المقالة الأولى

زمان أبي العلاء ومكانه

إذا كان للرُّبوع الدَّارِسة، والرُّسوم الطَّامسة، حقٌّ على أُلَّافها الأولين، وسُكَّانها الأقدمين إن مرُّوا بها، أن يَعُوجوا عليها، ويَفُوا لها بوقفةٍ يقفونها، ودمعةٍ يذرفونها؛ قيامًا بما لها من عهدٍ قديم، وضنًّا بما تَمُتُّ به إلى نفوسهم من سبب، وتدلي به من صلة، وتوفيرًا لحظ أنفسهم من الأمانة والوفاء؛ فإنَّ لعصر أبي العلاء علينا، أنْ نلم به إلمامة الطغرائي بالجِزْع، تلك التي تمناها؛ لتنقع غلته، وتشفي علته، ولتثلج فؤاده، وتفيض على نفسه العافية، والسلام.

لعل إلمامة بالجِزْع ثانيةً
يدب منها نسيم البرء في عللي

نعم، لِعَصر أبي العلاء علينا أنْ نُلمَّ به هذه الإلمامة؛ لنُحيي فيه حَلْقةً من تلك السِّلسلة الجميلة الوَضَّاءة، التي تَصل بيننا وبين القدم، وتُقربنا إلى الكرام البررة من آبائنا الأخيار، أُولئك الذين لو أنَّهم أسدَوا إلينا نعمة الوجود — نُسميِّه نعمة، وإنْ كره أبو العلاء — وحدَها، لكان لهم علينا من حقِّ البرِّ بهم والوفاء لهم، أن نلمَّ بعصرهم إلمامة المحبين المعترفين بحسن الصنيعة، فكيف وهم بُناة المجد وشادته، وولاة العز وسادتُه، والذين استذلوا الزمان فأخضعوه لسُلطانهم، وأكرهوه بخيار أعمالهم، على أن يكتب أسماءهم في ثبت الخالدين؟!

نعم؛ إنَّ لعصرِ أبي العلاء علينا أن نُلمَّ به هذه الإلمامة لنَقضيَ حقَّه، ونَفِي بعهده، ولنستمد لأنفسنا منه القوة والأيد؛ فإنَّ امرأ لا يصل حديثه بقديمه، ولا يؤلف بين لاحقه وسابقه، ولا يجمع طارفه إلى تالده، ولا يستمد حوله وطوله — بعد الله وصدق العزيمة — من حول آبائه وطولهم، حريٌّ بالموت لا بالحياة، وبالعدم لا بالوجود.

نلمُّ بعصر أبي العلاء؛ لنستفيد لا لنفيد، فما أحسَّ الفَاني الهالك من القائم الحيِّ جرس تحيَّةٍ ولا رجع صدى، نلم به إلمامة مهما تكن قليلةً قصيرة المدى؛ فهي شاملة الخير، موفورة النفع، عظيمة الغناء.

ألمَّا بميٍّ قبل أن يطرح النوى
بنا مطرحًا أو قبل بين يزيلها
فإلا يكن إلا تزوُّد ساعةٍ
قليلٌ فإني نافعٌ لي قليلها

بل ما لنا ولخيال الشعراء، نقصد إليه ونتعمق فيه، وما أخذنا في هذا الكتاب لنكون شعراء أو خائلين؟! وإنَّما سبيلنا فيه سبيل البَّاحث المُحقِّق، والدَّارس المستقصي، يجمع الأشباه إلى نظائرها، والأشياء إلى قرائنها؛ ليستنبط منها قضية مجهولةً، أو يوضح بها حكمًا غامضًا، أو يستظهر بها على إثبات خبرٍ مشكوكٍ فيه.

هذه سبيلنا في هذا السِّفْر، وما نرى أنَّها تستقيم لنا، حتى نُلِمَّ بالقديم والحديث، فنؤلف بينهما، ونزاوج بين فرائدهما، ونظهر عقولنا على نفس أبي العلاء، أو نفس الأمة الإسلامية في عصره، كما قدمنا في صدر هذا الكتاب.

فليس لنا بدٌّ من أن نصف في عصر أبي العلاء، حاله الأدبية والفلسفية، وحياتَه السياسية والاقتصادية، ومزاجه الخلقي والاجتماعي؛ ليتأتى لنا أن نفهم أبا العلاء، كأنَّه شيءٌ مُتَّصلٌ بعصره، غير منفصل عنه، ولا مُنقطعٍ ما بيننا وبينه من الوسائل والأسباب.

شعب أبي العلاء

ولو شئنا أن نسلُك في تاريخ هذا العصر طريقَ وَصَّافِي الشعوب، الذين إذا أرادوا أنْ يتحدثوا عن جيل من النَّاس، أخذوا أنفسهم بألوان العناء في تحليل هذا الجيل، ورده إلى أصوله المُختلفة وأجناسه المُتباينة، لو شئنا ذلك لطال بنا القول، ولأعيانا أنْ نجد اسمًا جامعًا صحيحًا، نطلقه على هذا الجيل الذي نريد أن نبحث عنه، ونقول فيه.

ذلك بأنَّ من أشدِّ الأشياء عُسرًا على الباحث، أنْ يُحلِّلَ سكَّان تلك البلاد، التي كان يخفق عليها علم الإسلام في القرن الرابع من الهجرة، ومن أشد الأشياء عسرًا أيضًا، أن يُطلَق عليها تلك الأسماء المُبهمة، التي حفظ التَّاريخ مادتها، وترك لنا العناء الشديد في تحقيق معناها.

فلفظ «العرب» الذي يرسله التَّاريخ إرسالًا مطلقًا، ليس يدل في نفس الأمر على معناه الخالص، الذي حفظته كُتب اللغة، إلا في عصورٍ خاصة، وأماكن محدودة، بل ربما لم يصدق هذا اللفظ في معناه الوضعي بعد الجاهلية، إلا صدرًا قليلًا من الإسلام.

فلو شئت أن تعرف الجيل الذي كان يدل عليه هذا اللفظ من الشَّام، أيام أبي العلاء، لوجدت بينه وبين المعنى الوضعي فرقًا غير قليل، فليس هذا الجيل الخالص الصريح من عدنان وقحطان، هو الذي كان مُنتشرًا في بلاد الشام في أثناء ذلك العصر؛ بل قد امتزجت به أجيالٌ أخرى، وَسِيطتْ بدمه دماءٌ لم يكن يعهدها من قبل. سِيطت فلم تتزايل، ولم يقع بينهما تمايزٌ ولا افتراق.

سيطت من أجيالٍ كثيرة، ولأسباب مختلفة، منها: السياسي، والاجتماعي، والديني، والاقتصادي. فقد كانت بلاد الشام، إبَّان الفتح الإسلامي، آهلةً بالشعوب المُختلفة، من: الآراميين، والنبط، والعبرانيين، والروم. فلمَّا فتح الله على المسلمين هذه البلاد، ومكَّن لهم فيها، كانت المصاهرة والاسترقاق، فنشأ من الجيل العربي المخالط لهذه الأجيال المختلفة، جيلٌ جديد لم يكن الزمن ليعرفه من قبل.

وإذ كان الله عز وجل قد أباح للمسلم تعدد الزوجات، وأباح له التَّسرِّي بمن في غنائم الفتح من الرقيق، فقد كان من الميسور أن يجمع الرجل بين زوجين من جيلين مختلفين، وأن يملك أَمَتين من شَعْبين متمايزين، وأن تُعقب له الزَّوْجان والأَمَتان جميعًا، ثم إذا قدَّرنا ما ينشأ من تزاوج هذه الذُّرية المهجَّنة — وإنَّما نريد بالمهجنة أعجمية الأمهات وعربية الآباء — عرفنا ما كان لسكان الشام، من امتزاج الدماء في القرن الثاني للهجرة، بله القرن الرابع والخامس، ولا سيما إذا لاحظنا اختلاف الأطوار السياسية على هذه البلاد، ولاحظنا أنَّ مكانها من الروم قد كان مكان حربٍ وقتال غير مُريحين.

من المحقق أنَّ التَّغلُّب الجنسيَّ، قد كان لغير العرب من سكان الشام؛ لأنَّ عددَ الفاتِحين، ومتنصِّرة العرب في الشام وإن كثر، قليلٌ بالقياس إلى سكان البلاد وأبنائها الأولين، إلا أنَّ ما كان للعرب من غلب دينيٍّ وسياسيٍّ، ومن تفوقٍ في شدة الأنفس، وقوَّة الطَّبيعة، قد استطاع في زمنٍ قليل، أن يُضائل هذه الأجناس المختلفة، ويفني أسماءها وأطوارها الاجتماعية، فيما كان للفاتحين من اسمٍ وطور، ومن لغةٍ ودين، فأصبح سُكان المُدن الشامية، وقراها وضواحيها، مُتعربين، وليس لهم من العربية في نفس الأمر إلا شعاعٌ ضئيل.١

وليس ينبغي أن ننسى أنَّ هذه القاعدة التي اتخذناها في بيان امتزاج الدم العربي بغيره من الدماء بعد الإسلام، قد عملت عملها قبله؛ فالعرب لم يُصادفوا هذه الأجيال خالصة صريحة، وإنَّما تمايزت فيما بينها تمايزًا قليلًا أو كثيرًا، بل صادفوها، وقد تزاوجت، وأصهر بعضها إلى بعض، بحكم الفتوح، واتصال المنافع، وطول الجوار.

فكم يكون مُقدار الجهد والعناء، اللذين يلقاهما المُؤرِّخ في تحليل هذا الشعب الشَّامي، بعد أن يُلاحظ ما قَدمناه؟ وكم يكون عدد العناصر التي ينتهي إليها التَّحليل؟ وكم يكون مقدار ما بينها من اختلاف؟

كلُّ هذه مسائلُ يسهلُ الجَوَاب عنها، إن صحَّ ما قدَّمناه من البحث، ولكن تحقيقها العملي ليس بالشيء اليسير، لو أنَّ العرب لم يَلِجوا إلَّا بلاد الشام، ولم يُفتَح عليهم غيرها، لكان مما يحتمل أن يَتَوَفَّر الباحثون على درس جنسيتهم الشَّامية، وأن يظفروا من هذا الدرس بالشيء المفيد، ولكنَّك تعلم كم بسط الله للعرب على الأرض من سُلطان، وكم رفع لهم من لواء، وكم مدَّ لهم من ظلٍّ، وأخضع لهم من أقطار؛ فقدِّر ذلك كله، ثُمَّ حدثني عن مقدار ما يحتاج إليه درسه من العناء.

لسنا بسبيل القول في تهويل البحث التاريخي عن العرب، وإنَّما فصلنا ذلك التفصيل، وأطلنا هذه الإطالة، لنصل إلى نتيجتين اثنتين:
  • الأولى: أنَّ لفظ «العرب» بمعناه التاريخيِّ واللغويِّ، لا يصدُق حقًّا على الأمم التي تسمت به بعد الإسلام؛ لما كان من الاختلاط الجنسي، ولقصوره عن أن يشمل أممًا عجزت الأمة العربية عن محو حياتها الاجتماعية الخاصة، فبقيت ممتازة امتيازًا تامًّا؛ كالفرس، والترك، والهنود، والبرابرة في شمال أفريقية.

    وليس لفظ «المسلمين» بأقلَّ ضيقًا وقصورًا من لفظ «العرب»؛ فَمَا كانت تلك الأجيال التي أظلها عصر أبي العلاء، وخفق عليها العلم الإسلامي، بخالصةٍ للإسلام من دون غيره من الدِّيانات، بل كان منها النصراني، واليهودي، والصابئ. ولم تشترك هذه المِلَل المختلفة في تكوين العلم والأدب فحسب، بل كان لها في تكوين الحضارة قسطٌ موفور.

    إذنْ لا بد لنا من أنْ نُخصِّص لفظًا يدل بنفسه على هذه الأجيال جميعًا دلالةً صادقةً لا تحتمل التردد ولا التَّشكيك، كما يقول المنطقيون.

    ولسنا نريد أنْ نخترع لفظًا لم يكن، ولا أن نبتدع اسمًا غير معروف، وإنَّما نُريد أن نُخصِّصَ لفظًا موجودًا لمعنى موجود. وبعبارة واضحة: نريد أن نبسط لفظًا ضيقًا لينطبقَ على معنى عظيم السَّعة، فإذا نظرنا إلى هذه الأجيال نظرة محققٍ مجيدٍ للبحث، نجد أنَّ العينَ لا تكاد تلقاها في علم أو أدب، ولا في حكمة أو فلسفة، ولا في حضارةٍ أو عمران حتى تقع منها على لونٍ خاصٍّ جامعٍ لطوائفها المختلفة، وشعوبها المفترقة، تشترك فيه جميعًا، ثُمَّ تتمايز فيما بينها بشئونٍ خاصة بها، وأوصافٍ مقصورةٍ عليها.

    سَمِّ هذا اللون بما شئت، فليس في وجوده ريبٌ ولا نزاع، ولكن حدِّثني عن مصدره الذي عنه وُجِد، وعِلَّته التي عنها انبعث. أَتْقِن البحث والتنقيب، وَجَوِّد الاستقصاء والاستقراء، تجد أنَّ هذا المصدر دائمًا هو الإسلام.

    الإسلام هو الذي بعث العربَ من صحرائها، فاتخذ من سلطانها وقُوَّتها عرى موثقة وأسبابًا متينة، قرن بها بعض هذه الأمم المختلفة إلى بعض زمنًا ما، وأسبغ عليها هذا اللون الخاص الذي تُمثله لنا آثار العصور الإسلامية قديمًا وحديثًا؛ فلفظ «المسلمين» هو أحقُّ الألفاظ أن يدل على هذه الأجيال المُختلفة، على أن نفهم منه أجيال النَّاس المتَّفقين في هذا اللون الذي شرحناه، وإن اختلفوا في الجنس واللغة والدين.

  • والنتيجة الثانية: أنَّ هذه الأجيالَ التي شهدها أبو العلاء، هي التي كَوَّنت الحياة العقلية لهذا العصر، فليست هذه الحياة في نفسها مضافةً إلى أمة دون أمة، أو مقصورةً على شعب دون شعب، بل لها من الامتزاج والاتصال ما لمصدرها، وهي الأمم التي اشتركت فيها، فكما أنَّ لهذه الأمم نوعين من الاتصال، نستطيع أن نستعير لهما الاسمين اللذين اصطلح عليهما أصحاب الكيمياء للتعبير عما يكون بين العناصر من الاتصال، وهما الامتزاجُ والاتحاد، فلهذه الحياة العقليَّة أيضًا هذان النوعان من الاتصال.

أحد هذين النوعين ما شرحناه من اتحاد الدِّماء، الذي يقع بحكم الفتح وغيره من المؤثرات التي أشرنا إليها، وإنما نُسمِّيه الاتحاد؛ لأنَّه امتزاجٌ لا يكاد يقبل التفريق إلا في النظر وحكم العقل، دون الحس والعمل.

أما النَّوع الثَّاني فهو أقرب أنواع الاتصال إلى السذاجة وأدناها إلى التصور؛ وهو ما يكون من المعاشرة التي تقع بين الأفراد والشعوب، بحكم المُؤثِّرات السياسية: كالفتح، والتغلب. أو الاقتصادية: كالتجارة، وتقارض المنفعة. أو العلمية: كالرحلة، والأسفار، وكنشر الكتب، وبث الرسائل، وإذاعة القريض … إلى غير ذلك من علل المعاشرة وأسبابها. وإنَّما نُسمِّي هذا النحو من الائتلاف امتزاجًا؛ لأنَّه قابلٌ للافتراق، لا يأباه ولا يمتنع عليه؛ فكثيرًا ما تعرض الأحداث السياسية، فتُفرِّق الأمة بعد اجتماعها، والكلمة بعد اتحادها، وترُدُّ الشعب الواحد شعبين منفصلين، تنقطع بينهما أسباب المواصلة، فلا يكون لالتقائهما سبيل، وأكثر ما يكون ذلك في أزمان الفزع والهول، وآناء الحرب والقتال.

لكلٍّ من الاتحاد والامتزاج الاجتماعيين آثارٌ ظاهرةٌ في ثمرات العقول والقرائح، ونتائج الملكات الإنسانية كافة.

فالفرقُ عظيمٌ جدًّا بين شعر العربي الخالص الصريح، ذي المعدن النقي، المبرأ من الهجنة والإقراف، لم يُجاوز الصحراء ولم يَرَ إلا أبناء عشيرته الأقربين، وبين شعر الرجل من هُجَناء الشام والعراق، قد اتَّحَد دمه العربي بالدم السرياني أو الفارسي، والفرق عظيمٌ أيضًا بين هذا الهجين لم يَعْدُ بلدَه، ولم يتجاوز مولِدَه، وبين شعر رجل آخر مثله، قد عرف الأسفار، وجاب الأقطار، وخالط الأمم المختلفة، والشعوب المتباينة.

فأمَّا العربيُّ الصريح فليس يُمثِّل شعره إلا مزاجًا صافيًا ساذجًا، أمَّا الهجين المُقيم، فيضيف شعره إلى مزاجه العربي مزاج أُمِّه الأعجمية، وأمَّا الهجين المسفار، فيضيف شعره إلى هذا المزاج المُركَّب ما أفاد في أسفاره من علمٍ بأخلاق الأمم، ودرايةٍ بتجارب الشعوب، وحكم المنثور في ذلك كحكم المنظوم، والعلم والفلسفة، بل الحضارة والمدنية فيه كالآداب. فإذا نظرنا إلى المسلمين في عصر أبي العلاء، عرفنا أنَّهم قد كانوا خاضعين للاتحاد وللامتزاج الاجتماعيين، أشد الخضوع؛ وذلك ما نُبيِّنه حين نصل إلى موضعه من هذا البَّاب.

موضع هذا العصر من العصور العباسية

لقد ألِف المُحدَثون الذين كتبوا في تاريخ الآداب العربية، أنْ يُقسِّموا هذا التَّاريخ الأدبي بمقتضى انقسام التَّاريخ السياسي؛ ليكون ذلك أدنى إلى تحديد أقسامه، وحصر أجزائه، وتعيين أوقاته، وليكون أدنى للبحث، وأقرب إلى الفهم.

ولسنا الآن بمكان الدَّلالة على أنَّ هذا التقسيم خطأٌ أو صوابٌ، بل يكفي أن نُحلِّل أحد هذه العصور التي قسموا إليها تاريخ الآداب، وهو العصر العباسي؛ لنعرف أين تقع منه أيام أبي العلاء.

يبتدئُ العصرُ العباسيُّ في التَّاريخ السِّياسي سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وينتهي سنة ستٍّ وخمسين وستمائة، والجمهور من مُؤرِّخي الآداب يُقسِّم هذا العصر إلى قسمين: أحدهما: عصر الرقي، وينتهي سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، وهي السنة التي ملك الدَّيلم فيها بغداد. الثَّاني: عصر الانحطاط، وينتهي بانتهاء الدولة؛ إذ يُدْلَى بالآداب إلى انحطاطٍ عامٍّ يستنقذها منه هذا العصر الحديث.

والحق أنَّ مُؤرِّخي الآداب إنَّما يتَّبعون في هذا التقسيم الخاص سبيلهم في التقسيم العام؛ أي إنَّهم يسلكون طريق المؤرخين السِّياسيين، ولكنَّهم يُخطئون من وجهين، فطن لأحدهما «المرحوم جورجي بك زيدان» فتجنَّب التورط فيه.
  • الوجه الأول: أنَّهم حرصوا على مُوافقة التَّاريخ السِّياسي، فلم يُوفَّقُوا؛ إذ عصر الانحطاط هذا، ينقسم من الوجهة السياسية إلى عصرين متمايزين، ينتهي أولهما بسقوط الديلم وقيام السلاجقة، سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وينتهي الثاني بسقوط الدولة.

    فأنت تَرَى أنَّهم لم يُوفَّقُوا إلى مُطابقة التَّاريخ السِّياسي، وخطؤهم هذا قد أنساهم الدَّلالة على فروقٍ ظاهرة الأثر في الآداب، بين عصر الديلم والسلجوقيين.

  • الوجه الثَّاني: حرصهم على التقسيم السياسيِّ في هذا العصر؛ فإنَّ هذا الخطأ قد أوقعهم في أغلاطٍ كادوا يُجمِعون عليها، وساقهم إلى ألوانٍ من الظلم لا يرضاها لنفسه المنصف المقتصد، فسموا العصر الثاني للآداب العباسية عصر الانحطاط.

    سموه بذلك من غير تحقيق ولا تثبت؛ فجنوا على الأدب العباسي جناية لا تعدلها جناية، ولو أنصفوا لسموا جزءًا غير قليل من هذا العصر، عصر الرقي والنهضة، لا عصر الانحطاط والجمود.

القاعدةُ التي بنى عليها مؤرخو الآداب هذا الحكم الجائر، ذات وجهين: أحدهما صحيحٌ لا مراء فيه، والآخر باطلٌ لا حظَّ له من الصواب.

تلك القاعدة هي قياس الرقي والانحطاط، بما للخلفاء من قوة وضعف، وما لسلطانهم من انبساطٍ وانقباض.

فأمَّا وجهها الصحيح، فهو أنَّ الحياة السياسية للمسلمين قد تأثرت أشدَّ التَّأثر بحال الخلفاء؛ فقويت حين كانوا أقوياء، وضعفت حين كانوا ضعفاء، وذهب ريحها حين لم يبقَ منهم إلا الأسماء. ومن هنا نعقل اعتماد المؤرخين السياسيين على هذه القاعدة في التقسيم، وأمَّا وجهها الباطل، فهو المبالغة فيما بين الآداب والسياسة من صلة، بحيث تُجْحَد المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية في الآداب، وبحيث لا تكون الآداب خاضعةً إلا للسياسية كأنَّ الأدب ظلٌّ من ظلال الخلفاء، يتأثر بكلِّ ما تأثروا به، ويذعن لكل ما أذعنوا له، ويناله ما ينالهم من الحياة والموت. ومع أنَّ هناك مؤثراتٍ تعمل في الآداب غير السياسة، قد أشرنا إليها أكثر من مرة، وليس ينبغي الإعراضُ عنها، فإنَّ هذه القاعدة التي اتبعها المؤرخون السياسيون فأصابوا، وتوخَّاها مؤرخو الآداب فأخطأوا، قد كانت من أقوى المؤثِّرات في رُقي الآداب لا في انحطاطها كما زعموا.

ذلك بأنَّ انقسامَ الدَّولة الإسلامية الكبرى إلى دولٍ صغيرة، وممالك مُبعثرة في العالم القديم، إنَّما كانت نتيجة الضعف السياسي في بغداد، وقوة المُنافسة في الأطراف. ولم تكن هذه المُنافسة مقصورةً على الاستبداد بالملك فحسب، بل كانت تنزع إلى ملكٍ يكفل لصاحبه السلطان والقوة، ويكفل له بُعْد الصيت وحسن الشهرة، فكان عمل الآداب والعلوم في ذلك كله، قَيِّمًا عظيم الخطر؛ فلم يتنافس المسيطرون في الملك وحده، بل تنافسوا في العلم والأدب أيضًا، والأدلة على ذلك موفورة لا تحتاج إلى الاستظهار بها الآن، بل يكفي أن ينظر الباحث في تاريخ من شاء، من ملوك القرن الرابع ووزرائه، وكيف كانت تتألف حاشيته، وكم كان عدد العلماء والأدباء في قصره ليعرف صحة ما نقول.

إذن فهذه القاعدة التي بَنَى عليها مُؤرخو الآداب تقسيمهم للعصر العباسي خاطئةٌ من هذا الوجه، ولعمري إنَّ عصرًا ينبغ فيه من الشعراء: الرَّضِيُّ، والمتنبي، وأبو العلاء. ومن الكُتَّاب: ابن العميد، وابن عبادٍ، والصابئ. ومن الفلاسفة: الفارابي، وابن سينا، وابن لوقا. ومن الأدباء: أبو هلالٍ، وابن المرزبان، والآمدي، والجرجاني. ومن النحويين: ابن خالويه، وابن جني، وأبو علي الفارسي، والسِّيرافِي. عصرٌ ينبغ فيه هؤلاء وغيرهم من أمثالهم، ومن المؤرخين والجغرافيين والفلكيين، لخليقٌ أن يكون عصر رقي ونهضةٍ لا عصر ضعفٍ وانحطاطٍ في العلوم والآداب.

التقسيم المعقول للعصر العباسي

لا نستطيع أنْ نَفهمَ الطَّريقة التي اتخذتها مدرسة الآداب — ونريد بمدرسة الآداب، طائفة الأساتذة والباحثين الذين توفروا على درس ما للعرب من لغةٍ وأدبٍ وفلسفةٍ وتاريخ — في تحديد العصور الأدبية، وتقيُّدها بالشهر والعام، كما يصنع المؤرخون والسياسيون في توقيت الحوادث.

ذلك لأنَّ الظَّاهرة الأدبية العامة، تمتاز في نفسها، بأنَّها أشدُّ ما تكون استعصاء على من يريد التدقيق في حصرها وتحديد وقتها؛ لأنَّها لا تظهر إلا بعد مقدماتٍ عدَّة يتوافق بعضها على مغالبة بعض، ومن هذا التَّوافق والتَّغالب تنتج الظَّاهرة الأدبية ممثلةً تلك المقدمات التي اشتركت في إظهارها.

وتلك المُقدمات نفسها نتائج عللٍ أخرى، ومن الظَّاهر أنَّ حركة الحياة الأدبية، وانتقالها من طورٍ إلى طور، واستبدالها شكلًا بشكل، كل ذلك يجري خلف ستارٍ لا تخترقه إلا أبصار الباحثين المجوِّدين، بينما الحوادث السياسية تظهر واضحةً لكلِّ باحث، ولا يخفى إلا ما انبعثت عنه من العلل والأسباب.

فإذا صحَّ للمؤرِّخ السِّياسي أنْ يُوقِّت قِيَام الدَّولة العَبَّاسِيَّة، بسنة اثنتين وثلاثين ومائة، فليس يصح للمؤرخ الأدبي أن يجعل هذه السنة مبدأ حياةٍ جديدةٍ للآداب.

ذلك لأنَّ المؤرخ السياسيَّ، إنَّما يوقت حادثةً ظاهرة، علمها مشتركٌ بين النَّاس جميعًا، فأمَّا الأديب فيُوقِّت ظاهرةً خفيةً لا يقع عليها الحس، ولا يبحث عنها إلا الأقلون عددًا.

من الحقِّ أنَّ للآداب في أيام بني العباس، حياةً لم تكن لها من قبل، ولكن من الحق أيضًا أنها لم تبدأ يوم بُويِع لأبي العباس السَّفَّاح ولا بعده، وإنَّما كانت قبل ذلك. ولسنا نغلو ولا نسرف إنْ قُلنا: إنَّ الحياة الجديدة للآداب، كانت من أقوى المؤثرات في قيام بني العباس.

شدة اختلاط العرب بالفرس وغيرهم من الأمم، في أواخر القرن الأول، واحتدام الفتنة بين المضرية واليمانية٢ في خراسان لذلك العهد، وكثرة ما أفاء الله على المسلمين من صامت المال وناطقه، ومن الرَّقيق على اختلاف أجياله، وعسف بني أمية للنَّاس، وعَبث الفتن، وفرق الخوارج بصرح ملكهم، كل هذه أسبابٌ اجتمعت على ثوبٍ واحد، حاكَتْه فأحسنت حوكه، ثُمَّ أفرغته على نفس المسلمين في أوائل القرن الثاني.

لا نُحدِّد الوقت ولا نعيِّنه؛ لأنَّا لا نجد إلى ذلك سبيلًا، ولكنَّا نُشير إلى أشياء تدل على ابتداء هذه الحياة الجديدة مع القرن الثَّاني.

من هذه الأشياء ما يَتَنَاقله المؤرخون: من أنَّ بعضَ التَّراجم العلمية شاعت في بلاد الشَّام، أيام عمر بن عبد العزيز، ومنها هذه المجالس الكلامية في مسجد البصرة أيام هشام بن عبد الملك، تلك الَّتي كانت تتناظر فيها المرجئة والوعيديَّة وممثلو رأي الجماعة، والتي أنشأت مذهب المعتزلة على يد واصل بن عطاء، ومنها هذه الشعوبية التي أنطقت بعض شعراء الموالي بتفضيل الفرس على العرب بين يدي هشام، ومنها مجالس القصص التَّاريخي، التي كانت تأتلف بمسجد الكوفة حول أبي مِخْنَفٍ يحيى بن لوطٍ، وحول سيف بن عمر، ومنها تلك المجالس اللغوية التي كانت تأتلف حول أبي عمرو بن العلاء وأضرابه، ومنها هذه الزندقة التي نمت بها سيرة الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وأظهرها في أوائل العهد العباسي بشارٌ، وحمادٌ، ومُطيعٌ، وابن المُقفَّع؛ فكل هذه مُقدِّمات ظهرت في أوائل القرن الثَّاني، مُنذرةً بني أمية بُقرب النَّازلة، ومُؤذنة في المؤرِّخين السِّياسيين بالتأهب لتأريخ الحادثة الكُبرى، الَّتي ستمثِّلها الأمة الفارسية والأمَّة العربية، يقودهما صنوان من بني عبد مناف، سنة اثنتين وثلاثين ومائة للهجرة، وهي في الوقت نفسه تُعلن ابتداء حياةٍ جديدةٍ للآداب.

إذن فابتداء العصر العباسي الأدبي، إنَّما هو ابتداء القرن الثاني للهجرة، وقد مَضَى أكثر هذا القرن في إعداد وتمهيد لظهور الصورة الجديدة الجلية للآداب ظهورًا تامًّا، في أيَّام الرشيد، والمأمون، والمعتصم، والواثق، والمتوكل.

على أنَّ هذه الصورةَ الطريفةَ الواضحةَ الَّتي مثَّلها هذا العصر، لم تكن في نفسها إلا تمهيدًا لعصر جديد، يُمثِّل من الآداب صورةً أشد وضوحًا، وأكثر جلاء، وأنصع لونًا، وأطول بقاء. تلك هي صورة الآداب في أواخر القرن الثَّالث، وفي القرن الرابع كله، وعهدٍ غير قليل من القرن الخامس، فإذا التمست الدليل على ذلك كان من اليسير أن تحصل عليه.

ذلك الدليل ينحصر في شيئين اثنين: أحدهما نظريٌّ معقول، والآخر عمليٌّ محسوس. فأمَّا الأول، فهو أنَّ اتصال العرب بغيرهم من الأمم، عصر بني أمية، يكاد لا يكون إلا اتصالًا سياسيًّا وماديًّا.

هو اتصالٌ سياسيٌّ؛ لأنَّ سُلطان العرب قد انبسط به على غيرها من الأمم، وهو اتصالٌ ماديٌّ لما استلزمه ذلك من الصلات الزوجية والتِّجارية، ومن تقارض المنافع والحاجات.

فأوَّل ما يُنتجه هذان النَّوعان من الاتصال، إنَّما هو الاتصال العقليُّ؛ أي تقارض المذاهب والآراء في العلم والأدب، وفي الفلسفة والدِّين.

ولقد ظهرت هذه النتيجةُ واضحةً في القرنين الثاني والثَّالث، فظهرت في اللغة العربية آراءٌ وأساليب، وكتبٌ، وفنونٌ من العلم، لم تعهدها من قبل. ولكنَّ هذا العصر لم يكن إلا عصر تعارفٍ وتزاوج بين العقول، فكان أخص ما امتاز به، نقل فنون العلم من اللغات المختلفة، وتدوين اللغة العربية، ووضع قواعدها، على نحو ما تفعل الأمم المتحضرة بلغاتها، ثم التشريع في الفروع، واستنباط الأحكام الجزئية للوقائع الخاصة، ولهذا النَّحو من العلمِ تاريخٌ خاصٌّ ليس بنا أنْ نعرض له الآن.

فلم يَكَد ينتصف القرن الثَّالث، حتى كان العرب قد شفَوا أنفسهم من النقل والتَّرجمة، وبَلَوا ألوانًا من ثمار العلم على اختلافه، وتباعد أطرافه، فلم يبقَ إلا أن تَعَمَل عُقولهم في التَّأليف بين هذه المواد التي وقعت إليهم، من علم الأمم قبلهم، وبين عقولهم الخاصة، وإنَّما يكون ذلك بالنَّقد والتمحيص، وبالشَّرح والتَّهذيب، وبتصنيف الكتب والرسائل في الموضوعات المُختلفة؛ وذلك ما فعل المسلمون في العصر الثَّاني من عصور بني العباس، فلو قلنا كما تقول مدرسة الآداب — حاشا المرحوم جورجي زيدان بك: إنَّ العصرَ الثَّاني قد كان عصر انحطاطٍ، فَلَن نَتَجاوز إحدى اثنتين: إما أنَّ المُسلمين كانوا لا يكاد يُنقَل إليهم الفن من فنون العلم حتى ينضج ويثمر في عقولهم لمجرد نقله، وذلك ما لا يطمئن إليه عقل، ولا يرضاه منطق؛ فإنَّا لم نرَ غراسًا أثمر يوم غرسه، ولا حبةً حُصِدت يوم بُذِرت، وإنَّما لكلِّ شيءٍ أجلٌ، ولكلِّ ظاهرةٍ ميقاتٌ، وللزَّمن حكمٌ لا بد أن يَنْفُذ؛ وما كان لشيء أنْ يستعجل حركة الفلك، أو يختلس حق الأيام. وإمَّا أن يكون المسلمون قد مروا بهذه الدُّنيا فما نفعوا ولا انتفعوا بأكثر من النَّقل، فقطعوا هذه الحياة، وإنَّهم ليحملون على ظهورهم أسفار اليونان والفرس، كالإبل تقطع الصحراء حاملةً مزاد الماء، وإنَّ مرائرها لتتفطر ظمأ، وإنَّ أكبادها لتتحرَّق صدىً. كِلَا الفرضين خطأ، ليس من صلةٍ بينه وبين الصَّواب.

أمَّا الدليل العملي: فهو ما نراه من الآثار العلمية والأدبية، التي تُمثِّل لنا العصر الثَّاني من عصور العباسيين، وضاء متلألئًا، قد نَضَج فيه العقل الإسلامي، فظهرت آثاره متقنةً تامَّة التكوين، وليس إلى تحقيق ذلك من سبيلٍ، إلا النَّظر في إثبات الكتب التي نُشِرت في ذلك العصر، والمُقارنة بينها وبين كتب العصر الأول؛ فذلك أصدق شاهدٍ بصحة ما نقول.

وما كاد ينتصفُ القرن الخامس، حتى أخذت طائفةٌ من الأسباب — ليس يعنينا شرحها الآن — تجمع لحرب الآداب العربية، وشَنِّ الغارة عليها، وبذلك بُدِئ العصر العباسي الثَّالث، الذي نستطيع أن نُسميه عصر انحطاط.

إذن فأيَّام بني العباس، أو بعبارةٍ أدنى إلى التَّحقيق، أيام الآداب العباسية، تنقسم إلى ثلاثة عصور، يبدأ أولها مع القرن الثاني، وينتهي بعد منتصف القرن الثَّالث، ثُمَّ ينتهي العصر الثَّاني ويبدأ العصر الثَّالث بعد منتصف القرن الخامس، ولم نشأ أن نَسْلُك طريق المرحوم جورجي زيدان بك، في تحديد هذه العصور بتلك الحدود السِّياسية، التي ضَيَّق بها على نفسه وعلى الآداب معه.

ومن هذا البحث المُفصَّل يظهر أنَّ أبا العلاء قد نشأ وقضى حياته في العصر الثاني.

الحياة السياسية في عصر أبي العلاء

مهما اجتهدنا في إثبات أنَّ الحياة الأدبية، في العصر الثَّاني للعباسيين، قد كانت راقيةً صالحة، فنحن مُلزمون أنْ نعترف بفساد الحياة السياسية، وانحطاطها في ذلك العصر، فإذا أخذ اثنان في تاريخ هذا العصر، أحدهما: أديبٌ، والآخر: سياسي، كان استبشار الأديب وابتهاجه، مقرونين إلى عبوس السياسي واكتئابه؛ ذلك يرى أعلامًا للعلم تُرفع، وصروحًا للأدب تُشادُ، وهذا يرى كلمةً تتفرق، وعصًا تتشقق، ودولةً تُنقَض، وبناءً سياسيًّا ينهار. وقد علَّلنا في الفصل السابق هذه الظاهرة الخاصة، وهي: رُقي الآداب، وانحطاط السياسة في وقتٍ واحد، ونريد الآن أنْ نَصِفَ شكلين للسياسة العباسية؛ أحدهما: كان قبل أبي العلاء، والآخر: كان في عصره ومن بعده.

فالشكل الأول: هو شكل السلطة الفعلية للخلفاء، والثاني: شكل السلطة الاسمية، ولنا أن نقسم عصر العباسيين من الوجهة السياسية قسمين؛ أحدهما: عصر الخلفاء، ونُسمِّيه بهذا الاسم؛ لأنَّ السلطة فيه قد كانت للخلفاء. والثَّاني: عصر الملوك، ونَدُلُّ عليه بهذا اللفظ؛ لأنَّ السُّلطة فيه انتقلت إلى يد المتغلبين بالحضرة والأطراف، فأمَّا عصر الخلفاء، فنستطيع أن نُقسمه إلى قسمين آخرين؛ الأول: عصر القوة، والثاني: عصر الضعف. وكذلك نقسم عصر الملوك إلى: عصر الديلم، وعصر السلاجقة.

عصر القوة

يبتدئ هذا العصر بقيام الدَّولة العباسية، ولا سيما بعد أن فرغ المنصور من قتال عبد الله بن علي بالشام، ومحمد بن الحسن بالمدينة، وأخيه إبراهيم بن الحسن بالبصرة، وبعد أن أمن كيد أبي مسلم الخراساني. من ذلك العهد تمت الكلمة لبني العباس في المشرق والمغرب، فخلصت لهم المملكة الإسلامية في آسيا وأفريقية، وانفصلت عنهم الأندلس، وكان شباب الدولة في هذه الأيام غضًّا، وغصنها رطبًا، وقوتها كاملة، وثروتها موفورة، فشادت لنفسها وللمسلمين ما شاء الله أن تشيد من مجد، بالسيف والقلم والمال.

أذلت الروم وفتحت بلادها، وشجَّعت العلم ورفعت مناره، وقوَّت الأدب وأعزت أهله، ولكنَّ القاعدة التي أقامت عليها بناءها السياسي لم تكن ثابتة ولا صحيحة؛ فإنَّها لم تعتمد على العرب في إقامة الملك وتأييده، مع أنَّهم نبعتُها التي منها خرجت، وركنها الذي كان ينبغي أن تأوي إليه.

اصطنعت الفرس وركنت إليهم، وإنَّما الفرس أمةٌ موتورةٌ من العرب، تُكِنُّ لها الضَّغينة والبغضاء، وما كان لواترٍ أن يركن إلى موتور، إلا أن يريد الهلكة والفناء؛ لذلك اجتهد الفرس في أن يستأثروا بكل شيء، وظهرت آثار ذلك فيما كان من خلاف الأمين والمأمون، حتَّى أصبح الخليفة لا يركن إلى أحدٍ من جنده، ولا يثق بأحدٍ من أعوانه؛ لا يثق بالعرب لأنَّهم متهمون بحب بني أمية، ولا يثق بالفرس لأنَّ ميلهم إلى الاستئثار بالملك قد ظهر، وهم بَعْدُ شيعةٌ للعلويين وأنصارٌ لهم.

اصطنع المعتصم بن الرشيد جُندًا من التُّرك يعتمد عليه ويعتز به؛ فكان ذلك معجِّلًا بضعف الدولة التي ظهرت بوادره بقتل المُتوكِّل.

عصر الضعف

كان اصطناع المعتصم للجند التُّركي، مقدمة لهذا العصر، ولكن ابتداءه الفعلي كان بمقتل المتوكل، واستيلاء الترك على أمر الخلفاء، يُولُّون ويعزلون، ويتصرفون بأمور الدَّولة كما يشتهون.

من ذلك الوقت بدأ عمال الأطراف يستبدون بما في أيديهم، وبدأت بغداد تضعف عن جمع هذه الأطراف، وكبح أولئك المستبدين.

أحسَّ ولاة الأمصار قُوَّتهم وضعف بغداد، وذاقوا لذة الملك وحلاوة السلطان، فحرص أكثرهم على أن تكون له دولةٌ قائمة، فنشأت الدول في فارس وخراسان، وما وراء النهر، وفي مصر وأفريقية. ولكنَّ المتغلبين كانوا يحرصون على أن ينالوا رضا بغداد، وعهد الخليفة؛ ليكون سُلطانهم على النَّاس مشروعًا، وكان الخلفاء يُسارعون بإرسال العهد إلى من التمسه من المتغلبين؛ حرصًا على أن تبقَى أسماؤهم على ألسنة الخطباء، كلُّ ذلك وهم يَلقَون في بغداد من التُّرك فنون العذاب، يُوَلَّون اليوم ويُخلَعون غدًا، وربما عُذِّبُوا وسُجِنوا، وفُقِئت أعينهم، وليس لهم راحمٌ ولا نصير، ولم تأتِ سنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائة، حتَّى كان ضعف الخلفاء قد بلغ أقصاه، وقوة المتغلبين قد بلغت غايتها، فسما بنو بُوَيه — وهم أسرةٌ من الدَّيلم غلبوا على الجبل وكانت لهم به دولة — إلى بغداد، فدخلها منهم مُعِزُّ الدولة بن بويه، وأسس فيها مُلْك بني بُويه، لهم الأمر والنَّهي، وألقاب التعظيم والتشريف، وللخلفاء الاسم واللفظ، وعليهم السَّمع والطَّاعة، فمن خالف منهم عن أمر الملك القائم ببغداد، فالخلع والمثلة وسوء المصير.

عصر الدَّيلم

ليست تخلو إضافةُ هذا العصر إلى الدَّيلم من بعض المجاز؛ فإنَّ سلطان الدَّيلم لم ينبسط فيه على الأُمَّة الإسلامية، ولم يكد يتجاوز العراق وفارس إلا قليلًا، ولكنَّ قيامهم ببغداد، واستئثارهم بأمر الخلفاء، قد جعل دولتهم أبعد الدُّول الآسيوية في هذا العصر صوتًا، وأطيرها ذكرًا، فأُضِيف إليها هذا العصر، وإنَّما هو عصر الدولِ المُفترقة، والممالك المتباينة، ونحن ذاكرون من هذه الدُّوَل أشهرَها، وأبقاها أثرًا في التَّاريخ.

فمنها دولة الدَّيلم هؤلاء، ومنها دولة العلويين بطبرستان، والدَّولة السامانية فيما وراء النَّهر، ودولة آل سبكتكين في الهند وأفغانستان، ودولة الحمدانيَّة في الجزيرة، ودولة آل الإخشيد بمصر، ثُمَّ الدَّولة الفاطمية بإفريقية، وقد مُكِّن لها، فملكت مصر والشام وبلادَ العرب.

تلك الدُّول التي أظلها عصر أبي العلاء، وقد أعرضنا عن ذكر الأندلس؛ لأنَّ حياتها تكاد تكون منفصلةً عن حياة أهل الشرق، وأعرضنا عن ذكر غير طائفةٍ قليلةٍ من صغار الدول، الَّتي كانت منتثرة في الرقعة الإسلامية، ولو شئنا أن نُحصي هذه الدول الإسلامية، أو أن نُفصِّل وصف الدول التي ذكرناها؛ لتجاوَزْنا القصد ولخَرَج الكتاب من درسٍ لحياة أبي العلاء إلى درسٍ مُفصَّل لتاريخ المسلمين في عصر من العصور.

إنَّما هذا الانقسامُ السياسيُّ الذي تبينه أسماء تلك الدول السابقة، هو الذي يعنينا أن نثبته؛ لننتقل إلى قضيةٍ تشتد الحاجة إليها في فهم أبي العلاء، وهي أنَّ المسلمين في ذلك العصر، لم تكن لهم دولةٌ جامعةٌ، ولم يظلهم عَلَمٌ واحد.

استلزم هذا الانقسام أشياء منها تفرُّق القوة وانتثارُها، وعجز جيش الخليفة في بغداد، بل جيش غيره من الملوك عن حماية الثغور، ومنها حرصُ هذه الدُّول على القوة وانبساط السلطان؛ وذلك ينتج من غير شكٍّ ألوانًا من الإغارات تنتقص بها كل دولةٍ أطراف جارتها، وصنوفًا من الظُّلم في جباية الأموال؛ لتعبئة الجيوش وإتراف الملوك والأمراء.

وفي الحق أنَّ هذه الحالة السَّيئة قد أدت إلى نتيجتين منكرتين؛ إحداهما: طمع الروم في المسلمين، وقَرَمُهم إلى ما في أيديهم من الملك، وظفرهم بكثيرٍ مما أمَّلوا؛ فقد كان القرن الرابع قرن حروب ظفر الروم في أكثرها، بينما الدول الإسلامية تقتُل فيما بينها من الجيوش، مَنْ لو وُجِّهوا إلى العدو؛ لذادوه ولعصموا منه العواصم والثغور. الثانية: ما كان من النكبة الصليبية؛ فإنَّ الذي أغرى الصليبيين بالمسلمين وأطمعهم فيهم، إبان العصر الثالث لبني العباس، ليس إلا هذا الضعف والانقسام، ولولا آل حمدان في القرن الرابع، وآل أيوب في القرن السادس، لما خلصت الشام والجزيرة من الروم، ولا من الإفرنج.

اتَّصلت حياة أبي العلاء اتِّصالًا خاصًّا بثلاثٍ من هذه الدُّول، وهي دولة الدَّيلم ببغداد، وإنما اتَّصلت حياة أبي العلاء بها سنةً وبعض سنة، حين رحل إلى العراق، ودولة الحمدانية بحلب، وقد خَضَع لها أبو العلاء، منذ وُلِد إلى أن ظَفِرت بإسقاطها دولة الفاطميين، وهي ثالثة الدول التي أظلت هذا الحكم.

كذلك قال الذين كَتبوا عن أبي العلاء من الفرنج، وفي مُقدمتهم مرجليوث في مقدمة رسائل أبي العلاء، التي طبعها بأكسفورد، والمستشرق الفرنسي سلمون، في مقدمة ترجمته لطائفة من الرسائل واللزوميَّات. وفي الحق أنَّ هذين المستشرقين، على علمهما وجلالِ خطرهما، قد أخطآ فهم التَّاريخ، ولهما العذر؛ فإنَّ الحياةَ السياسيةَ لإقليم حلب في أواخر القرن الرابع وأكثر القرن الخامس، مُضطربةٌ أشد الاضطراب، غامضةٌ كل الغموض، مناقضةٌ بعض المناقضة لما عُرِفَ من حياة أبي العلاء. وليس الخطأ الذي وقع فيه هذان المستشرقان بالأمر النذر، والشيء اليسير، فقد ظنَّا أنَّ حلب لم تكد تخرج من يد الحمدانية حتى وقعت في يد العُبيديَّة بمصر، وظلَّت مُتصلة بهم، مقصورةً عليهم طول حياة أبي العلاء، فألغيا بذلك دولةً ذات خطرٍ في التَّاريخ، ولها في حياة أبي العلاء أثرٌ غير قليل، وهي دولة بني مِرداس.

ونحن مُجتهدون في أنْ نُحقِّق الحياة السياسية لحلب في عصر أبي العلاء، ونُبيِّن الدول التي ملكتها، واختلفت عليها في ذلك العصر؛ إذ كانت المعرَّة بها موصولة، ولها تابعة، وإذ كانت حياة أبي العلاء لم تَخْلُ من عملٍ سياسي قليل أو كثير.

فأوَّل هذه الدول دولة بني حمدان، وقد أقامها بحلب «سيف الدولة»، بينما كان أخوه ناصر الدولة يُمثِّل في الموصل فصوله التي اضطرت المؤرخين إلى كلامٍ كثير.

مَلَك سيفُ الدولة حلبَ، واتخذها لمُلْكِهِ حاضرةً، وجعلها من أكبر مُدن المسلمين وأوسعها فناء، ومن أرحبها للعلم دارًا، وأوطئها للأدب كنفًا، ومن أحسنها في حماية الدين بلاءً، وأشدها في قتال الروم غناءٍ. فلمَّا مات، في سنة ست وخمسين وثلاثمائة، قام ابنه أبو المعالي شريف، المعروف بسعد الدولة، فأنفق حياته في خلافٍ ونزاعٍ بينه وبين مولَيَيْهِ: قرعويه، وبكجور. وهو في أثناء ذلك يملك حلب حينًا، ويُخْليها حينًا، إلى أنْ تَمَّ له قتل غُلاميه؛ فملك المدينة واستقرَّ بها، ولكنَّ الفالج لم يُهنِئْه بهذا الظفر، فعاجَلَه وقَضَى عليه سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.

قام بعده ابنه المعروف بأبي الفضائل، وتوَلَّى أمره غلامٌ لأبيه سماه ابن خلدون: لؤلؤ، وسمَّاه أبو الفداء وابن الأثير: ابن لؤلؤ، وكلهم كناه: أبا نصر، وفرَّق بينهما أبو المحاسن في النُّجوم الزَّاهرة؛ فروى أنَّ ابن لؤلؤ تولَّى بعد أبيه سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ولُقِّب مُرتضى الدَّولة.

في أيَّام أبي الفضائل هذا، قَرِم الفاطميون بمصر إلى مُلْكِ حلب، وكان خليفتهم العزيز نزار بن المعز لدين الله، ويذكر المُؤرِّخون أنَّ الذي هَاج قَرَم العزيز إلى هذا الإقليم، إنَّما هو أبو الحسن علي بن الحسين المغربي، وهو والد الرجل الذي اشتهر بين المؤرِّخين والأُدباء، بالحذق في العلم، والدَّهاء في السِّياسة، وعُرِف بالوزير المغربي، وسنرى صلةً أدبيةً بينه وبين أبي العلاء.

كان أبو الحسن عليٌّ هذا، مع سيف الدولة بحلب، ثُمَّ كاتبًا لبكجور غلام سعد الدولة، رحل إلى مصر أيام العزيز، أي بعد سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، حين قُتِل بكجور.

قال المؤرخون: فاجتهد هذا الرجل في حمل العزيز على غزو حلب وامتلاكها، إلى أنْ ظَفَر بذلك، فوجَّه العزيز إلى حلب جيشًا يقوده غلامٌ له تركيٌّ، يُقال له منجوتكين، وذلك في أيَّام أبي الفضائل، أي بعد سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، أمَّا نحن فنعتقد أنَّ ترغيب المغربي لعزيز مصر، لم يكن كل شيء، بل إنْ صحَّ فهو من الأسباب التي أسرعت بجيش المصريين إلى هذا الإقليم.

ذلك لأنَّ من درس تاريخ العزيز، عرف اجتهاده في أن يتم لدولته أمر الشام والجزيرة، كما تَمَّ له أمر إفريقية ومصر، وكأنَّ القاعدة السِّياسيَّة كانت تُلزم الفاطميين امتلاك «حلب»، سواءٌ أرغَّبهم المغربي في ذلك أم زهدهم فيه، ومهما يكن من شيء، فقد وَصَل الجيش المصري إلى حلب، ومعه المغربي وحاصرها، ونشأ عن هذا الحصار أقبح ما يُمكن أن تُنتجه إغارة ملكٍ قاهرٍ على إقليم وادعٍ ضعيف.

لقد كان سيف الدولة بن حمدان ذائد الروم عن ثغور المسلمين، وكان مكانه منهم مكان الشجا في الحلق، والأذى في الجوف، فأصبح حفيده أبو الفضائل، حين أطافت به جيوش المصريين، داعيَ الروم وعَوْنَهم على غزو المسلمين.

رأى قومًا أغنياء، قد مدَّ الله ظلَّهم، وبسط سلطانهم، على رقعةٍ واسعةٍ من الأرض، فلم يُغنِهم ما في أيديهم، بل أقبلوا عليه يُنغِّصون عليه حياته في إقليمٍ ضيِّقٍ قد ورثه عن أبيه — إن صحَّ أن تُورَثَ الأقاليم — وهو بعد ذلك لم يُشهِر عليهم حربًا، ولم يُدبِّر لهم كيدًا، وهو على خلاف رأيهم في الدين؛ أولئك شيعةٌ غالون، وهو شيعةٌ معتدل هواه مع بني العباس. فلم يكن بدٌّ من أن يستعين بالروم على خصومه، مُعرضًا عمَّا بينه وبين الرُّوم من اختلاف الدِّين، وصادقًا عمَّا كان لجده من حسن الأثر في جهادهم؛ فكتب إلى ملك الروم يستعينه ويُطمِعه، والملك يومئذٍ على حرب البلغار، فوجَّه إليه أحد قواده في خمسين ألفًا.

أحسَّ الجيش المصري مقدم الرُّوم، فأسرع إليهم وقاتلهم، فظفر بهم وردهم مكلومين. وانتهز أبو الفضائل ومولاه هذه الفرضة، فجمعا إلى القلعة ما في المدينة من مالٍ وطعام، وأحرقا ما دون ذلك، وعاد الجيش المصري إلى مكانه من الحصار.

ثقل الأمر على أبي الفضائل ومولاه، فكتبا إلى أبي الحسن المغربي يتوسلان به إلى أمر الصلح، وكأنهما قد غفلا عن أنَّ هذا الرجل الذي يتخذانه وسيلةً إلى السِّلم، هو الذي قد ضرَّم عليهما نار الحرب. على أنَّ منجوتكين، قد سئم الحرب وضجر منها، ووافق ذلك شَرَهًا من المغربي إلى الرشوة الَّتي قُدِّمت إليه، فصالحهما، وانصرف إلى دمشق، ولمَّا ينفذ إليه أمر العزيز.

وصل الصلح إلى مصر، فكتب الخليفة إلى قائده يُؤنِّبه ويلومه، ويعزم عليه ليَعُودَنَّ إلى محاصرة حلب، وَلَيُلِحَّنَّ عليها حتى يفتحها. عَاد الجيش إلى حَلَب، وعَاد أبو الفضائل ومولاه إلى الاستنجاد بملك الروم، وترغيبه في تراث أبيه من مُلْك الشام، فلم يَسَعْ صاحب قسطنطينية إلا أن يدع قتال البلغار، وينصرف بكتائبه ومقانبه إلى بلادٍ أسلمها أهلها، ودعاه إليها من كانوا يذودونه عنها. وما كاد يسمع الجيش المصري بمقدم الملك في جحفله اللجب، حتى أجفل إلى دمشق، ومر الملك بحلب، فتلقاه أبو الفضائل ومولاه شاكرين له صنيعته، ومضى الملك إلى بلاد الشام، فهدَّم وحرَّق، ونهب واستبى، وانصرف موفورًا، لم يُصبه كلمٌ ولم يلحقه أذىً. وبهذه الحادثة انتهى الفصل الأول من القصة المحزنة، الَّتي يُمثِّلها الطمع السِّياسي والاختلاف الدِّيني، والرَّغبة في المُلك والسُّلطان.

انتهى على مشهدٍ من أبي العلاء، وبقيت حلب لصاحبيها، ومات العزيز سنة ست وثمانين وثلاثمائة.

قام بعده ابنه الحاكم بأمر الله، وظلَّ السِّتار مُسدلًا على ما بين مصر وحلب، إلى أنْ رُفِع في سنةٍ لم يُعيِّنها ابن خلدون، ولا ابن الأثير ولا أبو الفداء ولا ابن خلِّكان، عن لؤلؤٍ وقد عزل مولاه أبا الفضائل، واستبد بأمر حلب، وقطع الخطبة للعباسيين، ووصلها بالعبيديين، فذكر اسم الحاكم على منابر المدينة وأطرافها.

أين ذهب أبو الفضائل؟ وما الذي تمَّ من أمره؟ وكيف أنفق بقية حياته؟ وكيف كانت صورة عزله؟ وكيف اتصلت حلب بالقاهرة وانقطع ما بينها وبين بغداد؟ وما الرَّسائل التي اتُّخِذت لذلك؟ ومن الذي دبرها؟ أهو الحاكم وحده، أم لؤلؤٌ وحده، أم هما معًا؟

كلُّ هذه مسائل نسيها الذين رجعنا إليهم من كُتَّاب التَّاريخ، أمَّا نحن فما نستطيع أن نحدِس بذلك، ولا أن نَخَالَه، ولكنَّا نلفت إلى أمر ربَّما كان له بعض الصلة بسقوط آل حمدان.

اتفق ابن الأثير، وأبو الفداء، وابن خلِّكان، على أنَّ الحاكم بأمر الله، قتل أبا الحسن علي بن الحسين المغربي، الذي أغرى العزيز بغزو حلب، وأنَّ ابنه أبا القاسم الوزير المغربي قد فرَّ من مصر، وألَّبَ على الحاكم، وأغرى به، وكاد يظفر بإقامة خليفةٍ علويٍّ بالرَّملة، في كنف حسَّان بن مفرج الطائي، لولا أنَّ خداع الحاكم، ذلك الخداع المؤيَّد بالمال والسلطان، قد غلب ما لأبي القاسم من خداعٍ أعزل لا يعتز بقوةٍ، ولا يمده مال، فردَّ صاحبه العلوي إلى مكة، وفرَّ أبو القاسم نفسُه إلى الجزيرة والعراق، حيث مثل من القِصَص ما ليس لنا أن نعرض له الآن.

لا يُعيِّن لنا التَّاريخ السَّنَة التي نُكِبَ فيها أبو الحسن وأسرته وفرَّ ابنه، ولكنَّ ذلك ليس بالشيء الخطير، ما دمنا نعلم أنَّ الذي نكَبَ هذه الأسرة هو الحاكم، فهل يُمكن أن تكون هناك صلةٌ بين مقتل أبي الحسن وبين الخطبة للحاكم بحلب؟ ذلك شيءٌ نتوهمه، ولكنَّا لا نستطيع أن نُرجِّحه، ولا أن نُبرهن عليه.

لقد كان أبو الحسن هو الذي ضرَّم نار الحرب بين مصر وحلب، فيما يقول المؤرخون، ونتج عن هذه الحرب فشل الجيش المصري مرتين، وعبث ملك الروم ببلاد الشام، وإلحاقه العار والخزي بالدولة التي زعمت لنفسها القوة والسُّلطان، ثم عَجَزت عن حماية مُلْكها بل مقاومة الطامع فيه.

ومثلُ هذا العار ليس بالشيء الهيِّن على دولةٍ قد قامت بين عدوتين لها، تنافسانها أشدَّ المنافسة، وتعيبانها أقبح العيب؛ إحداهما: الدولة الأموية بالأندلس، والأخرى: الدولة العباسية بالعراق. على أنَّ الأمر لا يقف عند هذا الحد، فإنَّ عَجز الجيش المصري عن أخذ حلب ورَدِّ ملِكِ الروم، يُطمِع عرب الشام والجزيرة في خلفاء مصر، ويسمُو بهم إلى الخروج عليهم والمروق من طاعتهم، لا سيما وهم لا يدَّعون لأنفسهم القوة والسلطان فحسب، بل يُضِيفون إليهما الإمامة وعلم الغيب، كما يقول المؤرخون.

كلُّ هذا نتيجةٌ أنتجتها مشورة المغربي على العزيز، فليس من البعيد أن يكون الحاكم قد رأى أنَّ الكيد والتدبير يُغنيان في أمر حلب ما لا تغني الحرب والقتال، وأنَّ المغربي قد أساء بمشورته إلى الدَّولة، وجرَّ عليها من المغارم المادية والمعنوية شيئًا غير قليل؛ ولذلك قتله ونكب أسرته. ذلك شيءٌ مُمكنٌ، ولكن تنقصه البراهين التاريخية، وسواءٌ أصحَّت لنا هذه الصِّلة بين مقتل المغربي وخضوع حلب للحاكم، أم لم تصِحَّ؛ فليس من سبيلٍ إلى الشَّك في أنَّ المكيدة الحاكمية قد عملت عملها، في إخضاع حلب لسلطان العُبيديين زمنًا ما.

نعم إنَّا نعجز كلَّ العجز عن أن ننص على عين المكيدة التي كادها الحاكم، وعن أن نأتي بنص الرسائل التي كانت بينه وبين لؤلؤ، ذلك الخائن الذي كفر نعمة مولاه، ولكن هذا العجز لا ينفي وقوع المكيدة، ولا سيما إذا لاحظنا شيئين:
  • أحدهما: أنَّ دولة العُبيديين خاصةً، ودُوَل الشيعة الإسماعيلية عامة، إنَّما قامت على المكر والحِيَل، وعلى الخداع والكيد، وعلى الأسرار المغيَّبة، والوسائل المحجبة. ونظرةٌ فيما كتب المقريزيُّ وغيرُه عن الإسماعيلية، تثبت أنَّ هؤلاء النَّاس قد انتفعوا في إقامة دولهم بالكيد، أكثر مما انتفعوا بالسيف.
  • الثاني: أنَّ الكيد قد اتُّخِذَ وسيلةً إلى تأييد السلطان العُبيدي على حلب مرتين، نصَّ عليهما التاريخ؛ الأولى: دُبِّرت بيد الحاكم نفسِه، فيما بينه وبين فتح غلام لؤلؤ، كما سنرى بعد حين. والثَّانية: دبرتها ستُّ الملك أخت الحاكم، في أيَّام الظاهر، لقتل ذلك النائب الذي أراد أن يستأثر بحلب دون بني عبيد، وهو ذلك الحَمداني المعروف بعزيز المُلْك، كما نُشير إلى ذلك بعد قليل. إذن؛ فالكيد الحاكمي هو الذي ظفر بإسقاط الحمدانية، وقطع الخُطبة لبني العباس، وما نشكُّ في أنَّ الحاكم قد أغوى لؤلؤًا واستهواه بالمال والأماني حتَّى مَال إليه.

يُثبت التَّاريخ أنَّ ما بين لؤلؤ والحاكم قد فَسَد، فاستبدَّ لؤلؤٌ بحلب في يومٍ لم يُعيِّنه التَّاريخ، ولكنَّ استبداده هذا قد بقي إلى سنة اثنتين وأربعمائة.

فَلِمَ فسدَ ما بين لؤلؤ والخليفة العُبيدي؟ أليس من المعقول أن تكون تلك الأماني التي ملك بها الحاكم قلب لؤلؤٍ قد كذبته ولم تُيسَّر له، فامتنع على الحاكم، وجزاه نقضًا بنقضٍ، ومينًا بمين؟ ولكن ما عسى أن تكون تلك الأماني؟

ذلك شيءٌ لا نستطيع أن نعرفه بعد أن جهله التاريخ، غير أنَّ الفقه التَّاريخي لا يبيح لنا أن نترك هذا الموضع، من غير أن نجتهد في تعيين الوقت الذي كان فيه سقوط الحمدانيَّة بحلب. ولقد نعجب، كيف تقوم دولةٌ وتسقط أخرى، من غير أن يُعنَى أعلام التَّاريخ الذين قدمنا أسماءهم بتوقيت ذلك، مع أنَّهم قد يُعنَون بكثيرٍ من الحوادث الفردية، التي ليس لها خطر؟! ولعلنا إنْ ظفرنا بشيءٍ من كتب التَّاريخ الخاص بحلب، نصل إلى ما لم نصل إليه.

ليس من شك في أنَّ أبا العلاء قد ترك المعرَّة، ورحل إلى بغداد سنة ثمانٍ وتسعين وثلاثمائة، وأكثر المؤرخين لا يُعلل هذه الرحلة بأكثر من حب السياحة وطلب العلم، والحرص على الشُّهرة في مدينة السَّلام، ولكنَّ القِفْطِي في كتابه «إنباه الرُّواة» ينص على أنَّ عامل حلب، قد كان عارض أبا العلاء في وقفٍ كان له، فارتحل إلى بغداد شاكيًا مُتظلِّمًا، وعلى هذا الخبر يوافقه «الذهبي». وكلا الرجلين من أبصر النَّاس بالتَّاريخ، غير أنَّ هذا الخبر لم يصحَّ لدى الأستاذ مرجليوث، والمستشرق سلمون، واجتهد الثاني في رده، محتجًّا بأنَّ السلطة على حلب وأطرافها، قد كانت في ذلك الوقت للقاهرة لا بغداد، وكلا الرجلين لم يُعيِّن اليوم الذي انتقلت فيه حلب إلى يد المصريين، أمَّا نحن فما نجزم بصحة هذا الخبر وما نثق ببطلانه، ولكنَّا لا نستطيع أن نمر به، من غير أن نُفكِّر فيه؛ فإنَّه إذا صح كان دليلًا على أحد أمرين: إما أن يكون أبو الفضائل لم يزل قائمًا بحلب إلى هذا العهد، وإمَّا أن يكون لؤلؤ قد أعلن عصيانه للحاكم فيها. وكلا الأمرين يستلزم استلزامًا، تاريخيًّا لا منطقيًّا، أن تكون صلةٌ اسميةٌ بين حلب وبغداد، فأمَّا إذا لم يصح هذا الخبر، فليس من شكٍّ في أنَّ أبا العلاء قد كان ارتحل عن المعرَّة كارهًا لها، عازمًا على أن يُقيم ببغداد، كما سنبيِّن ذلك في موضعه من المقالة الثانية.

فلِمَ كره أبو العلاء المعرَّة، وحرِص على تركها ومفارقتها، مع أنَّها أرأف به، وأرحم له، وأحدب عليه، وهو رجلٌ ضريرٌ ليس له في بغداد عون ولا نصير؟ أليس يمكن أن يكون الاضطراب السياسي أحد الأسباب التي أخرجته من بلده، ورحلت به إلى بغداد في هذه السَّنة؟ لا نشك في ذلك، ولا بد عندنا من أنَّ المعرَّة في تلك السنة، قد كانت على حالٍ سياسيَّةٍ لم يرضها صاحبنا، فانصرف عنها، ولكن ما تلك الحال؟

كان أبو العلاء شديد البغض للشيعة، ولا سيما الباطنية، فلعل خضوع المعرَّة للعُبيديين في تلك السَّنة، وهم إسماعيلية باطنية، هو الذي حمله إلى بغداد، ولعل الذي حمله استبداد لؤلؤٍ بالأمر، وعسفه النَّاسَ، وهو بَعْدُ غلام رق ليس له بالحرية إلا عهدٌّ قريب. إذن؛ فصحة الخبر تنشئ لنا احتمالين: قيام أبي الفضائل، أو عصيان لؤلؤ للحاكم. وبُطلانه ينشئ لنا احتمالين أيضًا: خضوع المعرة وحلب للمصريين في هذه السنة، أو استبداد لؤلؤ بأمرهما فيها.

كلُّ هذه ظنونٌ لا نستطيع أن نجزم بها، ولكنَّها تنتج لنا نتيجةً نستطيع أن نُرجِّحها، وهي أنَّ إقليم حلب، قد كان على حالٍ سياسيةٍ سيئةٍ غير مألوفة، سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.

دولة بني مِرْدَاس

وسواءٌ صحَّ لنا هذا الاستنباط أم لم يصحَّ، فقد أقبلت سنة اثنتين وأربعمائة، وإنَّ لؤلؤًا لعلى حاله، من عصيان الحاكم والمخالفة عليه. ولمَّا وصل ابن الأثير، وأبو الفداء إلى هذه السنة، في تاريخهما قصَّا قصَصَ الدولة المرداسية مجملًا؛ إشفاقًا عليه أن يتفرَّق مع السنين، فكان هذا الإشفاق مصدر غموضٍ لأمر المرداسية غير قليل، ولعلَّ ابن خلدون أوفى هؤلاء المؤرخين بالخبر عن بني مرداس، ومهما يكن من شيء فقد اتَّفق الثَّلاثة على أنَّ العلاقة بين المرداسية وحلب، إنَّما ابتدأت في هذه السنة؛ أي: سنة اثنتين وأربعمائة.

والنَّاظر في تاريخ الشام والجزيرة، يُبهره في القرنين الرابع والخامس، ما يَرَى من تطاول العرب وتظاهرهم على الاستبداد بأمر هذه البلاد، وما زَالت الشَّام والجزيرة، مُنذ الجاهلية، مطمح أنظار أهل البادية، وموضع أهوائهم، فقد مَلَك٣ الغسانيون في الجاهلية من الشَّام جُزءًا غير قليل، وتردد أهل البدو من بكرٍ وتغلب في الجزيرة، كما يدل على ذلك التَّاريخ، وتدل عليه قصيدة المرقَّش التي رواها صاحب المفضَّلِيَّات، وفيها تحديد المنازل لطائفةٍ من قبائل العرب، ومطلعها:
لابنةِ حطَّان بنِ قيسٍ منَازل
كمَا رَقَّش العنوان في الرقِّ كاتبُ
فلمَّا جاء الإسلام وكان الفتحُ، كثر اجتماع العرب بالشام والجزيرة، واشتدَّت قُوَّتهم في هذه البلاد؛ لمَكَان الأموية منها. ثُمَّ لمَّا نَهَضَ بنو العباس، واتَّخذوا حاضرتهم بغداد، واعتزوا بالفرس والتُّرك، وآثروهم بمناصب الحرب، والمُلْك على العرب،٤ جلا أكثر هؤلاء إلى الشام والجزيرة، فلم يُخطئ المتوكل العباسي حين قدَّر ردَّ السلطان إلى العرب، فترك بغداد، وأراد أن يُقيم بدمشق، كما يشهد بذلك التاريخ، وشعر البحتري٥ في مدح المتوكل.
وعلى الجملة، لم يكد القرن الرابع يُظِلُّ المسلمين، حتى ضعُف أمر الخلفاء ببغداد، وقَوِي أمر العرب في الشَّام والجزيرة، وظهر التَّاريخ على الحمدانية٦ في الموصل وحَلَب، وأصبحنا نرى أولئك البادين يتسامون إلى الملك ويظفروا به، ولكنَّ ظفرهم بالملك، وتسلطهم على النَّاس، واتِّخاذهم الحواضر، وجبايتهم الأموال، كُلُّ ذلك لم يُغيِّر من طباعهم شيئًا إلا النزر اليسير؛ فما زال التَّاريخ يصبغ دولهم بصبغةٍ من الفوضى، ويسبغ عليها لونًا من الاضطراب والقسوة.

من هؤلاء البادين بنو كلاب، ومن بني كلابٍ: صالح بن مرداس، أمير قومه وزعيمهم، رأيناه سنة اثنتين وأربعمائة، وقد دَخَل حلب في خمسمائة من فرسان قومه، يُطالبون لؤلؤًا بالصلات والجوائز، وقد طمعوا فيه واستهانوا به، حين علموا بفساد ما بينه وبين مصر، ورأينا لؤلؤًا وقد أمر بتغليق الأبواب، وقتل من كلابٍ مائتين، وأسر عشرين ومائة، فيهم صالح، وأطلق من لم يحفل به ولم يفكر فيه، ثم حدثنا ابن الأثير: أنَّ لؤلؤًا غَصَب زوجًا جميلةً لصالح، يُقال لها جابرة، أَكْرَهَ أهلَها على أن يُزوِّجوها منه؛ ففعلوا، وأطلقهم من الأَسْر، ورأينا بعد ذلك صالحًا يتسلق أسوار القلعة، ويحتال في الخلاص من سجن لؤلؤ، وما هي إلا أيامٌ حتى رأيناه بباب حلب، في أَلْفَي فارسٍ من بني كلاب، يُحاصرون لؤلؤًا ويُضيِّقون عليه، ثُمَّ كانت الموقعة بينهم وبينه، ورأينا لؤلؤًا يرسف في الأدهم الذي كان قيَّد به صالحًا، ثُمَّ كان الفداء، وانصرف صالحٌ وقد ظفر من الثأر والمال، وإضعاف خصمه وإذلاله، بما أراد.

اتُّهِم لؤلؤٌ في تدبير الهزيمة فتحًا صاحب قلعته، وكان مولى له، فأراد نكبته، وهنا ظهرت المكيدة الحاكمية؛ فإنَّ فتحًا كاتَبَ الحاكم فرغَّبه ورغب إليه، فما أسرع ما أقطعه الحاكم صيدا وبيروت، ونقله أموال حلب، وأعلن فتحٌ عصيان مولاه، وخطب لصاحب مصر، ولقي لؤلؤ من غلامه ما لقي منه مولاه أبو الفضائل، فانصرف إلى بلاد الروم، وسقطت حلب في أيدي ولاة الحاكم.

لا يُسمِّي لنا التَّاريخ هؤلاء الولاة، ولا يُعيِّن لنا أوقات ولاياتهم، ولكنَّه يدلنا على اثنين، أحدهما حمداني يُعرَف بعزيز الملك. قال المؤرخون: وقد كان الحاكم اصطنع الحمدانيَّة وأحسن إليهم، وسنرى لهم عملًا غير قليل في تنغيص الملك بحلب، على آل مرداس. والظاهر أنَّ عزيز المُلْك هذا، تولى في آخر أيام الحاكم؛ فقد حدَّثنا التَّاريخ أنَّ الحاكم لم يكد يُقتَل سنة إحدى عشرة وأربعمائة، حتى أعلن عزيز الملك استقلاله وخروجه على الظاهر، وهنا ظهرت المكيدة الفاطمية الثانية بحلب، فإنَّ ستَّ الملك، وهي التي كادت قتل الحاكم، ودبَّرت أمر الظاهر بمصر، دسَّت إلى هذا الناجم بحلب مَنِ اغتاله وقضى عليه.

وقال ابن خلدون: وولَّى العبيديون على حلب، عبد الله بن عليِّ بن جعفر الكتامي، وهو المعروف بابن شعبان، فأمَّا أبو الفداء وابن الأثير فلم يُسمياه، ولكنهما عرَّفَاه إلى النَّاس بابن ثعبان، بالثاء موضع الشين. وفي أيام الكتامي هذا أَمِر أَمْرُ المرداسية، فملكوا حلب وتسلطوا عليها. قال ابن خلدون: لمَّا ضعف أمر العبيديين بعد المائة الرابعة، تطاول العرب في الشام والجزيرة، وتساموا إلى امتلاك البلاد، فَتَحالف صالح بن مرداسٍ الكلابي، وحسان بن مفرج الطائي، وسنان بن عليان — ولم ينسُبه أحد المؤرخين إلى قبيلة — على أن يقتسموا البلاد؛ فيمتلك صالح حلب إلى غانة، ويملك حسان الرملة إلى مصر، وتكون دمشق إلى سنان. وفي ذلك يقول أبو العلاء:

أرى حلبًا حازها صالحٌ
وجال سنانٌ على جِلِّقا
وحسان في سَلَفَيْ طَيِّئٍ
يُصرِّف من عزِّه أبلقا

فسما صالح في قومه إلى حلب، فحارب عليها الكتامي وأجلاه عنها، وملكها سنة أربع عشرة وأربعمائة، فيما ذكر ابن خلدون، وابن الأثير، وأبو الفداء. فأمَّا ابن خُلِّكان، فقد زَعَم ذلك في سنة سبع عشرة وأربعمائة.

ولقد أجمع المؤرخون الذين ترجموا لأبي العلاء، على أنَّ حادثةً سياسية قد كانت بينه وبين صالح هذا، سنة ثمان عشرة، أو تسع عشرة، أو سبع عشرة وأربعمائة، ولم يُفصِّلوا هذه الحادثة تفصيلًا تامًّا، بل هم مختلفون في حقيقتها. أمَّا اللزوميات فتشير إليها غير مرة،٧ فأمَّا القفطيُّ فقد ذكر أنَّ أهل المعرَّة عصوا على صالح؛ فحاصرهم، فلمَّا ضيَّق عليهم شفعوا إليه أبا العلاء، وقبل شفاعته. ولكن لِمَ عَصَوه؟ هذا شيء لم يُبيِّنه ولم يُشِر إليه، فأمَّا الصَفَدي فقد ذكر في كتابه «الوافي بالوفيات»:

أنَّ امرأة من أهل المعرَّة صاحت بمسجدها الجامع، أنَّ صاحب الماخور أراد أن يفضحها — وكان مسيحيًّا — فأيقظتهم صيحتها؛ فثاروا إلى الماخور فهدموه، وهراقوا ما فيه من نبيذ وخمر، وبلغ الخبر أحد كبار كُتَّاب صالح، فقبض على سبعين رجلًا من سراة المعرَّة، قال: ودعا أهل مَيَّا فارقين لهؤلاء الأُسارى في المسجد، قال: وفيهم شَفَع أبو العلاء إلى صالح، فقُبِلت شفاعته.

وعندنا أنَّ الراجح مُحاصرة صالح للمعرَّة؛ لشيئين:
  • أحدهما: أنَّ القِفْطِيَّ قد فَصَّل القصَّة تفصيلًا، نقله عن أحد أهل المعرَّة، وفي هذا التفصيل: أنَّ صالحًا رمى المعرَّة بالمنجنيق، فهُرِع أهلها إلى أبي العلاء، فتوسلوا به إلى صالح، قال: فخرج أبو العلاء يتوكأ على قائدٍ له، وقيل لصالحٍ: إنَّ باب المدينة قد فُتِح، وخرج منه أعمى يقوده إنسان، فقال صالح: هو أبو العلاء، فدعوا القتال لننظر ماذا يريد، قال: ودخل أبو العلاء على صالح فأكرمه وشفَّعه، واستشهده؛ فارتجل أبو العلاء أبياتًا جاءت في اللزوميات، وسنعرض لها في غير هذا الموضع من الكتاب. وعلى هذه القضية وافقه الذهبي أيضًا.
  • الثاني: أنَّ شعرَ أبي العلاء نفسه، يُعيِّن هذه المُحاصرة كما سترى في المقالة الثانية.

فإذا لم يكن من صِحَّة المحاصرة بد، فما عِلَّتُها؟ ولأي شيء كانت؟ لا يمكن أن تَعْدُوَ هذه العِلَّةُ أحدَ أمرين: فإمَّا أن يكون صالحٌ قد حاصر المعرَّة حين أراد أن يُحاصر حَلب، ولكنَّ ذلك لا يصح إلا على ما رواه ابن خَلِّكان، من أنَّ امتلاك صالحٍ لحَلب قد كان سنة سبع عشرة وأربعمائة، وإمَّا أن تكون القصَّة التي رواها الصَفَدي صحيحة، وأن يكون قبضُ صالحٍ على أشراف المعرَّة قد أَلَّبهم، وحملهم على العصيان؛ فخرجوا عليه وحاصرهم صالح. وهو ما نميل إليه؛ لأنَّه يُوافق ما كاد يُجمِع عليه المؤرِّخون.

إذن؛ فابتداء الدولة المرداسية، قد كان سنة أربع عشرة وأربعمائة، ومع أنَّ حلب قد كلَّفت العُبيديين ألوانًا من العَناء، وكثيرًا من الرجال والأموال، وكلَّفت المُسلمين فنونًا من الهزيمة بين يدي جنود الروم منذ قام أبو الفضائل سنة إحدى وثمانين إلى أن استقر أمر بني مرداس؛ فإنَّهم لم يرغَبوا عنها، ولم يزهدوا فيها، حرصوا عليها كلَّ الحرص، وبذلوا في استرجاعها أموالًا ورجالًا كما سترى ذلك الآن.

أقبلت سنةُ عشرين، وأرسل الظَّاهرُ صاحبُ مصر جيشًا يقوده أنوشتكين الدزبري؛ لاستخلاص الشام من أيدي المتغلبين عليها، فالتقى هذا الجيش بجيش الأحلاف من طيئ وكلاب، يقود الأوَّلين حسانُ بن مُفرِج، والآخرين صالحُ بن مرداس عند الأردن. فأمَّا صالحٌ فقُتِل، وقُتِل معه ابنه الصغير، وتخلص ابنه أبو كامل نصر بن صالح، المعروف بشبل الدولة، إلى حلب، فأقام بها مالكًا لها، وأمَّا حسَّان فهرب إلى بلاد الروم.

لم تمضِ هذه الحرب من غير أن تستتبع نتائج سيئة، فقد أنتجت نتيجتين:
  • إحداهما: ما تُنشئه الحروب الأهلية من ضعف الدولة وذهاب ريحها، ولم يكن المسلمون في ذلك العصر يحفلون بمثل هذه النتيجة؛ إذ لم تكن لهم دولةٌ جامعة، وكان حسب كل فريقٍ منهم أن يظهر على خصمه، وقد ألقت الخصومات، والمطامع بينهم وبين طمع الروم حجابًا كثيفًا.
  • الثانية: أنَّ هزيمة حسَّان جعلته لقومه خصمًا وعليهم حربًا، فأَلَّب الروم، ورجع بهم إلى بلاد الشَّام، وقد لبس خلعةً قيصرية، وخفق على رأسه عَلَمٌ فيه صليب، فَنَهَب وهدم واستبى، وفعل الأفاعيل. وذلك في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وكما أنَّ هذه الحرب قد جرَّت على المسلمين جريرة حسَّان؛ فإنَّ مكيدة الحاكم وفتحٍ لإخراج لؤلؤ مولى أبي الفضائل من حلب، جرَّت جريرةً كادت تكون شرًّا منها، لولا أنَّ حوادث أخرى ثلمت حدها وفلَّت شَباها؛ فإنَّ لؤلؤًا لمَّا انطلق إلى أنطاكية وعاش فيها مع الروم، أخذ يسعى ويجدُّ في الجمع؛ لإخضاع حلب بسلطة قسطنطينية، فأقبل مع ملك الروم سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، في جيش قدَّره ابن الأثير بثلاثمائة ألف يُريد حلب. فلمَّا كان قريبًا منها اختلف الجند على الملك، فاضطر إلى الرجوع، واتُّهِم لؤلؤٌ هذا بالمُمَالأة على الملك، فقُبِض عليه مع بعض أشراف الروم. قال ابن الأثير: وغَنِم المسلمون من هذا الرجوع غنائم كثيرة، وكفى الله المؤمنين القتال.

فأنت ترى أنَّ هذا الاضطراب السياسيَّ قد كان يُنتِج للمسلمين ألوانًا من الضعف، ويَلد لهم أشخاصًا خَوَنة، قد أفسد قلوبَهم الطمعُ والحرصُ والحرمانُ.

ولعمري، ليس من الغريب أنْ يفعل لؤلؤٌ هذه الأفاعيل، وهو الذي استنجد الرومَ واستعان بهم على جيش العزيز، أيام أبي الفضائل؛ وإنَّما الغريب أنْ يُقصِّر كيد الحاكم دون منعه من الوصول إلى بلاد الروم.

كلُّ هذه الأحداث لم تُخفِّف قَرَم العُبيديين إلى حلب، وحرصهم عليها، فأخذوا يُعِدُّون العُدَّة لأخذها من يد شبل الدولة بن صالح بن مرداس، فلمَّا كانت سنة تسع وعشرين وأربعمائة زحف الدزبري على حلب، فظفر بشبل الدولة، فقتله وملك المدينة، وقرَّت بذلك عين المستنصر خليفة بني عُبيد.

وُفِّقَ الدزبري، فاسترد البلاد وأصلحها وضبط أمورها، وكاد يُثبِّت فيها قدم العبيديين، لولا أن عادت المكيدة فعملت عملها، ووُشِي بالرجل إلى أهل مصر، وقيل إنَّه يُريد العصيان.

قال المؤرخون: وكان الجرجرائيُّ وزيرُ المستنصر، مضطغنًا على الدزبري، فأخفى رُسُله إلى أهل دمشق أن يعصوه ويُخرجوه، ففعلوا، وسبقت هذه الدعوة إلى كثير من بلاد الشَّام، فأخذ الدزبري كلما أراد أن يدخل بدلًا ذِيد عنه، حتَّى استقرَّ بحلب، فمَكَث بها شهرًا، ومات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وعاد أمر الشام إلى الانتقاض.

وكان لصالح بن مرداس ابن يُقال له: أبو علوان ثِمال بن صالح، فأقبل إلى حلب، فمكث بها سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وهو معروفٌ عند المؤرِّخين بلقب مُعزِّ الدولة.

عادت حلب إلى يد المرداسيَّة، ولكن بني عُبيدٍ لا يزالون كَلِفين بها مدلَّهين فيها، لا تطمئن قلوبهم، ولا تهدأ جوانحهم حتى يملكوها.

فأرسلوا الجيش لاسترجاعها، سنة أربعين وأربعمائة، وكان قائدهم إذ ذاك أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان، ولكنَّ هذا الجيش عاد مفلولًا، واشترك في هزيمته أهل حلب من جهة، وسيلٌ أصابه من جهة أخرى.

وجه العبيديون جيشًا آخر إلى حلب بقيادة خادم لهم يُسمَّى رفقًا، ولكنَّ هذا الجيش هُزِم، وأُسِر قائده ومات في أسره.

وكأنَّ العُبيدين قد عرفوا حينئذ رشد الحاكم وحزمه، ورأوا أنَّ هذه المدينة لا تُؤخَذ بالحرب وإنَّما تُؤخَذ بالخديعة والكيد، وقد رأينا معزَّ الدولة هذا يصلح أمره معهم، وينزل لهم عن حلب في أواخر سنة تسع وأربعين وأربعمائة؛ أي بعد أنْ مات أبو العلاء بشهور، فلمَ تغيَّرت الصلة بين حلب ومصر، مع أنَّ حلب كانت أمنع من عُقاب الجو، وقد ردَّت جيوش المصريين غير مرة؟ ذلك ما لم يبينه المؤرخون، أما نحن فما نشك في أنَّ الكيد العُبيدي قد عمل عمله، فأفسد قلوب النَّاس على معزِّ الدولة، وصرف عنه وجوهَ مملكته، حتى أحسَّ معزُّ الدولة ذلك، واجتهد من ناحيةٍ أخرى في ترغيب معزِّ الدَّولة بالمال والثروة والمناصب، حتَّى نزل عن مُلكه وسلَّمه إلى نائب مصر — أبي علي الحسن بن مُلهَم — الذي لُقِّب مكين الدولة، ثم سافر إلى مصر وسافر أخوه عطية إلى الرحبة، فعادت حلب إلى مُلْكِ بني عُبيد، ولكنَّها خرجت من أيديهم إلى بني مرداس بعد قليل.

ولم تزل تختلف عليها الحوادث، حتى انقرضت دولة المرداسيين سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة، وقصص ذلك يطول، وليس بنا أن نعرض له؛ لأنَّ عصر أبي العلاء قد انقضى سنة تسع وأربعين وأربعمائة.

بقيت مسألة لا بد من الإشارة إليها، وهي تناقض بين التَّاريخ وبين ما عُرِف من آثار أبي العلاء؛ فإنَّا نجد من رسائل أبي العلاء رسالةً يعتذر فيها من منادمة عزيز الدولة بحلب، ونجد في ثبت كتبه كتابًا سمَّاه اللامع العزيزي، ونسبه إلى عزيز الدولة، فمَنْ عزيز الدولة هذا؟ مع أنَّا لم نرَ هذا الاسم بين الذين ملكوا حلب في أيام أبي العلاء.

فأمَّا الأستاذ مرجليوث، والمستشرق سلامون، والكاتب الإنكليزي نيقُلْسن، فلم يحلوا شيئًا من هذا، بل زعموا أنَّ عزيز الدولة عَاملُ المصريين على حلب، وفي هذا إسرافٌ من وجهين:
  • أحدهما: أنَّ المصريين لم يستعملوا على حلب رجلًا يُعرَف بعزيز الدولة، وإنَّما استعملوا رجلًا حمدانيًّا يُعرَف بعزيز الملك، في أيام الحاكم، وليس يمكن أن يكون عزيز الملك هذا هو الذي تناولته رسائل أبي العلاء؛ لأنَّ أبا العلاء يعتذر من خدمته بالشيخوخة والهرم، ومن الواضح أنَّه لم يكن شيخًا ولا هرمًا في أيام عزيز الملك؛ لأنَّه قُتِل سنة إحدى عشرة وأربعمائة، كما قدمنا؛ أي: قبل موت أبي العلاء بسبع وثلاثين سنة، إنَّما كان أبو العلاء هَرِمًا أيام معزِّ الدولة، الذي مَلك حلب من سنة أربع وثلاثين إلى سنة تسعٍ وأربعين؛ أي: إلى السنة التي مات فيها.
  • الثَّاني: أنَّ التَّاريخ لم يسمِّ هذا الرجل عزيز الدَّولة، وإنَّما سمَّاه معز الدولة، فلم يكن بدٌّ من تحقيق هذا الاسم، أمَّا نحن فما كدنا نشكُّ في أنَّ ثمال بن صالح، لُقِّب بعزيز الدولة لا معزها، وأنَّ المؤرخين قد حُرِّف عليهم هذا اللفظ، فسموه المعز، وليس لنا على ذلك من دليل إلا ما ورد في رسائل أبي العلاء غير مرة، وفي هذا الكتاب اللامع العزيزي.

فهذه الأدلة أحق عندنا أن ترجح على ما وقع للمؤرخين، لولا أنَّ ثَبت الكتب التي ألَّفها أبو العلاء نفسُه، يُعيِّن لنا عزيز الدولة تعيينًا لا يحتمل الشك، فينص على أنَّه نائب معز الدولة أبي علوان ثمال بن صالح بن مرداس.

من هذا نعلم أنَّ أبا العلاء قد أظلته بمعرة النُّعمان دولٌ ثلاث، وهي: الحمدانية، والفاطمية، والمرداسية. لا اثنتان كما يزعم كُتَّاب الفرنج، غير أنَّ هناك اعتراضين يمكن أن يُوجَّها إلينا؛ لقولنا باستقلال آل مرداس، أحدهما: ما رواه مترجمو أبي العلاء، وفيهم ياقوتٌ والصفدي، من أنَّ المستنصر الفاطمي قد وهب لأبي العلاء ما في خزائن المعرَّة من المال؛ فرفضه.

ومن الواضح أنَّ الأيام التي قضاها أبو العلاء في حياة المستنصر، قد كانت في ظلِّ بني مرداس، فكيف يبذل المستنصرُ مالًا لا يملكه؟ والجواب على هذا الاعتراض ميسور؛ فإنَّنا قبل كل شيء نشك في صحة هذا الخبر؛ لأنَّه إنَّما رُوِي عن أحد أقارب أبي العلاء، بمعرض الدفاع عنه. وهَبْهُ صحيحًا، فقد قدَّمنا أنَّ المستنصر مَلَكَ حلبَ على يد الدزبري من سنة تسع وعشرين إلى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، فإنْ كان هذا الخبر صحيحًا، فلا شك في أنَّه إنَّما وقع في تلك الأيام.

الاعتراض الثاني: أنَّ الرسائل التي كانت بين أبي العلاء وبين داعي الدعاة بمصر، في شأن أكل اللحم وتحريمه، تشتمل على ذِكْر رجلٍ يُعرَف بتاج الأمراء، وكأنَّه صاحب حلب من قبل المصريين، فكيف يمكن تأويل هذا، مع أنَّ أبا العلاء نصَّ في هذه الرسائل على أنَّه هَرِم قد أدركه الفناء؟! والجواب على ذلك أيضًا سهل، فليس تاج الأمراء لقبًا رسميًّا من غير شك؛ لأنَّ التَّاريخ لا يعرفه في هذه الأيام، وإنَّما هو وصفٌ من أوصاف المدح، التي أهداها داعي الدعاة إلى صاحب حلب، فأمَّا ما يدل على أنَّ حلب قد كانت تخضع لأمر داعي الدُّعاة في ذلك الوقت، فإنَّه لا يخلو من أمرين:
  • أحدهما: أنَّ المكاتبة إنَّما كانت بعد أن حَسُنت الصِّلات بين مصر وبين حلب، فأصبح من اليسير أن يُطاع أمر داعي الدعاة من صاحبها.
  • الثاني: وهو ما نُرجِّحه، أن مذهب الإماميَّة قد كان شائعًا بحلب على الرَّغم من خروجها على الفاطميِّين، فليس من البعيد أن ينفذ فيها السلطان الدِّيني للفاطميين، وإن امتنعت على السُّلطان السِّياسي.
فإذا شئنا أن نُبرهن على انتشار مذهب الإمامية بحلب، فلنا إلى ذلك سبيلان:
  • الأول: ما ذكره ابن خلدون من أنَّ صالح بن مرداس قد كان شيعيًّا، وأنَّه أقام الدعوة العلوية بالرحبة حين ملكها.
  • الثَّاني: ما ذكره ياقوتٌ في معجم البلدان نقلًا عن ابن بطلان الطبيب البغدادي الذي زار مصر من أنَّه مر بحلب سنة أربعين وأربعمائة، فرأى الفقهاء يفتون فيها على مذهب الإمامية.

قد أطلنا الإطالة كلها في تفصيل الحياة السياسية لحلب، أيام أبي العلاء، حتى كأنا نؤرخ سياسة حلب لا حياة رجلٍ حكيم، ولكنَّا إن فعلنا ذلك، فإنَّما نحن مُلجَئون إليه، لا نجد منه بدًّا ولا عنه منصرفًا؛ فإنَّ هذه السياسة المملوءة بالفزع والهول، وبالاختلاف والاضطراب، وبالفساد والانتقاض، وبالكيد والخديعة؛ قد عملت من غير شكٍّ عملًا غير قليل، في تكوين الفلسفة العلائية، فلا بد من فهمها إذا حاولنا أن نفهم أبا العلاء. ونحن إذا فهمنا هذه الحياة السِّياسية السَّيئة، وقَرَنَّاها إلى غيرها من الأسباب، التي اشتركت في تكوين هذا النسيج الفلسفي التي تمثله اللزوميات، لم يبقَ ما يحمل على لوم أبي العلاء أو تأنيبه؛ فإنَّ كلَّ شيء حَوْلَهُ إنَّما كان يُزهِّد العاقلَ في الحياة ويُرغِّبه عنها، ويملأ نفسه سوء ظنٍّ بها وقبح رأيٍ فيها. على أنَّ هذا التفصيل السياسي الذي أَطَلْنا فيه، سيفيدنا فائدةً غير قليلةٍ، حين نبحث عن سلامة أبي العلاء من مُصادرة الملوك والأمراء، برغم ما شاع عنه من الزندقة والإلحاد.

عاصر أبو العلاء دولة بني بُويه كما قدمنا، ودخل بغداد في أيام بهاء الدولة، ولم تكن دولة بني بُويه على جلال خطرها بأقلَّ فسادًا واضطرابًا من دول الشام، والظَّاهر أنَّ صيت محمود بن سبكتكين وابنه مسعود قد وصل إلى أبي العلاء بالشام وبالعراق، فذكرهما غير مرةٍ في اللزوميات، وذلك يدل كما سترى على أنَّ عنايته بالحياة السِّياسية للمسلمين، لم تكن بالشيء اليسير. وعلى الجملة، فإنَّ عنايته بهذه الحياة السِّياسيَّة، لم يمكن أن تنتج له إلا الحزن والأسى، وإلا الحسرة والأسف، وإلا السخط والمقت، فقد رأيت مما قدمناه حال العراق والشام والجزيرة، فلو أنك ذهبت إلى بلاد فارس وما وراء النَّهر، حتى تبلغ حدود البلاد الإسلامية الشَّرقية لما وجدت إلا ضروبًا من الانقسام، وصُنوفًا من الاختلاف، ومُدنًا قد تَخِذ بعضها بعضًا عدوًّا، فما تكاد تنهض في إحداها دولةٌ حتى يظهر لها الأعداء والممانعون، وكذلك لو انتقلت إلى الغرب ودخلت مصر، لرأيت فيها العُبيديين، وقد أخذ سلطانهم يتقوَّض، وأمرهم ينتقض، وظِلُّهم يزول.

فإذا ذهبت إلى شمال إفريقية، رأيت أمم البربر، وقد تطاولت إلى الملك، وتسامت إلى السلطان، فأخذت تتناحر وتتداحر، ويَنْصِبُ بعضها لبعض، وأخذت طائفةٌ من كبار الأطماع يعبثون بأممٍ بادية، قد شملها الجهل وعداها العِلْم، فهم يخدعونها بالدِّين مرَّة، وبالمال مرَّة أخرى. فإذا عبرتَ المضيقَ إلى بلاد الأندلس، رأيت تلك الدَّولة الشامخة لبني أمية، وقد انقضَّ صَرحُها وانهار بناؤها، ونهض الطامعون من كل وجهةٍ يتقسَّمون أشلاءها، ويتهارشون على ما تركت من تراث، والفرنجة من ورائهم يَكيدون لهم الكيد، ويتربصون بهم المكروه.

لن تظفر إذا قرأتَ التَّاريخ في ذلك العصر، بيومٍ خلا من دولةٍ تُسحَق، ومملكةٍ تُمحَق، ونَفْسٍ تُزهَق، ودماءٍ تُراق.

لن تظفر إذا حاولت أن تكتب للمسلمين في ذلك العصر تاريخًا جغرافيًّا برقعةٍ من الأرض تأخذ لونًا واحدًا زمنًا طويلًا، وإنَّما هي اليوم لمِصر، وغدًا للعراق، وبعد غدٍ للروم. حياةٌ قد مُلِئت بضروب العَناء، نهضت فيها نفوسٌ طامحةٌ إلى المجد، راغبةٌ في المُلْك، فعبثت بأممٍ لا حَوْل لها ولا طَوْل، تسمع وتطيع من غير أن تُسمَع أو تُطاع، لا يؤمن قادتها بوجودها إلا إلى حدٍّ محدود، هو تسخيرها فيما يملك نفوسهم من الأغراض والأهواء.

تلك هي الحياة السِّياسية للمسلمين في عصر أبي العلاء، فلنبحث الآن عن الحياة الاقتصادية في أيامه؛ فإنَّها بالحياة السِّياسية أشدُّ التصاقًا وأعظم اتصالًا.

الحياة الاقتصادية

ما نرى أنَّ البحث عن هذه الحياة يُكلِّفنا عناء، أو يضطرنا إلى إطالةٍ، بعدما قدَّمنا من فساد الحياة السِّياسية، فقد فرغ النَّاس من البُرهان على أنَّ استقامة الحال الاقتصادية في بلدٍ من البلاد، موقوفةٌ على الأمن والسلم والعدل، وقد حُرِمت الأُمَّة الإسلامية في عصر أبي العلاء هذه الخصالَ الثلاث.

حُرِمت الأمن؛ لضعف الحكومات، واشتغالها بقمع الفتن وردِّ الغارات، ومكافحة الخصوم، عن تدبير الملك والنصح للرَّعية. وحُرِمت السلم لما قدَّمنا من ضعف حاضرة الخلافة، واستيلاء التنافس على العمال، وما جرَّ إليه ذلك من إغارات الفرنج والروم. وحُرِمت العدل؛ لأنَّ دولًا تقضي حياتها في الحروب الخارجية والفتن الداخلية، وهي بعدُ لم تقم لتُحِقَّ حقًّا أو تُبطِل باطلًا، وإنَّما قامت لتُرضي شهوةً، وتَقضي لذةً، وتُقنِع هوى. دولٌ هذه حالها، لا يصح في قضية العقل أن تُؤثِر العدل، ولا أن تفكِّر فيه.

بذلك يحكم العقل، وتؤيِّده نصوص التاريخ، فكما أنَّك لا تكاد تظفر بِسَنَةٍ خَلَتْ من حربٍ أو قتال، لا تكاد تظفر بِسَنَةٍ خَلَتْ من جدبٍ عام أو مجاعةٍ شاملة، يعقبها وباءٌ مبير. ولو أنَّا أردنا أن نُحدِّثك عن مجاعات بغداد وأزمات القاهرة، تلك التي كانت تضطرُّ النَّاس إلى أكل الكلاب والميتات، وإلى أن يتَّخذ بعضهم بعضًا طعامًا، وإلى أن يضعوا في الدروب والحارات الشباك والأشراك يتصيَّدون بها الأطفال والضعفاء، ليتخذوهم شواءً. لو أردنا أنْ نحدثك عن ذلك لروَّعناك، ولخفنا عليك من الفزع والهول، ما ليس من حقنا أن نُغريه بك، ولا أن نزجيه إليك. فإذا أردت أن تتبيَّن صدقَ ذلك فاقرأ ما كتب عبد اللطيف البغدادي عن مصر، وانظر ما شَهِدَه من ذلك بنفسه.٨

إنَّ الرَّجلَ ليقص عليك من الفظائع ما يملأ القلوب هلعًا ورعبًا، حتى إذا خاف ارتيابك في حديثه، جمع لك ما استطاع من مُحرِّجات الأيمان على أنَّه صادقٌ فيما يقول.

هذه الحال الاقتصاديَّة السَّيئة، هي التي اضطرَّت المستنصر خليفة مصر، إلى أن يرغب إلى قيصر فيطلب منه أن يمير مصر، بعدما كانت مصر هي التي تمير قسطنطينية ورومية، في التَّاريخ المتوسط والقديم.

هذه الحياةُ الاقتصاديَّةُ السيئةُ، التي جرَّت أكثر ما يُدهِشك من تشغيب الجند على الخلفاء والملوك ببغداد؛ لعجزهم عمَّا يحتاجون إليه من الأقوات.

هذه الحالُ الاقتصاديةُ السيئةُ، التي قسَّمت الأمة إلى طبقتين متمايزتين لا توسط بينهما: طبقة الأغنياء المثرين، والفقراء المعدمين. والتي ليس لنا أن نتَقَصَّى أسبابها الخاصَّة في هذا الكتاب، قد مسَّ ضُرُّها أبا العلاء، فكوَّن له في تقسيم الثروة رأيًا خاصًّا، سنبيِّنه في المقالة الخامسة إنْ شاء الله.

الحياة الدينية

للبحث عن الحياة الدينية لشعب من الشعوب، شكلان مختلفان؛ أحداهما: البحث عن حياة الدين في نفوس المنتحِلين له وتأثيرة في سِيَرهم وأعمالهم، والثاني: البحث عنه من حيث هو علم تتناوله المناظرة والجدال، وتُنشَر فيه الكتب والأسفار. ونحن متناولون هذين الشكلين من البحث، ومُفصِّلون القول فيهما؛ لأن كُلًّا منهما قد أثَّر في الفلاسفة العلائية أثرًا غيرَ قليل.

البحث عن الشكل الأول

لسنا في حاجة إلى أنْ نشرح حقيقةَ الإسلام وأصولَه؛ لأنَّ ذلك ليس إلينا الآن، وإنَّما نُريد أن نُشِير إلى أنَّ حياته في نفوس الذين عاصروا أبا العلاء، ليست كحياته أيام النبي وخلفائه الراشدين، وما نظن أنَّ إثبات ذلك يُلجئنا إلى عناءٍ كثير؛ فإنَّ الفرق عظيمٌ جدًّا بين تلك النَّفس المُطمئنة الراضية السَّاذجة، التي انبسط عليها سلطان الدِّين؛ فدفعها إلى ما أحبَّه وصرفها عمَّا كره، ونقَّى طبيعتها من كلِّ غيٍّ، وصفَّى مزاجها من كلِّ رجس، وأقنعها بأنَّها لم تُخلَق إلا للدِّين، ولم تَعِش إلَّا بالدِّين، ولا ينبغي أن تموت إلا على الدِّين. الفرق عظيم بين تلك النَّفس التي عاصرت النَّبي، وبين هذه النَّفس المُركَّبة القَلِقة السَّاخطة، التي أفسد طبيعتَها حُبُّ المال، وكدَّر مِزاجَها الحرصُ على الثَّراء، فلم تعرف من الدين إلَّا اسمَه ومراسمه الظاهرة، ولم تتَّخذه إلا لونًا يُميِّز شخصيَّتها، ووسيلةً تُمكِّنها من اكتساب الحياة، وسيلةً تبيح لها أن تَرِث وتُورَث، وأن تبيع وتشتري، وأن تتزوَّج وتُطلِّق، تُبِيح لها ذلك وتضع لها قواعدَه وأصولَه، تحكم الأبدان من غير أن تَصِلَ إلى القلوب، وسيلةً مرنةً، إن جلبت لها القوَّة والراحة آثرتها ورضيت بها، فإن أبت عليها ذلك احتالت في تشكيلها وتحويلها، فإن لم تُطِعْها فارقتها إلى ما يُلائم حاجتها وأهواءها.

تلك هي الحياة الدينية في نفوس المسلمين أيام أبي العلاء، فإذا لم نفهمها كذلك، فلن نستطيع أن نفهم التَّاريخ.

نعم؛ لن نفهم هذه المظالم القائمة، والمحارم المُنتهكة، والنفوس المُهدَرة بغير إثم، والدماء المطلولة بغير ذَنْب، والأموال المسلوبة في غير حقٍّ.

لن نفهم استعداء العُبيديين ملوك الروم على العَبَّاسيين، ولا استنجاد أبي الفضائل ولؤلؤ وحسَّان بن مُفْرِج بقيصر على العبيديين، لن نفهم شيئًا من ذلك، إذا لم نعترف بأنَّ الحياة الدِّينية إنَّما كانت في هذا العصر لونًا ظاهرًا، بينه وبين القلوب حجابٌ مستور. نعم؛ ولن نفهم استباحة الخمر، وانتشار مقالات الإلحاد، واغتصاب لؤلؤٍ زوج صالح بن مرداس، وجمع قرواشٍ بين الأختين، وتحرجه من قتل البدوي دون الحضري، فلمَّا سُئِل عن ذلك قال: ما يعبأ الله بهؤلاء! لن نفهم شيئًا من ذلك إذا لم نُؤمن بأنَّ الأثر الدِّيني في ذلك العصر، قد كان أضعف من أن يبلغ الضمائر، ويتغلغل في أعماق النفوس.٩

البَحْثُ عَنِ الشَّكلِ الثَّاني

كانت الحياة العلمية للدِّين أيام النُّبوة ساذجة قريبة الحدود، فكان جل ما يدرس القوم من عِلْم الدِّين، إنَّما هو فهم القرآن والسنة وروايتهما، واستنباط الأحكام الفردية التي تدعو إليها الحاجة منهما، فلمَّا مَضَى عصر النبوة، وانقضت أيام أبي بكر وعمر، وَبَدَأ الاختلاط والامتزاج الاجتماعيَّان يعملان عملهما في عقول المسلمين من العرب، ومَنْ دَانَ لهم، تأثر الشَّكل العلمي للإسلام في نفوس النَّاس، وظهرت مقالاتٌ علمية لم يعهدها المسلمون من قبل، ونستطيع أن نعتبر ظهور هذه المقالات أول العهد بعلم الكلام.

اعتمدت هذه المقالات على ما كان العرب مستعدِّين له من الخلاف السياسي، فنجحت نجاحًا عظيمًا في إظهار هذا الخلاف وتعجيله، وقسمت الأمَّة إلى فِرق مختلفة، وأحزابٍ سياسية مُتباينة، لكلٍّ منها مقالاتٌ خاصةٌ في الدين، يُحتَج عليها بالشعر والنثر، ويُناضَل عنها بالسَّيف والسنان.

كانت فرقة الشِّيعة المنتصرة لبني هاشم، وفرقة الجماعة، وفرقة الخوارج، وفرقة المُرجئة. وانقسمت هذه الفِرَق فيما بينها أقسامًا كثيرة، أعانتها حرية بني أمية على أن تُدافع عن آرائها بحدِّ السيف وقُوَّة الدليل، فرأينا مسجد البصرة في أيام هشام بن عبد الملك، وقد ائتلفت فيه مجالس المناظرة الكلامية، فأخذ النَّاس يبحثون عن الوعد والوعيد، وعن فاعل الكبيرة: أخالدٌ هو في النار أم غير خالد، ومؤمنٌ هو أم غير مؤمن؟ ورأينا واصلَ بنَ عطاءٍ، وقد اعتزل الحسن البصري، وجلس معه نفرٌ من أصحابه يُقرِّرون أنَّ فاعل الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، وأنَّه مُخلَّدٌ في النَّار، وأنَّهم لا يقبلون شهادة عليٍّ ومعاوية على باقةٍ من البقل، وهؤلاء هم أصل طائفة المعتزلة. فلمَّا نهض بنو العباس، واشتدَّت قوتهم وسلطانهم، لم يبقَ لهذه الفرق من البأس والبطش ما يُمكِّنها من اتخاذ السيف لآرائها سلاحًا، وبعبارة واضحة: لم يُمكنها من تحكيم آرائها العلمية في الحياة العملية العامة، فوقفت عند المناظرة والجدال، ثم تُرجِمت فلسفةُ اليونان، وفيها المنطق والعلم الإلهي؛ فأثَّرت هذه الفلسفة في الكلام تأثيرًا، حتى ظنَّ كثيرٌ من النَّاس أنَّ الكلام عند المسلمين إنَّما هو ابن فلسفة اليونان، والحقُّ أنَّ الفلسفة اليونانية لم تُنشئ الكلام، وإنَّما نظَّمته وقوَّت أثره، حين أمدته بقواعد المنطق، وأعانته بالأدلة والبراهين، فأصبح وإنَّه لذو وجهين مختلفين، يدافع بأحدهما عن الإسلام وأصوله أمام الديانات الأخرى، ويُنصَر بالآخر بعض هذه الطوائف على بعض، واشتدَّت مِرَّةُ الكلام ببغداد اشتدادًا عظيمًا، بينما كان غيره من علوم الدِّين؛ كالفقه والحديث والتفسير، ينشأ ويُدوَّن، حتَّى صار للمتكلمين خطرٌ عظيم في نفوس الخلفاء والعامَّة، فكانوا يحشدون المجامع للمناظرة والجدال، وينشرون الكتب المختلفة في إثبات آرائهم والذَّوْد عنها.

وكان الخلفاء كثيرًا ما ينصرون فريقًا عن فريق، فنشأ عن ذلك الفتن والمحن التي ليس علينا بيانها، فلمَّا ضعف بنو العباس في منتصف القرن الثَّالث، عادت هذه الفرق إلى السيف وتناول السِّياسة العملية، فرأينا القرامطة يُغِيرون على العراق، ويعترضون الحجيج، ويقيمون دولتهم في البحرين، ويهجمون على مكة؛ فينتزعون الحجر الأسود، ويَطُمُّون زمزم بأشلاء الحجيج، ويستحيون النساء والأطفال؛ ورأينا الإسماعيلية يُؤسِّسون دولتهم بإفريقية ومصر ويُقيمون حصونهم ببلاد الفرس، ورأينا الخوارج الإباضية يُشيِّدون ممالكهم في جبال البربر، وعلى ساحل بحر الظُّلمات.

كلُّ ذلك وعلماء هذه الفِرق في بغداد وغيرها من حواضر المسلمين، يدرُسون ويتناظرون، وينشرون الكتب والأسفار، فترى أنَّ الكلام قد اشتدَّ نُضجه حتَّى مَلَكَ الحياةَ العملية، وصرَّفها كما يشاء، بل قد أوقع الفتنة المنكرة، والثَّورات العنيفة بين أهل بغداد أنفسهم في القرن الرابع وما بعده. ولسنا في حاجةٍ إلى الدَّلالة على أفاعيل الحنابلة أيام الراضي، ولا على فتن السنيَّة والشِّيعة، تلك التي هدَّمت بغداد غير مرة، وألقت بها منتصف القرن السابع في أيدي التتار. ذلك مُوجزٌ من القول يُمثِّل ما كان للدِّين في عصر أبي العلاء، من حياةٍ علميةٍ وعملية، وهو يدل على أنَّ هذا الحكيم لم يمقت عصره، ولم يبغض حياته، ولم يسخط على أُمَّته، ولم يُعلِن ذمَّه لتلك الفرق ونَعْيَه عليها، وبراءته منها كافةً لشيءٍ قليل.

الحياة الاجتماعية

نريد بالحياة الاجتماعية ما يُؤلِّف بين أفراد الأُمَّة من الصِّلات والأسباب، ولم يكن من حقِّنا أنْ نَعرِض للبحث عن هذا الموضوع بعدما بيَّناه من فساد الحياة السياسية، واختلال النظام الاقتصادي، وضعف الأثر الديني في النفوس؛ فإنَّ الحياة الاجتماعية الصالحة، ليست إلَّا مزاجًا يتألف من سياسةٍ مستقيمة، وعدالةٍ شاملة، ونظامٍ اقتصادي معقول، وأمن محيطٍ بالأقوياء والضعفاء على السواء؛ فإذا فقدت هذه الخصال كلها؛ فلا بد من تدابرٍ وتقاطع، ومن تنافرٍ واختلاف، ومن انقباض ظلِّ الفضيلة حتى يكاد يَمَّحي، وتضاؤل سلطان المودة حتَّى يُوشك أن يزول. وذلك هو الذي يُحدثنا به التَّاريخ عن معاصري أبي العلاء؛ فإنَّك لا تكاد تبحث عن تاريخ أسرةٍ مالكة، حتَّى تجد الاختلاف بين أفرادها بالغًا أقصاه، ومنتهيًا إلى غايته. ولك فيما كان بين ملوك العراق من بني بُويه حجةٌ ناطقةٌ بصحة ما نقول، وكذلك حياة الأسرة العباسيَّة نفسها، ليست أقل دلالة على ذلك من حياة بني بُويه.

ذلك شأن الأسرة المالكة كافة، لا تكاد تستثني منها أسرةً في الشرق ولا في الغرب، ولا في أي طرفٍ من أطراف المسلمين، وسواءٌ أكانت الأُمَّة على دِين ملوكها أم الملوك على دِين أممها؛ فإنَّ بين الحاكم والمحكوم من التَّشابه، ما يُبيح لنا أنْ نبحثَ في أحدهما عن صورة الآخر، فإذا فسدت الصِّلات، وتقطَّعت الوسائل، وَرَثَّتِ العُرَا بين الأسرة الحاكمة، فهي كذلك بلا شكٍّ بين الأسرة المحكومة.

وما لنا لا نبحث عن الحياة الاجتماعية للأمة إلا من طريق مُلوكها، مع أنَّ التَّاريخ يحفظ لنا من أطوار الأُمَّة نفسها، ما لو نظرنا فيه لبيَّن لنا حياتها الاجتماعية، وما كان لها من فساد.

كيف استطاع أولئك المتغلِّبون أنْ يقتسموا الرقعة الإسلامية فيفرقوا بينها، ويجعلوا بعضها لبعضٍ عَدُوًّا؟ أفترى ذلك ميسورًا لو لم تكن الأمة في نفسها مُنقسمة متنافرة المزاج.

لقد كان الرَّجل من هؤلاء المتغلِّبين لا يكاد ينهض بالدعوة لنفسه، حتى تحتشد حوله الجموع المنتصرة له، فلا يكاد يُنازعه في أمره منازعٌ حتَّى تنشقَّ هذه الجموع إلى فريقين: فريقٌ له، وفريقٌ عليه. فهل يُمكن أن يكون هذا الافتراق والانقسام، في أُمَّةٍ قوية الأواصر مُوثَّقة العُرَى؟

ليس من العسير أن نعرف أسباب هذه الحياة الاجتماعية السيئة، إذا بحثنا عن الأمة الإسلامية كيف كانت تأتلف أجزاؤها، ويلتئم مزاجها، فإنَّها إنَّما كانت تأتلف من أممٍ مختلفةٍ فيما بينها، كما قدَّمنا في أول هذه المقالة.

ومهما يكن المسيطرون من العرب أقوياء الطبيعة، فلن يستطيعوا أن يُخرِّجوا هذه الشعوب المتنافرة، فيؤلِّفوا شعبًا معتدل التركيب.

ذلك شيءٌ لا سبيل إليه؛ لأنَّه يستلزم محو كثيرٍ من علل الاختلاف، التي ليس للإنسان أن يؤثر فيها، فما الذي نستطيع أن نفعل باختلاف الأقاليم، وتباين الأجواء والأهواء، إذا استطعنا أن نمحو فروق السياسة والدين؟!

شيء آخر اشتد أثره في فساد الحياة الاجتماعية؛ لِمَا ترك في مزاج الأبناء من الاختلاف، ذلك هو الرق وتعدد الزوجات؛ فإنَّ الذي يجمع بين زَوْجين: عربيَّة وفارسيَّة، وبين أمتين: تُركيَّة وروميَّة، لا ينبغي أن يرجو أبناءً مُتشابهين في الطباع والأخلاق. على أنَّ للرقِّ، وتعدد الزوجات أثرًا في المرأة، يعدل أثرهما في الأبناء؛ فإنَّ المرأة التي ترى زوجها يعدل بها زوجًا أخرى، أو يؤثر عليها أمةً من الإماء، يشق عليها أن تُخلِص له، أو تصطنع الأمانة في حبِّه، فلا بد من أن يقع بينهما سوء الظن، فيسوء حكمه عليها، ويفسد رأيها فيه. فإذا أضفت إلى ذلك ما يقع بين الضرائر من النفور والضغينة، وما يتأثر به الابن من الدفاع عن أمه والانتصار لها، عَلِمْتَ كم يكون عدد الأسباب التي اجتمعت على إفساد الأسرة وتشويه خلقها. فإذا أضفت إلى فساد الأسرة هذا، ما قدَّمنا من فساد السياسة، وسوء تقسيم الثروة، وضعف أثر الدِّين، عَلِمْتَ كم يُمكن أن يلحق الحياة الاجتماعية من الوهن والانحلال.

الحياة الخلقية

بعد هذا التفصيل المبسوط الذي قدَّمنا، لا يشك القارئ في أنَّ نصيب الحياة الخلقية من الفساد، لعهد أبي العلاء، قد كان موفورًا؛ فإنَّك لا تجني من الشوك العنب، وما تُنتِج هذه الألوانُ من فساد السياسة والاقتصاد وضعف الدِّين والاجتماع، إلا أخلاقًا تُشبهها ضعةً وانحطاطًا؛ إذ ليست النتيجة المنطقية، أو الطبيعية إلا صورة صادقةً لمقدماتها.

ولعلَّ الذين يُجِلُّون القديم لقدمه، ويُسبِغون عليه من بُعْد العهد ثوب الإعظام والإكرام، يتَّهموننا بالإغراق والغلو، أو بأننا نظريون، لا نلاحظ في أحكامنا الحقائق الواقعة.

لسنا بالغلاة ولا المغرقين؛ لأنَّ البحث المؤسَّس على طرائق المنطق لا يحتمل إغراقًا ولا غلوًّا، ولسنا بالنَّظريين ولا الخائلين؛ لأنَّا إنَّما نستمد أحكامنا من نصوص التَّاريخ.

ومن أتقن درس الآداب في ذلك العصر، عرف مقدار ما بين أخلاقه وبين الفضيلة من الأمد البعيد، فلستَ ترى في هذه الآداب خلقًا أظهر، ولا خُلَّةً أجلى من الدعارة وقبح المجون، ولولا أنَّا نُؤثر الحرص على الآداب العامة، لنقلنا من الأدلة على ذلك، ما فيه مقنعٌ لمن شكَّ أو ارتاب، ولكن «يتيمة الدهر» للثَّعالبي تُغنينا عن ذلك، فليرجع إليها مَنْ أراد.

درسُ الأواصر والعلاقات بين الأفراد والجماعات في ذلك العصر، يظهرك على ما كان سائدًا فيه من المكر والغدر، ومن الخداع والنِّفاق، ومن الحذر والاحتراس، ومن الكذب والوشاية، ومن الأثرة وحب النفس.

وعزيزٌ علينا أن تكون هذه أخلاق جيلٍ من أجيالنا الماضية، ولكنَّ الله يشهدُ أنَّا لم نزد على الأمانة في تبليغ رسالة التَّاريخ إلى النَّاس.

أثَّرَ فسادُ الحياة الاجتماعية والخلقية في نفس أبي العلاء آثارًا، كَوَّنت له في الاجتماع والأخلاق آراءً خاصَّة، نحن مُبيِّنوها في المقالة الخامسة إنْ شاء الله.

الحياة العقلية

نُريد بالحياة العقلية حركة النفس الإنسانية في أنواع العلوم والآداب، وأصناف الفنون والصناعات، ولعلَّ القارئ ينتظر بعد تلك المقدِّمات الطوال، أن نحكم على الحياة العقلية في عصر أبي العلاء حُكْمَنا على غيرها من ألوان الحياة. كلا؛ فإنَّا نعتقد اعتقادًا منطقيًّا تؤيِّده حقائق التاريخ، أنَّ المسلمين لم يشهدوا عصرًا زَهَتْ فيه حياتهم العقلية وأَزْهَرَتْ، وآتتْ أطيبَ الثمر وألذَّ الجنى، كهذا العصر الذي نبحث عنه ونقول فيه.

ولقد بيَّنا علَّة ذلك عند الكلام على تقسيم العصر الأدبي لبني العباس، وأشرنا إلى أنَّ الأسباب التي أضعفت السِّياسة قد عملت في تقوية العقل، وأنَّ منافسة الأمراء والمتغلبين لم تعتمد على السيف وَحْدَه، بل اعتمدت معه على العقل واللسان، ونحن مُشيرون في هذا الفصل إلى الوصف الموجز لأنواع العلوم والآداب في عصر أبي العلاء؛ لنعلم أكانت حياته العقلية بِدعًا من قومه، أم لم تكن إلا شيئًا مألوفًا؟ ونحن إذا درسنا الحياة العقلية لهذا العصر، لم نجد فنًّا من فنون العلم التي عرفها الأقدمون، ولا ضربًا من ضروب الهزل والجد التي اشترك فيها النَّاس، إلَّا وقد أخذ المسلمون منه بحظٍّ غير قليل.

أخذوا منه بحظٍّ موفورٍ أفاضوا عليه صبغتهم، وطبعوه بطابعهم، ولوَّنوه بلونهم الخاص، فليس ما يدل على أنَّه متكلف أو مستعار، ولولا أنَّ التَّاريخ نفسه يدلنا على أنَّ المُسلمين قد نقلوا فنون العلم عن الأمم التي سبقتهم إلى الحضارة؛ لخُيِّلَ إلى الباحث أنَّ العلم فيهم قديم.

العلوم الفلسفية

غير هذا الكتاب كفيلٌ بتاريخ الترجمة عند المسلمين، وما اختلف عليها من أطوارٍ، وما تناولته من فن، فأمَّا نحن فحسبُنا أنَّ عصر أبي العلاء لم يُظِلَّ الأُمَّةَ الإسلاميةَ حتى كان قد تَمَّ لها نقلُ ما أورث اليونان من أنواع الفلسفة والحكمة، فتُرجِمت لها كتب أرستطاليس، وأفلاطون، وإقليدس، وبطلميوس، وجالينوس، في الفلسفة الطبعية والرِّياضية، والإلهية، والأدبية؛ فكانت بين أيديهم كتب أولئك الفلاسفة، وما يتصل بها في المنطق، والطبيعة، والطب، والتشريح، وفي الهندسة، والعدد والهيئة، وفي الإلهيات والسياسة والأخلاق؛ كل ذلك كان في أيديهم، يدرسونه ويتفهمونه، في المنازل، والمساجد، وفي المدارس، والأندية، وفي قصور الخلفاء، والأمراء.

فما كاد يأتي القرن الرابع، حتَّى أثَّرت هذه العلوم في المسلمين آثارها، فكان منهم الفلاسفة والحكماء، والمتصرِّفون في كل فنٍّ من فنون العلم، وليس بنا أن نذكر أعلام هؤلاء الفلاسفة، وما ألَّفوا من الكتب؛ فإنَّ لذلك أثباتًا خاصةً أشهرها: فهرست ابن النديم، وتاريخ الحكماء للقفطي، والأطباء لابن أبي أُصَيْبِعة.

ولكنَّا نُريد أن نشير إلى أنَّ للفلسفة عند المسلمين صورتين مختلفتين، كان القرن الرابع مُمَثِّلًا لهما أصحَّ تمثيل: إحداهما الصورة الفلسفية الخالصة، التي أُطلِق فيها للعقل حظه من الحرية، فلم تُقيِّده سياسةٌ، ولا عادةٌ، ولا دين، وأشهر الذين مثَّلوا هذه الصورة: أبو نصرٍ الفارابي، وأبو عليِّ بن سينا؛ فأمَّا الأول فقد أنفق حياته في القرن الثالث والرابع، ولكنَّ فلسفته لم تُعرَف إلَّا في القرن الرابع، وأما الثَّاني فقد أنفق حياته في القرن الرابع والخامس، وعاصر أبا العلاء، وهما — وإن لم يلتقيا — فلا شكَّ في أنَّ كليهما قد سَمع بصاحبه، وبما له من الآراء والمقالات، ولم نقتصر على هذين الرجلين؛ لأنَّهما فذَّان في الفلسفة الإسلامية لذلك العصر، بل حرصًا على الإيجاز وإيثارًا له.

هذه الصورة الفلسفية ظهرت في هذا العصر ناضجةً١٠ متقنة مطردة الأجزاء؛ لأنَّها لم تتكلف موافقة الدين، ولا مُصانعة السياسة؛ ولذلك جَحَدَت أمورًا كثيرة أثبتها الدِّين، كحشر الأجسام ونحوه؛ ولذلك حُكِم على أصحابها بالكفر والإلحاد، وأَشْهَرُ مَنْ حَكَمَ بذلك الغزاليُّ.

على أنَّ الْتجاء هؤلاء الفلاسفة إلى الأمراء والملوك الذين أَجَلُّوهم وفاخروا بهم، عَصَم نُفُوسَهم أن تُزهَق، ودماءهم أَنْ تُرَاق، ووفَّر عليهم ما كانوا يحتاجون إليه، من قُرَّة العين ونعمة البال.

الثَّانية: الفلسفة التي تكلفت مُلاءمة الدِّين ومُوافقته، بل حياطته والذود عنه، وهي علم الكلام، والذين مثَّلوا هذه الصورة في عصر أبي العلاء كثيرون، لا يُحصيهم العدُّ، فمنهم: الأشعري، والجبائي، والأسفراييني، والباقلاني، وغيرهم. وقد زَهَا علم الكلام قبل أن تزهو الفلسفة الخالصة؛ لما بيَّنا في الحياة الدينية من تقدُّم نشأته في تاريخ المسلمين، وأنَّ نَقْلَ الفلسفة لم يُنْشِئه، وإنَّما قوَّاه وغَيَّر شَكْلَهُ، وقد أنتجت هذه الصورة من الفلسفة الدينية نتيجتها الطبيعية، وهي: الانقسام والافتراق، واختلاف الرأي، وتباين الأهواء. ونظرةٌ في كتاب المِلَل والنِّحَل، وغيره من كتب المقالات، تُبيِّن عدد الفِرَق التي أنتجها علم الكلام للمسلمين، ولو أنَّ نتيجة الكلام وقفت عند هذا الحدِّ؛ لهان احتمالها، ولكنها تجاوزته إلى السيطرة على الحياة العملية، ففعلت بالأمة الأفاعيلَ كما أشرنا إلى ذلك في الحياة الدينية.

هناك صورةٌ ثالثةٌ للفلسفة عند المسلمين، يُمثلها القرن الرابع، ويتبرَّم بها أبو العلاء، وهي فلسفة المتصوفة.

الوهم في هذه الفلسفة قديم؛ فأكثر النَّاس يراها غُلُوًّا في الدين، واجتهادًا في تقديس الله، ويرفعون سندها حتى يصلوا به إلى عصر النبي وأصحابه.

والحق أنَّ تحليل التصوُّف الإسلامي غير يسير؛ لكثرة ما فيه من تركيبٍ وامتزاج، ولكنَّا نُشير إلى العناصر الأولى التي تتألَّف منها الفلسفة الصوفية عند المسلمين، فأوَّل هذه العناصر وأقدمها، عنصرٌ فلسفيٌّ يوناني هو وَحْدَةُ الوُجُود، ظهر هذا المذهب واضحًا عند اليونانيين في فلسفة الرِّواقيين، أصحاب زِينون، وهم المعروفون عند العرب باسم الرِّواقيين، وأصحاب الرِّواق، وأصحاب المظالِّ.

نشأت فلسفتهم لما فَشِلت فلسفة أفلاطون وأرستطاليس في تحقيق الصلة بين العالم ومُوجِده، فزعموا أنْ ليس في الوجود إلَّا قوةٌ واحدةٌ ذات وجهين: أحدهما عقلٌ صِرفٌ به الحركة، والآخر صورةٌ تظهر فيها الحركة. وعلى هذا فالمَوْجُود ومُوجِده شيءٌ واحدٌ في نفسه، وإن اختلف في الاعتبار، قالوا: وهذه القُوَّة متحركة أبدًا، وعن حركتها تنشأ هذه الظِّلال المُختلفة التي نُسمِّيها الخليقة، قالوا: وإذا كانت هذه الحركةُ واحدةً، فلا شَكَّ في أنَّها تَعُود بين حين وحينٍ إلى جوهرها؛ أي إنَّ هذه الظلال المختلفة، تعود إلى أصلها الأوَّل فلا يكون بينها اختلاف، ثُمَّ ترجع بعد ذلك إلى اختلافها بمُقتضى هذه الحركة الدَّائمة، فما يزال العالم في اتِّصال وافتراقٍ أبدًا.

وهذا المذهب هِنْدِيُّ النَّشأة، ظهر عند الهنود، قبل أن يَعرِف العالمُ فلسفةَ اليونان؛ فإنَّ البوذية من أهل الهند، يرون اتحاد العالم بمُوجِده، وأنَّه من حين إلى حينٍ يعود كُتلةً هائلة من النَّار، تتحرك حول نفسها. ولأهل الهند في ذلك أعاجيب؛ فإنَّهم يُوقِّتون المُدَّة من حياة العالم، بمائة ألف سنة، ويقولون: كُلَّما مرَّ هذا الأمد الطويل، عاد العالم كُتلةً من النار، ثُمَّ تتحدد نشأته ويعود فيه كل شيء إلى عهده، فأنا الآن أكتب هذا الكتاب، ولا شكَّ عند أهل الهند الأقدمين، في أنِّي سأعود بعد مائة ألف سنةٍ إلى تأليفه، على ما أنا فيه من حالٍ وطور، ومن زمانٍ ومكان! قال الرواقيون: وإذ كان أشرف وَجْهَي هذه القوة إنَّما هو العقل، فلا بد أن نحرص على الاتصال به؛ وذلك بأن نُروِّض أنفسنا على الفضيلة، وعلى هجران المادة وملاذها، ومن هنا أنشأ الرواقيون مذهبهم الشديد في الأخلاق.

العنصر الثاني من عناصر التصوف، مذهبٌ يونانيٌّ أيضًا، هو الإشراق.

يقوم هذا المذهب على القاعدة التي فرضها أفلاطون، من أنَّ هُناك عالمًا عقليًّا مُجرَّدًا يُماثل عالم المادة المُركَّب، ومن هذا العالم العقلي أُهبِطت النَّفس الإنسانية إلى عالم المادة لتُبْتلَى وتُمحَّص، فلمَّا جاء الإسكندريون، وزعيمهم أفلوطين، قالوا: إذا كان مذهب أفلاطون حقًّا ولا شك في أنَّه كذلك، فمن اليسير أن تتَّصل النفس بعالمها العقليِّ في أثناء الحياة المادية، وإنَّما سبيل ذلك أن يُصفَّى جوهر النفس، بهجران اللذَّة والإعراض عنها، وأخذ الجسم بأشدِّ أنواع الحرمان من ألوان الطعام والشراب، ثُمَّ حَصْر الفكر في موضوعٍ واحدٍ لا يتجاوزه ولا يتعداه. وذلك يستلزم من غير شكٍّ الاجتهاد في ألَّا تتصل المحسَّات بشيءٍ من عالم المادة، قالوا: فإذا تَمَّ للإنسان ذلك، وهو لا يتم إلا بعد مشقةٍ وجهد، فقد تطَّلعُ النَّفس على ما في العالم العقلي من جَمالٍ وصفاء، وقد تتَّصل بمُبدِعها، فتكون لها بذلك لذةٌ يُخطِئ مَنْ وصَفَها بلذَّة الإنسان، وفي كتب أفلوطين أنَّه قد جرَّب ذلك وشهده بنفسه.

وهذا المذهب أيضًا هندي؛ فمن المعروف عن نُسَّاك الهند الأقدمين، أنَّهم كانوا ينقطعون عن اللذات، ويعتكفون في كهفٍ مُظلِم، ويَضَعون الكمائم والصمائم في أفواههم وأنوفهم، وكذلك يُغَشُّون أبصارهم، ويَسُدُّون آذانهم، ويَصْدِفون عن المادة؛ ليتصلوا بالإله.

هذان العنصران نُقِلا إلى المسلمين في القرن الثَّالث، منسوبَيْن إلى أفلاطون وأرستطاليس، وغيرهما من الفلاسفة، فلمَّا أُضِيف إليهما شيء ظاهرٌ من الدِّين، بحيث تكون صورتهما غير منافيةٍ للإسلام، نشأ عن هذه العناصر الثلاثة مزاجٌ فلسفيٌّ خاص، هو الذي أظهر الحلَّاج والجُنَيْد، وغيرهما من متصوفة القرن الرابع. ولقد كانت المتصوفة أقرب إلى الشِّيعة منهم إلى أهل السُّنَّة، فظهر فيهم مذهب الباطنية، وكثر تأولهم للكتاب والحديث، وانتشر مذهبهم في العامة؛ فأدَّى إلى فنونٍ من الإباحة ومُخالفة الدِّين، واخترعوا أشكالًا للعبادة التي توصلهم إلى الله فيما يقولون، فنشأت طُرُقهم في الذِّكْر، واتخذوا الحشيش وسيلة إلى غايتهم، فكثرت منهم الحماقات والأباطيل، وضاق بهم أبو العلاء، فأشبعهم ردًّا ونعيًا وازدراء، كما سترى عند الكلام على اللزوميات ورسالة الغفران. من هذا تَعرِف أنَّ التصوُّف ليس مذهبًا إسلاميًّا خالصًا، وإنَّما هو مذهبٌ هندي، أخذ صبغة الفلسفة اليونانية عند الرواقيين والإسكندريين، ثم أخذ الصبغة الإسلامية في أيام بني العباس.

ولئن كان في المتصوفة قومٌ كثرت أضاليلهم، وشاعت عنهم الزندقة، وقالوا في الدِّين ما لا يقوله مسلم، فإنَّ فيهم قومًا بررةً عرف لهم أبو العلاء بِرَّهم، فاستثناهم من ذمِّه الشديد.

التاريخ والجغرافيا

يَجْمَع النَّاسُ هذين العلمين في قرنٍ؛ لأنَّهما يبحثان عن أشمل ما يُحيط بالموجودات من زمانٍ ومكان، فأمَّا أحد هذين العلمين، وهو التَّاريخ، فمن السَّهل أن نُثبِت قِدَم عهد العرب به؛ فإنَّهم عرفوه قبل الإسلام، إذا فهمنا منه رواية الحوادث واستظهارها، فإذا فهمنا منه تَدْوِينَها وكتابتَها، فالتاريخ لم يكن معروفًا عند العرب إلَّا منذ قامت دولة بني أمية، وقد زعموا أنَّ أوَّل مَنْ كَتَبَ فيه زياد ابن أبيه، ووهْب بن مُنبِّه، وكثر الكلام في ذلك واختلفت الظنون.

ولكن الذي لا شك فيه، أنَّ التَّاريخ قد كان يُدوَّن بالكوفة منذ ابتداء القرن الثَّاني، وكان تدوينه على طريقةٍ أدنى إلى السذاجة: يجلس الرَّاوي، فيُخبرنا بإسناده عمَّا كان في المغازي والفتوح والفتن، ويكتب تلاميذه، حتى إذا تمت روايته لغزاةٍ، أو فتنةٍ، أو فتح، كانت كتابًا يتناقله النَّاس ويروونه بالسند أيضًا.

لقد اختلفت على التَّاريخ أطوارٌ كثيرة، يهمنا منها طورُه في عصر أبي الْعَلاء، وهو طور الجَمْعِ والتأليف المستقصى. وينبغي أن نلاحظ أنَّ العرب إلى منتصف القرن الثَّالث، قلَّما كانوا يُعنَون بتدوين تاريخ غيرهم من الأمم، فلمَّا أقبل النصف الثَّاني لهذا القرن، نشأت كتبٌ للتَّاريخ العامِّ، أشهرها تاريخ الطبري، الذي ينتهي بحوادث سنة اثنتين وثلاثمائة، ولكنَّه يتوخَّى طريقتين تُكلِّفان الباحث عناءً؛ إحداهما: الرواية بالأسانيد، والثانية: رواية الحوادث الإسلامية بملاحظة السنين التي وقعت فيها. وفي ذلك من التشتت والاختلاف، ما يُكلِّف الباحث كثيرًا من الوقت والعناء.

على أنَّ من اليسير أن نَحْكُم بأنَّ عصر أبي العلاء هو العصر الذي أَزْهَرَ فيه التَّاريخُ عند المسلمين في جميع أقطارهم، فنشأ المسعودي، والبيروني، والبلخي، وغيرهم من المؤرخين. ولهذا العصر مزيةٌ خاصة، وهي كثرة الرحلة؛ فقلَّما رأيت مؤرخًا كَتَبَ ولم يرتحل من بلدٍ إلى بلد، ومن إقليم إلى إقليم، بل قلَّما رأيت عالمًا أو أديبًا لم يتنقَّل من الأقطار. وتعليل ذلك ميسور، وهو يدل على ما نحن بسبيله من إثبات التفوُّق العلمي للمسلمين في عصر أبي العلاء؛ ذلك أنَّ كل مَلِكٍ أو أميرٍ من المتغلبين قد كان يَجْمَع حوله طائفةً غير قليلةٍ من العلماء والأئمة، وينشئ لهم المكاتب والمدارس، ويُجْرِي عليهم الأرزاقَ، ويُكلِّفهم أنْ يَعملوا على إظهار تفوُّق مدينته أو مملكته على غيرهما من المدن والممالك، فلم يكن بدٌّ لطالب العلم أن يرتحل إلى أكثر هذه البلاد ليجمع ما عند أهلها؛ ولذلك ارتحل المسعودي إلى بلاد الفرس والهند، وأطراف الصين، ثم إلى بلاد العرب، ثم إلى بلاد السودان والزنجبار، ثُمَّ عاد إلى العراق، وارتحل منها إلى الشام والجزيرة ومصر، وفي ذلك يقول:

نُطوِّف آفاق البلاد فتارةً
إلى شرقها الأقصى وطورًا إلى الغربِ

ومن الواضح أنَّ المؤرخ إذا كتب بعد الرِّحلة، كانت لكتابته قِيمةٌ خاصةٌ ليست لغيره من المقيمين؛ ولذلك كثُرَ في كلام المسعودي الإخبار عما رأى من الأعاجيب، وما ابتلى من العادات والأخلاق، وخصلةٌ أثرت في التَّاريخ أثرًا ظاهرًا، وهي درس المؤرخين للعلوم الفلسفية، فإنَّ هذا الدرس قد منحهم شيئًا من النقد والتعليل، اندفع بهم إلى التعرُّض لشرح المؤثرات الطبيعية والحوادث الجوية؛ كالزلازل والبراكين، وكالإقليم والمد والجزر، ونحو ذلك مما هو منبثٌ في كتب المسعودي.

ولعلم الفلك تأثيرٌ خاصٌّ في التَّاريخ، يُلاحِظه من قرأ مُروج الذَّهب للمسعودي، والآثار الباقية للبيروني، ونحوهما.

في هذا العصر الذي أزهر فيه التَّاريخ أزهر أيضًا علم تقويم البلدان، فكتب ابن حوقل والهمداني، وابن خرداذبة، والإصطخري، كُتُبَهم المشهورة ذات النفع الكثير. وقلَّما تَجِد في هذا العصر مؤرخًا إلا وله بتقويم البلدان علمٌ تامٌّ؛ لذلك كانت الكتب في الفنين مُتقَنةً إتقانًا يُلائم حالَ العصر الذي فيه أُلِّفَتْ.

إزهار الجغرافيا والتاريخ في عصر أبي العلاء، هو الذي أطلق لسانَهُ بهذا البيت المملوء ثقةً بالنفس، وصدق رأيٍ فيها:

مَا مَرَّ فِي هَذِهِ الدُّنيا بَنُو زَمَنٍ
إلَّا وَعِنْدِيَ مِنْ أَخْبَارِهِم طَرَفُ

وهو الذي ملأ رسائله ولزومياته بالأنباء التَّاريخية، كما سَنُبيِّن ذلك عند الكلام عليهما.

الهيئة

اختصصنا هذا الفنَّ بكلامٍ خاصٍّ؛ لشدة تأثيره في حياة أبي العلاء، ولهذا الفنِّ عند المسلمين مصادر أربعة؛ أولها: ما ورثوا عن العرب في بداوتهم من مقالاتهم في النُّجوم. والثاني: ما ترجموا عن أهل الهند أيام المنصور. والثالث: ما ترجموا عن الفُرْس أيام المنصور أيضًا. والرابع: ما ترجموا عن اليونان أيام الرشيد والمأمون. ولكلٍّ من هذه المصادر تأثيرٌ خاصٌّ، فأمَّا المصدر العربي فقد أثَّر في الأدباء تأثيرًا غير قليل، حين اتخذوا من أساطير العرب في النُّجوم، فنونًا من القول يُصرِّفونها في الجدِّ والهزل، ويدلون بها على علمهم بالأدب العربي وفنونه، وأبو العلاء أشد النَّاس تأثرًا بهذا المصدر كما سَتَرَى.

وأمَّا المصدر الهندي والفارسي فهو مادة علم النجوم عند المسلمين، وإنَّما نُريد بهذا العلم تلك الصناعة التي كان يرتزق بها النَّاس ويخدعون بها العامة، حين يُحدِّثونهم بأنباء الغيب، ويتكهنون لهم عما سيأتيهم به مستقبل الأيام، وقد كان أبو العلاء بهذه الصناعة شديد الضيق، يذمها بغير حساب.

وأمَّا المصدر اليوناني، فقد عَلَّم المسلمين علم الفلك الحقيقي، وما يستتبعه من رصدٍ للكواكب، وتوقيتٍ للحوادث، وقياس للزمان! وقد أثر هذا الفن في التَّاريخ والجغرافيا كما قدمنا، وأمدَّ أبا العلاء بآراء فلسفيةٍ نحن مُبيِّنوها في المقالة الخامسة، أمَّا الكتاب الذي يعتمد عليه المسلمون في هذا الفن؛ فهو: المجَسْطِيُّ لبطلميوس، أُصلِحت ترجمته أيام الرشيد، فظهرت آثاره الحقيقية أيام المأمون، حين قِيسَت له الأرض، وأزهر هذا الفن في القرن الرابع والخامس، ولا سيما بمصر في ظل العُبيديين.

الآداب

ينبغي أن نفرِّق هنا بين الآداب وعلومها، فنريد بالآداب الشعر والخطابة والرسائل، وما يتصل بها من الإنشاء المونق البليغ، ونريد بعلوم الآداب النقد والبيان، وعلوم اللغة كالنحو والصرف، وهذا الفن الذي يجمع طرائف المنظوم والمنثور؛ ليكون حفظها وقراءتها مُقرِّبَيْنِ لمَلَكة البيان، ونحن مبتدئون بالبحث عن الآداب، ثم مختتمون هذا الفصل بالبحث الموجز عن علومها.

الشعر

يطول بنا القول إنْ حاولنا أنَّ نُفصِّل حياة الشعر في عصر أبي العلاء، والمقارنة بينها وبين حياته قبل هذا العصر وبعده، وليس ذلك إلينا، وإنَّما هو إلى مؤلف يضع لذلك كتابًا خاصًّا.

أما نحن فنريد أن نُثبت أنَّ الشِّعر قد كان في هذا العصر راقيًا في لفظه، ومعناه، ومقداره.

فأما رقيه اللفظي؛ فالدَّلالة عليه لا تُكلِّفنا إلا لفت القارئ إلى ما تحتويه دواوين الشعراء في هذا العصر، وإلى ما تجمعه يتيمة الدهر للثعالبي: من شعرٍ صحَّت أساليبه، ورصنت تراكيبه، وتوسطت ألفاظه، فلم تصل إلى الحوشية، ولم تسقط إلى الابتذال. ولا بد لنا من الاعتراف بأنَّ صناعة البديع التي بدأ الحرص عليها يظهر في شعر مُسلم بن الوليد، ويشتدُّ في شعِر أبي تمام، قد عظم أثرها في شعر هذا العصر، فما تكاد تخلو منها قصيدةٌ؛ إلا أنَّها على كثرتها لم تُفسد الشِّعر، ولم تذهب برونقه، بل كانت في أكثر الأحيان مُجمِّلةً له ومُحسِّنةً لديباجته.

وكذلك لا بد من الإشارة إلى أنَّ انتشار العلوم الفلسفية، وحرص الشعراء على درسها، قد أثَّرا في لفظ الشعر، فأكسباه صبغةً أدنى إلى الاقتصاد، وأبعد عن الفضول، بحيث يكون اللفظ على قدر ما قُصِد أن يُدَلَّ به عليه من المعنى، كأنَّ صناعة المنطق قد ملكت مزاج الشعراء، فألزمتهم أن يتخيَّروا الألفاظ التي تدل على المعاني، من غير تفاوتٍ ولا فضول.

هذا التَّأثير في نفسه حسنٌ مقبول، لولا أنَّه يُؤدِّي مع طول الزَّمان إلى الغموض والإبهام؛ فما يزال الشاعر يتخيَّر اللفظ الدقيق للدَّلالة على المعنى الدَّقيق، حتى تكثر في شعره الألغاز. وذلك هو الذي كان في العصر الثَّالث لبني العباس.

ولا بد أيضًا من الدَّلالة على أنَّ درس العلوم الفلسفية قد أجرى في الشِّعر اصطلاحاتٍ علميةً، وأسماء لم يكن له بها عهدٌ من قبل؛ كالجوهر والعرض، والطبائع الأربع، وكأرستطاليس وجالينوس وأبقراط، وغير ذلك، مما يفيض به شعر المتنبي، وابن العميد، والرضي، وغيرهم.

أمَّا المعاني فلا شكَّ في أنَّها تتأثر برُقيِّ العلوم من جهة، والحضارة من جهةٍ أخرى، وليس لأحدٍ أنْ يشكَّ في أنَّ المسلمين قد بلغوا أوفر حظوظهم من العلم والحضارة في ذلك العصر، فلم يكن بدٌّ من أن ترقى معاني الشعر، ترقَى لما تُنْشِئُ الحضارة في النُّفوس من تصوراتٍ لم تكن مألوفةً، وترقَى لما تُحدِث الفلسفة في العقول من دِقَّةٍ لم تتعوَّدْ من قبل، وترقى لما تُودع العلوم المختلفة النُّفوس من الحقائق العلمية التي يُخطئها العدُّ.

غير أنَّ هناك شيئًا لا بد من النَّظر فيه، وهو أنَّ الشِّعر قد كان يعتمد في رقيه أيام بني أمية، وفي العصر الأول لبني العباس، على قُوَّة الخلفاء وكرمهم، وجاه الوزراء والأمراء وسخائهم، وقد ذهب جلال الخلافة من آسيا في عصر أبي العلاء، وقلَّ الجود بالمال على الشعراء؛ لاستعجام الملوك والوزراء، فكيف لم يُؤثِّر ذلك في الشِّعر؟! ولعلنا لا نحتاج إلى الجواب عن هذا، بعد ما قدمناه من أنَّ هذا الانحطاط السياسي قد رقى بالآداب ولم يضعفها. على أنَّ من الخطأ القول بأنَّ حظَّ الشُّعراء من مال الملوك والأمراء قد قلَّ في عصر أبي العلاء؛ فإنَّ قلَّته وكثرته أمران نسبيَّان، كما يقول أهل المنطق، فهما يتأثران بالحياة الاقتصادية تأثرًا ظاهرًا؛ فألف دينار يأخذها الشاعر من ابن العميد مثلًا، في بلدٍ ضيِّق الرقعة قليل الثروة، يشكو عامته الفقر، تعدل عشرة آلافٍ يأخذها شاعر آخر من الرشيد، وهو صاحب تلك المملكة ذات الرُّقعة الواسعة، والثروة الضخمة، والترف الكثير، بل إنَّ التَّكَسُّب بالشِّعر قد كثر في عصر أبي العلاء كثرةً فاحشة، مصدرها كثرة الملوك والأمراء، واحتياج كلٍّ منهم إلى المُدَّاح والمُقرِّظين، فكادت تعود إلى الشِّعر في هذا العصر منزلته السياسية أيام بني أمية، وإنْ تغيَّر موضوع السياسة؛ فقد كان في أيام بني أمية نزاعًا بين أحزابٍ دينية، أمَّا الآن فهو نزاعٌ بين ملوكٍ متغلبين لا يكادون يُحصَون.

من هذا كله، يظهر رقي الشعر في مقداره؛ أي: كثرة ما نَظَمَ الشُّعراء في ذلك العصر. وحسبك أن تعلم أنَّ ابن عبادٍ بنى قصرًا فهنأه به خمسون شاعرًا، وأنَّ حمارًا مات لصاحبٍ له، فرُثِيَ من الشُّعراء المنقطعين إليه بأكثر من خمسين قصيدة، كلُّ ذلك يدل على كثرة ما نُظِم من الشِّعر في ذلك العصر، وعلى شدة القوة الشِّعرية في نفوس الشُّعراء.

أجل، لا نستطيع أن نقول إنَّ الشُّعراء قد أحدثوا في الشِّعر فنًّا حديثًا لم تعرفه الآداب العربية من قبل، بل هم لم يتجاوزوا الفنون القديمة المعروفة في العصر الأول من بني العباس، لكنَّ هذه الفنون قد ارتقت في أيام أبي العلاء رقيًّا لا ينكره إلا رجلان؛ أحدهما: ظالم يتعمد الغضَّ من شعراء هذا العصر؛ لأنَّهم وُجِدوا مكرهين في أيامٍ فسدت حياتها السياسية، والآخر: جاهلٌ لم يدرس الأدب العربي، ولم يُحسِن الاطلاع عليه.

وبعد، فمن الذي ينكر علينا أنْ نقول: إنَّ فنًّا جديدًا من فنون الشعر قد حَدَثَ في أيَّام أبي العلاء، ولم يعرفه النَّاس من قبل؟! وهو الشعر الفلسفي الذي أنشأه أبو العلاء نفسه، فمَن الذي يستطيع أن يدلنا على ديوانٍ أُنشِئ لا لغرض إلا لشرح الحقائق الفلسفية وحدها، في العصور الإسلامية الأولى إلى أواخر القرن الرابع؟! ذلك رأيٌ نراه، وسنثبته عند الكلام على اللزوميات.

هناك اعتراضٌ قَيِّم، نبدأ نحن بإيراده والإجابة عنه، قبل أن نُتَّهَم بنسيانه، أو الغفلة عن مكانه، وهو أنَّ رقي الشِّعر يستلزم قوةً في الأمة تُضاعف حظَّ الخيال من الحركة، وتبسُط ظِلَّه إلى ما وراء الأشياء الواقعة، والأمة الذَّليلة لا يمكن أن يكون لها شعرٌ راقٍ، إلا في فنِّ التَّضرع والاستعطاف.

ذلك حقٌّ لا شكَّ فيه، ولكن من الخطأ القول بأنَّ الأمَّة الإسلامية قد كانت في ذلك العصر ذليلةً، بل قد كانت عزيزةً قويَّة، وإنَّما أصابها الفساد السياسي من جهة افتراقها وانقسامها.

فأمَّا الحقُّ فهو أنَّ تلك الدول الصغيرة، كانت في أنفسها حريصةً على القوة طامعةً في المجد، مُجتهدةً في أنْ تستأثر بالسلطان، وكلُّ هذه خصالٌ تملأ الملك، أو الأمير رجاءً وأملًا، ولا شكَّ في أنَّ مَنْ حوله من الشُّعراء إنَّما ينطقون بلسانه، ويُعبِّرون عمَّا في نفسه، فهم يُمثِّلون بشعرهم أمانيه وأطماعه.

ومما لا شكَّ فيه، أنَّ هذا العصر قد كان عصر نهضةٍ أعجمية، أرادت فيها الأمم التي خَضَعَت لسلطان العرب أنْ تستردَّ مجدها القديم، واتخذت الأدب العربي وأدبها الخاص طريقًا إلى هذه النهضة، كما اتخذت الحرب والقتال طريقًا إليها أيضًا. ومن هنا نُظِمت تلك الأشعار القصصية الفارسية في الشاهنامة، مع أنَّ الشِّعر القصصي لم يكن يُنظَم في العصور الماضية تكلفًا ولا تصنعًا، وإنَّما كان أثرًا لازمًا للنهضة، والحرص على التحدث بذكر المجد القديم، واستحضار الآمال المستقبلة.

إذن فليس من سبيلٍ إلى الرَّيب في أنَّ رقي الشِّعر لم يكن في عصر أبي العلاء شاذًّا عن القواعد التي تقوم عليها حياة الآداب، ومهما تكن القواعد النظرية موافقةً لهذا الرأي، أو مُخالفة له، فإنَّ الواقع الذي لا جِدَال فيه، يشهد بصحته، ويعلن أنَّه لا يحتمل النزاع، وإلا فأيُّ عصرٍ بلغ من الافتنان في التَّشبيه والخيال، والحرص على تحقيق المعاني وتصحيحها، وعلى المزج الجميل بين حقائق العلم، وخواطر الخيال، مبلغ هذا العصر؟!

الخطابة

يجب أن نعترف بأنَّ الخطابة لم تكن لها حياةٌ في عصر أبي العلاء، فإنا لا نعرف خطيبًا مشهورًا نابهًا، كالخطباء الذين عرفناهم أيام بني أمية، أو في صدر الإسلام، ولكنَّ ذلك لا يدل على انحطاط الآداب في ذلك العصر؛ لأنَّ الخطابة لم تُعرَف أيضًا في العصر العباسي الأوَّل، مع أنَّ الآداب كانت راقيةً فيه من غير نزاع.

سقوط الخطابة في ذلك العصر معقولٌ؛ فإنَّ الخطابة لا ترقى إلا حيث يُوجَد الشُّعور والحرية، وحيث يأخذ الشعب منها نصيبًا موفورًا. ذلك شيءٌ فرغ النَّاس من إثباته للخطابة والتمثيل معًا، فإذا لاحظنا ما قدمناه من أنَّ الشَّعب في أيام بني العباس لم يعرف الحرية ولم يتذوَّقها، لم ننكر انحطاط الخطابة وخمول شأنها.

نعم؛ إنَّ الخطابة من شعائر الإسلام في الجُمَع والأعياد، ولكن ما أسرع ما وُضِعت لها ألفاظٌ خاصةٌ يحفظها الخطباء ولا يَعْدونها، على أنَّ الخطابة إنِ امَّحَتْ في أيام بني العباس، فقد خَلَفَها فنٌّ من فنون القول، كانت له قيمةٌ خاصة، وهو فن المناظرة والجدال بين المتكلمين والفقهاء.

أخذ هذا الفن أشكالًا مُختلفةً باختلاف العصور، ولكنَّ الحرص فيه على البلاغة والإصابة، وإعلان الفصاحة، والمقدرة اللسانية لم يفارقه إلى أيام أبي العلاء.

الكتابة

ترى مدرسةُ الآداب في الكتابة لعهد أبي العلاء رأيها في الشِّعر؛ أي إنَّها انحطت عن منزلتها التي كانت لها أيام الرشيد والمأمون، ونرى أنَّها لم تَنْحَطَّ ولم تضعف، وإنَّما قويت وارتقت، وأصبحت طرقها ممهدةً وأعلامها مرفوعةً، ومناهجها واضحةً معروفة. ولا بد لنا من أن نبحث عما تريد مدرسة الآداب من لفظ الرقي؛ لنعرف: أهو في نفسه حقٌّ أم باطل؟ فإن يكن حقًّا، فهل للكتابة منها نصيب؟

إذا أرادت مدرسة الآداب أن تشرح الرقي أو الانحطاط، في النظم والنثر، اصطنعت ألفاظًا عامةً مبهمة غير محدودة المعنى، ولا واضحة المدلول، كرقة الديباجة، وجزالة المعرض، وصفاء الأسلوب، ولكنَّ هذه الألفاظ تختلف معانيها باختلاف الأشخاص والأذواق، فربما كان البيت من الشعر أو الفصل من النثر، رقيق الديباجة، جزل المعرض، رائق الأسلوب عند فلان، وهو عند غيره فجٌّ رذل، ومبتذلٌ سفساف.

ومن هنا تناقض المتقدِّمون في أحكامهم على فنون القول وقائليها، فكان ابن قتيبة يحكم بجمال اللفظ، وقلَّة الغناء في المعنى، على قول القائل:

ولما قضينا من منى كل حاجةٍ
ومسَّح بالأركان من هو ماسحُ
وشُدَّت على حدب المطايا رحالنا
فلم ينظر الغادي الذي هو رائحُ
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
وسالت بأعناق المطي الأباطحُ

فلما جاء أبو هلالٍ خالفه في ذلك واتَّهم ذوقه، ثُمَّ جاء عبد القاهر، فأطال في استحسان البيت الأخير، وكذلك كان العتبيُّ يحكم على قول جرير:

إنَّ الذين غدوا بِلُبِّكَ غادَروا
وشلًا بعينك ما يزال معينا
غيَّضن من عبراتهن وقلن لي
ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟!

فأنكر عليه أبو هلالٍ ذلك أشد الإنكار، وقرَّظ البيتين أيما تقريظ، ومصدر ذلك الاختلاف، أنْ ليس للنقد عندهم قواعد محدودةٌ، بل هو موكولٌ إلى الذَّوق، والذوق يتبع المزاج لطافةً وكثافة، ويجري معه اعتدالًا وانحرافًا، وما وُكِل أمر العلم إلى الذوق وحده إلا اضطرب وكثر الافتراق فيه، ألم ترَ أنَّك تؤثر الشيء الآن وتمقته بعد حين؟ وإنَّما سبيل العلم إن خضع للذوق واستبداده، أن يكون كالأزياء تتبدل، ويكثر فيها البدع من يومٍ إلى يوم.

ولسنا نريد أن يقف العلم عند طورٍ لا يعدوه وحدٍّ لا يتجاوزه، وإنَّما نريد أن يسعى إلى الرُّقي ثابت القدم رزين الحركة، هادئًا، لا يستخفه الطيش. إذن؛ فخير القول ما أحسن لفظه مطابقة معناه، وأجاد معناه مُطابقة غرضه، على أنْ تكون الألفاظ مألوفةً غير مبتذلةٍ ولا نابية، وعلى ألا تخرجها الصناعة إلى التكلف الممقوت والتعمل المرذول، فإذا اتفقنا على أنَّ هذا هو حد الكلام الجيد، فليس من موضع للنزاع في أنَّ الكتابة لعهد أبي العلاء لم تنحَطَّ عن هذه المنزلة، ولم تتجاوز هذا القدر، فإن ضربت الأمثال بطائفةٍ من المتكلفين المتعمِّلين، فلكلِّ عصرٍ جيدٌ ورديء، وفيه نابهٌ وخامل، وأرذال الكُتَّاب والشعراء، وأفدام المناظرين في العصر الأول لبني العباس كثير، ولولا الرَّديء ما عُرِف الجيِّد، ولولا الخامل ما ظهر أمر النَّابه، ولولا المفحم ما بان فضل الفصيح.

وفي عصر أبي العلاء كُتَّاب الهزل والجد، والمتصرفون في فنون القول وألوان الكلام، لهم الرسائل الطوال غير مُمِلَّة، والفصول القصار غير مُخلَّة، ولهم الكتب تنفذ ألفاظها إلى القلوب فتؤثِّر فيها، غير مردودةٍ عنها، ولا مخطئةٍ لها، يَعِدون فكأنَّما وَعْدهم وفاءٌ بالمثوبة، ويُوعِدون فكأنما وعيدهم تعجيلٌ بالعقوبة، وهم بعد ذلك أصحاب الانسجام والائتلاف. فما ألحان الطير، ولا أنغام العُود، بألطف إلى نفسك مدخلًا، ولا أحسن في قلبك موقعًا من كلامهم، ينتسق انتساق الطاقة من الزهر، فما تدري أيفتنك ائتلافه، أم رقة لفظه، أم دقة معناه. ثم هم أهل النادرة الطريفة والبصرية الثاقبة، إذا نقدوا أو تندَّروا، فكأنَّما ألفاظهم حماتُ العقارب إلا أنَّ إصابتها محققة، والبرء منها غير ميسور.

لسنا نتخيل، أو نتحدث عن الأماني؛ فإنَّ بين أيدينا من رسائل البديع والصابئ، وابن عبَّادٍ وابن العميد، ما ينطق بالحجج على ما نقول.

سيقولون: آثروا السجع وحرصوا عليه، واصطنعوا البديع وتكلفوه. نعم؛ لقد آثروا السجع واصطنعوا البديع، ولكن ذلك لم يَعِبْهم، ولم يَعْدُ بهم طور القصد والاعتدال، إنَّما السبيل على قومٍ ورثوهم فلم يُحسِنوا وراثتهم، وخلفوهم فلم يُجِيدوا خلافتهم.

ولعمري ما كان من الإنصاف أن يُؤخَذ المحسن بذنب المسيء، ولا أن تُحمَل جناية الحديث على القديم البريء، وربما أُخِذ كُتَّاب هذا العصر وشعراؤه، بل فلاسفته وحكماؤه، بتجاوز الفضيلة إلى الرذيلة، وبالاستهتار والابتذال، ولكنَّ لهذا الذم قومًا يأخذون به ويعاتبون عليه، غير مدرسة الآداب؛ فأمَّا هذه فليس لها أن تُقحِم في جَودة الصناعة الفنية فسادَ خُلُق، أو ضَعْفَ دِين.

العلوم الأدبية

سبق العصرُ العباسيُّ الأولُ إلى الجمع والتدوين، وإلى أخذ اللغة وآدابها الخالصة عن أهل البادية من الأعراب، وإلى استنباط النحو والصرف والعَروض والقافية، وتأليف الكتب الممتعة في ذلك كله، ولكنَّه لم يزد على أنَّه عصر جمعٍ وروايةٍ، وعصر تأليفٍ وتدوين. فأمَّا العصر الثاني فهو عصر البحث والفكر والاجتهاد الشخصي، وإعمال العقل في الانتفاع الصحيح بهذه المادَّة المجتمعة.

لذلك نشأت فيه فنونٌ من العلم، وضروبٌ من الكتب لم تكن معروفةً في العصور التي سبقته، أخصُّ هذه الفنون فنُّ البيان،١١ أو فن النقد، أو فن البلاغة. لم يكن هذا الفن معروفًا عند العرب قبل العصر الثاني لبني العباس، ومعنى ذلك أنَّهم كانوا إذا أطلقوا لفظ البيان أو النقد أو البلاغة، لم تنصرف هذه الألفاظ إلى علمٍ خاصٍّ أو اصطلاحٍ معروف، وإنَّما كانت تنصرف إلى معانيها اللغوية.

وكذلك كانت ألفاظ المجاز، والتشبيه، والتمثيل، والكناية، وغيرها، من اصطلاحات هذا الفن، فأمَّا أنَّ أبا عبيدة معمر بن المثنى قد ألَّف كتابًا سماه «مجاز القرآن» فليس يدل على أنَّ أبا عبيدة قد كان يعرف علم البيان بحدوده وأصوله.

وإنَّما كان لفظ المجاز عند أبي عبيدة، لفظًا مُبهمًا غير محدود، وقد قرأنا قطعةً من هذا الكتاب مخطوطةً بدار الكتب الملكية، فإذا هو كتابٌ في اللغة توخَّى فيه أبو عبيدة أن يجمَعَ الألفاظ التي أُرِيدَ بها غيرُ معناها الوضعي، من غير أن يفرق بين أنواع المجاز، ولا أن يلاحظ شرائطه وقُيوده، ولقد سُئِل مرةً عن قول الله عز وجل: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فقال: هو مجازٌ؛ كقول امرئ القيس:

ومسنونةٌ زرقٌ كأنياب أغوال

ولو أنَّه سُئِل عن تفصيل هذا المجاز، وبيان نوعه وقرينته، لما وجد إلى الإجابة من سبيل؛ لأنَّ هذا العلم لم يكن في أيامه معروفًا، وكذلك لا يدل كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب الشعر والشعراء بلابن قتيبة، وكتاب الكامل للمُبرِّد، إلا على أنَّ القوم قد كانوا يَلمَحون هذا الفن من بُعد، وتقصر بهم أيامهم دون الوصول إليه، على أنَّ المبرِّد وابن قتيبة، قد أدركا العصر الثَّاني وعاشا فيه، إنْ لاحظت قاعدتنا في التَّقسيم لأيام بني العباس.

وعلى الجُملة، فقد كانت حياة الآداب العربية في القرن الثَّالث تنبئ بوضع هذا الفن، وذلك حين كثر الجدال بين أنصار الشعر القديم من أئمة اللغة والنحو، وأنصار الشعر الحديث من الظُّرفاء والأدباء والشعراء أنفسهم، وحين كثرت المناظرة في إعجاز القرآن ووجوهه، فكل هذه المناقشات دعت إلى البحث عن أيِّهما أحق بالرعاية، أهو اللفظ أم المعنى؟ وما وجوه حُسْن الكلام؟ وما حقيقة البلاغة؟ وما الفصل بينها وبين الفصاحة؟

نشأت هذه المسائل، وتنازع فيها أهل الأدب فيما بينهم، وتناولها المتكلمون، فكتب الجاحظ، والنَّظَّام في إعجاز القرآن ووجوهه، وكان النَّظَّام لا يرى أنَّ القرآن مُعجزٌ لبلاغته أو فصاحته، ويرى أنَّ العرب قد كانوا قادرين على أن يأتوا بمثله، ولكن الله صرفهم عن ذلك تصديقًا لنبيه، فليس القرآن عنده هو المعجز، وإنَّما المُعجز صرف النَّاس عن محاكاته.

أحدثت هذه المقالة نوعين من التأثير؛ أحدهما: عناية خصوم النَّظَّام من المتكلمين والأدباء بالردِّ عليه، فكانت هذه العناية مع غيرها من مسألة الخلاف في تقديم الشعر المحدث أو القديم، منشأ علم البيان. الثاني: أنَّ طائفةً من ضعاف الإيمان، مالوا إلى مقالة النَّظَّام ميلًا عمليًّا، فكتب بعضهم كُتبًا بنقد القرآن والاعتراض عليه، وإغراء خصومه به؛ كابن الراوندي، الذي حُكِم عليه بالإلحاد، وأشبعه أبو العلاء في رسالة الغفران ذمًّا وقدحًا، نبحث عنهما عند درس هذا الكتاب، وكَتَبَ آخرون كُتبًا عارضوا بها القرآن نفسه، ومنهم المتنبي — إن صح ما روى المؤرخون — وأبو العلاء كما سيُرَى في غير هذا الموضع.

ومهما يكن من أمر الخلاف في إعجاز القرآن، وتفضيل الشعر القديم أو الحديث، فقد نشأ علم البيان والبديع في أواخر القرن الثَّالث، وكانا علمًا واحدًا في عصر أبي العلاء.

رأينا ابن المعتز قد استقصى ما في الشعر من المحسنات؛ وألَّف كتاب البديع، ورأينا قُدامة قد ألَّف كتاب نقد الشعر، وكتاب نقد النثر، ثم رأينا أبا هلالٍ يُؤلِّف كتاب الصناعتين، ثُمَّ كان من رُقي هذا الفن بكتابي عبد القاهر، وانحطاطه بكتاب السَّكاكي ما لا نعرض له الآن.

وقد ظهر في هذا العصر نوعٌ آخر من التآليف في النقد، وهو نوع الموازنة، وإنَّما نشأ هذا النوع حين كثر الاختلاف في تقديم الشعراء المحدثين بعضهم على بعض؛ فكتب الآمدي الموازنة بين الطائِيَّيْن: أبي تمامٍ، والبحتري. وكتب الجرجاني الوساطة بين المُتنبي وخصومه، وكتب الصاحب ابن عبَّادٍ رسالته في نقد المتنبي، وكذلك كتب الحاتمي رسالته في سرقات المتنبي، إلى غير ذلك من الكتب التي تحفظها المكاتب والأثبات. وبالإيجاز، كانت مسألة إعجاز القرآن، وتقديم المحدثين أو العرب، منشأ علم البيان، وكان اختلاف النَّاس في تقديم الشعراء المحدثين بعضهم على بعض، منشأ الموازنة ونقد الشعر خاصة. وليس ينبغي أن ننسى نصيب العلوم الفلسفية من التأثير في ذلك، فهي التي قوَّت في الأدباء ملكة النَّقد، وأعانتهم على وضع الحدود العلمية الصحيحة.

اللغة

لهذا العصر أيضًا ميزةٌ خاصة، وهي وضع المعجمات التَّامة الصحيحة المؤلفة على طرقٍ سهلةٍ مُيسَّرة، وربَّما كان من الحق أنَّ الخليل ألَّف كتاب العين في العصر الأول، ولكن من الحقِّ أيضًا ألا نغفل عمَّا أصاب هذا الكتاب من النقد والاعتراض، حتى اجتهد بعض الرواة في تبرئة الخليل منه.

فأمَّا هذا العصر، فقد كتب فيه الأزهري تهذيبه، وابن دُريدٍ جمهرته، وابن فارس مُجمله، والجوهري صِحَاحَه؛ وكل هذه كُتبٌ حسنة الوضع جَيِّدة التأليف. ولسنا نزعم أنَّ أهل هذا العصر هم الذين انفردوا بالتأليف في اللغة، وإنَّما نقول: إنَّهم جمعوا ما تفرق من صغار كتب الأولين، جمعًا مُرتَّبًا سهَّل درسها وحفظها من الضياع، وما ذلك بالشيء اليسير.

الرواية

كذلك كانت الرواية في العصر الأول حيَّةً راقيةً صحيحة، ولكنَّها كانت مُفرَّقة مبعثرة، فكان الأديب يضع صغار الكتب في الموضوعات المختلفة، ومن الواضح أنَّ ذلك يكلف الطالب مشقة الجمع والتحصيل، فأمَّا أهل هذا العصر فقد جمعوا مفترقها، وألفوا بين مختلفها، فظهر في المشرق كتاب الأغاني، وفي المغرب كتاب العقد الفريد. ومن الفضول أن نعرض لوصف هذين الكتابين. وكذلك ألَّف أبو هلالٍ ديوان المعاني، وألَّف الثَّعالبيُّ يتيمةَ الدهر، وألَّف غيرهما الكثير الممتع من أمثال هذين الكتابَين.

النحو والصرف

انتصف القرن الثالث وقد تَمَّ وضع هذين العِلْمين، وظهرت فيهما الكتب القيمة لعلماء الكوفة والبصرة، ولكنَّ عصر أبي العلاء قد كان عصر التأليف بين هذين المذهبين، كما كان عصر الفلسفة اللغوية؛ ففيه ظهر أبو علي الفارسي، وأبو سعيد السيرافي، وأبو الفتح بن جني. والنَّاظر في كتاب الخصائص لابن جني هذا يعرف إلى أي حدٍّ بلغ المسلمون من الفلسفة اللغوية الصحيحة؛ فقد بحثوا عمَّا بين أصوات اللغة، وأصوات الطبيعة من المحاكاة، وعمَّا بين الألفاظ ومدلولاتها من التَّشابه، وبحثوا عن الترادف والاشتراك، وعن علل التصريف والإعراب، ودخلت الفلسفة اليونانية إلى كتبهم فأحسنت تقسيمها، وترتيب حدودها.

العروض والقافية

لم يُهمَل هذان الفنَّان في عصر أبي العلاء، بل عُنِيَ بهما كبارُ القوم، فألَّف فيهما الصاحب ابن عبادٍ وغيره كتبًا كثيرة أثَّر درسُها في نظم أبي العلاء ونثره، كما سنعرف ذلك في المقالة الرابعة.

الخط

أما الخط، فذِكْر ابن مقلة وابن هلالٍ من نوابغ الكُتَّاب في هذا العصر يُغني عن الإطالة في الدلالة على رُقيِّه، وشدة العناية بتجويده أيام أبي العلاء.

ها نحن أولاء قد فصَّلنا القول في عصر أبي العلاء تفصيلًا تامًّا فأحطنا بأطرافه، وألممنا بما كان فيه، من خيرٍ وشرٍّ، ومن حسنٍ وقبيح، وظننا أنا قد استطعنا أن نرسم منه صورةً واضحة تميِّزه في نفس القارئ تمييزًا حسنًا.

فإن نكن قد وُفِّقنا إلى ذلك فقد سهُل علينا بعد هذه الصورة أن نفهم أبا العلاء، ربما أنكرت علينا الإطالة، وكثرة التفصيل، ولكنَّا في الحقيقة نكاد ننكر على أنفسنا الإيجاز، وشدة الاختصار، فليس الغرض من هذا الكتاب، إلا أنْ نفهم أبا العلاء حق الفهم، ونعرف الصلة بينه وبين عصره، وذلك يقتضي أن نُلم بكل ما ألممنا به في هذه المقالة. وإذ قد فرغنا من ذلك فلنختم هذه المقالة بكلمةٍ موجزةٍ عن بلد أبي العلاء.

مَعَرَّة النُّعْمَان

ليس من شكٍّ عند أئمة اللغة، وأصحاب المعاجم، والكتب الجغرافية، وأبي العلاء نفسه في أنَّ هذا البلد يُسمَّى المَعَرَّة، بميم مفتوحة، تليها عينٌ مفتوحة، بعدها راءٌ مشددة، تعقبها هاء التأنيث؛ ثم يُضاف هذا اللفظ إلى النُّعمان بنونٍ مضمومةٍ، تليها عينٌ ساكنةٌ، بعدها ميمٌ وألفٌ ونون.

ذلك شيء قد اتفق عليه القدماء والمحدثون، وفيهم الأستاذ الإنجليزي «مرجليوث»، وإنما يختلفون في اشتقاق هذا اللفظ، وفي تحقيق إضافته إلى ما بعده، وكما اختلف القدماء في ذلك فإنَّ «مرجليوث» وقف موقف الشكِّ في آرائهم، وخطر له خاطرٌ ما نظن أنَّه وُفِّق فيه. ونحن ناقلون عن ياقوتٍ آراء الأقدمين في هذا اللفظ، ثم ذاكرون رأي «مرجليوث»، ثم آتون على رأينا. قال ياقوت: قال ابن الأعرابي: المعرَّة: الشدة، والمعرة: كوكبٌ في السماء دون المجرة، والمعرة: الدية، والمعرة: قتال الجيش دون إذن الأمير، والمعرَّة: تلون الوجه من الغضب. وقال ابن هانئ: المعرَّة في الآية؛ أي: جناية كجناية الجرب. وقال محمد بن إسحاق: المعرَّة: الغرم. فأكثر هذه المعاني لا يُوافق معنى معقولًا في التسمية، والإضافة إلى النعمان.

ذلك أنَّهم يقولون: إنَّ النُّعمان هذا هو ابن بشير الأنصاري صاحب رسول الله، ولي حمص لمروان بن الحكم الأموي، قالوا: ولما مرَّ بهذه القرية مات له ابن فدفنه، وأقام عليه. فإمَّا أن يكون معنى المعرة الشدَّة، فيقال: معرة النعمان؛ أي: شدَّته، وإمَّا أن يكون معناها تلون الوجه من الغضب، فيُقال: معرة النعمان؛ أي: غضبه وحزنه لفقد ولده، وإمَّا أن يُراد بها الغُرم، فيُقال: معرَّة النعمان؛ أي: غرمه بهلك ابنه. ومن الظَّاهر أنَّ مكان هذه المعاني مكان التأول القلق الذي لا تطمئن النفس إليه، فأمَّا المعرة بمعنى الكوكب، أو الدية، أو الجناية، أو القتال بدون إذن الأمير، فمن الواضح أن ليس لها هنا معنى معقولٌ. أما أبو العلاء، فقال في القصيدة الثانية من لزومياته:

يعيِّرنا لفظ المعرة أنَّها
من العرِّ قومٌ في العلا غرباء

ففهم أو فهم الذين عيَّروه، أنَّ المعرة مشتق من العرِّ؛ أي: الجرب. وخُيِّل إلى مرجليوث أنَّ هذا رأي أبي العلاء في اسم بلده. وعندنا أنَّ أبا العلاء لم يُرِد بهذا البيت تحقيق هذا الاسم، ولا الدلالة على معناه، بل نحن لا نعرف أنَّ قومًا عيَّروه هذا اللفظ، وإنَّما ذهب بهذه القصيدة كلها مذهب الاستهزاء بالذين تخدعهم الأسماء فيتفاءلون ويتطيَّرون، ومصداق ذلك قوله في هذه القصيدة:

وذو نجب إن كان ما قيل صادقًا
فما فيه إلا معشرٌ نجباءُ
تفزع أعرابية إن بدت لها
كواعب يستقبلنها وظباءُ
وما الأربى للحي إلا مسفة
على أنَّهم في أمرهم أرباءُ

فأنت ترى أنَّ الرَّجل لم يَنظِم قصيدته في تحقيق معنى لغويٍّ، وإنَّما نظمها في نقد شيء من عادات النَّاس.

مرجليوث أطال التفكير والبحث من غير شكٍّ، فظنَّ أنَّ لفظ المعرة إنَّما هو تحريفٌ للفظ السرياني معرتا١٢ قال: ومعناه الكهف، وصنوه في العربية المغارة. ولسنا نعتقد صحة هذا الرأي ولا نُرجحه؛ لأنَّ ذلك يحتاج إلى نصٍّ تاريخيٍّ، على أنَّ هذه القرية قد عُرِفت بهذا الاسم عند الآراميين، وذلك ما لم يصل إليه «مرجليوث»، فأمَّا مُجرَّد التَّشابه اللفظي فلا يصلح إلا مصدرًا للتوهم أو الشكِّ. وهب هذا الرأي صحيحًا، فمن أين جاء تشديد الراء مع أنَّها في السريانية غير مشددةٍ؟!

أمَّا لفظ النعمان فأوَّل من شكَّ في تحقيقه ياقوت، فقال: إنَّ قصَّة النُّعمان بن بشيرٍ لا تصلح علَّةً لهذه التسمية، وظن أنَّها منسوبةٌ إلى النعمان بن عدي بن غطفان التنوخي المعروف بساطع الجَمَال، وهو من أجداد أبي العلاء في الجاهلية، كما سنرى في أول المقالة الثَّانية، ولكن ياقوت لم يُعلِّل إضافة المعرَّة إلى النعمان بن عديٍّ هذا، وقد خُيِّل إلى مرجليوث أنَّ النعمان اسم إله آرامي، على أنَّ ذلك يحتاج إلى الدليل فإنا لا نعرف هذا الاسم في آلهة الآراميين، فإنْ صحَّ فلا بد من النَّص على أنَّ لفظ المعرة إنَّما يُضاف إليه.

أما نحن فنقدر هذا الشك من ياقوت ومرجليوث قدره، ونعلن أنا لم نصل إلى ما أخطآ من التوفيق، ولكن ذلك لا يمنعنا أن نثبت ظنًّا ثالثًا، ربما كان أشد غرابةً من ظنِّ هذين العالمين، وربما زاد عناء الباحث في تحقيق هذا الاسم، وربما كان خطأ، ولكن ربما كان صوابًا أيضًا، وذلك يكفي لإثباته الآن.

نرى رأي ياقوت في أنَّ لفظ المعرة إنَّما أُضِيف إلى النُّعمان بن عَديٍّ، ونُرجِّح ذلك بما روى صاحب الأغاني من أنَّ تنوخ كانت في عصر من عصورها الجاهلية على حظٍّ عظيمٍ من الفزع والهول والاضطراب في أطراف جزيرة العرب، وما يجاورها من العراق والجزيرة والشام، وأنَّ طائفةً منها أو من شعب قضاعة الذي هو جدها الأعلى، قد هاجرت إلى بلاد الشام وفلسطين خاصَّةً. فمن المعقول أن يكون النعمان بن عديٍّ هذا قائد فرقةٍ مُهاجرةٍ من تنوخ نزلت هذا المنزل، وبقيت أجيالها فيه، إلى أيام أبي العلاء.

ذلك ممكنٌ لا يَرُدُّه العقلُ، وليس للتَّاريخ فيه نفيٌ ولا إثباتٌ؛ لأنَّ هذا الفزع والهول إنَّما أصاب قضاعة وأحياءها قبل التاريخ، وإذن فلفظ المعرَّة لا بد أن يكون بمعنى المنزلة أو محرفًا عن كلمةٍ بمعناها، وذلك ما نخاله ونميل إليه، فما عسى أن يكون هذا اللفظ؟! يُخيَّل إلينا أنَّه لفظ المعرس اسم مكانٍ من عرس بالمكان: نزل به آخر الليل. ومنه قول القائل:

فأصبحوا والنوى عالي معرسهم
وليس كل النوى تلقى المساكينُ

فأصل الاسم حينئذٍ معرس النعمان، ثم أُبدِلت التاء من السين، وتلك لغةٌ من لغات العرب، نصَّ عليها أبو زيدٍ الأنصاري في نوادره، واستشهد بقول الراجز:

يا قبَّحَ اللهُ بني السعلاتِ
عمرو بن يربوعٍ شرار الناتِ
ليسوا بأخيار ولا أكياتِ

أراد النَّاس والأكياس في البيت الثاني والثالث، فذهب إلى ما ترى من وضع التاء موضع السين، وهب هذا الإبدال ليس معروفًا عند العرب، فلا شك في أنَّ تحريف السين إلى التاء سهل الجريان على ألسنة النبط والآراميين الذين كانوا مُنْبَثِّين في تلك الجهات قُبيل الإسلام، فلمَّا بَعُد العهدُ باستعمال هذه الكلمة، رأى العرب الذين نزلوا هذه الجهة في عهد الفتح أنَّ هذا الوزن لا يجري مع أوزانهم التي ألفوها، ففتحوا الميم لتتفق مع ما يألفون من الألفاظ، فعلوا ذلك غير قاصدين إليه، وإنَّما ألجأتهم إليه سليقتهم؛ فظن الأئمة من اللغويين أنَّ هذه الكلمة قد جرت مجرى غيرها من المشتقات.

وقريب من هذا ما فعلوا بمادة وقى يقي، فإنَّهم زادوا فيها تاء الافتعال؛ فاضطرهم ذلك إلى أن يبدلوا التاء من فاء الكلمة فيقولوا: اتَّقَى. ثم كثر استعمال هذا الحرف، وبَعُد العهد به حتى ظنوا أنَّ التاء من أصول الكلمة، وأنَّ لها ثلاثيًّا تائي الفاء، فقالوا: تقى يتقي تُقًى، ثم اشتقوا منه التقوى، وإنَّما الأصل في ذلك كله الواو، ومثل هذا الخطأ المصيب يقع كثيرًا في لغات أهل البادية التي لم تُدوَّن ولم تُكتَب أصولها، بل تُرِكت نهب الألسنة تعبث بها كما تريد. نسميه خطأ لأنَّه في نفسه كذلك؛ إذ الثلاثي إنَّما هو وقى بالواو لا بالتاء، ونقول: إنه مصيبٌ؛ لأنَّ هذا الحرف، وهو تقى، قد أصبح عربيًّا صحيح الاستعمال منذ استعمله العرب الأولون.

ومن هذا النحو ما رجَّحه الأستاذ نالينو في اشتقاق لفظ الأدب، فإنَّه لم يجد هذه المادة في غير اللغة العربية من اللغات السامية، ولم يجد لها عند العرب مصدر اشتقاق معقول، فقد قالوا: أدب القوم يأدبهم أدبًا؛ إذا دعاهم إلى الطعام. والفرق بين المعنيين واضحٌ، فظنَّ الأستاذ أنَّ لفظ الأدب إنَّما جاء من لفظ الدأب بمعنى العادة.

ذلك أنَّهم جمعوا الدأب، فقالوا: أدآبٌ. ثُمَّ قدموا العين على الفاء، فقالوا: آدابٌ. كما فعلوا في آرامٍ وآبارٍ جمع رئمٍ وبئرٍ، فلمَّا كثر استعمال هذا الجمع، غفلوا عمَّا فيه من القَلْب المَكَاني، وظنوا أنَّ ترتيبه هذا أصليٌّ، وأنَّ له مفردًا على نسقه وهو الأدب،١٣ ثم اشتقوا منه، وصرَّفوه تصريف غيره من الأوزان، فليس يبعد أن يكون شيءٌ من هذا العبث اللساني قد أخرج لفظ المعرة إلى هذا الشكل الذي أوقع في الشكِّ والريبِ القدماءَ والمحدثين، على أنَّ هذا التأول استقام لنا في معرَّة النعمان، فما ندري أيستقيم لنا في معرة مصرين — وهي قريةٌ أخرى من أعمال حلب أم لا يستقيم. لأنَّا لا نعرف المعنى المحقق للفظ مصرين، ولم نتكلف البحث عنه؛ لبعده عن أبي العلاء، أما سلمون المستشرق الفرنسي فقد زعم أنَّ المعرة كانت تضاف قبل الإسلام إلى حمص، قال: فلما كان الفتح، أُضِيفت إلى النعمان بن بشير، ونحن نعتقد أنَّ سلمون قد لفَّق هذا القول تلفيقًا لا دليل عليه،١٤ وذلك حين رأى بعضَ المؤرخين يقول إنَّها كانت تتبع حمص في أحد عصورها السياسية، فظنَّ أنَّ لفظها كان يُضاف إلى حمص، ثُمَّ لمَّا عرف أنَّ النعمان بن بشيرٍ من أصحاب النبي، ظنَّ أنَّها أُضيفت إليه للفتح، وعجيب أنَّه لم يسند ذلك إلى مصدر معروف.

موقعها ووصفها

وددنا لو أنَّنا زرنا هذه القرية؛ لنكتب عنها عالمين بها، مستقصين لأمرها، متأثرين بما توحي إلينا من ذكرى أبي العلاء، وإزهار علمه وفلسفته فيها، كما زار الفيلسوف رنان مولد المسيح حين أراد أن يكتب حياته، فأحسن الوصف والتأليف، إلا أنَّ الظروف التي واتت رنان، وأعانته على زيارة فلسطين لم تواتنا، ولم تيسر لنا، فحسبنا أن نشير إلى موقعها نقلًا عن المستشرق الفرنسي سلمون.

قال: إذا غادر السائح مدينة حماة، موجهًا إلى الشمال نحو حلب، كان من الحقِّ عليه أن يزجي ركوبه على الشاطئ الأيسر لذلك الوادي المحصور، الذي يجيش فيه نهر العاص ذلك التأثير القديم، حتى إذا وصل إلى مدينة شيزر، وهي القيصرية القديمة لهذا النهر، استطاع أن يَعْبُره على جسرٍ قديمٍ، أقامه بنو منقذٍ أمراء هذه المدينة قديمًا، فإذا صار إلى الجانب الآخر من النهر، وجاز المستنقعات المنبثة فيه، وانتهى إلى مدينة أفامية، اندفع في البرية حتى يبلغ جبل الأربعين، فهناك تظهر له على بعد عشرة أميالٍ إلى جهة اليمين، تلك المدينة الجميلة القديمة القائمة في منخفض هذا السهل الفسيح، وهي معرَّة النعمان.

قال: ولقد تدل الأطلال المنتشرة في السهل حول هذه القرية على أنَّها كانت مدينةً كبيرةً في عصرها القديم، وبذلك يشهد مسجدها الذي تُظِلُّه قبةٌ ضخمةٌ قائمةٌ على ثماني أساطين.

ولقد وصف ياقوت هذه القرية وصفًا قصيرًا خلاصته: أنَّ أهلها يستقون من الآبار، وأنَّ بها التينَ الجيِّد، والزيتون الكثير، وأنَّ خارج سُورِها مقبرة يزعم أهلها أن فيها يوشعَ النبيَّ من بني إسرائيل.

فأمَّا أبو العلاء فقد تطيَّر بها، وذكر جدبها في إحدى رسائله، ولئن كان وصفه إياها معقولًا موافقًا لموقعها الجغرافي، وبُعدِها عن مجاري المياه، فإنَّ من الجغرافيين قَبْلَهُ من وَصَفَها بالخصب وكثرة الخير، وهو ابن حوقل، وكذلك وصفها الرحالةُ ابن بطوطة، بعد أبي العلاء بأمدٍ بعيدٍ، فأثبت لها الثروة والغنى. ولقد ذكر القفطي والذهبي أنَّ أهلها كانوا بُخلاء أيام أبي العلاء، وأنَّه كان يضيق بذلك؛ لكثرة الوافدين عليه من الطلاب، وقلَّة ما كان يملك من النفقة عليهم، فاستبعد مرجليوث هذا الوصف، وقال: إنَّ بلدًا يخصص أهلُه عطاءً غير قليلٍ للبحتري حين كتب إليهم بذلك أبو تمامٍ لا يُنتظَر أن يكونوا بُخلاء.

ولعمري لئن كان أهل المعرَّة أجوادًا كرماء أيام البحتري، فقد تتحول الحال وتتبدل الأمور، وبين البحتري وأبي العلاء نحو قرنين. على أنَّ المصائب التي اختلفت على أهل المعرَّة؛ لما كان من اختلاف الحمدانية والعبيدية والمرداسية والروم على حلب وما يليها أيام أبي العلاء، حَرِيَّةٌ أن تَرُدَّ الكريم بخيلًا، وتجعل السخيَّ كزًّا شحيحًا.

ولقد مرَّ الرحالة الفارسي ناصري خسرو بمعرة النعمان سنة ثمان وثلاثين١٥ وأربعمائةٍ، فوصفها وصفًا شديد المناقضة لرأي أبي العلاء فيها، قال:

ووصلنا في شهر رجب من سنة ثمانٍ وعشرين وأربعمائةٍ إلى معرة النعمان، فإذا مدينةٌ مسورةٌ بسورٍ من الصخر، وعلى بابها أسطوانةٌ من الحجر، قد نُقِشت فيها حروفٌ ليست بالعربية، فلما سألت عنها قِيلَ: إنها طلسمٌ يذود العقاربَ عن المدينة، حتى لو أنَّك جلبت إليها عقربًا من مكانٍ بعيد؛ لهربت منها ولم تستطع البقاء فيها.

وعجيبٌ أمر هذا الطلسم، فإنا لم نرَ من جغرافيي العرب ومؤرخيهم مَنْ ذَكَره بمعرة النعمان، وإنما قال ابن فضل الله العمري في كتابه الكبير المشهور بمسالك الأبصار في ممالك الأمصار: إنَّ بمدينة حمص قبةً يزعم أهل المدينة أنَّها تذود العقارب، وأنَّك لو وضعت عليها قطعةً من الطين حتى جفت ثم نقلتها إلى بيتٍ في غير حمص من البلدان لما دخلته العقارب ولا دبَّت إليه، قال: وعندي أنَّ مصدر هذا طبيعة الأرض بحمص.

قال ناصري خسرو: إنَّ أسواق المدينة عامرة، وإنَّ مسجدها يقوم على ربوةٍ في وسطها، ومن حيث أحببت أن تصل إليه صعدت سُلَّمًا ذا ثلاث عشرة درجةً، قال: ولا تُغِلُّ أرضها من الحصاد إلا القمح الكثير على أن حولها الكرم وبساتين التين والزيتون، وأشجار اللوز والفستق، وتحيا على ماء السماء والآبار.

أما وصفها الآن، فقد كتب إلينا فيه أستاذنا الجليل إسماعيل بك رأفت يقول: المعرَّة أو معرَّة النعمان، مدينةٌ من أعمال ولاية حلب، بينها وبين حلب نحو أربعةٍ وثمانين كيلومترًا إلى الجنوب والغرب، وتبعد عن حماة نحو ستين كيلومترًا إلى الشمال، وهي في مكانٍ يرتفع عن سطح البحر بنحو خمسةٍ وستين وثلاثمائة مترٍ، ويُقدِّرون عدد سكانها بنحو ستة آلافٍ، وبها عدة مساجد وجوامع لبعضها شهرةٌ. ومن مبانيها أيضًا خانٌ جميل البناء، وقلعةٌ متخربةٌ من عهد الصليبيين تُعرَف بقلعة النعمان، وضواحيها خصبة الأراضي، حسنة الزراعة، ومن أشجارها التين والفستق، ولكن ليس بها مياهٌ جاريةٌ. وقد أغار الصليبيون على المعرَّة سنة تسع وتسعين وألف للمسيح، وافتتحوها ودمروها، وتُسمَّى في كتب الحوادث الصليبية بالمعرة فقط أو معر، وعُرِفت في زمان الرومان باسم «خاليس».

ولقد بيَّنَّا من الحياة السياسية لحلب والمعرة في عصر أبي العلاء ما فيه مقنع، فلندع هذا الموضوع، ولننتقل إلى المقالة الثانية في ترجمة أبي العلاء.

١  يُلاحظ أن فناء هذه الأجناس في الجنس العربي وإن كان حقًّا لا شك فيه، لم يمضِ من غير أن يفني كثيرًا من أطوار الأمة العربية في أطواره الاجتماعية الخاصة؛ فإن بين الغالب والمغلوب تنازعًا، ينتهي في أكثر الأحيان بنزول كل منهما لصاحبه كرهًا عن بعض ماله من الخصائص والمميزات.
٢  يُلاحظ أن هذه الفتنة التي احتدمت بين المضرية واليمانية في خراسان، قد كانت محتدمة بين العدنانية والقحطانية في كل أجزاء الدولة الإسلامية، وقد أحدثت آثارًا ظاهرة في الآداب والسياسة والحياة الاجتماعية، ولكنها ظهرت في أشنع مظاهرها وأقواها أثرًا، بين المضرية واليمانية بخراسان. راجع الجزء الأول من كتاب تاريخ المسلمين في إسبانيا للعلامة «دوزي».
٣  يُلاحظ أن هذا الملك لم يكن في حقيقته خالصًا لهؤلاء الغسانيين بل كان بينهم وبين الروم على نحو غير واضح، لهم شيء من السلطة العملية، وللروم السلطة الاسمية كلها، وبعض الأثر العملي، على نحو ما يوجد الآن بين الدول المتحضرة ومن يخضع لها من شعوب أهل البادية.
٤  يُلاحظ أن عرب الشام والجزيرة كانوا منذ عهد الخلفاء الأمويين أشد العرب استمساكًا بعصبيتهم الجنسية، يؤثرونها على كل شيء؛ ولذلك بذلوا كل ما يستطيع أن يبذله إنسان من الفنون والقوة لنصر بني أمية، وبذلوا كذلك جهدًا غير قليل لمقاومة العباسية قبل ظهورها وبعد أن صارت إليها الدولة.
٥  يُرجَع إلى قصيدة البحتري التي مطلعها:
مخلف في الذي وَعَد
سِيلَ وصلًا فلم يجد
٦  يشك بعض المؤرخين في عربية بني حمدان.
٧  تلاحظ هذه القضية في المقالة الثانية.
٨  لُوحِظ أن كتاب عبد اللطيف البغدادي، قد أُلِّف في أواخر القرن السادس للهجرة؛ أي بعد أبي العلاء بأكثر من قرن ونصف، فليس يصلح دليلًا على فساد الحياة الاقتصادية في أيام أبي العلاء، ولكنا لم نُورِده دليلًا على ذلك، وإنما أوردناه مثالًا لما كان يحدث في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية في تلك العصور؛ إذ كان ما جاء في كتاب عبد اللطيف البغدادي مثلًا صادقًا لما كان يتجدَّد في تلك البلاد منذ انتقض أمر الخلافة العباسية، وكثرت الحروب بين الولاة والعمال. وفي قصص المجاعة التي كانت بمصر أيام المستنصر الفاطمي؛ أي في عصر أبي العلاء، والتي أشرنا إليها في هذا الموضع من الكتاب، ما يكفي برهانًا على ما نقول.
٩  يُلاحظ أن استحالة الدين من السذاجة إلى التركيب، ومن القوة إلى الضعف، طبعي في كل دين، وفي كل عقيدة مصدرها العاطفة والوجدان.
١٠  يُلاحَظ أن هذا النضج الذي ننسبه وينسبه غيرنا إلى الفلسفة الإسلامية في ذلك العصر، إنما هو نضج إضافي يُقدَّر بحال المسلمين وما أحاط بهم من المؤثرات الخاصة. فأما النضج الحقيقي الذي لا تطمع الفلسفة بعده في شيء، فلم تصل إليه حتى فلسفة الفرنجة الآن، بل إن في الفلسفة الإسلامية قصورًا ظاهرًا عما بلغت فلسفة اليونان من جودة البحث وحسن التفكير. ومصدر ذلك أشياء كثيرة، منها أن فلاسفة المسلمين قد قلَّدوا فلاسفة اليونان، وجهلوا لغتهم، وأن الدين على ما فيه من إسماح قد حال بينهم وبين الحرية المطلقة التي يحتاج إليها الفيلسوف. ولسنا نعرض لقول رنان: إن العقل السامي بقطرته غير مستعد للتعمق في الفلسفة.
١١  تغير العلم بتاريخ البيان منذ الوقت الذي أُملِي فيه هذا الكتاب؛ فليُرجَع إلى المقدمة التي كُتِبت لكتاب نقد النثر المنسوب إلى قدامة بن جعفر.
١٢  وقد قلَّده المرحوم جورجي بك زيدان في ذلك من غير بحث ولا تفكير. راجع الهلال.
١٣  يؤيِّد هذا أن العرب قد استعملوا لفظ الأدب فيما يستعملون فيه لفظ الأدب من معنى العادة المتبعة والسنة الموروثة.
١٤  سبق إلى هذا التلفيق البلاذري ص١٣٨ طبع مصر، انظر أبا العلاء وما إليه للميمني ص١٣.
١٥  في الطبعتين الماضيتين كانت ثمان وعشرين فأصلحناها كما ترى، والفضل في ذلك للأستاذ عبد العزيز الميمني، انظر كتاب أبي العلاء وما إليه ص٥١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤