٧

الرغبة تحيا داخلي، تناوشني، تريد أن تظهر، أعاني كي أخرج عن صمتي، أبوح بما أكتمه.

قالت الست جنات بعفوية: الحاجة إلى الجنس ضرورة حتى نهاية العمر … هل يمتنع الإنسان في شيخوخته عن الطعام والنوم؟

لم يكن السؤال قد خطر على بالي، ولا فكرت فيه من قبل.

حين فطنت إلى ما حولي، كان كل شيء — بتقدم العمر — قد أصبح متأخرًا، أشعر أن الكهولة تلاحقني بلا إبطاء، وبقسوة، وإن تنامت الألفة بيننا بما لم يخطر في بالي.

كل شيء صار متأخرًا.

نزعت حذاءها، مدت ساقيها على الكرسي المقابل، وأسندت رأسها إلى مسند الكرسي.

– أحبها.

أردفت وهي تشير إلى فايزة أحمد في شاشة التليفزيون: ليست جميلة، لكن صوتها هو الجمال نفسه!

افترت شفتاها عن ابتسامة صامتة، عندما لمحت نظرتي المتفحصة لساقيها.

فاجأتني بالقول: لماذا لا تتزوج؟

الزواج؟

لو أن علاقتي بفردوس سارت في الطريق الطبيعية، ربما كنت تزوجتها، لكنها اعتذرت عن عدم مواصلة علاقتنا بما لم أفهمه.

شعرت بالكلمات متثاقلة: ظروفي المادية لا تسمح.

– مرتبك على مرتبها.

– من يضمن أنها توافق؟

ابتسمت في تخابث: صداقة النساء ليست مستحيلة.

قلت بلهوجة: أخجل أن أعرض نفسي.

وهي تزيل خصلة الشعر المتهدلة على عينها: أول مرة أشاهد رجلًا يخشى الزواج لأنه خجول … الخجل يضيِّع فرصة المرأة وحدها!

ودون أن تجاوز عفويتها: لا شأن للسنِّ بما يحب الإنسان ويكره.

أشحت بوجهي كي لا تعرف أني لمحت ساقيها، ضبطَت نظراتي تلاحقها، تركز على الساقَين العاريتَين، مدملجتين تستحثان على ملامستهما، تخيلت مداعبة أصابعي. تصعد إلى الركبتين، أهمس في أذنها: لماذا لا تستلقين وتفتحين ساقيك؟! أحيطها بساعدي، يفح لهاثي في أذنها، ألمس ثدييها، انتصابهما — من وراء البلوزة — يغريني بأن أمد يدي، أقضم الحلمتين بشفتين شبقتين، أعانقها دون أية ملابس تفصل بين جسدَينا، يختلط عرقي وعرقها، أدخل فيها، نصير جسدًا واحدًا. تضج الغابة بالزئير والعواء والفحيح والنعيق والنهيق والهديل والصهيل والزمجرة، تتعالى آهة ذروة النشوة.

حرصت أن يغيب عن التفاتها وميض الرغبة في نظراتي.

شيء ما تبدل في داخلي، شيء غامض، لا أدري كنهه، جذبني إليها، منعني الخجل، ولعله الخوف، من أن أصارحها بما في نفسي.

تبينت — ذات مغرب — أني أتحسس ثنية الكرسي التي نضحت بعرق فخذيها، لامست أنفي — بتلقائية — متشممًا.

واتتني جرأة لم أعرف أني أمتلكها: هيئتك رجل!

شوحت بیدها: لم ترني على السرير.

وداعبت طرف شعرة في رأسها: لا أصبغ شعري، هذا لونه الطبيعي.

اصطدمت يدي — بعفوية — بكوب الشاي، أحدث تهشم الزجاج صوتًا عاليًا، وتناثرت طرطشات اللون البني على جلبابي.

لاحظت أنها رفعت الكلفة — للمرة الأولى — في كلامها معي، لم أكن هيأت نفسي لما قالته، أحسست بالارتباك في إغماض عينَيَّ، وارتعاش صوتي.

ومضت عيناها بالشك فيما أضمره.

ثمة شيء تصاعد في أعماقي، وطفا على مشاعري، في داخلي ما لا حصر له من الأفكار والمشاعر والألوان والإيقاعات. تخيلت أني أمسك بكتفيها من الخلف، أديرها ناحيتي، أدنو بوجهي من وجهها، أعتصر شفتيها في قبلة طويلة، أسحبها من ساقيها الممددتين، ألقي بها على الأرض، يختلط العرق والأنفاس.

حل صمت، لم أستطع خلاله أن أتدبر ماذا أقول، تلاشت الرغبة في نطق الكلمات التي أعددت نفسي لقولها، التردد — ولعله الخوف — ألجم لساني، هو عقدة تسكنني.

لجأت إلى الاستمناء، فرارًا من ضغط لم أستطع مغالبته.

•••

من طبعي — كما رويت لك — أني أخشى المواجهة، والمجهول، وما لا أعرفه. أتردد في طرق باب الغرفة الواحدة والأربعين، المغلقة، لا أبدي آراء، ولا ملاحظات تدينني، أفضل الثابت والمستقر، لا أبدل المكان الذي ألفته، حتى الكرسي داخل القهوة، أحاول ألَّا أبدله في أوقات ترددي عليه.

بدا لي ثروت الزيات ودودًا، وإن اتسمت نبرات صوته بما يشبه التعالي، عدا مناقشات السنترال، يشارك فيها بآراء، وأكتفي بالإنصات، لم ينشأ بيني وبينه حوار ما، نبرته المتعالية في تعقيبه على آرائي المرتبكة تلزمني الصمت.

– أنت غريب في القاهرة … لماذا لا نتزاور؟

كتمت ما اعتدته من عدم تلبية دعوات الزيارات الأسرية، خجل قديم في طبعي، تغيب بداياته، وإن كنت أجد الإرهاصات في تحذيرات أمي بألَّا أبتعد في ألعابي عن البيت. مرة وحيدة دخلت سينما نورماندي بمفردي، فضلت آخر أيام العرض، يضايقني الزحام.

وجدت في الدعوة ما يستحق التأمل.

أنا بلا أقارب في القاهرة، ولا حتى أصدقاء.

عهدت إلى قناوي أن يدفع — أوقات وجودي في السنترال — إيجار الشقة وفواتير الكهرباء والغاز، صلتي بزملاء السنترال ترافقني إلى الباب، لا يخطر في بالي إلا أصداء آراء المهندس عاطف غيث، وما يدور حولها من آراء مقنعة، وسخيفة.

تحدث — وأنا أحتسي كوب الشاي بالنعناع — عن الكرم المتأصل في أسرته، وأنه يوجد — إلى جانب الشاي بالنعناع — مشروبات أخرى، مثل القهوة والينسون والعنَّاب، وإن كان صنع المشروب الأخير يحتاج إلى وقت.

قبل أن أتهيأ للقيام، نظرت إلى تهيؤ مماثل في وجهه للكلام.

أومأت برأسي أستحثه على القول.

نطقت ملامحه بالتأثر: أعاني مشكلة قد تجد الحل لديك.

حاولت أن تعكس ملامحي اهتمامًا حقيقيًّا.

أضاف في تأثره: خطيبتي [لم أكن أعرف الأمر من قبل] أوصلت العلاقة بيني وبينها إلى طريق مسدودة، هل تأذن لي بزيارتك في شقتك لتصفية خلافاتنا؟

– أنا لا أعرف خطيبتك، ربما شعرت بالحرج في وجودي!

– لست مضطرًّا للجلوس معنا. شقتك — كما رأيتها — حجرتان وصالة، يمكن أن تجلس في الصالة، أو في حجرة النوم، حتى لا نعاني الحرج في مناقشة أسباب الخلاف.

زارني الزيات برفقة خطيبته.

لم أدقِّق في ملامحها؛ لأنه دفع بها إلى حجرة الجلوس، ما أذكره في التقاطي السريع لملامحها، كان جيدًا، ممشوقة القوام، تحيط رأسها بإيشارب، ويخلو وجهها من المساحيق.

تعددت الزيارات، أجلس في الصالة، أتوقع تكة ترباس الحجرة، والزجاج المغبش للنافذة الموصلة بين الحجرة والصالة يفصل بين المكانين تمامًا.

قلت لنفسي — ليلة — وأنا أعاني الانتظار السخيف: هل الخلاف بين ثروت الزيات وخطيبته أعمق من الخلاف بين الدول المتحاربة؟!

رفعت نظرة استياء، أو استغاثة صامتة، إلى النافذة المغبشة. تبينت — بالمصادفة — شقًّا رفيعًا بطول المسافة بين النافذة والجدار.

رأيت ثروت الزيات وخطيبته في عزلة عن الدنيا كلها، من خلال انغماسهما في عناق، تشابك فيه جسداهما العاريان، فلم أعرف — لضيق مساحة الرؤية — كيف تداخلا، وإلى أي مدًى!

أدركت طبيعة ما يحدث، لكنني بقيت صامتًا، لا أعرف كيف أتصرف.

لم أبتعد عن وقفتي أمام باب الحجرة، حتى علت تكة المفتاح.

سحبت كتف الزيات، وهو يدفع البنت خارج الشقة، ويرفع يده — كالعادة — مودعًا.

– هذه البنت ليست خطيبتك!

مد يديه الخاليتين من دبلة أو خاتم، وكست وجهه نظرة بريئة: كلمتك عن خلاف الخطيبين فعرفت أنك فهمت سر العلاقة.

وزادت نظرته البريئة اتساعًا: ألم تكن تعرف ما نفعل في الحجرة؟!

شعرت بما لا أعرفه في داخلي، يذوي، يتهاوى، يأخذني إلى أعماق لا أعرفها، ولا إلى أين تنتهي، ربما السذاجة بعض ما تدل عليه قسمات وجهي. ثمة ما يحرض البعض على التعامل معي في ضوء هذه السذاجة، التي لا أعرف سرها على وجه التحديد، وإن كنت أجدها سببًا لكل ما عانيته — في حياتي — من سخافات غريبة.

قال لي ثروت الزيات حين التقينا في السنترال: ألا زلت واخد على خاطرك؟

ثم وهو يحدجني بنظرة مستخفة: لكل زمن لغته، لو أنك عجوز كنت سأعيب عليك عدم فهم لغة العصر!

ذلك الفعل القديم منطقة عانيت حتى صنعتها، لا حيلة لي — بعد أن تركتها — في العودة إليها، لا أستطيع — بتأثير الزمن، وبعوامل كثيرة — أن أعود إليها.

منار طیف، شحب — بتوالي الأيام — ثم اختفى.

أشرد في تهويمات وتصورات، يتسلل صوتها: خلاص، يعيدني إلى اللحظة التي كأنها التصقت بذاكرتي.

أشياء كثيرة تلوح لي، كيف ألتقط طرف الخيط؟

أعاني إلحاح المشكلة، ما أريد أن أبوح به، والبحث عن الأذن المنصتة.

أشعر أني بحاجة إلى المشي لأعيد ترتيب أفكاري. تمنيت أن أكلم شخصًا ما، أعطي له وآخذ منه، أنتبه فلا يتحدث بما يضايقني، أجلس إلى من ينصحني: ماذا أفعل؟

أتردد، ثم أصمت، لا أفاتح الآخرين في شيء يخصني، أخشى الملاحظات، أو التوبيخ، أو السخرية.

أغمضت عيني، حاولت أن أسترجع ملامح منار، هل كانت مشابهة لهذه البنت؟ إن لم يكن ذلك هو ما أعاد منار إلى ذاكرتي، فلماذا التذكر وإيجاد الصلة بين الحادثة القديمة وما يبدو إيقاظًا لها؟

أعرف أن منار — إن كانت ما تزال حية — تقدمت في العمر، ربما صارت أمًّا، يختلط ما أراه وما تستدعيه الذاكرة: الوجه الجميل المنمنم الملامح، الشعر الأسود، الناعم، المهوش، الغمازتان في الوجنتين المصطبغتين بالحمرة، الصدر الصغير تتوسطه ليمونتان تشیان باقتراب البلوغ، أو بلوغه، الساقان المدملجتان، حتى الشعر المنسدل خلف الظهر، لا أفرق إن كان لمها الساكنة فوقي، أم منار التي لم يغيبها تباعد السنوات.

تسللت الفكرة إلى رأسي، لما استقرَّت، بدأت في التضخم إلى حد شغل الذهن، استحوذت على تفكيري تمامًا. تعدَّدت أوقات استعادتي تلك اللحظات القديمة، أحدق في الجسد المتكور، بلا حركة، ولا كلام، تنهض متسائلة: خلاص؟

أردُّ بإيماءة، أو بترديد الكلمة، وأنا أتوه فيما لا أتبينه.

جسدك وردة، علاقة المرء بالوردة في اقترابه منها، ملامسته لها، الرؤية من بعيد كرؤية الصورة، تخاطب النظر، لكنها لا تنفذ إلى المشاعر، إلى الوجدان. يا عروس البحر، لست المخلوقة الشائهة في مدخل مبنى الأحياء المائية، لكنك السحر والقوة والطمأنينة، قلبي بحر تحسنين العوم فيه، أنت حورية الجنة، ست الحسن والجمال، سمكتي المفعمة بالحياة، سندريللتي الصغيرة، اكتمال البدر، أنفاس السحر، نسيم الصباح، سطوع الشمس، تآلف الموسيقى وقصائد الغزل والرقصات الملونة.

مشاعر ابن السادسة عشرة، أخضعها لابن التاسعة والثلاثين، لم أكتم مشاعري، لا تبين في تصرفاتي، ولا ما أقوله، أتشاغل بالكلام، أتظاهر أني أتكلم، أختلق مواقف، ألمس فيها جسدها، ما تبلغه یداي من الجسد الذي يجذبني بما لا أعرفه. الرعشة تسري من أطراف أصابعي، منابع النشوة في الجسد، أستكين إليها، تتواصل اللحظات، يأخذها الزمن السرمدي، يحلق بها في سماوات لا نهاية لآفاقها.

أفكر في أن أقاسم جنات سري، لكن الخجل، وربما الخوف، جدار، عائق، أمام محاولاتي للبوح، أشعر بثقل ما أعتزم حكايته، كيف أقوله، كيف تنصت إلى كلماتي. أقلب المعاني والتعبيرات والكلمات، أهمل ما قد لا تقتنع به، أو ترفضه، ألوك الكلمات في فمي، أهم بنطقها، تتصاعد التحذيرات والمخاوف، أخشى المجهول، واللامتوقع.

أحاول أن أحرر لساني ليتكلم، ينطق بما في داخلي، يعبر عن المشاعر التي طال حبسها، الرغبة والتوق والأمنية.

تمنيت أن يأخذني الانفعال، فأبكي على كتف جنات.

أدركت أن الأمر ليس بالبساطة التي تصورتها، وأنها قد تواجهني بعدم الفهم، أو الاستياء، أو الغضب.

لم أتصور ركض الأيام بهذه الصورة.

أتسكع في مصر الجديدة بلا هدف، لا أصنع شيئًا، اختلاط الطابع الإسلامي بالطابع الأوروبي، القباب العربية، الأعمدة الحجرية الهائلة الواصلة بين الطوابق، الشبابيك العالية، الشرفات الدائرية، والمستطيلة، والمربعة، المقرنصات، أميل إلى شارع الحجاز، ومنه إلى ميدان روكسي بزحامه الصاخب، أخترق الشوارع المتفرعة منه، حتى نادي هليوبوليس، غالبيتها يسكنها الهدوء، أستأنف السير حتى شارع الخليفة المأمون، أو أمشي في شارع الميرغني الطويل، على يساري مبنى الوزارة الاتحادية حتى تقاطعه مع العروبة، أعود من الطريق نفسه، أو أتخلل الشوارع الجانبية إلى شارع الأهرام. ربما أخذت المترو في تفريعاته الثلاث: النزهة، عبد العزيز فهمي، الميرغني.

الكشك على ناصية الطريق، أشتري احتياجاتي منه، السوبر ماركت — على بعد أمتار — يصدني — بأبهته وأضوائه — عن الدخول، يجتذبني الكشك بالألفة، يأخذني الكلام، وقفتي إلى الرجل الذي بدا في أواخر الثلاثين، وإن قدم نفسه لي مسبوقًا بكلمة «عمك»، عمك زناتي.

ربما ملت إلى شارع بغداد، في موازاة شارع عثمان بن عفان، يأخذني طابعه الأوروبي، أشبه بالشوارع المتفرعة من شوارع وسط البلد بالإسكندرية، إضافة إلى البواكي التي تذكرني بقراءاتي عن مدن القاهرة القديمة: البنوك والبازارات وشركات السياحة، ومحال الملابس الجاهزة والمجوهرات والتحف، والمقاهي ومحال الخبز الإفرنجي والحلوى. أطيل التوقف أمام الواجهات الزجاجية، أتأمل البضائع المعروضة، أدور حول البنايات إلى شارع إبراهيم اللقاني، أتبين أن الوقت سرقني، أعود إلى البيت.

سألت جنات عن معنى كلمة كوربة، هل هي من الكرب؟

رفت ابتسامتها المشفقة: الكوربا … عرفت من عبد العليم أنها حجر كريم.

اكتفيت بالقول: هكذا تبدو.

خطر في بالي — ذات مغرب — أن أتعرف إلى المكان الذي غنَّى فيه عبد الحليم حافظ «في يوم … في شهر … في سنة». حدست أنه الخلاء المجاور لحديقة الميريلاند قبل أن تشغله البنايات.

يأخذني السير في الشوارع المتقاطعة، الخالية، لا يشغلني أين أذهب، ولا أحاول حتى الالتفات إلى ما بداخل الدكاكين والنوافذ المفتوحة، ولا إلى الأصوات المترامية من أماكن لا أراها. ألتقط الأسماء من اللافتات الحديدية الزرقاء: نزيه خليفة، شريف، إبراهيم، الصباغ، رمسيس، فكري باشا، البوستة، بطرس غالي، المعهد الاشتراكي، سيد عبد الواحد، بواكي شارع بغداد مشابهة لشوارع بدايات مصر الجديدة، وإن اختلفت في الجو الأوروبي الذي اجتذبني بنوعية المحال المتلاصقة، أشبه بشارع شريف بالإسكندرية، والشوارع المتفرعة منه.

أجاوز دور سينما ومدارس ومساجد وكنائس ومعبدًا لليهود، ومطاعم ومقاهي ودور سينما وفنادق ومحال تصوير، ربما سرت في شارع الميرغني حتى الانحناءة المؤدية إلى كلية البنات.

لم تكن تهمني نهاية السير، يشغلني أن أذهب إلى أي مكان، أبتعد — بالفضول وحب الاكتشاف والدهشة — عن كل ما يحيط بي.

قاومت الإجهاد بعد أن بلغت سطح البناية ذات الستة عشر طابقًا، لا سكان، ولا حراس، حتى البناء لم يكتمل.

قال قناوي: إن الأمن — لم يحدد لي الجهة — تبين علو العمارة، بما يتيح النظر — من السطح والطوابق العليا — على قصر الاتحادية، كل ما في القصر من بنايات وحدائق وساحات. ظلت العمارة خالية، عدا الطابقين الأولين، كان البنك المركزي قد شغلهما قبل أن ينتبه الأمن.

فطنت إلى أنه يعاني ثقلًا في لسانه، يحركه في صعوبة، ويدغم نهاية الكلمات.

ملأت اللهفة عينَي جنات: أين كنت؟

– أتأمل مصر الجديدة.

– ماذا تقصد؟

– كنت في سطح عمارة البنك المركزي.

سطح العمارة يطل — من جوانبه الأربعة — على قصر الرئاسة، والمساحات الخضراء في نادي هليوبوليس، وقصر البارون إمبان بعمارته القوطية، وغموضه وسحره وأسراره الغائبة، والشرفات، والمآذن المتناثرة، المتقاربة، والقباب العربية، والمنارات، والبواكي، وتوسط كنيسة البازيليك ما يشبه الميدان المفضي إلى شوارع كثيرة، وقضبان المترو تشق الشوارع الواسعة، ومهبط الطائرات في نهاية الأفق.

لطمت خديها: مجنون … تريد الموت؟

أدركت — من نظرة عينيها — أن الخوف ظهر على ملامحي، تملكتني عاطفة غامضة، غريبة، تبدو كمن تعاني مشكلةً ما، لكنها تكتم رغبتها في البوح، كأنها تخشى نتائج لا تعرفها، ويصعب أن تتبينها، اعتدت صمتها، تخدشه بدعابة، أو نكتة، تتبعها ضحكة ذات رنين، تعود إلى صمتها، ثم تلتقط طرف خيط حزن، تتذكر ما كان أحزنها، فتنخرط في البكاء، لا تثبت على انفعال، وإن اتسمت تصرفاتها بالتعاطف والطيبة.

وأنا أحاول التغلب على ارتعاشة صوتي: هل الفرجة عقابها الموت؟

التمعت عيناها بالدمع: دفع عبد العليم حياته ثمنًا لصعود السطح.

•••

النافذة تطل — من اليسار — على العمارة المجاورة، تفصل بين العمارتين طرقة مبلطة، وتطل نافذة أخرى على البناية المتهدمة.

لاحظوا تعدد وقوف عبد العليم فوق سطح العمارة المواجهة، تشرف — كما تعرف — على مبنى الرئاسة. أخذوه من البيت، قالوا: مجرد أسئلة، وتعود. لكنه لم يعُد.

لم أعرف أين أخذوه، ولا متى سيعود، وإن داخلني اطمئنان أني سأراه ثانية.

فتحت الباب — ذات صباح — على طرقات خافتة.

لم يكن عبد العليم الذي أعرفه.

آلمني قوله إنه حين اصطدمت عيناه بمرآة التاكسي، تذكر الأشهر التي أمضاها في المعتقل دون أن يتاح له رؤية ملامحه.

– عذبوك؟

رمقني بنظرة متسائلة، غاضبة، ومال بذقنه على صدره، وسكت. عرفت أن النظرة التي تدرك تغني عن توجيه الأسئلة، لم أعد إلى سؤاله عن فترة الغياب، وإن حاولت مساعدته على البوح، أشير بعبارات مواساة، ربما تدفعه إلى الكلام عما جرى، لكنه ظل على هدوئه، وصمته، وشروده، كأنه يتأمل ما يراه وحده.

لم تتغير ملامحه، حتى عيناه ظلتا على اتساعهما، لكن انطفاء النظرات بدَّل الكثير، غاب عبد العليم الذي عاشرته زمنًا، حل عبد العليم آخر، يثير القلق والخوف والإشفاق.

حدست — وإن لم يتكلم — أنه تحمل ما لا يمكن احتماله: الارتعاشة في قسمات وجهه، استغراقه في الشرود والصمت، تخليه عن الملاحظات القاسية والشتائم، غياب ما كان يلجأ إليه من اللكزات والضرب.

أغمض العينين، أحاول أن أتخيَّل ما جرى له حيث ذهب، تعددت سرحاتي في تصور المكان الذي اقتادوه إليه، كأن الأرض انشقت وابتلعته، ثم لفظته، فطنت إلى أنه خضع للتعذيب، من الحروق والكدمات والخدوش التي ملأت جسده.

هو ليس عبد العليم الذي أعرفه، إنه شخص آخر، ذابل البنية، بطيء الحركة، ذاهل عما حوله، يرفض محاولات إعادته إلى نفسه، وإلى حياتنا، همني أن أفعل ما يعيده إلى نفسه، أحزن لجموده الساكن، يشي بحزن أعجز عن فهم أسبابه، وكيف أزيلها، تعمدت الصراخ في وجهه كي أنبهه، فيضربني، يعود إلى ما اعتدت من حياتنا، لكنه ظل على هموده.

تناولنا الإفطار، وضع يده على صدره، وتحشرج بالألم، ثم حل السكون.

قال الطبيب بلهجة فاهمة: لا توجد سكتة قلبية … السكتة في الدماغ.

صرخت: في القلب أو في الدماغ … الرجل مات!

أطعت تحذيرهم بألَّا أشيعه في جنازة، ولا أقيم له عزاء.

فرت بنظرها إلى بعيد؛ كي لا أكتشف الأسى في ملامحها: ظل عبد العليم يتردد على مساجد السيدة زينب والحسين والسيدة عائشة والسيدة نفيسة، يظل في المسجد إلى ما بعد صلاة العشاء، خمنت أنه يقصد آل البيت للتشفع في إطعامنا الذرية، لا يدعوني لمرافقته حتى لا يحدث ما يرجوه، فأتألم.

كان قد مضى أكثر من عشر سنوات على زواجنا. لم يعد للجنس جاذبيته القديمة، تباعدت الأوقات، حتى تغلب النسيان، ومضات تمليها لحظة استجابة، ثم يستغرقنا النوم.

ألفت ضربه لي، أخشى — إن توقف عن ضربي — أنه لم يعد يحبني، ربما أغوته امرأة أخرى، أستفزه بما يثيره، يدفعه إلى ضربي، أطمئن إلى أن حبه لي لم يتبدل، يضربني عندما يتصور تقصيرًا مني، أو أني لا ألبي أوامره، ربما لم يكن يحبني، لكنني كنت أحبه.

عرفت أن قسوته لمداراة ألمه، ضربه لي تنفيس عما يعانيه من اليأس والسأم والملل، عرف ما أعرفه: مشكلة عدم الإنجاب تخصه، ولا تخصني، ذلك ما أثبتته التحليلات والأشعة، أدركت أنه يعاني لعدم قدرته على الإنجاب.

ثار لقولي، وهو يطفئ النور: لماذا لا تحتفظ بصحتك؟

رفع إصبعه من مفتاح النور، مال ناحيتي بعينين ناريتين، لم يهدأ عن ضربي حتى استعصى عليه التقاط أنفاسه. من تحب رجلًا تتقبل نقائصه.

شجعته على الجلوس في الأمفتريون، يبتعد عن كتمة البيت، يغير جوًّا، يبدل هواء، يشاهد حركة الطريق. رابع مرة، أمسك قلمًا وورقة، سجل أرقامًا، بسطها أمامي، وقال في نبرة محذرة: الأسعار نار!

تكررت عودتي إلى بنها، لا أكاد أقيم في بيت أبي يومين، أو ثلاثة، حتى يأتي، يعتذر بظروفه، ويعيدني إلى القاهرة.

حتى بعد أن أقعد المرض عبد العليم، ظل يتصرف كأنه هو الذي يملك القرار بمفرده، وأن رأيي غير مطلوب.

تأرجحت مشاعري نحوه بين الحب والتألم، ثم تبلورت إثر المحنة التي عاناها، امتزج الحب والإشفاق، صار حبًّا خالصًا.

تصورت أن الراحة هي ما سأحصل عليه بعد موته، يزول التوقع والقلق والإشفاق. العكس اقتحمني، غمرني الشعور بالفقد والوحدة، أدركت أن عبد العليم كان كل شيء في حياتي، وأن ابتعاده يجعل الحياة بلا معنًى، حتى إقامته الساكنة في البيت حمتني من النظرات إلى الأرملة. ربما اختلف شعوري لو أن الله أطعمني طفلًا. من يطرق بابًا سيغالب التردد لو عرف أن في الداخل رجلًا، لن تشغله صحة الرجل أو مرضه، المهم أنه رجل، يملأ حياتي، ويجنبني فضول الناس وأذاهم.

ذلك ما فطنت إليه بعد أن عدت من المقابر، وصرت وحيدةً في الشقة، عرفت أني سأقضي بقية عمري دون سند، حتى لو كان السند زوجًا مريضًا.

حاولت — من يومها — مواجهة الأمر الواقع، أدبر نفسي بالمعاش، إن تضايقت أسافر إلى بنها، أقضي أيامًا وأعود.

أمسكت رأسها بيديها لحظات، ثم قالت في صوت متعب: أرعى ابنَي أختي، ربما كان ذلك تصرفهما إن أطال الله عمري.

اهتز فنجان القهوة في يدها: نحن نفتقد أعزاء رحلوا … وسيفتقدنا حين نرحل من يرون أننا أعزاء.

غلظ صوتها بالحزن: كان عبد العليم موظفًا في الشركة العامة القابضة للغزل والنسيج.

وهشت ما بدا أنه حشرة طائرة: تقاعد بالمعاش المبكر.

ووشی تهدُّج صوتها بتهيؤ للبكاء.

– إذا كان عبد العليم قد تركني وحيدة في الدنيا، فسألحق به في الآخرة.

استطردت فيما يشبه الهمس: في الجنة بإذن الله!

ورنت نحوي بنظرة دامعة: وعدني إن قدر له دخول الجنة أن يظل على أبوابها، حتى أصحبه في دخولها.

شردت في الفراغ: ماذا يحدث في الجنة؟

غلبني الحرج والارتباك، عانيت الإحباط لدرجة منعتني من التفكير.

حدجتني بعينَين يملؤهما الحزن: إذا كان الرجل يتزوج حور العين، فماذا تفعل نساء الدنيا؟ من يتزوجهن؟ هل يوجد رجال في الجنة يعقدن على نساء الدنيا؟

تبلدت مشاعري تمامًا، لم يعُد يشغلني التفكير في أي شيء، أتظاهر بالنظر فيما حولي، كي أتفادى نظراتها.

ربتت ركبتي: عبد العليم هو — بإذن الله — زوجي في الجنة.

وبدا كأنها تستعيد مداعبته لها: لا ترتكبي الذنوب حتى تدخلي الجنة، إذا فعلت ما يدخلك النار، فسأكتفي بالتلويح لك من شرفات الجنة.

قلت: اسمه عبد العليم؟

أومأت برأسها: كنت أسبق اسمه بسي … هو سي عبد العليم.

– بماذا كان يدعوك؟

– جنات.

قالت جنات وهي تنظر إلى الكتب والصحف المتناثرة: لم تعد تقرأ؟!

ابتسمت لملاحظتها: التأمل قيمة تالية للقراءة … وأهم منها.

ورنوت إلى بحيرة العسل في عينيها: لا قيمة للقراءة إن لم يصحبها التأمل.

أردفت كالمتذكر: بالمناسبة، يتناقلون في السنترال شائعة بتخصيص التليفونات.

واتجهت إليها بنظرة متحيرة.

قالت بلهجة تشفُّ عن الأسى: تجربة عبد العليم في الخصخصة مؤلمة.

والتمعت عيناها ببريق الحزن: أجبروه بالمعاش المبكر على تنغيص حياتي في البيت.

قلت: أخشى الفصل!

شوحت بیدها كمن يطرد ذبابة.

– أنت أصغر من سن المعاش المبكر.

واستعادت عيناها التماع البريق: ضعف إرادتك يمنعك من رؤية الحقيقة.

وهزت إصبعها بما يشبه التحذير: إذا لم تغامر فلن تحصل على ما تريد.

أدركت أني أحب نبرة صوتها، البحة الجميلة في نهاية الكلمات تجذبني إليها، توقظ في نفسي ما أنتشي منه، وإن لم أتبينه جيدًا، يتخلل ما تقوله إيماءات، تحرك المعاني الغامضة في داخلي. ربما لو أني تكلمت عن مشاعري، هواجسي، أمنياتي، تعوزني التسمية، تبدو كل الكلمات أضعف من رغبتي في التعبير.

أعرف أني لست وحيدًا، وأن ملامسة طرف الخيط هو ما أتمناه، ثم أفلته قبل أن أطبق أصابعي عليه، أكتم ما أعددت نفسي لقوله، البوح بما أعانيه، أتبين سخف كل شيء، وأن الصمت يجنبني مزالق مؤلمة. أخشى البوح، قد يصطدم بحائط عدم الفهم، والاستغراب، والميل إلى المعابثة.

– لا أريد شيئًا.

– ألا تريد وظيفة أعلى … زوجة … إيرادًا محترمًا؟

– أرفض العنف.

– من تحدث عن العنف؟!

ثم وهي تتأمل أظافرها: إن زادت ثقتك بنفسك يسهل عليك اقتحام ما تخشى دخوله.

خفضت نبرتها، وأضافت بصوتٍ هامس: من نخاف منه، ربما يكون أشد خوفًا منا!

وبلهجة مازحة: نحن نذكر الربيع في بلادنا بزوابع الخماسين وظهور الصراصير.

ثم وهي تطلق ضحكة قصيرة، رائقة: لماذا لا نذكر تجدد الخضرة؟

لاحظت — للمرة الأولى — لون عينيها: بنيتان، صافيتان، أقرب إلى الاستدارة كأنهما لقطة، تشعان بريقًا اجتذبني، حرك في داخلي إحساسًا بالراحة والطمأنينة.

قلت، لمجرد أن أتكلم: أخشى القرار الغلط.

في نفاد حيلة: تصرف … لا تحمل الأم وليدها طول العمر … تتعجل اليوم الذي يمشي فيه بنفسه.

تأملت الثمالة المتبقية في قاع فنجان القهوة، ثم احتسته دفعة واحدة.

– لا تطلب من أحدٍ أن يُعنى بأمرك … حل مشكلاتك بنفسك.

حين أبديت ملاحظة عن المخرج السينمائي رأفت عبد المجيد، يسأل عن شقته الكثير من البنات، قالت الست جنات في تهوين: علاقته بالنساء محاولة لتعويض ذكورته الغائبة.

– تقصدين؟

وهي تقطع الهواء بظهر يدها: ليس له في النساء.

حدست أنها عرفت الأمر من قناوي، تكلمه — أوقاتًا طويلة — في وقفتها على باب الشقة، قامته المتوسطة، الممتلئة، وبشرته القمحية التي تناثر فيها النمش، وشعره الجعد، تركه دون تمشيط، تعرو فكه — وهو يتكلم — رعشة لا إرادية، تتآكل الحروف على شفتيه، فلا تبين في النطق، يخلط الكلمات، أو يبترها دون أن يستكمل نطقها، يرفض القسم بالله، يكتفي بالقول: صدقني، يقولها بعفوية تجتذب محدثه، يرتدي جلبابًا أزرق، وإن بهت لونه من كثرة الاستعمال.

هل ينكشف ما أعانيه في لحظةٍ ما، لا أتوقعها.

أنكفئ على نفسي، أسألها، أناقشها، أحاسبها.

تتماوج في داخلي مشاعر القلق والحيرة والخوف، أعيش الغربة والوحدة والانكسار، تعاودني — في فترات متقاربة — رغبة في البوح، الاعتراف، تمنيت أن يشير عليَّ أحد بما يجب أن أفعله، أطرد الميل إلى ما لا أستطيع أن أبوح به، السر الذي أخفيته طيلة حياتي، أعبر عن الصخب الزاعق في داخلي، كلام كثير، لا تطاوعني شفتاي علی نطقه.

هل أحدثها عما أعانيه؟ هل تصدق روايتي لو حكيتها؟

لامست كلماتها رغبة البوح في داخلي، سرت في طرق متقاطعة ملتوية ومسدودة، طالعتني مفارق وتقاطعات، رؤًى يمتزج فيها الضوء والظل. أخاف أن أبوح، ثم يأتي الغمز واللمز والمعايرة، أفضل أن أكلم نفسي، أتخيل من أكلمه، أسأله ويجيبني، يسألني وأرد عليه.

تنامى الشعور أنها اقتربت بما يشجعني على المصارحة، ثمة صوت في داخلي، يريد أن يبوح بما طال كتمه، لماذا أخجل من البوح، ما دمت لم أسئ إلى أحد، ولا أخطأت بما يستدعي المساءلة.

رويت لها الحكاية، كأنها حدثت لشخص آخر، إذا عجز الإنسان عن تحقيق ما يحلم به، فإنه يحرص على كتمه، لا يبوح به، يترك الأمر للظروف، أو يواجه ما يصدمه.

مضت سنوات بعيدة على غياب منار عن حياتي، أعادتها مها، جددت حضورها، استرخاءها الهادئ، المستكين، تلبي ما أطلبه، شحبت في شمسها الساطعة كوثر وفردوس، حتى جنات لم تعد في خاطري بالإلحاح الذي اعتدته، تجالسني، نتبادل الكلام، نشرق ونغرب، وحدها منار تظل هناك.

لاحظت تهيئي للاستطراد، حدجتني بنظرة متسائلة.

لامست — بعفوية — رغبة البوح، تكلمت عن الصخب الذي لا أستطيع كتمه. تدفقت الكلمات دون ضبط، وبلا اختيار، ما أريد البوح به قلته، تركت نفسي بلا كابح يمنع انطلاقها، حاولت أن أنطق الكلمة الصحيحة التي تعبر عما يشغلني، عن المعنى الذي استولى على كياني. لم أكن أمتلك شجاعة البوح، ما حدث بالفعل، وما أريده.

قاطعتني: لماذا تتكلم بسرعة؟

لم تكن هذه هي الملاحظة الأولى عن تسارع كلماتي، نبهني إليها عم سليم الساعي بسنترال المنشية، ونصح المهندس باسم العقيلي أن أبطئ في كلماتي حتى يسهل فهمي، فسرت الأمر بالخوف من أن يفاجئني ما لا أتوقعه إن حاولت اختيار الكلمات، يهمني أن أقول ما عندي، قبل أن يعلو سؤال، أو ملاحظة.

أدرت وجهي، أتقي نظرة عينَيها، إن تقاطعت نظراتنا، كنت مأخوذًا باللمعة في العينين البنيتين، يدفعني وميضهما إلى إحناء رأسي، كأني أعجز عن النظر إليهما، التقطت الإشفاق في عينيها، قلت ما لم أتصور أني أقوله لها، بحت بمشاعري، وما أحاول إخفاءه.

بترت الكلمات لنظرة توجس أطلت من عينيها. أومأت برأسها، فحاولت أن أزيح حملًا ثقيلًا، لا أعرف كيف واتتني الكلمات، ولا لماذا قلتها. لم أكن أنا الذي يتكلم، هو ذلك الصبي الذي أقعى تحت قدمي منار، يطيل النظر إلى الجسد الممدد، تناوشه تصورات يعجز عن فهمها.

شعرت أن الثقل قد انزاح من فوق صدري.

قالت وهي تطرق طرف الكرسي بإصبعها في إيقاع رتيب: لم تخطئ — كما قلت — مع منار ولا فردوس؟

شعرت أن تعبيرات وجهي تفضحني، وقواي تخونني، اتجهت بنظرتي إلى الناحية المقابلة، لأتخلص من عينيها.

– أغواني الشيطان مع كوثر …

أطالت الصمت حتى استعدت نفسي، رمقتني بنظرة لائمة: نحن نحمل الشيطان ذنب أفعالنا الشريرة.

وأسندت ثدييها إلى أصابعها، وعدلتهما: لو لم يوجد الشيطان … فمن نحمِّله خطايانا؟

وضغطت بيدها على يدي: المرء قد يكون شجاعًا أو جبانًا، لكنه يظل — في كل الأحوال — بشرًا.

وكأنها تذكرت شيئًا: هل تحتفظ بالسر لنفسك؟ ألم تخبر أحدًا بالفعل؟

اكتفيت بهزة من رأسي.

قالت في لهجة مهونة: لا أرى فيما حدث مشكلة … أغراك موقف بفعلة شيطانية، فنفذتها.

كان الألم يقتلني، لكن الابتسامة ظلت في موضعها على شفتي: والبنت الأولى؟

أومأت برأسها دلالة الفهم.

– إذا كنت فعلت ما فعلت في لحظات طفولة، فلا سبب يدعوك إلى معاودة ما حدث.

وأسندت راحتيها على ردفيها، ومالت بظهرها إلى الوراء، وهي ترمقني بنظرة متوجسة: نسيتها … أليس كذلك؟

أيقنت — لثقتي في ذكائها — أن حالي لم يعُد يخفى عنها.

أربكتني قدرة عينيها على النفاذ إلى داخلي، تستطيع كشف كل ما يعتمل بنفسي، ما يختلج في صدري، كأنها تشاهد ما أعانيه، أو يشغلني. شعرت أن قواي بدأت تخونني، وأني عاجز عن الكلام.

رمقتني بنظرة متفحصة تتبين نيتي: أخشى أنك لا تبحث عن تلك الطفلة، ولا حتى من تشبهها، بل تريد … ما اسمها؟

– منار.

رنوت إليها بلهفة، أنتظر ما ستقوله.

– أنت تريد منار الماضي، منار التي كانت، لم تحاول نسيانها.

تماوجت في نفسي مشاعر متباينة، الخوف والإحساس بالذنب. هزمني الشعور باليأس، لم يعُد الأمل في أي شيء موجودًا.

عكست عيناها إخفاقي في السيطرة على مشاعري.

– تلك حادثة قديمة، ننساها كأنها لم تكن.

تملكني الارتباك، لا أستطيع التخلص منه، لم أعرف — وهي تنظر ناحيتي — ماذا يجب أن أقول، كأني أنتزع الكلمات: ألاحظ أنها تعاودني من فترة.

حدجتني بنظرة قلق: هل تريد تكرارها؟!

شوحت بجانب يدي: لا!

راقبت في عينيها قلقًا واضحًا: كنتُ نسيت. أعادته إلى ذاكرتي بنت في العمارة.

ثبتت عيناها في وجهي: بنت في عمارتنا؟!

وأنا أحول نظرتي إلى أرضية الحجرة: أسرتها في الطابق الثالث، قالت إن اسمها مها.

ضربت على صدرها: یا مصیبتي! … مها خادمة الجيران؟ البنت في عمر حفيدتك؟!

قلبت شفتي: لعله حنين إلى الطفولة.

عاودت ضرب صدرها، حدقت في وجهي بعينَين متشككتَين: سأصدقك إن نسيت ذلك السخف القديم.

تضايقت من نفسي للارتباك الذي ربما ظهر على تصرفاتي.

هل أبدد العمر في تذكر لحظة أخاف أن أستعيدها؟ فرضها الارتباك، أو أن الارتباك هو حياتي، سحب سوداء تلاحقني، تبلغ حد الظلمة، لا أتبين منها ما يطمئن خطواتي في اتجاهها نحوه.

قرأت عن الاكتئاب، غمرني ما نسبته إليه. إذا كان الاكتئاب هو الملل والضيق والانفعال بلا سبب، فهو ما أعانيه، ربما هو ما أشعر به عندما أبتعد عن الناس، وأخلو إلى نفسي. أذهب — بالكاد — إلى السنترال، وأعود. لا أشارك — حتى بالإنصات — إلى آراء المهندس عاطف غيث، وتعليقات موظفي السنترال، تغمرني أعراض الشك والتوجس والتوتر والقلق، لا تشغلني رغبة من أي نوع، كل ما يشغلني أن أظل وحيدًا.

وجدت في جنات الشخص الذي أحتاج إليه، وإن لم أضع ذلك في بالي قبل أن تدخل حياتي.

جنات.

صرت أشد ميلًا لقضاء الوقت معها، نتكلم فيما يفد إلى خواطرنا، اختزلت فيها حياتي، أتعجل رؤيتها، لأحدثها عن أحوال السنترال والمواصلات ومشاهدات الطريق، ما جذب انتباهي من عبارات وتصرفات، الأوقات المفرحة والحزينة، إن عصاها التعبير، لجأت إلى حكمة، أو مثل شعبي، تستعيدها مؤمنة بهزة رأسها، ألفت رائحتها، رائحة لا أشمها في مكان آخر، وإن أعادتني — أحيانًا — إلى شقة الإسكندرية.

تأملت، وحفظت التكوين الجسدي، وملامح الوجه، خصلة الشعر النافرة من تحت الحجاب، طريقة الكلام، الإيماءات، التعبيرات باليدين، لحظات ارتفاع نبرات الصوت، وخفوتها، في لحظات الفرحة والحزن، طريقة المشي، والقعاد، والوقوف، والمشي. بدت الجونلة التي تصل — بالكاد — إلى ما فوق الركبتين تناقض الإيشارب الذي أحاطت به رأسها.

عندما حاولت أن أتصور عناقي لها، غلبني التوتر، نفضت رأسي لتصور علاقة جسدية بيني وبينها، شحب التصور في شخصيتها، خشيت — إن أذنت — عجزي عن فعل شيء.

أجاهد لمداراة مشاعري، ما أكتمه في نفسي. أحاول الفرار من التخيلات: التفاف ساعدي حول عنقها في مشيتنا المتجاورة، نتأمل فاترينات المحال في وسط البلد، أحملها إلى السرير، أنزع حذاءها، أقبل أصابع قدميها، أمسد ساقيها براحتي، أفك أزرار البلوزة، أنحِّي البلوزة والجونلة في تحسسي جسدها.

هل جاء كل شيء في أوانه، أو سرقني الوقت؟!

لو أني التقيتها منذ سنوات، ربما تغيرت حياتي.

ملأت جنات دنیاي.

صارت كل عالمي.

كان عدم التصديق واضحًا في ملامحها وتعبيراتها، حتى بعد أن عادت من عيادة الطبيب.

نزعت الإيشارب من حول وجهها، كورته، وضعته على الترابيزة أمامها. تحرص على ارتداء الملابس المحتشمة، ليست العباءة ولا النقاب، بل تايير طويل الكمين، ينسدل إلى نهاية ساقيها. لم أعد أربط بين تصرفاتها المفاجئة وتوقعات لا تحدث، هي عفوية التصرفات، لكنها تحرص على الحاجز غير المرئي بيني وبينها، أكتم ما قد يثور في نفسي من مشاعر صاخبة، ولا أجاوز موضعي.

خلعت الحذاء، ودلكت — وهي تتأوه — أصابع قدمها.

– ثلاث ساعات أنتظر الطبيب.

سألت: خيرًا؟

– لم أكن عند الطبيب، وإنما كنت عند الجنون.

وهي تصلح بأصابعها من فوضى شعرها: زرته ليعالجني من التوتر، هبَّات توتر تفاجئني، خفت أن تكون نتيجة مرض.

وأسلمت نظراتها لما يشبه الشرود: قبلها كنت أشعر — على فترات متقاربة — بسخونة مفاجئة، تصعد من ذقني إلى رأسي.

ظللت أحدق فيها.

– فاجأني الطبيب بالقول: هل لديك أصدقاء؟ التقط نظرتي المستغربة، أقصد مَن نشأت بينك وبينه علاقة خاصة.

واتجهت ناحیتي: صدقني، جئت في بالي، وكدت أنطق اسمك.

ظللت صامتًا، وإن تمازجت الحيرة والنشوة في داخلي.

لاحظت ارتعاش صوتها.

– تبينت أنه يعني صداقة لا أريدها.

ربتت ركبتي، وقالت لنظرتي المتسائلة: سألني الطبيب: قلت إنك أرملة؟

أومأت برأسي، وظللت صامتة.

وهو يتهيأ للإنصات: هل تأتي الدورة الشهرية في موعدها؟

حاولت أن أستعيد صوتي: أقترب من الخامسة والأربعين.

لم يتخلَّ عن هدوئه: عمومًا … مشكلتك لا صلة لها بالإنجاب.

ونقر الفراغ بإصبعه.

– أنتِ في حاجةٍ إلى الجنس.

وأنا أشير إلى نفسي: أنا أرملة … يعني غير متزوجة.

دون أن يغادر نبرته العادية: لا شأن للجنس بالزواج …

وقال للدهشة التي ارتسمت في ملامحي: لا تهملي طاقتك الجنسية بلا إشباع.

أحسست بما هو أقسى من الغضب، تمنيت أن تنشق الأرض، وتبتلعني.

– هذا حرام.

اتجه ناحيتي بنظرة محدقة: خلق الله الغريزة لنرضيها.

وجرى على الدفتر أمامه بالإنجليزية: قد يكون الجنس وسيلة الشفاء.

همست بالحيرة: ألا يوجد دواء؟

في نبرة حاسمة: هذا هو الدواء.

ثبتت نظرة جنات على نقطة بعيدة، مجهولة: أغضبني التصور أني لا أستطيع العيش بدون رجل.

شاب نبرة صوتها استياء: لماذا أخضع أفكاري لنصفي الأسفل؟!

أردفت في استيائها: مأساة المرأة أنها أنثى تحيا في زمن ذكوري.

وعلا صوتها بالبحة التي أحبها: لماذا لا يكون الرجل مثل ذكر النحل، لا أطلب موته، لكنني أطلب ابتعاده!

تعلمت من جنات ما لم أرَه في مها، ولا لامسته في كوثر، ولا في فردوس، هي الجنة والضوء والظل، أحببتها لحد أني ألغي التفكير فيها — أحيانًا — كامرأة، كأنثى.

إن واجهت مشكلة، بدت لي جنات طوق نجاة في المالح، تأخذني — بنصائحها — إلى بر الأمان، يلحُّ في داخلي ما يضايقني، أتعجَّل الوصول إلى البيت لأكلمها بما أعانيه، أعد أسئلة، أتصور أنها ستوجهها لي، وأجوبة أعدها لأرد عليها، لكنها تكتفي بالإصغاء لما قلت، تطيل الإنصات، فأشك أنها تتظاهر بغير ما تفعله، لكنها ترنو بنظرة مشفقة، تستكمل تصورها بأسئلة أرد عليها، ثم تحدجني بنظرة كأنها تتفحصني، تبدي — بعدها — ملاحظة، أو تنصح بما ينبغي فعله، تفطن بسهولة إلى ما تعكسه نظراتي، ما يجول بخاطري.

صارت لي في موضع الصديق الذي أودعه أسراري، أفيد من نصائحها فيما أعانيه من مشكلات، كلٌّ منا يحتاج إلى الآخر، ولو للبوح والمسامرة وطلب النصيحة.

بدت مختلفة عن كل من عرفتهم، رجال أو نساء، هي إنسان متفرد، تملك نفسًا طيبة، لكن الحاجز غير المرئي لا يأذن بالتجاوز.

يحل الصمت، أشعر أنه لم يعد لدينا ما نتكلم فيه، أترك لتصوراتي اختراع مواقف ومناقشات، أحاول فيها تغليب وجهة نظري بما يعوض حاجتي الدائمة إلى نصائحها، ربما أمضيت الساعات، أجري حوارًا بيني وبينها، ألتقط الجملة والكلمة، أتهيأ للسماع، أختار ما يجب قوله، أتأمل، أقلب، أستقر على ما أجده صحيحًا.

مسحت بأصابعها تقطيبة جبهتي: ما لك؟

وأنا أضع يدي على صدري: قلبي … دقاته متسارعة.

– هكذا الحب!

هززت رأسي بما يعني عدم الفهم، عرفت من نظرتها أنها تنتظر أن أقول شيئًا، لكنني لم أجد ما أقوله.

– من هي حبيبة القلب؟!

أخذني السؤال، لم أكن أتوقعه، فكرت لحظات قبل أن أجيب: لا توجد.

أربكتني نظرتها المتسائلة، كأنها تريد أن تنفذ إلى ما أريد قوله.

– إذا تركت أصدقاء لك في الإسكندرية، فحاول أن تُنشئ صداقاتٍ في القاهرة.

سعد!

لم يكن لي صديق غيره، هو الذي حافظ على صداقتنا، أصر ألَّا تنتهي، يدركني الملل، أو أبتعد، تظل البسمة على شفتيه في تواصل زياراته.

لا أتصور — في حياتي — شخصًا آخر سواها، الرفقة والصداقة والحكي والنصيحة.

لم أحاول سؤالها — حتى لا تصدني — عن أمور حياتها بأكثر مما روته لي، وجدت في نثار كلماتها ما يغني عن الأسئلة.

حدثتني عن حبها للأطفال، ومشاعر الأمومة التي تحركها رؤية وليد بين يدي أمه، لا يعروني الخجل وأنا أستمع إليها، ولا تجد في نفسها ما يخجلها من تبديل ملابسها أمامي، تخفي قلقها من تباعد مواعيد الدورة الشهرية، هل هي أعراض طارئة، أو أن الطمث انقطع؟

ربتت ركبتي بأطراف أصابعها: صلِّ على النبي.

وأنا أتأمَّل الحنان في عينيها: عليه الصلاة والسلام.

– زد النبي صلاة.

– عليه أفضل الصلاة والسلام.

– رأيت في المنام حلمًا، لشدة ما تذكرته تصورت أنه حدث بالفعل.

أضافت إلى ملامحي المنتبهة: لقيتني في داخل بيت مهجور، أو خرابة، أعاني الخوف مما يُحيط بي من أشباح وحيوانات، اختلطت أشكالها القبيحة، فصارت بلا شكل محدد، في اللحظة التي كدت أموت من الخوف، ظهر في طرف المكان ضوء كشمس الظهر، توسطه وجه له ملامح عبد العليم، ويهز رأسه بابتسامة تدعوني إلى الاقتراب منه، أو تستأذن في الاقتراب.

عاودت ربت ركبتي: ما تفسير هذا الحلم؟

– أنا أحلم، وأنسى … لا أحاول تفسير أي شيء!

لم أتدبر السؤال: ألا تفكرين في الزواج؟

طوت قدمًا تحت فخذها، ودلت القدم الأخرى في الهواء: لكنني متزوجة.

– أنتِ أرملة.

شفَّت عيناها عن التماع ساحر: وعدته بأن أظل له.

وهي تمرر جانب يدها على رقبتها دلالة الموت: لو أن عبد العليم كان حيًّا، ما استطعت أن أقف أمام باب شقتك!

وفردت أصابعها الخمس أمام وجهها دفعًا للحسد: النسمة على خدي كانت تضايقه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤