٢

استعدتُ — وأنا أطيل النظر إليها — معنى الحنين: البعد، الغياب، الفقد، الوحشة، التوقع، تمثل ذلك كله في وقفتها الساكنة على باب الشقة، ما بين العاشرة والثانية عشرة، ملامحها أليفة، داخلني إحساس بأني رأيتها من قبل.

أين؟

ربما في شارع بغداد، أو شارع إسماعيل رمزي، أو في ميدان الجامع، أو أمام محال إبراهيم اللقاني وميدان روكسي.

منار؟

تلفتت حولها بتلقائية: اسمي مها …

وأشارت إلى فوق: نحن في الطابق العلوي … سقطت فانلة في المنور.

أفسحت لها الطريق.

تملكني ما يشبه الذهول، تيقظت في نفسي مشاعر تصورت أنها لم تعُد موجودة، حلَّت مشاعر أخرى فرضتها وقائع، وناس التقيتهم، ومصاعب واجهتها. غابت اللحظات القديمة، نفضتها الذاكرة.

تبدَّلت الأحوال، منار كأنها حلم بعيد، يداخله ما أذكره، وما لا أذكره، ما ثبت في الذهن، وما أنفض رأسي لأتأكد إن كان قد حدث بالفعل.

لماذا نسيت منار كل تلك السنوات، ثم تذكرتها الآن؟

لماذا ذكرتني بها هذه البنت؟

بدت السنوات الماضية مثل حلم غيبه الصحو، ها أنا أصحو على ما لم يغب عن حياتي. عرفت أن وجهها ظلَّ مطبوعًا في ذاكرتي، لم يختلط بوجوهٍ أخرى، ولا غيبه النسيان.

منار.

كانت في السن نفسها، وكنت في السادسة عشرة، أو أقل.

وجدتني في صباي، وطفولتها.

كنت قد نسيت تلك الفترة، غابت عن حياتي، اختفت من منطقة الوعي تمامًا، بدت — في محاولتي استعادتها — مشوشة، الأب موظف بوزارة التموين، منير اسمه الأول، لا أذكر بقية الأسماء، الأم تفيدة لا تعمل، البنات الثلاث، صغراهن منار، يفصلها أزيد من عشر سنوات عن البنتين اللتين تكبرانها، البنت الوسطى فكرية، لا أذكر اسم البنت الكبرى.

أدركت أني لم أنسها، ليس التكوين الجسدي وحده، ولا ملامح الوجه، وإنما المفردات والتعبيرات والعينان اللتان تبدوان كالمغمضتين حين يستغرقهما الكلام. أكثر من الأسئلة، أُطيل في الكلام، أحرص أن تكون جليستي، فلا تتركني، تستهويني طريقة كلامها، تلجأ إلى يدَيها في التعبير عما تريد قوله، تنطق القاف كافًا، والراء غينًا، عندما تضحك، يهتز كل جسدها.

أهملت النظرة اللائمة في عينَي أمي: العب مع بنت في سنك.

أجد في استجابة منار لصداقتي، ما يأخذني في عوالم الخيال، أخلقها لنفسي، أشياء كثيرة تلوح لي، لا أعرف كيف ألتقط طرف الخيط، ماذا أريد تمامًا، إذا لم أجد أشياء جميلة، فإني أخترعها، أصر أن تكون الدنيا من حولي جميلة، مبهجة.

بلغت السن التي تشحب فيها الرغبة، ربما ألتفت إلى الملامح الجميلة، لكنها لا تثيرني، الرغبة ساكنة، صامتة، لا تبوح إلا في أحيان متباعدة، مثل الإناء الذي يتقاطر فيه ماء المطر حتى يمتلئ، نظرة هذه الفتاة ألغت كل ما أعددت له نفسي، لا تشبه منار في ملامحها، وإن تشبهها في جسد المرحلة بين الطفولة والبلوغ، أذكر لدغة في صوت منار الهامس، السرسعة عالية في صوت الفتاة، بشرة منار البيضاء تختلف عن البشرة المائلة إلى السمرة، الأنف الدقيق المنمنم يختلف عن الأنف الأفطس، ذراعا منار دائمتا الحركة، وهذه البنت أرخت ذراعَيها، لا تكاد ترفعهما، حتى القدمان أذكر أصابع منار المطلية بالمانيكير، أصابع هاتَين القدمَين الحافيتَين مقصوصة، وعلاها الوسخ.

أعدت النظر، كأني أريد التثبُّت، ثم اتجهت إلى الناحية المقابلة، ربما لأتخلص من الارتباك.

منار!

طرف الخيط التقطته المصادفة، عند الظهر تأتي من مدرستها، تظل في شقتنا — في الطابق الثالث — حتى تعود أسرتها، يترامى النداء باسمها، تلقي التحية، وتنزل.

فيما يُشبه ترتيب الأوقات تمضي أمي إلى عملها بسنترال المنشية، أتصور طريقها من صفر باشا إلى وكالة الليمون، ثم شارع الميدان، تعبر میدان المنشية إلى مبنى السنترال في سعد زغلول، الطريق نفسها في العودة إلى البيت.

تتشاغل منار بتقليب المجلات التي أقرؤها، تشاهد الصور في آخر ساعة والمصور وأكتوبر والكواكب، تسأل، أجيب بما أعرفه.

عرضت أن نلعب الكوتشينة.

– تعرفين؟

– ألاعب إخوتي البصرة والكومي والشايب.

أدركت عدم إجادتها اللعب لما بسطت الأوراق بحيث أراها.

– بماذا تحكم؟

في نظرة غير فاهمة: ماذا؟

– الفائز يحكم على الخاسر.

انبثقت الفكرة كومضة، حدقت في عينيها، أتبين إذا كانت ستوافق على قولي.

ما طلبته حدث تمامًا: استلقت على الأرض، بين الكنبة المستطيلة والمكتبة، ثبتت نظرتها — كما طلبت — في السجادة الصغيرة، لا تحولها، عانيت الارتباك، وفقدان الرغبة، أتأملها في استسلامها واستكانتها، لا أعرف إن كانت تعد نفسها لما قد يغيب عن بالي، مجرد أن أنظر، وأتأمل، وأحدق، أنتزع الطمأنينة من توتر اللحظات، غمرني شعور بالانبساط، وأنا أرنو إلى رقادها المسترخي، المستسلم. نفذت أمري بالاستلقاء، تنتظر أوامري بالتخلي عن سكونها. لو أنها سألت، أو أبدت اعتراضًا، ربما غلبني الارتباك، يؤدي تململها إلى عجزي عن تدبر ما فعلت، وأنها ستجد في اللحظات — التي لا أعرف أسبابها — ما تحكيه لأهلها في الطابق الأول.

جذبني تكوينها الصبي، المتناسق، وملامحها الدقيقة، المتناغمة، البريئة، لكن الرغبة الطارئة جاوزت احتواء جمالها، خلت مشاعري من كل ما يرنو إلى الاقتراب والملامسة، مجرد أن أحدق في الجسد المضطجع أمامي، يتمدد نصفه العلوي على الكنبة، وتصعد الركبتان، يبدو الجسد متداخلًا في نفسه، هادئًا، ساكنًا، ربما حرك في نفسي عاطفة لم أقوَ على ردها.

استقرَّت مخيلتي على أنه لن يكون لي حظ كبير في إقامة علاقة مع بنت، لا أضع لها هيئة محددة، ولا ملامح أطمئن إليها، تتوه بها التصورات، فلا أستطيع استدعاءها.

تنبهت إلى سؤالها: خلاص؟

داخلتني نشوة لم أشعر بها من قبل.

لم يجاوز ما حدث إحساسي بطفولتها، حتى ملامستي لأجزاء من جسدها، فسرتها بحبي الدافق لطفولة الجسد والملامح، منعني الخجل — وربما الخوف — من اقتحامها بنظراتي، أسترق النظر إليها، مجرد النظر هو ما أطلبه، أطبقت أصابعي فلا تمتد — بقوة غالبة — إلى جسدها: الشعر الأسود، الناعم، تطوح حول رأسها، الأنف الدقيق، الشفتان المكتنزتان، الغمازتان في وجنتيها المصطبغتين بالحمرة، القدمان الصغيرتان، الناعمتا البشرة، تتحرك أصابعهما في توالٍ، كأنهما تنفضان قيدًا.

أغلقت الباب وراءها، ثم عُدت إلى المكان أتأمله، أستعيد ما حدث، ما لم أتصوره، ولا دار في بالي، رفعت رأسي، أغمضت عيني، أسلمت نفسي لخيالات وتهويمات ورؤًى صاخبة، ونشوانة، في فضاءاتٍ لا أتبيَّنها، وإن ألحَّت على تصوراتي بما يصعب مغالبته.

أعرف قسمات التكوين الجسدي للفتاة، أية فتاة، أتوق لملامسته، يصدني الخوف والقلق، فأعاني العجز.

تنبهت — ذات عصر — على صوت أمها يتناهى من أسفل: منار!

انتفضت، جرت ناحية الباب.

لم تعُد البنت — من يومها — تكلمني، تعبرني — إن التقينا على السلم — بنظراتها، كأنها لا تعرفني، انقطعَت عن زيارتي منذ نادت عليها أمها، لم يكن ما دعوتها إلى فعله يستحق المؤاخذة.

خشيت أن تكون منار قد روت لهم ما حدث، وأنهم أضافوا إليه.

لم تعُد حتى المصادفة وسيلةً للقائنا، وإن حدث، أسرعت منار في خطواتها، كأنها تلقَّت أمرًا بابتعادها.

لزمت — من يومها — الشقة، أتوجه إلى السنترال، وأعود، أنظر أمامي، لا أتلفت، أتدبر النتائج لو أن أحدًا من أسرتها رآني.

رويت لسعد ما حدث.

قال في تحير: أعرف أن هناك بنات بقين على العذرية … لكنني لا أعرف هذا في الأولاد.

أردف كمن يكلم نفسه: العذرية اختراع ذكوري.

وحدجني بنظرته المتحيرة: لا أتصوَّر أنك بلا تجربةٍ جنسية.

داريت ارتباكي أمام الاستغراب في عينَي سعد، تمنيت لو أني احتفظت لنفسي بما جرى.

أطلق ضحكة قصيرة: ربما استطاعت البنت أن تحافظ على عذريتها.

ثم وهو يمرِّر أصابعه على رأسه: أنت … كيف تستطيع؟!

وفاجأني بالقول: لم تكلمني عن بنات؟

غالبت ارتباكي وأنا أعترف بخلو حياتي من التجارب العاطفية، لا تجربة من أي نوع، حتى القبلة أتوق لها في شفتي بنت، لكن الرغبة لا تلبث أن تفارقني دون أثر.

وهو يلكزني بقبضته في كتفي: لا تقصر استخدام ساقَيك على المشي.

ورمقني بنظرةٍ مرتابة: ما وظيفة الساقَين في رأيك؟

حاولت أن أتكلم، لكن شفتيَّ ظلَّتا ساكنتين، صامتتين، كأنهما تجمدتا.

– ألا تعرف الجنس؟!

هززت رأسي دون معنًى محدد، مئات الكلمات ألوكها في فمي، ولا أنطقها.

أردف بلهجةٍ مستهزئة: لن تعرف تجارب حقيقية ما لم يكن لديك شهادة خبرة!

أنصت إلى حكاياته عن البنات، لا أعقب، ولا أسأل، ولا أستوضح ما غمض. أظل صامتًا، وإن شرد بي الخيال في تصورات غائمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤