مُغامرة الطلَّاب الثلاثة

في عام ١٨٩٥ تضافرَت مجموعة من الأحداث، لا داعيَ لأن أخوض فيها، جعلَتْني أقضي بعض الأسابيع مع السيِّد شيرلوك هولمز في واحدةٍ من المُدن الجامِعيَّة الكُبرى التي لدَينا. وفي هذه الأثناء حدَثَت المُغامَرة الصغيرة والمُثيرة للاهتمام في الوقت نفسه، التي سأروي لكم أحداثها الآن. ومن البَدِيهيِّ أنَّ أيَّ تفاصيلَ تُساعِد القارئ على التَّعرُّف بالضبط على الكُليَّة أو المُجرم المقصود سيكون ذِكرها أمرًا غيرَ حكيم، بل ومُهينًا؛ فمِثل هذه الفضيحة المُؤلِمة يَجِب أن تُترَك لتَندَثِر. ومع ذلك، ينبغي شرْحُ الواقِعة مع مُراعاة التحفُّظ اللائق؛ لأنها تعمَل على إبراز بعض الصِّفات التي كان صديقي يَتميَّز بها. وسأُحاول في رِوايَتي هنا أن أتَجنَّبَ الكَلِمات التي تَعمَل على قَصْر الأحداث على أيِّ مكانٍ مُحدَّد أو تُعطي أيَّ إشارةٍ إلى أيٍّ من الأفراد المَعنيِّين.

كُنَّا نُقيم في ذلك الوقت في مسكنٍ مفروش بالقُرب من إحدى المَكتبات حيث كان شيرلوك هولمز يُجري بعض الأبحاث المُضنِية في المَواثيق الإنجليزية القديمة؛ وهي أبحاثٌ أدَّتْ إلى نتائجَ مُذهِلة لِدَرجةِ أنِّي رُبما أتحدَّث عنها في إحدى رِواياتي المُستقبَلِيَّة. وما حدَث أنه في مساء أحد الأيام تلقَّيْنا زِيارةً من أحد مَعارِفِنا؛ السيد هيلتون سومز، وهو مُدرِّس ومُحاضِر في كُليَّة سانت لوك. كان السيد سومز رجُلًا طويلًا، نحيلًا، عصبيًّا وسريعَ الانفعال. كنتُ أعرِف أنه دائم التَّوتُّر، لكنَّه في هذه الواقعة تحديدًا كان في حالةٍ من الانفعال الشديد الذي يَصعُب السيطرة عليه، وعليه كان من الواضِح أن شيئًا غير مُعتادٍ قد حدَث.

«آمُل أن تَستطيعَ يا سيِّد هولمز أن تُخصِّصَ لي بِضعَ ساعاتٍ من وَقتِك الثمين؛ فقد وقعَتْ حادِثةٌ مؤلمة للغاية في سانت لوك. وفي الواقِع لولا المُصادَفة السعيدة التي جعَلتْكَ موجودًا في المدينة في هذا الوقت لكُنتُ وَقعْتُ في حيرةٍ كبيرة، ولما علمتُ ماذا أفعل.»

ردَّ صديقي: «أنا مشغول جدًّا في الوقتِ الحالي، ولا أرغَبُ في أيِّ تَشْتيت، وأعتقِد أنه من الأفضل لو طلبتَ المُساعَدة من الشرطة.»

«لا، لا يا سيِّدي العزيز، فهذا المَسار مُستحيل تمامًا؛ إذ بِمُجرَّد الخَوض فيه وَوُصول الأمر للجِهات الرَّسمية، لا يُمكِن تَعطيله مرةً أخرى، وهذه واحدة من القضايا التي يكون فيها من مَصلَحة الكُليَّة تَجنُّب الفضيحة. وأنت تُشتَهر بِتحفُّظِك فيما يَتعلَّق بالقضايا، تمامًا كما تُشتَهر بِقُدرتك الكبيرة على حلِّها. وأنت الإنسان الوَحيد في العالَم الذي يُمكِنه مُساعَدَتي. أرجوك يا سيد هولمز أن تَفعَل كُلَّ ما في وِسعك.»

لم تكُن الحالَةُ المِزاجِيَّة لصديقي جَيِّدةً بِسبَبِ حِرمانِه من الأجواء المألوفة له في شارع بيكر؛ فدُونَ دَفْتَر قُصاصاته، ومُستَحضَراته الكِيميائية، وفَوضاه المَنزلية، لم يكن لِيَشعُر بالراحة. هزَّ كَتِفَيه بإذعانٍ فَظ، بينما أخذ زائرُنا يَقصُّ علينا قِصَّتَه بكلماتٍ مُتسارِعة وحركاتٍ انفعالية.

«يجِبُ أن أُوَضِّح لك يا سيِّد هولمز أنَّ غدًا هو أول يومٍ في امتِحانات مِنحة فورتسكيو، وأنَّني أحدُ المُمتَحِنين. إنَّ المادة التي أُدرِّسها هي اللغة اليونانية، وتحتوي الصفحة الأولى من الامتحان على فقرةٍ كبيرة للترجمة اليونانية لم يرَها الطُّلَّاب من قَبل. تُطبَع هذه الفقرة على ورقة الامتحان، وستكون بطبيعة الحال مَيزةً كبيرة إنِ استطاع المُتقدِّم للامتحان التَّحضير لها مُسْبقًا. ولهذا السبب أحرِصُ بشدَّةٍ على الحفاظ على سِرِّيَّة هذه الورقة.

واليوم في حوالي الساعة الثالثة وصلَتْ بروفات مَطبعِيَّة لهذه الوَرَقة من المطابع. يتكوَّن السؤال من نصفِ فَصلٍ من أحد كُتُب ثوسيديديز. كان عليَّ قراءة هذه الورقة بِعناية؛ إذ يجِبُ أن يكون النَّصُّ صحيحًا تمامًا. وفي الرابعة والنِّصف لم أكُن قد انتَهيتُ بعدُ من مُهمَّتي هذه، إلا أنَّني كنتُ قد وَعدتُ أحد أصدقائي باحتساء الشاي معه في غُرفَتِه؛ لذلك تركتُ البُروفة المَطبعيَّة على مَكتبي، وغِبتُ أكثر من نصف ساعة.

أنت تُدرِك يا سيد هولمز أن الأبواب الموجودة في الكُليَّة لدَيْنا مُزدَوجة؛ فثمَّةَ بابٌ داخِليٌّ من الجُوخ الأخضر، وبابٌ خارِجِي من البَلُّوط الثَّقيل. ولَدَى عَودَتي وحِين اقتربْتُ من الباب الخارجي، أصابَني الذُّهول من رُؤيةِ أنَّ ثمَّة مِفتاحًا بِداخِلِه. للحظةٍ تصوَّرتُ أنَّني نَسِيتُ مِفتاحي فيه، لكن حين تحسَّستُ جَيبي، وجدتُ أنَّ المِفتاح بداخِله. والنُّسخة الوحيدة الأُخرى من المِفتاح، على حدِّ عِلمي، هي التي يَمتلِكها خادِمي بانِستر، وهو رَجُل يَهتمُّ بِغُرفة مكتبي منذُ عشر سنوات، وأمانَتُه فوق مُستوى الشك. اكتشفتُ في الواقع أنَّ هذا المِفتاح هو مِفتاحُه، وأنه دَخَل الغُرفة حتى يَسألَني إن كُنتُ أُريد شُرب بعض الشاي، وأنه ترَك المِفتاح — في إهمالٍ بالِغ من جانِبه — في الباب حين خرَج. لا بُدَّ أنَّ زِيارَته لغُرفتي كانت في غُضون الدقائق المَعدودة التي تَلَتْ مُغادَرتي لها. وكان من المُمكن ألَّا تكون هناك مشكلة كبيرة لنِسيانه للمِفتاح في الباب في أيِّ ظروفٍ أخرى، لكنه تَسبَّب اليومَ في أشدِ العَواقِب أسفًا على الإطلاق.

فحين نظرتُ نحوَ طَاولتي علِمتُ أنَّ أحَدًا عَبثَ بأوراقي. كانت البُروفة مَطبوعةً على ثلاثِ وَرَقاتٍ طوالٍ، وكنتُ قد تركتُ هذه الوَرَقات جميعًا معًا. والآنَ وجدتُ واحدةً منها على الأرض، والأخرى على الطاولة الجانِبِية بالقُرب من النافذة، والثالثة في مكانها حيثُ تركتُها.»

تحرَّك هولمز للمرَّة الأولى، وقال: «الوَرَقة الأُولى على الأرض، والثانية عندَ النافِذة، والثالثة حيثُ تَركتَها؟»

«بالضَّبطِ يا سيِّد هولمز. أنت تُذهِلني. كيفَ أمكَنك مَعرفة هذا؟»

«من فضلك، أكمِل قِصتَك المُثيرة للغاية.»

«للَحظةٍ ظنَنتُ أن بانستر سمَح لنفسه على نحوٍ لا يُغتَفَر بالعَبَث بأوراقي. لكنه أنكَرَ هذا بِجدِّيةٍ بالِغة، وأنا مُقتنِع بأنه يقول الحقيقة. فكان البديل أنَّ أحدًا مارًّا لاحظَ وجود المِفتاح في الباب، وكان يعلَمُ أنِّي خارِج المكتب، فدخلَ ونظر في الأوراق. ثمَّة مَبلَغٌ هائل من المالِ على المَحكِّ هنا؛ إذ إنَّ هذه المِنحةَ قيِّمةٌ للغاية، ويُمكِن لشَخصٍ عديمِ الضَّمير أن يُعرِّض نفسَه للخَطَر حتى يَحصُل على مَيْزةٍ من أقرانه.

شعَرَ بانستر بِحُزنٍ بالِغ من هذه الحادثة. فكاد يُغمى عليه حين علِم أنَّ أحدًا عبَثَ بالأوراق دُون شك. أعطيتُه قليلًا من البراندي وتركتُه وهو مُنهار على أحد المَقاعِد بينما فحصتُ الغُرفةَ بدِقَّةٍ بالِغة. وسرعان ما لاحظتُ أنَّ المُتطفِّل تركَ وراءه آثارًا لِوجوده بِخلاف الأوراق المُبعثَرة؛ إذ وَجدتُ على الطاولة الموجودة بِجوار النافذة بِضعَ بقايا من بَرْيِ قلَم رصاص، كما وَجدتُ رأسَ قلَم رصاص على الطاولة أيضًا. فمن الواضِح أن هذا الوَغْد أخذ يَنسَخ الوَرَقة بِسرعةٍ بالِغة، وكَسَر قلَمَه الرصاص، فاضطُرَّ إلى بَرْيِه.»

قال هولمز، الذي أخَذَ يَستعيد مِزاجُه الجَيِّدُ مع إثارة القضيَّة مزيدًا من اهتمامه: «مُمتاز! لقد حالَفَك الحَظ.»

«لم يكُن هذا كل شيء؛ فلديَّ طاولةٌ جديدة للكِتابة، لها سَطحٌ أملَسُ من الجِلد الأحمر، وأنا مُستعِدٌّ أن أُقسِم، وبانستر أيضًا، أنَّه كان أملسَ وخاليًا من أي أَثَر، والآن وَجدتُ قَطعًا واضِحًا فيه يَصِل طوله إلى نحو ثلاث بُوصات، لم يكُن مُجرَّد خَدْش، بل كان قَطعًا فِعليًّا. ولم يكُن هذا فحَسْب، بل وَجدتُ على الطاولة كُرةً صغيرة من عَجينةٍ سوداء، أو طين، بها شَوائبُ تبدو مثل نشارة الخشب. وأنا مُقتنِع بأن هذه العلامات ترَكَها الرجُل الذي عبَثَ بالأوراق. لم تكُن تُوجَد آثار أقدامٍ أو أيُّ أدلَّةٍ أخرى تُشير إلى هُويته. لقد كنتُ في قِمَّة حيرتي، لكن حين تَبادرَت إلى ذِهني الفِكرة السعيدة بأنك موجود في المدينة، جئتُ إليك مُباشرةً حتى أَضعَ الأمر بين يديك. أرجوك، ساعِدْني يا سيِّد هولمز! أنت ترى المأزق الذي أنا فيه. فأنا عليَّ إمَّا العُثور على هذا الرجُل وإما تأجيل الامتحان حتى إعداد أوراقٍ جديدة. وبما أنَّ هذا يصعُب حُدوثه دون ذِكر تفسيرٍ للأمر، فستحدُث فضيحةٌ مُدوِّية، لن تَضرَّ فقط بِسُمعة الكلية، بل وبِسُمعة الجامِعة بأكملها. وفَوْق كلِّ هذا، أرغَبُ في تَسويَةِ الأمر بهدوءٍ وفي سِرِّيَّة.»

قال هولمز، وهو يقوم من مكانه ويَرتدي مِعطفه: «يُسعِدُني فَحصُ الأمر، وإعطاؤك ما يَسَعُني من نُصْح؛ فهذه القضية لا تخلو تمامًا من عُنصُر الإثارة. هل زارك أحدٌ في غُرفتك بعدَ وُصول الأوراق إليك؟»

«أجل، الشابُّ دوليت راس، وهو طالِبٌ هندي يعيش في المبنى نفسه الذي أعيش فيه. دَخل ليَسألَني عن بعض التفاصيل بشأن الامتحان.»

«ولذلك سمَحتَ له بالدُّخول؟»

«أجل.»

«وهل كانت الأوراق على طاولتك؟»

«أغلبُ الظنِّ أنها كانت مَلفوفة.»

«لكن من المُمكِن إدراك أنها بروفاتٌ مَطبعية. أليس كذلك؟»

«ربما.»

«لم يدخُل أحدٌ آخر غُرفتك؟»

«كلَّا.»

«هل كان أحدٌ آخَرُ يعلَم أن هذه البروفات ستُوجَد لَدَيك؟»

«لم يكُن أحد يعلَم سوى المطبعة.»

«هل كان هذا الرجل الذي يُدعى بانستر يعلَم؟»

«لا، بالتأكيد لم يكُن يعلم. لم يكن أحدٌ يعلم.»

«وأين بانستر الآن؟»

«أُصيبَ المِسكين بإعياءٍ شديد. لقد تركتُه مُنهارًا على المِقعد. فقد أردتُ الإسراع في القدوم إليك.»

«هل تركتَ الباب مفتوحًا؟»

«لقد وضعتُ الأوراقَ أولًا في مكانٍ مُغلَق.»

«حسنًا، فإنَّ التفسير المُحتمل يا سيِّد سومز، أنه إن لم يكُن الطالِب الهندي قد أدرَك أن هذه اللِّفافة هي بروفاتٌ مَطبعيَّة؛ فإن الرجل الذي عَبَث بهذه الأوراق قد تصادَف عُثوره عليها دُون عِلمٍ مُسبق بوجودها هناك.»

«هذا ما يبدو لي أيضًا.»

ابتسَمَ هولمز ابتسامةً غامِضة، وقال: «حسَنًا، دَعُونا نذهب. هذه ليستْ واحدةً من القضايا التي تُساهِم فيها يا واطسون؛ فهي قضية عقليَّة وليست جَسَدية. حسنًا؛ يُمكِنُك القُدوم إن أردتَ ذلك. والآن يا سيِّد سومز، نحن تحت أمرك!»

كانت غُرفة جلوس عَمِيلنا تُطلُّ، عبرَ نافذةٍ طويلة ومُنخفِضة وعليها شَبَكة، على الساحة المَكسُوَّة بالأُشُن، للكليَّة القديمة. وكان يؤدِّى بابٌ مُقوَّس على الطراز القُوطي إلى سُلَّمٍ حَجَريٍّ بالٍ. في الطابق الأرضي كانت تُوجَد غُرفة المُدرِّس. وفي الأعلى يَعيش ثلاثةُ طلَّاب، كلٌّ منهم في طابَق. كان الشَّفَق قد حَلَّ تقريبًا عند وُصولِنا إلى المسرح الذي حدَثَت فيه قَضيَّتنا. توقَّف هولمز ونظرَ باهتمامٍ إلى النافِذة. ثمَّ اقترب منها، ووقف على أطراف أصابِعه ومدَّ عُنُقه إلى الأمام ونظر إلى داخل الغرفة.

قال مُرشِدنا المُثقَّف: «لا بُدَّ أنه دخل عبر هذا الباب؛ فلا وجود لفَتحةٍ أخرى إلَّا هذا اللَّوح الزجاجي.»

قال هولمز: «يا إلهي!» وابتَسمَ ابتسامةً فريدة وهو ينظُر إلى رفيقنا: «حسنًا، إن كان ليس ثمَّة ما يُفيدُنا هنا، فمن الأفضل لنا الدخول.»

فتح المُحاضِر البابَ الخارجيَّ وأدْخَلَنا إلى غُرفته. وقَفْنا عند المَدخل بينما فحَصَ هولمز السجادة.

قال: «أخشى أنه لا وجود لآثارٍ هنا؛ فمن الصَّعْب أن يأمل المرء الحصول على أيِّ آثارٍ في مِثل هذا اليوم الجاف. يبدو أنَّ خادِمك قد استعاد وَعْيَه. لقد قُلتَ إنك تَركتَه جالِسًا على أحد المقاعد. أيُّ مَقعد؟»

«الموجود بِجوار النافذة هناك.»

«حسنًا، الموجود هناك بِجوار هذه الطاولة الصغيرة. يُمكنكما الدُّخول الآن، فقد انتهيتُ من فحْصِ السجادة. دَعُونا نفحَص الطاولة الصغيرة أولًا. بالطبع، ما حدَث واضِح للغاية. فقد دخَل الرجل وأخذَ الأوراق، الواحدة تِلْوَ الأخرى، من على الطاولة المركزية. ثمَّ حمَلَها إلى الطاولة الموجودة بجوار النافذة؛ لأنه يستطيع من هذا المكان مَعرِفة إنْ كُنتَ تأتي عبر السَّاحة؛ وعليه يُمكِنه أن يَلُوذ بالهرَب.»

قال سومز: «في الواقِع لم يكُن بإمكانه ذلك؛ فقد دَخلتُ من الباب الجانبي.»

«آه، هذا جيِّد! حسنًا، على أيِّ حال، هذا ما كان في ذِهنه. دَعْني أنظرُ إلى الأوراق الثلاث. لا وجود لآثار أصابع؟ لا! حسنًا، لقد حَمَل هذه الورقة أولًا، ونَسَخها. كم يَستغرِق من الوقت لفعل هذا، باستخدام كلِّ طريقةٍ مُمكِنة؟ رُبعَ ساعةٍ على أقلِّ تقدير. ثُمَّ ألْقاها وأخذ الورقة التالية. كان في خِضَمِّ كلِّ هذا حين أدَّتْ عودَتُك إلى انسِحابه سريعًا، بِسُرعةٍ كبيرة؛ إذ لم يَتوافر لَدَيه وقتٌ كافٍ لإعادة الأوراق، ممَّا أشار إلى وجوده في المكان. ألم تَشعُر بأيِّ خُطواتٍ مُسرِعة على السُّلَّم في أثناء دخولك من الباب الخارجي؟»

«لا، لا يُمكِنُني قولُ هذا.»

«حسنًا، لقد كان يكتُب بانفعالٍ بالِغٍ لدَرَجة أنَّه كسَر قلَمَه الرصاص، وتَحتَّم عليه، كما لاحظتَ، بَرْيُه مرةً أخرى. هذا مُثير للاهتمام يا واطسون. فالقَلَم الرصاص ليس من النَّوع العادي؛ فحَجْمه يفوق حجم القَلَم العاديِّ، والرصاص من النَّوع اللَّيِّن. كان لون القَلَم الخارجي أزرقَ داكِنًا، وكان اسم المُصنِّع مطبوعًا عليه بأحرُفٍ فضِّية، والقِطعة المُتبقِّية منه يُقدَّر طولها تقريبًا بِبُوصةٍ ونصف. ابحث عن مثل هذا القَلَم يا سيِّد سومز، وستجِد المُذنِب. وحين أُضيفُ أنه يَملِك أيضًا سكِّينًا ضخمًا وغيرَ حادٍّ على الإطلاق، تُصبِح لديك علامةٌ أخرى.»

بدا السيِّد سومز مُنبهِرًا إلى حدٍّ ما بهذا التَّدَفُّق للمعلومات، وقال: «يُمكِنُني تَتَبُّع النقاط الأخرى، لكن في الواقع بشأن مسألة الطول هذه …»

أمسك هولمز قِطعةً صغيرة كُتِب عليها حَرفانِ هُما «إن إن» وقِطعةً من الخشب الخالي بعدهما.

«أرأيت؟»

«لا، أخشى أنني حتى الآن …»

«واطسون، لقد كنتُ أظلِمُك دومًا. ثمةَ أشياءُ أخرى. ما الذي يُمكِن أن يُشير إليه هذان الحرفان؟ إنهما في نهاية كلمة، وأنت تَعلَم أن يُوهان فابر هو أشهَرُ اسمٍ لمُصنِّع هذه الأدوات. ومن غير الواضِح أنه بَقِيَ من القلَم الرصاص جزءٌ كالذي يُترَك كالمُعتاد بعدَ كلمة يوهان. أليس كذلك؟» أمسَكَ الطاولة الصغيرة على نحوٍ مائلٍ قُبالة ضَوء المِصباح الكهربائي، وقال: «كنتُ أتمنَّى لو أن الورقة التي كان يكتُب عليها رقيقة، بحيث تَمُرُّ بعض الآثار من خِلالها وتُطبَع على هذا السطح المَصقول. لا، أنا لا أرى شيئًا. وأعتقِد أنه لم يبقَ شيءٌ أكثر من هذا هنا. والآن لنَنْتقل إلى الطاولة المركزية. أعتقد أن هذه الكُرَة الصغيرة هي الكُتلة السوداء التي تحدَّثتَ عنها، أرى أنها هَرَميَّة الشكل بعض الشيء ومُجوَّفة، وكما قلتَ تبدو ثمَّة بقايا نشارة الخشب داخلها. يا إلهي! هذا مُثير للغاية. والقَطع، إنه قَطعٌ فِعلي كما أرى. لقد بدأ بِخدْشٍ رفيع ثُمَّ انتهى به الحال إلى فَجوةٍ مُسنَّنة. أنا مدين لك كثيرًا لتوجيه اهتمامي لهذه القضية يا سيِّد سومز. إلى أين يؤدِّي هذا الباب؟»

«إلى غُرفة نومي.»

«هل دخلتَ إليها منذ حدَثَتْ هذه المُغامَرة؟»

«لا، لقد ذَهبتُ إليك مُباشرةً.»

«أرغبُ في إلْقاء نظرةٍ عليها. يا لها من غُرفة خلَّابة قديمة الطراز! ربما يمكنك الانتظار لدقيقةٍ بينما أفحَصُ الأرضية. لا، لا أرى شيئًا. ماذا عن هذه الستارة؟ أنتَ تُعلِّق ملابِسَك خلفَها، وإن أُجبِر أحدٌ على الاختِباء في هذه الغُرفة، فعليه أن يختبئ هنا؛ بما أن السَّرير مُنخفِض للغاية والخِزانة ضيِّقة جدًّا. أعتقِد أنه لا أحدَ هنا. أليس كذلك؟»

وبينما أزاح هولمز الستارة كنتُ مُدرِكًا، من بعض الصَّرامة والحَذَر في أسلوبه، أنه كان مُستعِدًّا لحدُوث حالةٍ طارئة. وفي الواقِع لم تَكشِف إزاحة الستارة إلا عن ثلاثِ أو أربعِ بذلاتٍ مُعلَّقة في صفٍّ من مَشابك الملابس. استدار هولمز وانحنى فجأةً على الأرض.

قال: «يا للهول! ما هذا؟»

كان هناك هرَمٌ صغير من مادَّةٍ سوداء تُشبِه العَجينة، تبدو تمامًا كالموجودة على الطاولة التي فحصناها. وضَعَها هولمز في راحةِ يدِه المفتوحة وحدَّق فيها في ضوء المصباح الكهربائي.

«يبدو أن زائرك ترَك آثارًا في غُرفة نومك أيضًا كما تَرَكها في غُرفة الجلوس يا سيد سومز.»

«ما الذي قد يكون أرادَه من هنا؟»

«أعتقِد أنَّ الأمر واضِحٌ بما يكفي؛ فقد حضَرْتَ على غير تَوقُّع؛ لذلك لم يَجِد ما يُحَذِّره من مَجيئك حتى وَصلتَ إلى الباب. ما الذي كان يُمكِنه فِعله؟ لقد حَمَل كلَّ شيءٍ يُمكِن أن يَكشِف عن وجوده وأسرَعَ نحوَ غُرفة نَومِك ليَختَبئ.»

«يا إلهي! هل تُريد يا سيِّد هولمز أن تُخبِرَني أنه طوال وقتِ حَدِيثي مع بانستر كان المُذنِب حَبيسًا لدَيْنا في هذه الغُرفة، وأنَّنا لو كُنَّا فقط على عِلمٍ بذلك، لأمْسَكْنا به؟»

«هذا ما يَتَّضِح لي.»

«بالتأكيد ثمَّة تفسيرٌ آخر يا سيِّد هولمز. لا أدري إن كُنتَ قد فحصتَ نافِذة غُرفة نَومي أم لا؟»

«إنها شبكيَّة، وذاتُ إطارٍ من الرَّصاص ومُكوَّنة من ثلاثِ نَوافِذَ مُنفصِلة، إحداها مُثبَّتةٌ بِمِفصَلة، وكبيرةٌ بما يكفي ليدخُل إنسانٌ من خِلالها.»

«بالضبط، وهي تُطلُّ على زَاوِيةٍ من السَّاحة بحيثُ تكون غيرَ مَرئيةٍ جُزئيًّا. وربما يكون الرجُل قد دخَل من هنا، وترَك آثارًا وهو يَمرُّ عبرَ الغُرفة، وأخيرًا وجدَ الباب مفتوحًا وهرَب من هناك.»

هزَّ هولمز رأسه بنفادِ صَبر، وقال: «دَعُونا نكُن عَمَلِيِّين. أدركتُ من كلامك أنَّ ثمَّةَ ثلاثةَ طُلَّابٍ يَستخدِمون هذا السُّلَّم، ومِن عادَتِهم المرور أمام باب غُرفتك. أليس كذلك؟»

«أجل، هذا صحيح.»

«وكلُّهم سيخضعون لهذا الامتحان؟»

«أجل.»

«هل يُوجَد لديك أيُّ سببٍ يدعوك للشكِّ في أحدٍ منهم أكثرَ من الآخرين؟»

تردَّدَ سومز.

قال: «هذا سؤالٌ حسَّاس للغاية؛ فمِن الصَّعْب أن يُلقي المرء بالشكوك مع غِياب أيِّ أدلَّةٍ على ذلك.»

«دَعْنا نَسمَع شكوكك، وأنا سأبَحَث عن الأدِلَّة.»

«إذن، سأُخبِرك بكلماتٍ قليلة عن شخصيَّة كلٍّ من الثلاثة الذين يعيشون في هذه الغُرَف. في الطابَق الأول، يُوجَد جيلكريست، وهو طالِبٌ وبَطَل رِياضي رائع؛ فهو عضو في فريق الرجْبي وفريق الكِريكيت بالكليَّة، وحصل على جائزةٍ لتَميُّزه في قفْزِ الحواجز والوَثْب الطويل. إنه شابٌ رائع ونَشيط. كان والدُه هو السِّير جابيز جيلكريست سَيئ السُّمعة، الذي خَسِر كلَّ ماله في سِباقات الخَيل. تُرِك هذا الطالِب فقيرًا للغاية، لكنه مُجتهِد في عمله ومُثابر، وبإمكانه تحقيق نتيجةٍ جيِّدة.

أمَّا الطابَق الثاني، فيعيش فيه دوليت راس، الهندي. وهو شابٌّ هادِئ وغامِض، كحال مُعظَم الهنود. وهو شخصٌ بارِع في عَمله، لكنه ضعيف في اللغة اليونانية. وهو يَتَّسِم بالاعتدال والمَنهجِيَّة في أسلوب حياته.

أمَّا الطابَق العُلوي، فيَعيش فيه مايلز مكلارين، وهو شابٌّ مُتَّقِد الذَّكاء حِين يُقرِّر أن يعمل. فهوَ واحدٌ من أذكى العُقول في الجامِعة، ولكنَّه صعْبُ المِراس ومَاجِنٌ وعَدِيم المَبادئ. ولقد كاد أنْ يُطرَد بِسببِ فضيحةٍ في لَعِبِ الوَرَق في سَنَتِه الأولى في الجامعة. ولم يُذاكِر طوال هذا الفصل الدراسي، ولا بُدَّ أنه يَنظُر إلى هذا الامتحان بِرُعبٍ شديد.»

«إذن فإنَّه هو الذي تَشكُّ فيه. أليس كذلك؟»

«لا أجرؤ على الوصول إلى هذا الحد، لكن من بين الثلاثة ربَّما يكون صاحِبَ الاحتِمال الأكبر.»

«بالضبط. والآنَ يا سيِّد سومز، دَعْنا نُلقِ نَظرةً على خادِمك بانستر.»

كان رَجُلًا صغير البِنيَة، أبيضَ البشرة، وحَلِيق الوجه، وأشْيَبَ الرأس في الخمسين من عمره. وكان لا يزال يُعاني من هذا الاضطراب المُفاجئ لرُوتين حياته الهادِئ. كان وجهه المُمتلئ يَرتَعِش بسببِ انفِعالِه، ولم يكُن بإمكانه إيقاف حركة أصابعه.

قال له سيِّدُه: «نحن نُحقِّق في هذه الواقِعة غير السعيدة يا بانستر.»

«أجل يا سيِّدي.»

قال هولمز: «علمتُ أنك تركتَ مِفتاحَك في الباب.»

«أجل يا سيدي.»

«أليس من الغريب للغاية أن تفعل هذا في اليوم نفسه الذي تكون الأوراق داخل الغُرفة؟»

«لقد كان هذا من سُوء الحظِّ يا سيدي. لكني كنتُ أفعلُ هذا أحيانًا في أوقاتٍ أخرى.»

«متى دَخَلْت الغرفة؟»

«في الرابعة والنصف تقريبًا؛ فهذا وقتُ تَناوُل السيِّد سومز الشاي.»

«وكم من الوقت بَقِيتَ فيها؟»

«حين لم أجِدْه بالدَّاخِل خرجتُ للتَّو.»

«هل نظرتَ في هذه الأوراق الموجودة على الطاولة؟»

«لا يا سيِّدي، بالطبع لا.»

«كيف تَركتَ المِفتاح في الباب؟»

«كنتُ أحمِل صينيَّة الشاي في يدي، وفكَّرتُ في أنْ أعود مرَّةً أُخرى لآخُذَ المِفتاح، لكنِّي نَسِيت.»

«هل للباب قُفلٌ زُنبركي؟»

«لا يا سيِّدي.»

«إذن فقد ظلَّ مَفتوحًا طوال الوقت؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«إذن، يستطيع أيُّ شخصٍ بالغُرفة الخروج منها؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«حين عاد السيد سومز وأرسَل في طلبِك كنتَ مُضطربًا للغاية. أليس كذلك؟»

«أجل يا سيِّدي، فلم يحدُث مِثلُ هذه الواقِعة أبدًا طوال السنوات العديدة التي قضيتُها هنا. لقد كِدتُ أفقدُ وَعْيِي يا سيِّدي.»

«هذا ما عَرَفتُه. أين كُنتَ حين بدأتَ تَشعُر بأنك لستَ على ما يُرام؟»

«أين كنتُ يا سيِّدي؟ لماذا؟ لقد كنتُ هنا، بجِوار الباب.»

«هذا غريب، لأنك جلستَ في هذا المَقعَد هناك بالقُرب من الزاوية. لماذا تخطَّيْتَ كُلَّ هذه المَقاعِد ولم تَجلِس عليها؟»

«لا أدري يا سيِّدي، لم أكُن مُهتمًّا بالمكان الذي أجلس فيه.»

«أعتقد حقًّا أنه لم يَعلَم الكثير عمَّا يحدُث يا سيِّد هولمز. لقد بدا في حالةٍ سيِّئةٍ للغاية؛ في حالةٍ مُروِّعة.»

«لقد بَقِيتَ هنا عندما غادَر سيِّدُك. أليس كذلك؟»

«لدقيقةٍ تقريبًا، أو ما شابَه، ثم أغلقتُ الباب وذهبتُ إلى غُرفتي.»

«فيمن تَشُك؟»

«أوه، لا يُمكِنُني القول يا سيِّدي؛ فأنا لا أعتقِدُ أنَّ ثَمَّة أيَّ شخصٍ في هذه الجامعة بإمكانه الاستفادة من مِثل هذا الفِعل. لا يا سيدي، أنا لا أعتقِد هذا.»

قال هولمز: «شكرًا لك، هذا كلُّ شيء. آه! كلمة أخيرة: أنت لم تَذكُر لأيٍّ من الرجال الثلاثة الذين تَقضي احتياجاتِهم أيَّ شيءٍ عن وجود مُشكلةٍ ما هنا. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيِّدي، لم أنطِق بكلمةٍ واحدة.»

«لم ترَ أيًّا منهم؟»

«لا يا سيدي.»

«جيِّد جدًّا. والآن يا سيد سومز، سنذهبُ لتَفقُّد الساحة المُستطيلة الشكل، إذا أردت.»

رأَيْنا ثلاثةَ مُربَّعات صفراء من الضوء تَسطعُ فوقَنا في الظلام من حولنا.

قال هولمز وهو ينظُر إلى أعلى: «طُيورُك الثلاثة في أعشاشِهم. يا إلهي! ما هذا؟ يبدو واحدٌ منهم مُضطرِبًا كثيرًا.»

كان هذا هو الطالِب الهندي الذي ظهر خياله فجأةً من وراء ستارته؛ إذ كان يتحرَّكُ بسرعةٍ ذَهابًا وإيابًا في غُرفته.

قال هولمز: «أريدُ أن أُلقيَ نظرةً على كلٍّ من هذه الغُرَف. أهذا مُمكن؟»

أجاب سومز: «لا يوجد مستحيل في هذا العالَم. هذه المجموعة من الغُرَف هي الأقدم في الكليَّة، وليس غريبًا أن يُلقي الزائرون نظرةً عليها. هيا بنا، سأصحَبُكم بنفسي إليها.»

قال هولمز، ونحن نَطرُق الباب على جيلكريست: «لا ذِكر لأسماء من فَضلِك!» فتح لنا الباب شابٌّ طويلٌ ورَفيع، شعرُه بِلَونِ الكَتَّان، ورحَّب بنا حين عَلِم بِمُهمَّتِنا. وبالدَّاخل كان ثَمَّة بعضٌ من القِطَع المُثيرة للاهتمام من المِعمار المَحليِّ للعُصور الوسطى. أُعجِب هولمز كثيرًا بواحدةٍ منها، لدرجة أنه أصرَّ على رسمها في دَفْتَر مُلاحظاته، وكَسَر سِنَّ قلَمِه الرَّصاص، واضطُرَّ إلى استعارة قلَمٍ من مُضيفِنا، وأخيرًا استعار سِكِّينًا من أجل بَريِ قَلَمِه. حدَثتْ له الحادِثة المُثيرَة للاهتمام نفسها في غُرفةِ الطالِب الهندي، الذي كان شابًّا هادِئًا وصغير البِنيَة ومَعقُوف الأنْف، والذي كان ينظُر إلينا بِرِيبةٍ وكان من الواضِح عليه السَّعادة حين انتهى هولمز من دِراسته المِعماريَّة. وفي كِلتا الحالَتَين رأيتُ أنَّ هولمز لم يُوفَّق في الحصول على الدَّليل الذي كان يبحث عنه. ولم يَتَّضِح إلَّا في الزيارة الأخيرة أننا أخفَقنا بالفِعل في مُهمَّتِنا؛ إذ لم يُفتَح الباب الخارجي حين طَرَقْناه، ولم نَحصُل من خلْفِه إلا على وابلٍ من الكلام البَذيء. صاح الصوت الغاضب قائلًا: «أنا لا أكتَرِثُ مَنْ أنت، يُمكِنُك أن تذهب إلى الجحيم! فالامتحان غدًا، ولن أسمحَ لأحدٍ بأن يُشَتِّتَني.»

قال مُرشِدُنا، ووجْهُه مُحمَرٌّ غَضبًا في أثناء انسِحابِنا وهُبوطنا السُّلَّم: «يا له من شابٍّ غير مُهذَّب. بالطبع لم يُدرِك أنني أنا الذي أطرُق الباب، لكن مع ذلك لم يكُن أسلوبه مُهذَّبًا أبدًا. وفي الواقع، كان مُثيرًا للشكِّ في ظلِّ الظروف الحالية.»

كان ردُّ هولمز ردًّا غريبًا.

فسأل: «هل يُمكِنك أن تُخبِرني عن طولِه بالضبط؟»

«حقًّا، يا سيد هولمز، لا يُمكِنني تحديد هذا. فهو أطول من الهندي، لكنه ليس في طول جيلكريست. أعتقِدُ أنَّ طوله يقترِب من خمسةِ أقدامٍ وستِّ بُوصات.»

قال هولمز: «هذا بالِغ الأهمية، والآن يا سيِّد سومز، أقول لك طابت لَيلتُك.»

صاح مُرشِدُنا في ذُهولٍ ورُعبٍ قائلًا: «يا إلهي! يا سيد هولمز، أنت بالتأكيد لن تَتركَني على هذا النَّحوِ المُفاجئ! يبدو أنك لا تُقدِّر المَوقِف؛ فالامتحان غدًا، ولا بُدَّ أن أتَّخِذ إجراءً مُحدَّدًا هذه الليلة. لا يُمكِنني السماح بإجراء الامتحان مع حدُوث تلاعُبٍ في إحدى الأوراق. ولا بُدَّ من مُواجهة المَوقف.»

«عليك أن تَترُك الأمر على ما هو عليه، وأنا سأمرُّ عليك في وقتٍ مُبكِّر من صباح الغد وسأتحدَّثُ معك في الأمر. فربَّما أصِل إلى شيءٍ ما حينها يقضي باتِّباع نَهجٍ مُعيَّن في التَّصرُّف. في هذه الأثناء، عليك ألَّا تُغيِّر شيئًا على الإطلاق.»

«حسنًا يا سيِّد هولمز.»

«عليك أن تَطمئن؛ فنحن سنَعثُر بالتأكيد على طريقةٍ تَحلُّ مُشكلاتك. سآخذُ هذا الطين الأسود معي، وبقايا القَلَم الرَّصاص أيضًا. إلى اللقاء.»

حين خرجْنا في الظلام في الساحة نظرْنا إلى أعلى مرَّةً أخرى نحوَ النوافذ. وجَدْنا الطالب الهنديَّ ما زال يَتحرَّك باضطرابٍ في غُرفته، ولم نَستطِع رؤية الاثنين الآخَرَين.

سألني هولمز، ونحن نَخرُج إلى الشارع الرئيسي: «حسنًا، يا واطسون. ما رأيك في هذا؟ هذا أشبَهُ بِلُعبة التَّخمين؛ حِيلةُ استخدام الكُروت الثلاثة. أليس كذلك؟ فلَدَينا ثلاثة رجال، لا بُدَّ أنَّ واحدًا منهم هو مَن فعل هذا. عليك أن تقول اختيارك. مَن في رأيِكَ فعَلَها؟»

«الشابُّ البذيء اللسان في الطابَق العُلوي؛ فهو صاحِبُ أسوأ دَرَجات. ومع ذلك، فإن الهندي أيضًا شخصٌ ماكِر. لماذا يتحرَّك ذَهابًا وإيابًا طوال الوقت في غُرفته؟»

«لا شيءَ في هذا، فكثيرٌ من الرِّجال يفعَلُون ذلك حين يُحاوِلون حِفظَ شيءٍ عن ظَهْرِ قلب.»

«وقد كان ينظُر إلينا بطريقةٍ غريبة.»

«وكذلك كنتَ ستَفعلُ أنتَ إن اقتَحَمَ مَجموعة من الغُرَباء عليك غُرفتك وأنت تَستعدُّ للامتحان في اليوم التالي، وكلُّ لحظةٍ لها قِيمة بالنِّسبة إليك. لا، أنا لا أرى شيئًا في هذا. كما أن الأقلام الرَّصاص والسَّكَاكين كانت جميعها مُرضِية. لكن هذا الرجل يُحيِّرني بالفعل.»

«أيُّهم؟»

«هذا الخادِم، بانستر. ما دَورُه في القضية؟»

«إنَّ انطِباعي عنه أنه رَجُلٌ أمين للغاية.»

«وكذلك انطِباعي عنه، وهذا هو الشيء المُحيِّر. ما الذي يجعَلُ رجُلًا أمينًا للغاية … حسنًا، حسنًا، هذا مَتْجَر أدواتٍ مَكتبيَّة كبير. يُمكِن أن نبدأ بَحثَنا من هنا.»

لم يَكُن بالمدينة إلا أربعةُ مَتاجِر للأدوات المكتبية يُمكِن الذَّهاب إليها، وفي كلٍّ منها كان هولمز يُخرِج أجزاء القَلَم الرَّصاص لديه ويَعرِض سِعرًا كبيرًا للحُصول على نُسخةٍ طِبْق الأصل منه. اتَّفَقَتْ جَميع هذه المَتاجِر على أنه من المُمكِن طلَبُ واحِدٍ مُماثِل، وأنه ليس الحَجْم المُعتاد لأقلام الرَّصاص وأنه من النَّادِر تَوافر مِثلِه لدَيهم. لم يبدُ على صديقي انزِعاجُه من فَشَلِه، ولكنه هزَّ كَتِفيه في استسلامٍ شِبْه هَزْلِي.

«لا فائدة من هذا يا عزيزي واطسون، هذا أفضل دليل، والدَّليل الوحيد لدينا، ولم نصِل منه إلى شيء. لكن، في الواقِع، لم يكن لديَّ شكٌّ في أننا يُمكِننا مُتابعة التحقيق في القضية دُونه. يا إلهي! يا عزيزي واطسون، لقد شارَفَتِ الساعة على التاسعة، وكانت صاحبة السكن قد تحدَّثَت عن طَهي وجبةٍ من البازلَّاء الخضراء في السابعة والنصف. أظنُّ أن تدخينك المُستمِرَّ للتَّبغ يا واطسون، وعدَم انتظامك في تَناوُل الوَجَبات سيجعلك تحصُل على إنذارٍ بالطَّرْد من السكن، وأنَّني سأُطرَد معك؛ لكن هذا ليس قبلَ أن نَحلَّ قضية المُدرِّس المُضطرِب، والخادِم المُهمِل، والطلَّاب الثلاثة المُتحمِّسين.»

لم يُشِر هولمز بعد ذلك إلى هذه القضية بقيَّة ذلك اليوم، على الرغم من جُلوسه غارِقًا في التفكير لفترةٍ طويلة بعدَ تَناوُلنا عشاءنا المُتأخِّر. وفي الثامنة من صباح اليوم التالي، دخل إلى غُرفتي بِمُجرَّد خروجي من الحمَّام.

وقال: «حسنًا يا واطسون، حان وقتُ ذَهابنا إلى كليَّة سانت لوك. هل بإمكانك الذهاب دون تَناوُل الإفطار؟»

«بالتأكيد.»

«سيكون سومز في حالةٍ عصبيَّةٍ مُروِّعة حتى نَستطيع إخبارَه بشيءٍ إيجابي.»

«هل لديك أيُّ شيءٍ إيجابي تُخبِره به؟»

«أعتقِد هذا.»

«هل توصَّلْتَ إلى استِنتاج؟»

«أجل يا عزيزي واطسون، لقد حلَلْتُ هذا اللُّغز.»

«لكن ما الدَّليل الجديد الذي حصلتَ عليه؟»

«آها! فأنا لم أستَيقِظْ عَبَثًا في غير مَوعدي في السادسة صباحًا؛ فقد بذلتُ مجهودًا مُضنيًا طوال ساعَتَين وقطعتُ على الأقلِّ خمسةَ أميالٍ، وأتى هذا بِثِماره. انظُر إلى هذا!»

مدَّ يديه، وفي راحةِ يَدِه رأيتُ ثلاثةَ أشكالٍ هَرَميَّة صغيرة من الطين الأسود الذي يُشبِه العجينة.

«ما هذا يا هولمز؟ لقد كنتَ تَملِك اثنين فقط بالأمس!»

«وحصلتُ على واحدٍ آخر هذا الصباح. ومن المَنطِقيِّ للغاية افتراضُ أنَّ المكان الذي جاء منه الشكل رقم ٣، هو نفسه مصدَر الشكلين رقم ١ و٢. أليس كذلك يا واطسون؟ حسنًا، هيا بنا حتى نُخرِج صديقَنا سومز من مُعاناته.»

كان هذا المُدرِّس البائس بالتأكيد في حالةٍ من الانفعال التي يُرثَى لها حين وجدناه في غُرفته. فالامتحان سيبدأ في غُضون بضعِ ساعاتٍ وكان لا يزال واقِعًا في المُعضِلة بين الإعلان عن هذه الوقائع، والسَّماح للمُتَّهم بالحصول على مَيزةٍ فيما يتعلَّق بهذه المِنحة القَيِّمة. كان بالكاد يستطيع الوقوف؛ إذ كان في حالةٍ من الاضطراب العقلي البالِغ، وركضَ نحوَ هولمز وهو يمدُّ يديه في تلهُّفٍ شديد.

«حمدًا للرَّبِّ على مَجيئك! لقد خشيتُ أن تكونَ قد تَخلَّيْتَ عن القضية ويَئستَ منها. ماذا عليَّ أن أفعل؟ هل استمرُّ في إجراء الامتحان؟»

«أجل، دَعهُ يَستمرُّ بالتأكيد.»

«لكن هذا الوغد …؟»

«هو لن يُشارِك.»

«هل عرفتَه؟»

«أعتقدُ هذا. وإن أردْنا عدَم الإعلان عن هذه المسألة، فلا بُدَّ أن نمنَحَ أنفسنا سُلطاتٍ مُعيَّنة، ونَحلَّ الأمر بأنفسنا في مُحاكمةٍ عُرفيَّةٍ سِريَّة صغيرة. أنت ستَجلِسُ هنا يا سومز، من فضلِك! وأنتَ يا واطسون هنا! وأنا سأجلِس على هذا المِقعد ذي الذِّراعَين في المُنتصف. أعتقدُ أننا الآن نجلس على نحوٍ مَهيبٍ يَبعَثُ الخَوفَ في أيِّ إنسانٍ مُذنِب. من فضلك، اضرِب الجَرَس!»

دخل بانستر، وفَزِعَ في ذُهولٍ واضِح وخَوفٍ من مَظهَرِنا القضائي.

قال هولمز: «تفضَّل بإغلاق الباب. والآن يا بانستر، هل لك أن تتفضَّل وتُخبِرَنا بحقيقة الحادِث الذي وقَع أمس؟»

بدا على وجهِ الرَّجُل شُحوبٌ شديد.

«لقد أخبرتُك بكلِّ شيءٍ يا سيِّدي.»

«أليسَ لدَيْكَ ما تُضيفُه؟»

«لا شيءَ على الإطلاق يا سيِّدي.»

«حسنًا، إذن يُمكِنُني اقتراحُ بَعضِ الأشياء عليك. حِين جلستَ على هذا المِقعَد أمس، هل فعلتَ هذا من أجلِ إخفاء شيءٍ ما كان بإمكانه تحديد هُوية الشخصِ الذي دخَل الغُرفة؟»

بدا الفزَع على وَجهِ بانستر.

«لا يا سيدي، بالطبع لا.»

قال هولمز بِرِقَّة: «هذا مُجرَّد اقتراح، وأنا أعترِف بِصراحةٍ أنِّي لم أستَطِع إثباته. لكنه يبدو احتمالًا كبيرًا؛ بما أنَّك بِمُجرَّد أن أدار السيِّد سومز ظهرَه أخرجْتَ الرَّجُل الذي كان مُختبِئًا في غُرفة النَّوم هذه.»

لعَقَ بانستر شفَتَيه الجافَّتَين.

«لم يكُن يُوجَد رَجُل يا سيِّدي.»

«آه! هذا مُؤسِفٌ يا بانستر؛ فربما حتى الآن كنتُ سأصدِّق أنك تتحدَّث بالحقيقة، لكني الآن أعرِف أنك كُنتَ تكذِب.»

عبَسَ الرَّجُل وبدَتْ عليه ملامِح التَّحدِّي.

«لم يكن يُوجَد رجُل يا سيدي.»

«هيا اعترِف يا بانستر!»

«لا يا سيدي، لم يكن يُوجَد أحد.»

«في هذه الحالة، فإننا لن نحصُل منك على أيِّ معلوماتٍ إضافية. هلا تفضَّلتَ بالبقاء في الغُرفة؟ قِفْ هناك بالقُرب من باب غُرفة النَّوم. والآن يا سومز، سأطلُب منك أن تتفضَّل بالصعود إلى غُرفة الشابِّ جيلكريست، وتَطلُب منه النُّزول إلى غُرفتك.»

بعد لحظةٍ عاد المُدرِّس، وأحضَرَ معه الطالب. كان شابًّا حسن المظهر، طويلًا، رشيقًا، خفيف الحركة، خُطوته رشيقة، ووجْهُه وَسيمٌ ومُحبَّب. نظر بعينيه الزرقاوين المُنزعِجَتين إلى كلٍّ منا، وأخيرًا نظر بتعبيرٍ يَنمُّ عن استياءٍ واضِحٍ نحوَ بانستر الموجود في الزاوية البعيدة.

قال هولمز: «رجاءً أغلِق الباب. والآن يا سيِّد جيلكريست، نحن وحدَنا تمامًا هنا، ولن يعرِف أيُّ شخصٍ بأيِّ كَلمةٍ تَجري بيننا؛ لذا يُمكِننا أن نتحدَّثَ معًا بصراحةٍ تامَّة. نحن نُريد أن نعرِف يا سيد جيلكريست كيفَ يُمكِن لرجُلٍ في مِثل نزاهَتِك أن يُقدِم على ارتكابِ مثل هذا الفعل الذي حدَث أمس؟»

تراجَع الشابُّ البائس إلى الخَلْف وألقى نظرةً مليئة بالخَوفِ واللَّوم على بانستر.

صاح الخادِم: «لا، لا يا سيِّد جيلكريست؛ أنا لم أتفَوَّه بكلمةٍ قط، ولا كلمة واحدة!»

قال هولمز: «لا، لكنَّك فعلتَ الآن. والآن يا سيدي، كما ترى، بعد كلمات بانستر هذه، أصبحَ موقِفُك مَيئوسًا منه، وفُرصتك الوحيدة في أن تُقدِّم اعترافًا صريحًا.»

للحظةٍ حاوَل جيلكريست، بِرَفْعِه لِيَدِه، التَّحكُّم في ملامحه المُضطربة، لكنه في اللحظة التالية جَثا على رُكبَتَيه بجوار الطاولة، ودفَن وجهَه في يديه، وانفجَرَ في نَوبةٍ من النَّحيب الانفعالي.

قال هولمز برقَّة: «لا عليك، لا عليك. من طبيعة البشر ارتكابُ الأخطاء، على الأقلِّ لم يَتَّهمْك أحد بأنك مُجرِم قاسي القلب. وربَّما من الأسهل بالنِّسبة إليك أن أُخبِر أنا السيد سومز بما حدَث، وبإمكانك المُقاطَعة إن قلتُ شيئًا خطأ. هل تسمح لي بفعل هذا؟ حسنًا، حسنًا، لا تُجِبْ، استمعْ لِما سأقوله وسترى أني لم أظلِمْك في شيء.

منذ أن أخبَرتَني يا سيد سومز أن أحدًا لم يكن يَعرِف، ولا حتى بانستر، أن الأوراق موجودة في غُرفتك، بدأتِ القضية تأخذ شكلًا مُحدَّدًا في ذِهني. بالطبع استبعَدْنا مسئول الطباعة؛ لأنه كان بإمكانه فحصُ الأوراق وهي ما زالت في مكتبه. والشابُّ الهنديُّ أيضًا لم أشُكَّ فيه قَط؛ فإن كانت بروفات الطباعة مَلفوفة، فلم يكُن ليَتمكَّن من معرفة أنها أوراق الامتحان. ومن ناحية أخرى، بدَت لي صُدفةً بعيدَةَ الاحتمال أن يَجْرؤ رجلٌ على دُخول الغُرفة، ويُصادِف وجود الأوراق على الطاولة في اليوم نفسه، فاستبعدتُ هذا. إن الرَّجُل الذي دخل الغُرفة كان يعلَم بأن الأوراق موجودة فيها. إذن، كيف تسنَّى له ذلك؟

حين اقتربتُ من غُرفتك فحصتُ النافذة، وأذهلْتَني حين اقترحتَ أنني أفكِّر في إمكانية دخول شخصٍ ما عنوةً عَبْرَها في وَضَح النهار وتحت مَرأًى من أعيُن كلِّ الموجودين في الغُرَف المُقابلة، فقد كانت فكرةً عَبَثية. لقد كنتُ أقيس الطُّول الذي يَسمَح لرجلٍ برؤية طبيعة الأوراق الموجودة على الطاولة المركزية وهو يمُرُّ أمام النافذة؛ فأنا طولي ستَّةُ أقدامٍ ولا يُمكِنُني فِعل هذا إلَّا بِمَشقَّة. فلا يمكِن لشخصٍ فِعل هذا إلَّا إن كان في مِثل هذا الطول أو أكثر. ولهذا ترى بالفِعل أن لديَّ سببًا يدفعُني إلى التفكير في أنه إن كان أحد طلَّابك يتمتَّع بطولٍ استثنائي، فإنه يَستحقُّ المُراقبة عن كَثَب.

دخلتُ الغُرفة وأخبرتُك باقتراحاتي بشأن الطاولة الجانبية. أما الطاولة المركزية فلم أحصُل منها على أيِّ شيء، حتى ذكرتَ في وصفك لجيلكريست أنه بطلٌ في الوَثْب لمسافاتٍ طويلة. عندَها اتَّضَح لي كل شيءٍ في لحظة، ولم أكن بحاجةٍ إلَّا إلى أَدِلَّةٍ تُؤيِّد استنتاجي، وحصلتُ عليها بسرعة.

فما حدَث كالتالي؛ قضى هذا الشابُّ فترةَ بعدَ الظهيرة في مِضمار ألعاب القُوى حيث تدرَّب على القَفز. عاد وهو يحمِل حذاءه المُخصَّص للقفز، المُزوَّد، كما تعلمون جميعًا، بالعديد من الأسنان الحادَّة. وبينما كان يمرُّ بجوار نافذة غُرفتك، رأى، بسبب طُوله الفارع، هذه البروفات المطبعية على طاولتك، وتوقَّع ماهِيَّتها. لم يكن شيئًا سيِّئًا ليحدُث لولا أنه شاهَدَ في أثناء مروره المِفتاح في الباب الذي ترَكه خادِمُك المُهمِل. خطرت له فِكرة مُفاجئة بأن يدخل ويرى إن كانت بِالفعل هي البروفات المطبعية. لم يكن عَملًا خطيرًا؛ إذ يُمكِنه في أيِّ وقتٍ التظاهر بأنه جاء ليطرَحَ سؤالًا.

حسنًا، حين رأى أنها بالفعل البروفات المطبعية، استسلَمَ حِينها للغِوايَة؛ فوضَع حذاءه على الطاولة، وما الذي وضعتَه على المَقعَد بِجوار النافذة؟»

قال الشاب: «القفَّازات.»

نظر هولمز بانتصارٍ إلى بانستر، وقال: «وضع قُفَّازاته على المِقعد، وأخذ البروفات المطبعية، ورقةً تِلْوَ الأخرى، حتى ينْسَخَها. ظنَّ أن المُدرِّس لا بُدَّ له أن يعود عبر البوابة الرئيسية، وأنه سيراه. وكما نعلَم، عاد المُدرِّس عبر البوابة الجانبية. وفجأةً سَمِعَه على الباب تمامًا، ولم يكُن ثمَّة مجالٌ للهَرَب. نَسِيَ قُفَّازاته، ولكنه أمسكَ بِحذائه وانطلَق مُسرِعًا نحو غُرفة النَّوم. أنتم تُلاحِظون أنَّ الخَدْشَ على هذه الطاولة خفيف في أحد الجوانب، ولكنَّه يزداد عُمقًا في اتِّجاه باب غُرفة النَّوم. وهذا في حدِّ ذاته كافٍ جدًّا ليُظهِر لنا أن الحِذاء سُحِب في هذا الاتِّجاه وأن المُتَّهم احتمى بهذه الغُرفة. أمَّا الطين الذي كان حول أسنان الحِذاء فقد ظلَّ على الطاولة، وسقطتْ منه عَيِّنة أخرى في غُرفة النَّوم. ولعلِّي أضيفُ أنِّي ذهبتُ للسَّيْر في مِضمار ألعاب القُوى هذا الصباح، ورأيتُ أن الطِّين الأسودَ اللَّزِج يُستخدَم في حُفرَةِ القَفز، وأخذتُ منه عَيِّنةً مع بعضٍ من نشارَةِ الخشب النَّاعمة المَنثورَة عليه من أجلِ حِماية اللاعب من الانزِلاق. هل قلتُ الحقيقة يا سيد جيلكريست؟»

وقفَ الطالِب مُنتصِبًا، وقال: «أجل يا سيِّدي، هذه هي الحقيقة.»

صاح سومز: «يا إلهي! أليس لديك ما تُضيفه؟»

«بلي يا سيدي لديَّ، لكنَّ صدمةَ هذه المُواجَهة المُخزِيَة أرْبَكتْني. أنا معي خِطابٌ هنا يا سيِّد سومز، كتَبتُه لك في وقتٍ مُبكرٍ من صباح اليوم بعد ليلةٍ لم أذُقْ فيها الراحة. كان هذا قَبل عِلمي بأن خَطيئتي اكتُشفَت. هذا هو يا سيِّدي. سترى أني قُلتُ لك فيه: «لقد قرَّرتُ ألَّا أدخُل هذا الامتحان؛ فقد عُرِض عليَّ مَنصِب في شُرطة روديسيا، وسأذهب إلى جنوب أفريقيا على الفور».»

قال سومز: «يُسعِدُني بالفِعل سَماع أنَّك لم تنْوِ الانتِفاع من هذه المَيزَة غير العادِلة. لكن لماذا غيَّرتَ هدَفَك؟»

أشار جيلكريست إلى بانستر، وقال: «هذا هو الرجل الذي وضَعَني على الطريق الصحيح.»

قال هولمز: «تعالَ الآن يا بانستر. لقد اتَّضَح لك ممَّا قُلتُه أنك أنتَ الوحيد القادِر على إخراج هذا الشاب، بما أنك بَقِيتَ وحدَك في الغُرفة، ولا بُدَّ أنك أغلقْتَ الباب خلفَك حين تركتَ الغُرفة. وبالنِّسبة إلى هُروبه من هذه النافذة فقد كان أمرًا غير وارِد. هلَّا أزلْتَ الغُموض عن هذه النُّقطة الأخيرة في هذا اللُّغز، وتُخبِرنا سببَ فِعلك هذا؟»

«الأمر بسيط يا سيِّدي، إنْ كنتَ استطعتَ أن تتوَصَّل إليه؛ لكن مع كلِّ ما تَتمتَّع به من ذكاءٍ تعذَّر عليك مَعرفة ما حدث. في وقتٍ ما يا سيِّدي، عَمِلتُ كبير الخدَم لدى السِّير جابيز جيلكريست العَجوز، والِدِ هذا الشاب. وحينَ تَدَهْوَرت به الحال جِئتُ إلى الكليَّة وعملتُ بها خادِمًا، لكني لم أنسَ قطُّ رَبَّ عملي السابِق لمُجرَّد تدهْوُر حاله. ظلَلتُ أهتمُّ بابنه قدْر استطاعتي لأجلِ الأيام الخَوالي. حسنًا يا سيدي، حين دخلتُ هذه الغُرفة أمس وأدركتُ الأمر، أوَّلُ شيء رأيتُه كانت قُفَّازات السيد جيلكريست ذات اللَّون البنيِّ الفاتِح المُلقاةُ على هذا المِقعد. كنتُ أعرِف هذه القُفَّازات جيدًا، وأدركتُ المعنى من وراء وجودها. وإن رآهما السيد سومز فإن هذا يُنهي الأمر. ألقيتُ بنفسي على هذا المِقعد، ولم أتحرَّك من مكاني لأجلِ أيِّ شيءٍ حتى ذهبَ السيِّد سومز إليك. ثم خرَج سيِّدي الشابُّ المِسكين، الذي كان يتأرجَح على رُكبَتيَّ في صِغَره، واعترفَ لي بِكلِّ شيء. ألم يكن من الطبيعي يا سيدي أن أُنقذَه؟ ألم يكُن من الطبيعي أيضًا أن أُحاوِل التحدُّث إليه بما كان سيُخبِره به والدُه المُتوفَّى، وأجعَله يُدرِك أنه لا يمكن أن يَنتفِع من مثل هذا الفعل؟ هل يُمكنك لَومي على هذا يا سيدي؟»

قال هولمز بِتعاطُفٍ وهو يَهمُّ بالنهوض: «في الواقع، لا. حسنًا يا سيد سومز، أعتقد أننا حلَلْنا لك مُشكلتك الصغيرة، وعلينا الذَّهاب لتَناوُل الإفطار في المَنزِل. هيا بنا يا واطسون! وأما بالنِّسبة إليك يا سيدي؛ فأعتقِد أنَّ مُستقبلًا مُشرِقًا يَنتظرُك في روديسيا. لقد انحدَر مُستواك الأخلاقي في هذه الواقِعة، دَعْنا إذن نرَ في المُستقبَل إلى أيِّ مدًى تستطيع السُّموَّ بأفعالِك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤