المقدمة

أُورَشلِيم «القدس»

لا يزال الليل مُرْسِلًا سُدُوله١ على أروقة الهيكل، وينظر كهنةُ الهيكل إلى الظَّلام جثِيًّا أو ضاجعين، ولا يكادون يتعارفون بين سَدَفٍ٢ وَهَمْسٍ، ولا عند حركة أذرُعهم حينما يَرُدُّون إلى أنفسهم أرديتهم ليشتملوا بها، ويَمُور٣ البَحْر وتضطرب أمواجه في شهر الاعتدال مارس؛ فَتَكْنُسُ عواصفُه قناطرَ الرصيف العالي.

وترى المدينة الكبرى الحجرية هاجعةً في أسفل الهيكل، وترى فيها الأبناء، والغرباء، والحكماء، والأغنياء، والأحبار، والسائلين، والمؤمنين والكافرين نيامًا، وترى الحقد بين بيوتها، والمَحَبَّة في منازلها، وترى قليل سرور وكبير أمل فيها، وتراها مُعَبَّدَةً يزدري المغلوبُ فيها الغالبَ، وترى السلطة فيها ساكنةً، والحديدَ باردًا، والأسلحةَ صامتةً، ولا تسمع للأوامر صوتًا، فكأن السماء تُمطِرُها سلامًا.

تلك العاصمة لم تعرف صَلْصَلَة السيوف منذ عشرات السنين، ولكنَّ ما يغلي في صدور هؤلاء القوم من الحقد على الفاتحين لم يفتُر فائره؛ فمع ما كان يبدو من عدم اتِّقاده في الظاهر لم يفتأ أولئك النَّاس المؤمنون بإله واحد يَسْبَحُون في الرُّؤَى قائلين: «سيعود هذا الإله مَلِكًا لليهود، وَرَبًّا للعالم.»

والأمر فيما هو كذلك إذ كان يُسمع صليل حديد، وخَفْق نِعالٍ، ويُرى التِمَاع نور تحت قِبَاب الرواق وتواريه؛ ليعود فينصبَّ بشدة، فينهض الكهنة النائمون لحضور الضابط العسكري الذي يطوف هو وجنوده ثلاث مرات حول ذلك الهيكل في كل ليلة؛ لحراسته ظاهرًا، ومراقبته باطنًا، فتلتقي أنظار الفريقين على ضوء المَشَاعِل من غير أن يتبادلا كلامًا، مع اشتعال قلب كلٍّ منهما غِلًّا على الآخر.

وماذا يرى الكهنة على ضوء المَشَاعِل؟ يَرَوْنَ بضعة جنود ذوي التِمَاعٍ كالذهب الضارب إلى حُمْرَة، مربوعي القامة، مكشوفي الذُّرْعان والسِّيقان، مُدَرَّعي الأجسام، حاملين سيوفًا ورماحًا، ويرون تحت خُوَذ هؤلاء الجنود وجوهًا مُرْدًا سُمْرًا مَلِزة٤ جافية تدل على قلة التفكير، وكثرة الضحك، والأكل والسير، وسرعة العشق والغرام، ويرون رداءً فوق لَأْمَة٥ ضابطهم اللطيف القسمات، والشارد الفكر. والحق أنَّ من عادة هذا الضابط أن يُخفي وراء ذلك ما يشعر به في كل مرة من الهزؤ بأولئك الكهنة، والحق أنَّ نور المَشَاعِل يُسفر عن نظره إلى أولئك الكهنة الغريبي الأطوار، المائلين إلى الأمام، والبادين طورًا طِوَالًا عاطلين من الظَّرْف، وطورًا قِصَارًا سِمَانًا، وَالمُجَرِّرِين أذيالهم فوق نعالهم، والذين تظهر بين شعورهم ولحاهم السُّود، وجوهُهم المصفرة المتكرِّشة بفعل السهر والسهاد، والذين تدل عيونهم السود على التعصب المملوء أملًا وزهوًا.

ومن ثَمَّ تُبصر تقابُل عالَمين: عالَم المؤمنين وعالَم المقاتلين، أو عالَم المغلوبين وعالَم الغالبين؛ ومن ثَمَّ تبصر التقاء اليهود والرومان في أُورشلِيم ليلًا.

مضت ثلاث ساعات فطلعت الشمس فوق جبال الأُرْدُن الجُرد؛ فكشفت للكهنة والحرس عمَّا تعوَّدوا أن يروه كل يوم من المناظر، ومن ذلك منظر التلال الباردة الجافية الخُضْر الصُّفْر العاطلة من الماء والشجر، والمحيطة بالمدينة الكبيرة البيضاء، التي يُخيَّل إلى الناظر اختلاط الصخر بأسوارها؛ فلم تكن بالحقيقة سوى قلعة طبيعيَّة، فلم يصنع الإنسان في هذه القلعة غير تحويل حجارتها إلى متاريس، وتلالها الخمسة إلى أسوار، فأسفر ذلك في مجموعه عن قيام تلك المدينة بينها.

figure
يسوع وصيادو السمك.

وقَدِيمًا مَهَّدَ الملك سليمانُ التلَّ الذي أُقيم عليه الهيكل الأول وسوَّاه، ثم أُقيم عليه الهيكل الثاني بعد إسارة بابل. وفي هذا التلِّ تبصر أولئك الكهنة والحرس، ويقع في جنوبه الغربي تلٌّ آخر يُوصَلُ إليه بجسرٍ، فيبدو أعلى من ذلك وأجمل. وعلى هذا التَّل الذي يُدْعَى بجبل صهيون شاد الملك داود صرحه في أيام سعادة وَلَّت، فيأمل اليهود عودتها. وعلى جبل صهيون هذا بنى الأغنياء بيوتهم، فكان حَيًّا لهم. وفي الأمام من جهة الشمال، قامت قلعة أنطونيا الرومانية البغيضة على الربوة التي اعتصم بها المكابيون، عندما ثار إسرائيل على عبَدة الأصنام قبل ذلك بمائتي سنة. وخلف تلك القلعة من جهة الشمال مستنقع لم يُقِمْ به غير الفقراء؛ ومن ثَمَّ ترى أن مَن يملك تلك القلعة يسيطر على الهيكل، والمداخل، وعاصمة أولئك القوم المشاغبين وجنوبِ ذلك البلد الضيق الواقع بين الصحراء والبَحْر المتوسط، فيمكن اجتيابه في قليل زمن.

•••

أفاق النَّاس في الأَحْياء المُكْتَظَّة الواقعة في سفوح الجبال، فدبَّت الحياة في شوارعها الضيقة، وردَّدتْ جُدُرها صدى أصوات الباعة، وأخذت تَعِجُّ بألوف الغرباء ما اقترب عيد الفصح، وبدأت الفنادق والحظائر تَغَصُّ بالنَّاس والجمال، وصار التجار والصنَّاع والسَّكافون والخيَّاطون والحلَّاقون والبقَّالون وكاتبو العرائض يصيحون، ويسيرون، ويدفعون دوابَّهم من سوق إلى سوقٍ عارضين سلعهم وأعمالهم؛ طلبًا للزُّبُن.

ويتوجَّه النَّاس في تلك الأثناء إلى تل الهيكل، وإن كان ما يقع اليوم لا يختلف عما يقع عادةً، ويقوم هذا الهيكل على أَرْضٍ مربعة يبلغ كل ضلع منها خمسمائة ذراع، ويحيط بجُدره ثلاثة أرصفة مُنَضَّدَةٍ رائعةٍ. وإلى هذه الأرصفة يسير الجمهور بُغْيَةَ مجاوزة أدنى القناطر، والالتقاء في فِناء الغرباء. وفي هذا الفِناء ألواحٌ ذاتُ كتابات باللغتين اللاتينية واليونانية يُحَذَّر الكافرون فيها من دخول الرصيف الثاني، الذي يُرْقَى إليه بتسع عشرة درجة فاصلة بين الإيمان والكفران. والكافرون يعلمون من تلك الألواح أن القتل جزاءُ مَن يَصْعَدُ في تلك الدرج.

ذلك حدٌّ لا يقدر على تَعَدِّيه أحدٌ من الرومان الغالبين واليونان المُثْرِين، ولا من البابليين والعرب الذين كانوا من الأعداء، فَتَمَّ لهم السُّلْطَان على تلك المدينة في غابر الأزمان، ولا ممَّن ليسوا على الإيمان الصحيح.

واليهوديُّ — مهما يكن تَرَبُه٦ — ينتفخ غرورًا وتكبُّرًا حينما يرتقي في تلك الدرج التسع عشرة المؤدية إلى الرصيف الثاني، فيقف على الساحة الواقعة بين الجُدُر والعَمَد ناظرًا إلى ما فوقه، فإذا ما تقدَّم اثنتي عشرة خطوةً بلغ الهيكل الحقيقي حيث قُدْس الأقداس.٧
ترى الجمع منتظرًا، ويغادر الكهنة حُجُراتهم، ويوزعون أعمال يومهم بينهم بالقرعة، فَيُلْزَمُ أحدهم بإحضار قربان الصباح، وَيُلْزَمُ آخر بجلب الحطب إلى الهيكل، وَيُلْزَمُ ثالثٌ برفع الرماد منه، والعناية بالبخور، وأمور النور، وخبز التقدمة والآنية، فإذا أُعِدَّ كل شيء سيق الكبش إلى المذبح، وأخذ كل مرتلٍ مكانه، وَهُيِّئَت الأجران، وفُتِحَ الباب الكبير، ونُقِرَ في النواقير٨ ثلاث مرات، فتشخص أبصار مَن هم على الرصيفين الأسفلين حين ذبح ذلك الكبش المنذور.
هنالك يتقدم الكهنة تحت الأروقة رافعين أصواتهم بالصلوات، راكعين ما أُحْرِقَ البخور في المذبح الذهبي، ويقرع اللَّاوِيُّون الأجرانَ، وتَعْزِف المعازف، ويرتِّلُ المنشدون الزبور، وفي كل ثماني فواصل يُنْفَخُ في الصُّور٩ فَيَخِرُّ القوم ساجدين.

وكلما تقدَّم النهار ضاقت أروقة الهيكل بالنَّاس، فإذا حلَّ وقت الظهر ودنا وقت الشعائر الثانية ازدحموا، وعلت الأصوات، فكانت سوقٌ في فِنَاء الغرباء؛ حيث يُباع ويُشْرَى جميع ما يعرضه الأهلون، وما قد ينتفع به الغرباء. وممَّا يحدث أن يَعْرِضَ شائبٌ جالس على دَرَجٍ كبشًا للبيع، فيعيشَ بثمنه ثلاثة أشهر على أن يَسُومه يهوديٌّ إسكندريٌّ زائر لأورشليم في عيد الفصح مقدرٌ له، عارفٌ بأن تقريبه مما يرضي الرب. وإلى أورشليم يُؤتى بقِطَاع الشياه لحفز الحجيج إلى تقديم القرابين، وإنعاش التجارة. وفي أورشليم حركةٌ للأخذ والعطاء، وفي أورشليم ضروب للأطياب المترجحة بين عنبر آسية وعطور مصر، وفي أورشليم جريدٌ للنخل يُباع للذكرى، وقراطيس مشتملة على حديث الأنبياء بحروف عبرية دالة على الرجولة، وحروف يونانية ذات مَسحة نسوية، وفي أورشليم صرافون جُثِيٌّ خلف موائد صغيرة قائمون بأعمالهم المالية وراثةً. والهيكل يرفض النقود الإغريقية والرومانية المشتملة على صور بشرية، فعلى اليهودي الأجنبي أن يستبدل بنقوده نقودًا أخرى قبل أن يؤدي إلى الهيكل ما يجب، أو أن يضع دينارًا في صندوق الفقراء.

ويزدحم الحجاج فوق تلك الدرج هادئين فيُصلُّون وقوفًا، وأنظار هؤلاء كانت قد توجهت منذ سنوات من أثينة، وسراكوسا، ومراكش، والغول إلى تلك البُقْعَة، منتظرةً اليوم الذي ترى فيه موطن الإيمان؛ الهيكل الثاني الذي أقامه هِيرُودس في مكان الهيكل الأول فزيَّنه. والآن يتدرج هؤلاء الذين أَوْلَهَتْهُم الأدعية والصلوات إلى الأبواب المقدسة، مبصرين ذلك الحجاب المُوَشَّى الذي حدَّثهم عنه آباؤهم، وتلك الكَرْمة الذهبية التي هي رمز الخِصْب والبركة. والآن تطأ أقدام هؤلاء الرواق الكبير الذي يتقدم الهيكل، مضيفين إلى مئات قرابين الشكر الثمينة تَقَادِمَهم، التي هي ثمرة ما اقتصدوه بجدٍّ، فضمُّوها بالأمس إلى صدورهم عند هياج البَحْر، ووضعوها بالأمس تحت وسائدهم في الفنادق. والآن يتمثلون ما لا يجوز لهم أن يرَوْه في غير يوم العيد، فيتنورون من خلال ذلك الرواق ذي الظلِّ الحوضَ النحاسيَّ المحمول على ثيران؛ ليكون رمزًا إلى الماء الذي استوت عليه روح الربِّ في بدء الخلق.

ويجلس بضع عشرات من الصبيان حول سارية مستمعين لكاتب يقرأ لهم مفسرًا ما في قَدِيم القراطيس، فلا يأبهون لدعاء الغرباء، وضوضاء التجار. ويستطيع هؤلاء الصبيان أن يقاطعوه مستوضحين، وكلما وضع أسئلة بدَوا بارعين في الأجوبة، ثم ينقلب الدرس إلى مناظرة، فَمَن يَبُزَّ رفقاءَه فيها يُشَرْ إليه بالبنان؛ فَيَصِلْ ذات يوم إلى مرتبة كاتب.

والآن يقطع المعلم محاوَرة طلَّابه؛ فهو يبصر موكبًا كبيرًا من فلَّاحي بلاد الجليل قضوا الليلة في العراء، فَيُعرَفون بأزيائهم وبثَورهم ذي القرنين الذهبيَّين الذي يجلبونه ليكون قربانًا، وبِسِلَالِهم المشتملة على بواكير ثمارهم. ويسير أمام هؤلاء كهنةٌ، ويُنشدون قائلين: «تقف أرجلنا في أبوابك، يا أورشليم.» ثم يأتي موكبٌ آخر آتٍ من مكان بعيد مُؤَلَّفٌ من رجال لابسين ثيابًا زاهية، وراكبين جمالًا مُحَمَّلةً هدايا ثمينة في صُرَرٍ.

•••

حَلَّ وقت الظهر، فيقصد الكهنة في موكبٍ الحاكم الروماني، فما أقرب رومة من أَرْض الميعاد ما قامت المسافة بينهما على النزول من رَبْوَةٍ، والصعود في رَبْوَةٍ أخرى! ولكن الجمهور الذي يملأ الشوارع يبصر الهُوَّةَ العميقة بين الرَّبْوَتَيْن فيشتاط غيظًا من ذلِّ تلك الزيارة التي يُبْدَأُ بها كلُّ عيد، والحاكم الروماني يرغب في إهانة ذلك الشَّعْب المختار، فيجيء إلى قلعة أنطونيا أربع مرات في كل سنة؛ ليدلَّه على أن رومة صاحبة السُّلْطَان. والحاكم الروماني هذا يحفظ الحُلَلَ المقدسة في صُوَانٍ خاص ليُعِيرَ أولئك الضَّرَعة المبتهلين إياها في كل مرة، ولماذا تظل حُلَّةُ رئيس الكهنة قبضةَ الكافرين بين موسمٍ وموسم ما اقتضى تطهيرها بالبَخُور؟

يدخل الكهنة باب القلعة فيستقبلهم الحاكم الروماني واقفًا، لابسًا خُوذَةً وسلسلة، متقلدًا حُسَامًا لامعًا، فينحني الكهنة منتظرين، فيأتي جنديان بالصُّوَان المختوم، فيكسر الحاكم الخُتُمَ الرومانية، ويكسر الكهنةُ خُتُمَهم اليهوديةَ التي لم ينالوا حقَّ وضعها إلا بعد طويل جدل، فَيُخْرِجون من الصُّوَان الحُلَلَ المُطَرَّزَةَ بالذهب وثمين الحجارة، فيتبادلون هم والحاكم التحية من غير أن يُنْطَقَ بكلمة، فينصرفون من حضرته حاملين تلك الحُلَلَ عائدين إلى الهيكل.

بيلاطُس حاكمٌ غليظ القلب، أفليس لذلك الذلِّ من آخِر؟ أفتعجز رومة التي فتحت العالم عن إخضاع ذلك الشَّعْب الصغير الضعيف؟ مضى أكثر من خمس سنوات على قيامه بشئون الحكم باسم القيصر، وعلى ما في تقاريره من أخبار السكون والطاعة، كان يعلم أن النار تحت الرماد، وأن الشرر قد ينتشر منها في أيِّ وقت.

ما أبعد عجزَ بيلاطُس عن رسم صورة القيصر على نقود اليهود من الصواب! وما هو الضرر في اشتمال هذه النقود على صورة القيصر؟ حقًّا يُحْتَرَم القيصر كإله، ولا يخرج عن كونه قيصرًا مع ذلك، فأين البلد الآخر الذي يكون إلهه ملكًا؟ وماذا يَقْصِد اليهود بتسمية مدينتهم بلد الرب؟ وحقًّا لم يتعرَّض أحدٌ لِمَا يقوم به اليهود من الشعائر في هيكلهم، ولم تفكر رومة في فرض آلهتها عليهم، فما هو سرُّ ما يثيرونه من الضجيج حول بعض الرموز والصور والأفكار؟

لقد أتى بيلاطُس في أول ولايته بالرايات الحاوية لصور القيصر ورفعها فوق المدينة المقدسة؛ فكانت فتنةٌ، وكان احتشادٌ أمام القلعة خمسة أيام، فحاصرت كتائب بيلاطُس اليهود، فهددهم بضرب رقابهم إذا لم يعودوا، فَمَدُّوها طالبين الموت، فماذا بقي له غير طَيِّ الرايات؟

لم يكن اليهود ليبالوا بغير ما يدفعونه إلى الهيكل من الخَرْجِ، واليهود ينادون بالويل والثبور إذا ما دُعُوا إلى إعطاء رومة ما يُفْرَضُ عليهم من الضرائب الخفيفة، مع أنهم يدفعون المال إلى الهيكل طائعين؛ واليهود إذا صنعوا ذلك فلكيلا تكون رومة رقيبةً على ثرواتهم. وَمَن يدري ماذا يُصْنَع بالأموال التي يؤدونها إلى الهيكل إذا ما اشتعلت الفتنة في أورشليم، وإذا ما اضطربت بلاد الجليل، وإذا ما وُجدَ مَن يُبَلِّغ رومة حبوطَ سياسة بيلاطُس عُزِلَ من ولايته؟

اتَّجهت أفكار بيلاطُس إلى رومة، وساورته الهواجس حول بقاء حامية سيجانوس حيًّا؛ فَمَن ذا الذي يخبره بذلك؟ ومن المحتمل أن يكون القيصر قد مات، ورأت زوجة بيلاطُس أحلامًا مزعجة. وزوجته هذه تؤمن بالرؤى، فألقت الرعب في قلبه، فصار يفكر في أمر القيصر.

كان القيصر طيباريوس شيخًا، وكان يقيم بكابري معتزلًا، وعاش سيدُ العالم هذا سنواتٍ في هذه الجزيرة الصغيرة بعيدًا من عاصمته، مهملًا لشئون حكومته، عاطلًا من العمل، عبوسًا خصمًا للجميع، وأنشأ فوق هذه الجزيرة الصخرية قصرًا فسكنه، فأخذ يقضي أوقاته في تأمُّل البَحْر وفي أمور السِّحْر، فيبدو خليًّا يومًا وظالمًا يومًا، فيعفو مرةً ويقتل مرةً، ويضطهد ساعةً وَيُحَرِّرُ ساعةً، وهو إذا ما فوَّض أمور السلطة إلى أناسٍ آخرين ذات حينٍ؛ فلكي يقبض على زمامها في كلِّ حين مستبدًّا متحَرِّزًا مُحَوَّطًا كئيبًا.

سال ما سفكه القيصر طيباريوس من الدماء كالنهر، ولماذا؟ فَقَدَ ابنَه الوحيد فلم يقدِر على الانتقام، فوطَّنَ نفسه على الحقد والقتل، فصار حرسُه يَحْذَرُ وزيرَه سيجانوس، وصار هو يَحْذَرُ حرسَه، وصار الجميع يَحْذَرُونه.

رأى ذلك القيصر الأمان في تلك الجزيرة الصخرية، وهل يجد في غيرها ما يعتصم به؟ وهل يبصر في الفلسفة الملجأَ؟

جاء في رسالةٍ لسينيكا عن ديوجين: «إن مما يَعْدِلُ مملكةً أَلَّا يُصِيبَ المرءَ أذًى في عالم من المنافقين والقاتلين والمفسدين.» وقرأ القيصر في مقالةٍ لسينيكا قوله: «ليس بيننا مَن لم يقترف ذنبًا، ولن ننفك عن اجتراح السيئات حتى نهرم، ولا يكون مصدر الآثام إلا فينا، وما الجسم إلا إِصْرُ١٠ الروح وعقابُها، وما مَرَدُّ النفس إلا مأتاها حيث السكون والنور، واليومُ الذي تتحرر النفس فيه من أوزار الحياة آتٍ لا ريب فيه، والفضيلة في أن يُقَرَّنَ المرءُ في الأصفاد، أو أن يُبْتَرَ منه عضوٌ، أو أن يُسَمَّرَ على الصليب.»

أَلَا ترى في هذا ما يشابه معتقد أورشليم الغريب؟ فَكَّر القيصرُ في اليهود ففوَّض إليهم في رومة أمر القيام بشئون خاصة به وبالدولة، وأرسل إلى هيكلهم ثمينَ الهدايا مع الإشارة بأن يُقَرَّبَ فيه كلَّ يوم ثور وحملان «تمجيدًا لله العَلِيِّ». ومَن هو هذا الإله العَلِيُّ؟ هذا الإله هو الذي لا يقدرون على تصويره، ولا على النطق باسمه المقدس، وهل نَجَّاهم هذا الإله حينما استردَّ القيصرُ بغتةً ما حَبَاهم به من حُظْوَةٍ، وما شملهم به من حماية؟ كلا، لم يأتِ هذا الإله لِنُصْرَتِهم، ولكن الألوف منهم فَضَّلُوا العقاب على حرق آنية القربان المقدس، فيا لغرابة طبائعهم! كان هِيرُودُس رفيقًا لدروزوس ابن القيصر في الطلب، وكان كلٌّ منهما محبًّا لصاحبه، فلما قُتِلَ ابن القيصر أُقْصِيَ هِيرُودُس من البلاط؛ لِمَا في وجوده من إيلامٍ للقيصر. والقيصر هذا لم يُعَتِّمْ أن استدعى هِيرُودُس إلى كابري ليكون بجانبه قبل أن يلحق بولده، وإلى أين؟ إلى عالم الفناء حيث الراحة والسكون، كما قال سينيكا.

مَرَّت تلك الأمور بخاطر بيلاطُس، فترجَّحت أفكاره بين كابري ورومة، ولم يكن بيلاطُس أسوأ من الولاة الآخرين، وإن بدا أحيانًا مستبدًّا متكبرًا فَظًّا بسبب منصبه الاستعماري، وسار بيلاطُس كأسلافه على قاعدة القَبَالة١١ في أمر المكوس والضرائب، وهل كانت تهمُّه حسرة القوم من ظلم العَشَّارين الجائرين السالبين، الذين يزيد ما يأخذونه لأنفسهم عمَّا يؤدونه إليه؟ هؤلاء العَشَّارون عادمو الأمانة فاقدو الاستقامة، وبيلاطُس ذو يدين نَقِيَّتَين.

•••

ينعقد، بعد الظهر، المجمعُ اليهوديُّ الكبيرُ المعروف بالسنهدريم في الرَّدْهَة الحجرية الغَضَّة الواقعة بين الرواق وَقُدْسِ الأقداس، ويتألَّف ذلك المجمع من خواصِّ الكهنة، فَيُؤَلِّفُ هؤلاء الذين وَخَطَهم١٢ الشيبُ حلقةً، على أن يكون صدر الاجتماع العالي للحَبْر الأكبر الزعيمِ يوسف قيافا، الذي صار رئيس الكهنة قبل أن يصبح بيلاطُس واليًا على اليهودية، فلم يصنع بيلاطُس غير تثبيته مع رفقائه في وظائفهم، ولم تكن عادة إجازة الوالي الروماني لقرارات ذلك المجمع سوى أمرٍ شكليٍّ، فإذا عَدَوْتَ هذا وجدتَ ذلك المجمع حُرًّا في ممارسة أعماله؛ فذلك المجمع الذي هو مجلس شيوخ، هو صاحب السلطة المدنية والدينية والقضائية، ولا تُسْتَأْنف أحكامه التي يخضع لها كافة اليهود وأُمَراؤهم وكهنتهم، خلا حكمَ القتل الذي لا بد من موافقة الوالي الروماني عليه إذا ما صدر بأكثرية الآراء.

أجل يختار أعضاءَ ذلك المجمع أندادُهم، بيدَ أن وظائف هؤلاء وِراثيةٌ محصورةٌ في قَدِيم الأُسرِ بالحقيقة، وستظل رئاسته في آل الحكيم هِلِّل لبضعة قرون أخرى. وقيامُ ذلك المجمع على الشَّيْبَة والوِراثة يجعل منه مجلسًا محافظًا، وَتَمَكُّنُ الرومان في كلِّ مرةٍ من انتخاب أناسٍ مُثرِينَ ليكونوا أعضاءً فيه يجعل منه مجلسًا متسامحًا.

وَالصَّدُوقِيُّون هؤلاء شِرْذَمةٌ قليلون من الأشراف الأقوياء الذين لم يريدوا أن يكدروا صفو حياتهم الناعمة، الناشئة عن امتيازاتهم، ويُعَرِّضُوها للخطر بأن يثوروا على الأجنبي الغالب، وبأن يغالوا في القيام بالشعائر الدينية. ويرى الصَّدُوقِيُّون اتِّبَاعَ شريعة موسى، لا ما طرأ عليها من التفاسير التي لم يُوحَ بها إلى هذا النبي. ومما قالوه: أين نصُّ تلك الشريعة على حَظْرِ جمع الأموال، والأكل بآنيةٍ من فضة، وتحريم ما أحلَّ اللهُ من أطايب النعم؟ أجل، إن الرومان من الأرجاس، ولكن الأموال التي يجلبونها من الغرب غير مُحَرَّمةٍ علينا ما صُمْنَا في الأيام المقرَّرة؛ فهذه أمورٌ لا يقدر العوام على إدراكها، وليس في تفهُّمهم لها من فائدةٍ، فَعِدُوهم بما حكى عنه الأنبياء من الأجر الدنيوي كطول الحياة، وَعِظُوهم بصدق العيش واجتناب الآثام غيرَ خائفين من آخرةٍ أو آمِلينَ فيها، واذكروا لهم أن خلودهم بأبنائهم، وحَرِّضُوهم على كثرة النسل لِيُبَارَكَ لهم.

figure
يسوع يُعَلِّم.

وبجانب هؤلاء الأغنياء المُتْرَفِين الجالسين في تلك المحكمة العليا، والبعيدين من التعصُّب في المَسَائِل الروحية، والمتشددين في المَسَائِل الدنيوية، يجلس أعداؤُهم الفَرِّيسِيُّون. فَالفَرِّيسيُّون هؤلاء أناسٌ شاحبون ذوو وجوه مستطيلة، ونظراتٍ تدلُّ على التعصب، ويعني اسمهم «المتجانبين، الخُلَّص»، ومنهم يتألَّف الحزب الوطني الكبير، ويبلغ عدد المنتسبين إليه نحو ستة آلاف، وهم إذ كانوا ديموقراطيين نسبًا وعلمًا وسَيْرًا لم تَغِبْ عنهم تفاسير الشرع الحديثة، وهم إذ كانوا أبناء لِحَدَّادين ودَبَّاغين وسَكَّافين، أو إخوة لهم، طالبهم حزبهم بأن يقضوا ثلث النهار في الأعمال اليدوية، أو أن يقضوا جميع الصيف في هذه الأعمال، على أن يقضوا الشتاء كله في الدرس، وهم إذ كان أكثرهم من الفقراء راعوا أحكام الشرع الذي يُحَرِّمُ عليهم أن يأخذوا أجرًا على تعليمهم له، فنالوا بذلك احترام الشَّعْب.

وَالفَرِّيسِيُّون بَدَوْا بعيدين من حياة الشَّعْب اليومية مع ظهورهم من صميمه، فكان ذلك ثمنًا لِمَا أصابوه من الاعتبار، وَالفَرِّيسِيُّون مع زهدهم في السلطة وحطام الدنيا خلافًا لأعدائهم الصَّدُوقِيِّين، أدركوا مكانًا عليًّا؛ بفضل وقوفهم على الشريعة، ومباحثهم فيها، وتفسيرهم لها. ولو اطلعت على سرائرهم لوجدتهم يزدرون الفلاحين والمحترفين من إخوانهم؛ لِعَجْزِ هؤلاء عن تلاوة التوراة، وجهلهم تفسيرَها، وعدم إتقانهم العمل بأحكامها. ومن شأن العصائب التي يمسكها الفَرِّيسِيُّون بأيديهم على الدوام، والأهداب المجهزة بها ثيابهم أَلَّا تغيب الشريعة عن بالهم ثانيةً.

وَالفَرِّيسِيُّون إذ كانوا يَحسُبون، في كل مرة، درجةَ تَقَبُّلِ الأزليِّ الصَّمَدِ لكلِّ قربان، وَالفَرِّيسِيُّون إذ كانوا يُظْهِرون المكث في الصَّلَاة والتقشف وإيتاء الزكاة على مرأًى من النَّاس في الميدان العام، وفي الهيكل، ويُفْرِطون في الصوم والوضوء والغسل، وَالفَرِّيسِيُّون إذ كانوا يقومون بشعائر الدين غير تاركين شيئًا منها، وغير غافلين عن أمرٍ أو نهي من أوامر الشريعة ونواهيها؛ بَدَوْا أئمةً للشعب، مهَذِّبين له، فيتساءل الصَّدُوقِيُّون، الذين وَطَّنُوا أنفسهم على الشك والارتياب، مستهزئين عن الوقت الذي يصقل الفَرِّيسيون قرصَ الشمس فيه.

والعبرة للأعمال لا للنيات عند الفَرِّيسيين؛ فالذي يكثر من الهبات للهيكل يُعْفَى، عندهم، من الإنفاق على والديه العاجزين، والذي يذكرونه في دروسهم هو عدد الخطوات المباحة يوم السَّبْت، أو عدد الجلدات التي يُجلد بها المذنبون، لا الخطايا والبغاء ونقاء الضمير. وقد دام جدلهم عدة سنوات حول صلاح الغَلَّات التي تقدَّم إلى الهيكل إذا ما حُصدت سنابلها في اليوم الثاني من عيد الفصح، وكان هذا اليوم سبتًا. ومن مسائلهم: هل تنعقد اليمين بالقسم على الهيكل أو ذهب الهيكل؟ وهل تظل النُّفساء دَنِسة في الأيام السبعة الأولى أو الأيام الأربعة عشر الأولى؟ وهل يجب في يوم الغفران أن يُحرق البخور أمام قُدْس الأقداس قبل حضور رئيس الكهنة أو بعد حضوره؟

وبينما كان الفَرِّيسيون يأتون تلك السفاسف فتطفو على اللباب كانوا ينفخون في الشَّعْب روح الأمل في مقاديره السياسية، فيحدثونه عن موسى، وعن الخلاص، وعن مملكة الرب، وعن احتقار المشركين. واليومَ تراهم يرفضون يمين الولاء للرومان كما رفض آباؤهم قَسَمَ الإخلاص لآل الملك هِيرُودُس في غابر الأزمان.

والموضوع الذي يبحث فيه المجمع اليهودي «السنهدريم» في هذا النهار هو تعيين الشخص المجرم الذي يطالبون الرومان بإطلاقه؛ فمن العادة التي استقرت منذ جيل أن يلتمس اليهود من الوالي الروماني في كل عيد فصح العفوَ عن مجرم محكوم عليه بالقتل، فَمَن هو الذي سيطلبون العفو عنه في هذه المرة من بيلاطُس؟

•••

من عادة أغنياء الأشراف أن يجوبوا الشوارع على هوادج عند امتداد الظل، وعلى ما كان هؤلاء يسدلونه من الستائر بين حين وحين عندما تنقبض صدورهم، لم يأنفوا من نظر الدهماء إليهم. وهم حين يفكرون في أمر أورشليم التي أضحت، بعد قوة، عاصمة فقيرة لولاية فلسطين الحقيرة، إذا ما قيست بالولايات الاثنتين والعشرين الواقعات في عبر البَحْر، تتجه أنظارهم إلى رومة والإسكندرية. وما هي صادرات فلسطين البائسة؟ قليل زيتٍ وفواكه، مضافًا إلى ما تبذره في العالم جميعه من أعمال الذكاء، ودقائق الذهن، والإيمان القوي بالله الذي لا تدركه الأبصار، ورفض تقديس ملوك الدنيا، والقيصر منهم، بشممٍ، والأمل بالله أن يَكُبَّ الآلهة القَديمة، وما إلى ذلك من الشئون التي تجعل اسم إسرائيل يتغلغل في مراكز الحضارة والثقافة، وبنو إسرائيل القليلون كلما خسروا سلطانهم عَمَّت شهرتهم في عالم المال والجبروت، ولا مِرَاء في استهزاء بعض النَّاس بهم، ولكن لا مِراء في خشية أناس آخرين من ثبات معتقدهم، وتركهم إياهم أحرارًا في ممارسته.

أولئك الأشراف اللابسون ديباجًا، فيحملهم عبيدهم على ذلك النمط مارِّين بهم من ضيق الشوارع هم حفدةُ عبيدٍ؛ فقد استرقَّ فاتح أورشليم الأول بومبي أسرى اليهود في رومة، ثم فك رقابهم، فبدوا من صغار التجار في جزيرة طيبر التي تجمَّعوا فيها، فلما آل السُّلْطَان إلى يوليوس قيصر الأكبر عرف ذكاءهم، فقرَّبهم منه ومنحهم حق التصويت في مجلس الأمة، وعهِد إليهم في تدارك ما يحتاج إليه الجيش من الميرة وَالعُدَد، فلم يمضِ وقت قصير حتى أصبحوا موضع ثقة، فأضحَوا صرَّافين للقيصر، ودائنين للملوك المخلوعين، وملتزمين لدور التمثيل والرقص، فكانوا جَمَّاعين لفضائل الشرقيين ونقائصهم في المرونة والملاءمة والمعرفة وما إلى ذلك.

ومستعمرة اليهود الرومانية تلك كانت تشتمل على ثمانية آلاف يهودي، فزاد عدد سكانها بِمَن قصدها من الغرباء والأفَّاقين، فلم تَنْشَب أن اغتنت وزادت نفوذًا، مع ظهورها منعزلة في مدينة رومة العظيمة، والقليلون غدَوا مشركين، وتَسمَّى بعضُهم بأسماء لاتينية منتحلين عادات الرومان، غير مقاطعين لألعاب البرابرة كاتمين ختانهم، ولكنهم ظلُّوا أوفياء لدينهم تقريبًا، فيقوم به أكثرهم علانيةً، ويعمل به آخرون منهم سِرًّا غير مختلطين بالمشركين إلا عند الضرورة.

ومما أصبح عادةً أن تجتمع الرومانيات المُتبرِّمات على الخصوص في صلوات١٣ اليهود. وهؤلاء النسوة المترفات حين يتَّكئن لتناول الغداء فيَعْبَثنَ بشواء الطاووس الساموسي، أو الشِّلْق١٤ الطرطسوسي، أو المحار الساقزي، أو حين ينظرن إلى تبديل أثاث المائدة، بعد أن يَقِئْنَ، منتظراتٍ عودة شهوة الطعام إليهن، يُبْصرن حلول الزمن الذي يعتنقن فيه دين الله الواحد الخفي.

ألم تُشرِف الآلهة القَدِيمة على الموت منذ طويل زمن؟ ألم يَدْعُ الرواقيون النَّاس جهرًا إلى عبادة إله واحدٍ، مستندين إلى أفلاطون الذي أسِف، قبل ظهور يوليوس قيصر بثلاثمائة سنة، على هبوط الروح إلى الجسم من العالم الأثيري، فانتظر مسرورًا يوم رجوعها إلى حيث كانت؟ أفيكفي هذا وحده للزهد في ملاذِّ الحياة؟ فاسمع ما قاله حديثًا الحَبْرُ الروحاني العلماني، والخطيب السياسي الفيلسوف سينيكا: «مَثَلُ الحياة العاطلة من الاضطراب، والآمنة من النوازل كمثل البَحْر الميت، والأب الربُّ قد أنعم علينا بأطايب النعم قبل أن نبتهل إليه بصلواتنا.»

«أبٌ وربٌّ»! يا له من تعبيرٍ غريب! يا لعظيم الخطر في الانتساب إلى أبٍ واحد، وما يجرُّ إليه هذا الانتساب من المساواة! وأبعدُ من هذا قولُ سينيكا: «ليس العبيد من الآدميين فقط، بل هم أيضًا ندماء وأصدقاء ورفقاء لنا في الرِّقِّ. وبيان الأمر أن زينة الحياة التي نبدو أصحابًا لها؛ كالأولاد والعزِّ والشرف وفتنة الغواني، ليست ملكًا لنا، بل هي ودائع أُعِدَّت لزخرفة العيش، على أن تعود إلى ربها كما يعود الأثاث إلى الفُنْدُقِيِّ بعد سفر السياح.» فإذا ما سمع العبيد هذا تداعت دعائم الدولة!

ولم يكن ذلك كله مقصد الفيلسوف سينيكا؛ فقد قال: «أسرعوا في التمتع بالمسارِّ التي يوحي بها أولادكم، ولا تبطئوا في اقتطاف اللذة التي تلوح لكم؛ فالعمر قصير، وأمسكوا بكل ما يَعْرِضه الحظُّ عليكم؛ فستُحرَمونه بعد حين.» ومثل هذا ما قاله الفيلسوف أبيقور، وإن حذَّر من أكل الكمأة والمَحَار.

ذلك ما يفكر فيه أولياء الأمور برومة، ولم يروا غير صنع ما يُسَكِّنُون به اضطراب النفوس على ضوء ما في المذاهب الفلسفية الأجنبية من التِّرْياق الروحي. وفي المجتمع زال متوسطو الحال، ولم يبقَ فيه غيرُ الأغنياء والفقراء، وفي الشوارع يتسكع ألوف الكسالى فيأكلون من أَهرَاء١٥ الدولة، ويُنجِز الأفَّاقون والوسطاء وَالمُضَلِّلون وَالوُشاة كلَّ عمل ثم يفسدونه، ويختلُّ في العهد الإمبراطوري ما كان في الدور الجمهوري من النظام، ويَحُوكُ الولاة الدسائس حول الحرس، ويحوك الحرسُ الدسائسَ حول المُقرَّبين، ويَحُوكُ المقرَّبون الدسائس حول القيصر الغائب، وتَلطِم موجةُ البؤس مُهدِّدة نفائس القادة، وإن كان ذلك كلَطْم موج البَحْر للصخر. ويرى هؤلاء القادة أن الوقت لا يزال ملائمًا للاحتراز من أي طارئ، والوصول إلى ما فيه خير الدارين، وإن كان الصخر يهتزُّ تحت قصورهم الفخمة. وكيف يُعْلَمُ أن قدرة رب اليهود القَدِيم أو أرباب السفسطائيين المعاصرين لا تكون في عجز الأبصار عن إدراكها لهم؟

واليهوديُّ الغنيُّ، حين يكون في هَوْدَجِه فيجوب شوارع بلد الرب، يُنعم النظر في آراء أصدقائه من المشركين، وهو حين ينزل بفندقه يلاقي فيه، على ما يحتمل، صاحبًا عميلًا من الإسكندرية، فيخبره هذا الإسكندري بإفلاس ملك مخلوعٍ، ويحدِّثه عن أنباء أبناء دينه بمصر، وعن مطالعاتهم ومناظراتهم، وعن الحدِّ الذي يمزجون به الروح بالإيمان ويَفْصِلُون بينهما …

والواقع أن اليهود استقروا بمصر منذ عهد بطليموس، فبلغ عددهم الآن مليونَ شخصٍ، وأن نصف الأحرار في الإسكندرية منهم، وأن لهم في هذه المدينة حَيَّيْن، وأنهم قابضون على زمام التجارة بين الشرق والغرب، وأنهم يديرون معظم أمور النقل في البَحْر منذ أن وثق بهم القيصر أغسطس، فعهِد إليهم في مراقبة مستودعي الحبوب لرومة: النيل والدلتا.

والإسكندرية أصبحت عاصمة العالم الثقافية قبل أن تصبح رومة عاصمتَه السياسية بقرنين، ولِمَ يُعْرِض اليهودُ برُومة عن الفن الإغريقي، الذي أُدخل إلى عبر البَحْر المتوسط منذ زمن الإسكندر الأكبر، فلا يتخذونه في معبدهم المنافس لهيكل القدس زهاءً ورقَّةً؟ إذا كان اليهود يقرءون كتب أفلاطون وهوميروس؛ فلأن هذه الكتب رواياتٌ تعجز عن زلزلة حكم رجال الدين الرباني، وقد نُقلت صحف موسى وسليمان وشريعة الشَّعْب المختار وحكمته إلى اليونانية في زمن بطليموس الأول، فكان لها بذلك حظُّ الانتشار في العالم بأسره. وفي الأساطير أن اثنين وسبعين عالمًا من اثنتي عشرة قبيلة هاجروا إلى جزيرة، فترجموا في اثنين وسبعين يومًا أسفار موسى الخمسة، فأسفر ذلك عن خروجهم من دائرتهم القبَلية إلى الدائرة العالمية، وعن تمجيد اليوم الذي ذهبوا فيه إلى تلك الجزيرة بأمر ملك مصر المفضال بطليموس فيلادلفوس، فعلم النَّاس أن موسى أعظم من فيثاغورس.

واليومَ، في الفندق، يسأل يهوديُّ رومة يهوديَّ الإسكندرية عن أنباء فيلو: أيذهب رسولًا إلى القيصر؟ أليس كتابه الأخير عن الأحلام ذا مناحٍ طليقةٍ حرَّةٍ؟ ألا يؤدي إلى ضعف الإيمان بالأنبياء؟

فيلو؛ ذلك اليهودي الذي هو قَبَسُ دين اليهود في الخارج، يبلغ الستين من عمره، فيجمع في كتبه العالَمَيْن المتقابلين على ضِفَافِ النيل، وإن شئت فقل: تنطوي كتبه على الأفكار السائرة التي تختلط أمواجها في دلتا عصره، وفيلو؛ ذلك الحكيم الذي هو من أبناء الدولة الأولى في العالم، والذي هو تلميذ حضارتين، يقطن بميناء تَجْلِبُ السفن إليه سلعًا وأفكارًا، وفيلو؛ ذلك الفيلسوف، يتحرر من ربقة الخرافات فلا يداري بني قومه؛ فيضع الروح بعيدةً من حدود اليونان وإسرائيل مستندًا إلى تعاليم الأنبياء وآراء أفلاطون، فيرسم صورةً لإلهٍ إنسانيٍّ يَعُدُّ النَّاس إخوةً ما دام أبًا لهم جميعهم، فيقيم بذلك على سُدَّةِ المملكتين مملكةَ الروح للمرة الأولى.

يرى فيلو أن الإنسان سقط، وأن الله يريد أن يقيل عثرته بمعرفته لنفسه وبالتوبة. ومن قول فيلو: لا تُقسِموا بالله، وادعوا إلى الألفة والاتحاد وشيوع الأموال، واحترموا جميع الأمم على السواء، وأعينوا عدوَّكم إذا خانَه الحظ فتضوَّر جوعًا، واعْنَوا بأسير الحرب، وداروا العبيد، وارفقوا بالحيوان والأشجار المثمرة، وابتعدوا عن المادة، واتركوا الملاهي، واطلبوا العزلة، وكفُّوا عن الشهوات؛ ففي ذلك كله قهر أجسامكم، وسموُّ أرواحكم إلى الله، واجتنبوا الخصومات، ورفع الدعاوى، ولا تتردَّدُوا إلى الأسواق والمجتمعات العامة، والتزموا جانب البساطة والحلم والدَّعة، وإياكم والتفاخر والغِنَى؛ فالدنيا هي المنفى، والسماء هي الوطن، فَمَن يعرف ذلك ويفعله، وَمَن يعمل الصالحات ويقف نفسه على الله؛ فهو ابنُ الله، كما في الشرع، فالله يحب الخاشعين وَيُنَجِّيهم، والله في عون مَن يؤمنون به قبل أن يولدوا، وروح الله تتجلى في نفوس الأولياء فتنير بصائرهم، فيرتقون من المنطقة البشرية إلى المملكة الإلهية.

•••

لنفترض أن شيخين من الفَرِّيسيين جالسان في ناحية من الفندق، فيستمعان إلى ما يدور بين اليهودي الروماني واليهودي اليوناني من الحديث، لنعلم أنهما يَعُدَّان كل كلمة ينطقان بها إهانةً لهما، كما تدل عليه نظراتهما، وإن اليهودي الروماني ليلبسُ ثوبًا ثمينًا ويبدو سمينًا، حليقًا، حسن المنظر، محاكيًا المجتمع الذي يعيش فيه، وإن اليهودي اليوناني الإسكندري ليظهر طليق الوجه، لَيِّنَ العريكة، حلو العينين، وإن الفَريسيين لَيَلُوحَان أعجفَين١٦ جائعَين، مُتَجَهِّمَين، مستطيلَي الوجهين، أبيضَي اللحيتين، مرسلَيهما، متميزَين من الغيظ والحقد على ذينك الفاتري الإيمان أكثر مما على الكافرين.
ومن الحِنْثِ١٧ العظيم عند الفَرِّيسيين أن نقل شيوخ الزنادقة التوراة إلى لسان المشركين، فاطلع هؤلاء على عهد الله لشعبه المختار. ومما يجهر به الفَرِّيسيون في مدارسهم أن مَن يقرأ كتاب إشراكٍ يُحرم السعادة في الدار الآخرة، وأن اليونانية هي لغة العبيد لا الأحرار، وأن دَوْرَ الانحطاط الثاني بُدِئَ بتلك الترجمة، وأن يهود اليوم إذا كانوا عبيدًا لا سادة، فَلِمَا أنزله الله من العقاب على اليهود بسبب تلك الترجمة، وأن أولئك الطُّلَقَاء أدخلوا إلى أَرْض الميعاد، حتى درج الهيكل، عاداتِهم وطبائعهم الخطرة.

ومما يعلنه الفَرِّيسيون قولهم: آلروح؟ لنا مذهبٌ في الروح أيضًا، وأما كبح جماح الشهوات الجسدية وإماتة البدن بذلك، فمما يُضعف قوة شعبنا، ومما لا ريب فيه أن هؤلاء الأجانب ذوو أجسام منفوخة، ولم يكن لهم غير أبناء ضعفاء ملحدين بأوامر الأنبياء، فقَصرُ كل وحي على الروح وحدها يعني جحودًا بالعالم الحسيِّ، وإنكارًا لماضي بني إسرائيل الجليل، ومستقبلهم المجيد، مع أنه يجب علينا تجاه العدوان الذي نضام به أن نبذل أنفسنا في الدفاع عن روح أجدادنا، ومذهبنا وشريعتنا التي لن تقدر رومة على نزعها منا!

ألم يَسِرْ آباؤنا على هذا النهج؟ حتى إن بومبي نفسه لم يَسْطِعْ أن يفتح أورشليم إلا لأن اليهود لم يريدوا أن يَعْدُوا في السَّبْت فيردُّوا عادِيَة الغزاة بالسلاح. وفي ذلك الحين كان اليهود شعبًا واحدًا تسري فيه روح المكابيين، فأطفأ هِيرُودُس جذوة تلك الروح فيما بعدُ.

يتكلم ذانك الشائبان الجالسان القرفصاء في زاوية من ذلك الفندق في شأن الملك هِيرُودُس الكبير، الذي أدركا آخر عهده أيام صباهم، فكان أدوميًّا ظالمًا آثمًا ملحدًا خائنًا لبلاده، فسلمها إلى القنصل سيسرون، وأتى ببومبي وكراسوس ليحاصرا أورشليم. وهِيرُودُس هذا كان ابن رقيق، فسمَّ أباه وإخوته، فاشترى من أفَّاقي الرومان عرش الملك بالذهب والكنوز، ثم خسر هذا العرش في آخر الأمر، وما الذي ناله بنو إسرائيل في زمن حكمه الطويل؟

حقًّا أنه وَسَّعَ رُقْعَةَ مملكته إلى حدود سورية وجزيرة العرب فَجَدَّدَ مملكة داود، ولكنه لم يصنع ذلك بإيمان داود، بل بحيل أبشالوم ومكايده، وذلك بأن قَدَّمَ إلى رومة ألوف الهدايا، وبأن أنشأ للمشركين، حتى منطقة فنيقية، معابدَ وحماماتٍ ودور تمثيل، وبأن نظَّم حتى أبواب الهيكل مبارياتٍ لمصارعي الرومان، وبأن تذرَّع بالظلم والقسوة لينزع من العالم مجدًا واسمًا لنفسه، وإن استحق ازدراء بني قومه له، وحقًّا أنه أنفق ملايين الدراهم لإعادة الهيكل، وذهَّب أبراج هذا الهيكل، وَفَرَش صُحُونه١٨ بالرخام، وصفَّح أبوابه بنحاسٍ من كورنتوس، وستر قُدْسَ الأقداس بحجابٍ من الديباج، ولكنه لم يَسْطِعْ أن يكتم بالذهب والستار ما جَنَتْه يداه، وحقًّا أنه قَرَّبَ للهيكل ثلاثمائة ثور، ولكن ذكرى الخمسة والأربعين فَرِّيسيًّا الذين حمل المجمع اليهودي الكبير على إعدامهم لم تفتأ تحوم حول ذلك الهيكل، وحقًّا أنه أنزل الراية الرومانية بعد أن رفعها فوق الباب الأكبر، ولكنه كان لنصب تلك الراية من الأثر ما لم يقدر على إزالته صَدَأُ نصف قرنٍ ومطره.

وهو لأنه أقام الهيكلَ وَمَلَكَ عِدَّةَ نسوةٍ، ظن نفسه سليمان الثاني، وهو لأن كليوباطرة أرسلت إليه أربعمائة رَمَّاح، ولأن حرسه من الدروز والجرمان، رأى نفسه قيصر الثاني، وهو لأنه كان لديه خِصْيَان وعرَّافون وعيونٌ ونَدَامَى كثيرون، ولأنه انتحل صفة الخطيب، ولأنه سَمَّى أولاده بأسماء رومانية، ولأنه تزوج عشر مرات فَوَلَدْنَ له اثني عشر ولدًا؛ اعتقد أنه أبو الوطن!

فهل من العجيب إذن أن تصبح البلاد فريسة الفتن عند موت هِيرُودُس؟ نادى الجنود بأنفسهم ملوكًا في كل مكان، فتقاتلوا إلى أن أرسل العقلاء إلى رومة رسلًا لينضموا إلى مهاجري اليهود فيها، فيضرعوا إلى القيصر المشرك أن يطرد ملوك اليهود الغاصبين الكاذبين، ويعيد الأمن والنظام إلى أَرْض الميعاد، فاستمع أغسطس لدعاء ثمانية آلاف يهودي في معبد أبولون متكلفًا الجد، ضاحكًا في قرارة نفسه، فاستجاب لهم تبعًا لمبدأ «فَرِّقْ تَسُدْ» الروماني، فقسم فلسطين إلى خمسة أقسام، معطيًا أبعد هذه الأقسام وأفقرها لأبناء هِيرُودُس الذين تباهَوا انتفاخًا بما تَمَّ لهم من ألقاب المُلْكِ، واحتفظ باليهودية فجعل منها ولاية رومانية، فصار الوالي الروماني يُشْرِفُ من حصنه على الهيكل بأورشليم، قابضًا بذلك على قلب فلسطين النابض.

يذكر ذانك الفَرِّيسيان الشائبان البلايا التي أصيبت بها بلادهما، ما ذكرا الماضي ونظرا إلى المُسْتَقْبَل في كل عيد فصح، فيسألان: ألا نزال شعب الله المختار؟ لم يلمع على صدر رئيس الكهنة منذ مائتي سنة؛ أي منذ زمن مَتَّيَاس، العقيقُ الذي هو رمزٌ لحضور الرب تقريب القرابين، فأين الخلاص؟ كل شيء في أورشليم مُرْتَجٌ١٩ موقوفٌ مراقبٌ مُهَدَّدٌ. فلتُرْفَع راية العصيان في الشمال، في بلاد الجليل المُرْتجاة حيث الشبان الحُمْسُ عازمون على فكِّ قيود العبودية. ألم يكف إحصاء النفوس لحمل يهوذا الجليلي على الثورة؟ صاح هذا الوطني الحر أمام الحامية الأجنبية قائلًا: «الإحصاء خزي وعار!» فجمع كتيبة من ذوي الحمية، فاشتعلت الفتنة في وجه رومة، وفي وجه أذناب الرومان من اليهود، وعلى رأسهم هِيرُودُس، وفي وجه الثراء، وفي وجه السلطة الزمنية، فقيل: لا ينبغي ليهوديٍّ أن يعترف بسيادة أحد؛ فالله هو رئيس دولتنا، وشريعة موسى هي دستورنا، والرب في عوننا ما دمنا في عون أنفسنا، فنحن أرباب السيف، ونحن أهل القتال، ذلك ما رفعوا به أصواتهم حينما زحفوا لينازلوا كتائب القائد فاروس الروماني، بعد أن تسلَّحوا في مصانع الجليل السرية.

أجل، إنهم غُلبوا، ولكن الحماسة التي اشتعلت في نفوسهم لم تَخْبُ، بل زادت سعيرًا في قلوب أبناء مَن خروا صرعَى في ميدان الوغى، فلم يبقَ لهؤلاء غير اهتبال الفرص عندما تلوح، ما تسلحوا سرًّا ووطنوا نفوسهم على دفع الشر بالشر، ومقابلة العدوان بالعدوان، فهذا جيش غير جيش قدِّيسي الأُرْدُن الذين طمعوا في إعادة بناء المملكة بالصلوات وَالحِلْمِ وماء العماد؛ فمن بلاد الجليل، ومن بلاد الجليل وحدها يأتي الخلاص.

•••

تَزَاوَرُ٢٠ الشمسُ عن سطح الهيكل الذهبي فتغرب في البَحْر، وتنير أشعتها الأخيرة معبد جوبيتر «المشترى» في قيصرية لا ريب. وتلك الشمس هي الشمس نفسها، وملك اليهود هِيرُودُس الذي زخرف هيكل أورشليم بضروب الزينة، هو الملك هِيرُودُس نفسه الذي أنشأ معبد جوبيتر ذلك، ونقص إيمان النَّاس منذ تَمَّ للسلاح فلاح لم تسمع بمثله أذنٌ، فقامت دولةٌ عالميةٌ على شواطئ البَحْر المتوسط، فارتقى أناس إلى مصافِّ الآلهة، وإن لم تختلف أفكار المؤمنين عن أفكار آبائهم، وبلغت الآلهة زوس وجوبيتر ويهوه من الكِبر درجةً لم يرَ الإنسان معها أن يناضل عنها، ويقاتل إخوته في سبيلها، وانتشرت في رومة والإسكندرية وأورشليم مذاهب متعارِضة متناقضة، فعاد الوحيُ الواضح لا ينير بصيرة الباحث الناصح، وقيل: إن أمثال الأجداد وشرائعهم ذوت في جميع الممالك واللغات والصحف المقدسة، وتذبذب السُّلْطَان، واحتُقرت التقاليد، وصارت الصواعق لا تلقي الرعب في القلوب، وأضحت الشمس لا تغري النَّاس بالعبادة، وَنُصِبَتْ تماثيل للآلهة صَرْفًا للنفوس عن الآلهة الخفية، ولا سيما ذلك الإله الواحد الذي لا تدركه الأبصار، ولا يناله خيال.

مَثَلُ الانقلابات الكبيرة، وأطوارِ النفس الكثيرة، وَتَمَوُّجِ المعتقدات القَدِيمة كَمَثَلِ الشَّفَق الذي يبدو فوق أورشليم، وَيَتَرَجَّحُ نوره بين جبالها والبَحْر المتوسط إلى أن يغيب، فإذا ما تلاشى المعتقد القَدِيم كتلاشي آخر ضياء للشمس بعد غروبها كان ظلامٌ، فتتابعُ نجومٍ، فإنارةُ فلكٍ، وتتقدم الفلسفة حيث تتأخر الآلهة، وتتناجز المذاهب وتتناقض بدلًا من أن تتحد، فهل في العالم مذهبٌ نَقِيٌّ بعدُ؟ وأيُّ الرجلين أشد عُجْبًا وانتفاخًا: آلرواقيُّ اللَّوْذَعيُّ الذي يتصنع الزهدَ فيلبس لباس الزهاد، ويؤمن بالقضاء والقدر، ثم يكافح وينافح، أم الأبيقوريُّ الشهوانيُّ الخليُّ النَّكَّات في قاعات ذوي الثروات سعيًا وراء أطايب النعم؟ كلاهما يدعو إلى الإخاء، والعناية بالفقراء، وتحسين حال الأَرِقَّاء، وَلْتُعْطَ الدولة ما تطلبه من المال والخدم لتكافئ كل واحد على حسب جَدَارته، وعكسُ ذلك ملكوت السماوات المُفَتَّحُ الأبواب للجميع، ولا سيما البائسين والمذنبين التائبين من غير نظرٍ إلى الفروق والأهليات وَالقُوَّات.

ويرى فيلو أن الشر في الصدر، وأن الإثم في الجسم، وأن البدن سجن للروح، وأن النَّاس متساوون أمام الرب الأب، فيطمعون أن يجتمعوا عنده حيث وطنهم الأبدي. فما أقرب هذا من قول الفَرِّيسي هِلِّل، الذي جَهَرَ بمذهبه قبل فيلو بجيلين فجعل من نفسه المثلَ، فتصدق على الفقراء بما يملك فعاش وفق قوله: «لا تفرح بسقوط عدوك خشية غضب الله وانتقامه، وكن مع الضعفاء المظلومين لا مع الأقوياء الظالمين، واحذَرْ نفسَك بنفسِك حتى يأتيك اليقين.»٢١ ثم لخَّص ذلك في مثل واحد فجعل منه أساسَ اليهودية؛ وهو: «لا تعامل غيرك بما لا تُحبُّ أن يعاملوك به.» وَمِثْلُ ذلك قول أبيقور في بلد قاصٍ: «عملُ الخير أفضل من نَيْله.»
وهنالك ما يباين ذلك، فلو نظرت إلى أكثر أتباع هِلِّل تشدُّدًا لرأيت أفئدتهم تهفو٢٢ حبًّا لمتاع الحياة الدنيا، فهم يقولون: إن الله إذا كان ربًّا جبارًا رءوفًا معًا؛ فإن الدنيا طيبة، فالله لم يُحَرِّم الغِنَى ولا نِعَم العيش، وقد أمر أبناءه بأن ينالوا حظًّا من الحياة، فيراعوا أحكام الشريعة من غير زهد، ويتزوجوا شبابًا للإكثار من الأولاد، ويحظوا بالنساء والخمر ضمن حدود التوراة، وفي التلمود: «الجنة لِمَن يسرُّ أصحابه.»
وَوُجِدَ ما ينقض مذهب أولئك أيضًا؛ فقد سأل بعض الأنبياء: لماذا يريد الإله الخفي المقدس تقريب القرابين تسكينًا لغضبه؟ وإذا كان الله قد جعل من اليهود شعبًا مختارًا؛ فَلِمَ يسومهم خسفًا٢٣ على الدوام، ويأذن في استعبادهم؟ أَلِيُجَازِيَهم؟ أَلَا يدلُّ ذلك على عدم نصره لهم؟ أليس اليونان أكثر حرية وأعظم أدبًا من اليهود الذين قَيَّدَتْهم شريعتهم بما لا يُحْصِيه عَدٌّ من القيود؟

تبدد سحر العزلة بفعل اللغات الأجنبية في أثناء الإسارة البابلية، واليوم يخاطب الوالي الروماني اليهود باللغة اليونانية، واليوم تتم المرافعات أمام القاضي الروماني باللغة اليونانية، واليوم تكتب العقود التجارية باللغة اليونانية، واليوم يُضطرُّ الكهنة وَالعَلْمَانِيُّون والعمال والفلاحون إلى التفاهم هم والجنود باللغة اليونانية، وأخذت التوراة الأصلية المقدسة تُفسحُ المجال لترجمتها الإغريقية، فأخذ اليهود الذين ذلك شأنهم يفضلون هذه الترجمة على الأصل العبري، فبدت بذلك ثغرات في السد المنيع، فصارت مياه الغرب تغمر غيرها.

تجاه ذلك الترَهُّلِ،٢٤ رأى الفَرِّيسيون أن يُمعنوا في المحافظة على صفاء الشريعة والشعائر، فأسفر هذا الشعور عن وجْدٍ وولَهٍ فيهم، فغدوا يعدُّون كل عمل في أَرْض الميعاد أمرًا مقدسًا، فالأَرْض إذا ما أُعطيت زكاة ثمراتها تَقَدَّسَت، والحبوب إذا ما نُظِّفَتْ تَقَدَّسَتْ، وأورشليم إذا ما قُرِّبَتْ فيها القرابين كل يوم تَقَدَّسَتْ، فيتجلى الربُّ في قُدْسِ الأقداس.٢٥ وفي مراعاة الشَّعْب لأوامر الدين استردادٌ لحريته، وعودةٌ لسلطان الأَرْض المقدسة السياسي، وطردٌ لرومة كما طُرِدَتْ مصر وبابل وآشور من قبلُ!
ولكن الوصول إلى ذلك يتطلب حياةً مثاليةً، فيجب على اليهوديِّ عند الفَرِّيسيين أن يقوم بشعائر الأعياد والصيام، وأن يُمَيِّز بين ما أُحِلَّ وما حُرِّمَ من الطعام، وبين الخبز الخمير والخبز الفطير، وأن يراعي عيد المَظَالِّ،٢٦ وأن يعمل بشريعة موسى، ويجب أن يُدْخِل إلى قلوب الأولاد حبَّها، وأن يُعَلِّم الأب أبناءَه الطقوسَ منذ السنة الثالثة من أعمارهم، وأن يُعَلِّم المعلم تلاميذَه معاني التوراة، وأن يُحْتَرَم هذا المعلم الذي لا يسأل طلابه على دروسه أجرًا، فيطرد الوساوس، ويزيل الشبهات بنصوص التوراة والزبور.

وَالفَرِّيسيون يقفون عند ظاهر الشريعة غير معتمدين في تفسيرها على الباطن، وذلك في زمنٍ تعقدت فيه الأفكار وتصادمت؛ فحلَّ فيه الشك محل اليقين، وما دَرَى الفَرِّيسيون أن الفناء لا الشفاء في تشدُّدهم.

•••

أرخى الليل سُدُولَه فوق أورشليم مرة ثانية، واقترب عيد الفصح، فَغَصَّتْ أورشليم بألوف الحجيج الذين وجفت٢٧ قلوبهم انتظارًا، وفيم كان يفكر أولئك الأتقياء في صلواتهم مساء؟ وصحف أي نبي كانوا يقرءون على نور الشموع قبل أن يخالط الكَرَى أجفانهم؟ أحلام دانيال! أربعة حيوانات عظيمة شرسة تعاقبت، وهي الممالك العالمية: بابل والإسكندرية وآشور، التي اضطهدت شعب الله فانهارت، و«الحيوان الرابع الذي كان مخالفًا لكلها، وهائلًا جدًّا، وأسنانه من حديد، وأظفاره من نحاس، وقد أكل وسحق وداس الباقي برجليه.» هو رومة التي أخبر عنها النبي العظيم دانيال؛ صاحب المنقذ يهوذا المكابي، والتي ستسقط كما سقطت أخواتها الثلاث، «والمملكة والسُّلْطَان وعظمة المملكة تحت كل السماء تُعْطَى لشعب قِدِّيسي العَلِيِّ، ملكوته ملكوتٌ أبديٌّ، وجميع السلاطين إياه يعبدون ويطيعون … كنت أرى في رُؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسانٍ أتى وجاء إلى القَدِيم الأيام فَقَرَّبُوه أمامه، فَأُعْطِيَ سلطانًا ومجدًا وملكوتًا لِتَتَعَبَّدَ له كل الشعوب والأمم والألسنة، سلطانُه سلطانٌ أبديٌّ ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض.»

ابن إنسان! لم ينطق قدماء الأنبياء بهذه الكلمة، وإن دلَّ كلامُهم عليها؛ فقد عرفوا ذلك جميعهم منذ سقوط مملكة داود التي كانت تمتد من لبنان إلى البَحْر الأحمر؛ فمن آل داود سيخرج ملك إسرائيل القوي الجديد «فَيَغْرِس الربُّ غصنًا من الأرز المكسور في صهيون»، وهل يأتي المُنقذ بالسلم أم بالحرب؟ أخبر بعض الأنبياء فَرِحين أن الربَّ سينصر في البداءة شعبه في قتالٍ يقع في صهيون فيقيم له المملكة التي وُعِدَ بها، «وسيكون في الأيام الأخيرة يقول الله: إني أفيض من روحي على كل بشرٍ فَيَتَنَبَّأُ بنوكم وبناتكم، ويرى شُبَّانكم رؤًى، ويحلم شيوخكم أحلامًا … ويكون في ذلك اليوم أن الجبال تقطر عصيرًا، والتلال تفيض لبنًا، وجميع ينابيع يهوذا تفيض ماء، ومن بيت الرب يخرج ينبوع.»

بيد أن زكريا لم يُنْبِئْ بغير ظهور مَلِكٍ للسلام، فجاء في سفره: «ابتهجي جدًّا يا ابنة صهيون، اهتفي يا بنت أورشليم، هُوَذا مَلِكُك يأتي إليك، هو عادل ومنصور وديع، وراكب على حمار وعلى جحشٍ ابنِ أتَانٍ، وأقطع المركبة من أفرايم، والفرس من أورشليم، وتقطع قوس الحرب، ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البَحْر إلى البَحْر، ومن النهر إلى أقاصي الأَرْض.»

ومثل ذلك نبوءة هركانوس الذي رأى في المنام، منذ قرن، ثورًا أبيض ذا قرون ذهبية قد دخل الهيكل أبًا كبيرًا، وجاء في نشيد وُضِعَ في زمن الملك هِيرُودُس: «انظر يا ربِّ، وأيقظ ملكهم، ابنٌ لداود وعبدٌ لك، سيظهر ليحكم إسرائيل في الزمن الذي عَيَّنْتَ.»

وَمَن يكون المُخلِّص؟ وهل ولدته أمُّه؟ وهل يعيش في فلسطين؟ وهل يحمل بعض الطامعين لقب ذلك المنقذ المنتظر كما فعلوا بعد موت هِيرُودُس؟ هذا ما كان يسأله الفَرِّيسي المدقق عند صلاة كل مساء، وبين الشَّعْب أفاقون خادعون يحاولون إغواءه بكتبهم السِّحْرية، وبشفائهم المرضى، وفي بلاد الجليل مَرَدَةٌ لا يَتَوَرَّعُون عن ارتداءِ أي رداءٍ وصولًا إلى السُّلْطَان، وعلى ضفاف الأُرْدُن يمارس الآزيُّون عماد الصباح، فيبكون في مياهه مبشرين بدنو سيادة الروح، فويل لبني إسرائيل إذا ما انتحل أحد أولئك العصاة أو المتهوسين قول النبي، فبدا رسولًا لنسخ كلام الرب، وويلٌ لمثل هذا الدجال! لم يولد ملك اليهود بعدُ إذن!

وهكذا كان المؤمنون يترجحون بين الشك والرجاء، ولم يشذَّ عن ذلك الحُجَّاج الآتون من رومة والإسكندرية بعد أن قرءوا في قصائد شاعري أغسطس: فيرجيل وهوراس، خبر اقتراب العصر الذهبي الذي يسود السلام فيه العالم، وليس قليلًا عدد الذين رأوا الحظ حليفًا لسيدة العالم رومة مع اعتقادهم صحة نبوءة دانيال وصدق وعده. وفي السُّحُب رأى فيلو «الوجه الرباني يقود اليهود إلى بقعة واحدة من الأَرْض، فيشفع لهم عند الأب فيعفو عنهم، فَيُعَادُ بناء المُدُن الخربة، وتصبح البراري عامرةً، والأراضي الجديبة خصيبةً.»

figure
يسوع والمرضى.

يطول الليل تحت أروقة الهيكل، ويتجاذب الكهنة يقظةٌ وكرى، وينسون جنود رومة، ويغفلون عن سوء ما هم فيه ما اقترب عيد الفصح، وتدور في رءوسهم أغنية المنقذ المنتظر.

وتحلم أورشليم النائمة بالمسيح.

١  السدول: جمع سدل؛ وهو الستر.
٢  السدف: الظُّلمة.
٣  مار البحر: ماج واضطرب.
٤  ملزة: عضلة.
٥  اللأمة: الدِّرْع.
٦  ترب الرجل يترب تربًا: افتقر وكأنه لصق بالتراب.
٧  قدس الأقداس — عند اليهود: مكان من الهيكل كان يدخله عظيم الأحبار عندهم مرة في السنة.
٨  نقر في الناقور: نفخ في البوق.
٩  الصور: البوق.
١٠  الإصر: الذنب.
١١  قبِل العامل العمل: جعله يلتزمه بعقد، والاسم «القبالة».
١٢  وخطه الشيب: خالط سواد شعره.
١٣  الصلاة: كنيسة اليهود، يقال: اجتمعت اليهود في صلاتهم وصلواتهم، أصلها بالعبرانية: صلوتا.
١٤  الشِّلق: واحد «الأشلاق»؛ وهي طائفة من الأسماك رخصة العظم.
١٥  الأهراء: جمع الهُرْي؛ وهو بيت كبير يجمع فيه القمح وغيره.
١٦  الأعجف: هو الذي ذهب سِمنه.
١٧  الحنث: الذنب والإثم.
١٨  صحن المعبد: ساحته أو وسطه.
١٩  أرتج الباب: أغلقه إغلاقًا وثيقًا.
٢٠  تزاور الشمس: تميل.
٢١  اليقين: الموت.
٢٢  هفا الفؤاد: خفق، ذهب في أثر الشيء.
٢٣  سامه خسفًا: أذله.
٢٤  ترهَّل: صار رهلًا؛ أي مسترخيًا منتفخًا.
٢٥  قدس الأقداس — عند اليهود: مكان من الهيكل كان يدخله عظيم الأحبار عندهم مرة في السنة.
٢٦  عيد المظال: عيد لليهود ينصبون فيه خيامًا من ورق الشجر يقيمون فيها عدة أيام؛ تذكارًا لخروجهم من عبودية مصر.
٢٧  وجف: خفق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤