمود باشا الفلكي (رحمه الله) مناصب ذات شأن لا يتقلدها إلا نخبة أهل الفضل، منها أنه ناب عن الحكومة المصرية في المجمع الجغرافي بباريس سنة ١٨٧٥م وفي البندقية سنة ١٨٨١م، وتقلب في مناصب الحكومة حتى بلغ مسند الوزارة، فعُهدت إليه نظارة الأشغال العمومية، ولكن الحوادث العرابية التي داهمت هذا القطر سنة ١٨٨٢ لم تُمكِّنه من إدارة شئونها طويلًا، ثم عُهدت إليه نظارة المعارف العمومية، فلمَّ شعثها ونظَّمها ورتَّب كثيرًا من أقسامها، فزهت المعارف على عهده وأضاءت البلاد بها، وتولى رئاسة الجمعية الجغرافية الخديوية مدة. وخلاصة القول أنه كان همامًا حازمًا محبًّا لوطنه، قضى سني حياته عاملًا في خدمته، مجاهدًا في سبيل نشر المعارف بين أبنائه، حتى توفاه الله فجأةً سنة ١٣٠٣ﻫ وهو محاط بالكتب والأوراق، آسفًا على مؤلفاتٍ كان في عزمه إتمامها، فحال المنون بينه وبينها، فشقَّت وفاته على أهل الوطن المصري، فأبَّنه العلماء ورثاه الكُتَّاب والشعراء بما دلَّ على تقديرهم فضله حق قدره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤