المقالة الرابعة

علم أبي العلاء

تمثل لنا المقالة الثانية درس أبي العلاء للعلم في جميع أطوار حياته، فنرى أنه لم يجلس مجلس التلميذ من أستاذٍ إلا في طور الصبا، وأنه لما شَبَّ أخذ في قراءة الكتب، وزيارة المكاتب بأنطاكية، فلما بلغ السادسة والثلاثين رحل إلى بغداد فزار مكاتبها، وجالس علماءها وأدباءها، ومن كان فيها من الفقهاء والفلاسفة، مجالسة النِّد للند، لا مجالسة التلميذ للأستاذ، ثم رجع إلى المعرَّةِ فاشتغل بالتعليم والتأليف نيفًا وأربعين سنة. فهذه الخلاصة تنتج لنا أمرين: أحدهما أنَّ العلم هو الذي ملك حياة أبي العلاء، واستأثر بها في أطوارها الثلاثة، والآخر أنه اعتمد على نفسه في تحصيل علمه، أكثر مما اعتمد على الأساتذة والشيوخ، ويؤيد هذا أنا لا نعرف له من الأساتذة إلا أباه، ومحمد بن سعدٍ في اللغة، ويحيى بن مسعر في الحديث، وأنه لا يحدث إذا كتب، ولا يروي عن غيره من الأساتذة الذين يمكن أنْ يكون قد سمع عنهم، وإنما يكتب كتابة رجلٍ قد وثق بنفسه، وربما نقل عن الكتب — كما ترى في رسالة الغفران. وتمثل لنا المقالة الثالثة تأثير هذا الدرس الطويل في آداب أبي العلاء، ومع أنَّ هذا التأثير ظاهرٌ في مظاهر مختلفةٍ، فليس يعنينا من هذه المظاهر إلا اثنان؛ الأول: كثرة الاصطلاحات العلمية في شعره ونثره، والثاني: اصطباغ أسلوبه الأدبي بالصبغة العلمية، حتى احتاج إلى أنْ يفسر بعض ما وقع في شعره من الألفاظ على طريقة المؤلفين، كما بيَّنا ذلك عند الكلام على اللزوميات؛ فهذان المظهران يدلاننا دلالةً واضحةً، على أنَّ القوة العلمية كانت شديدةً في نفس أبي العلاء.

فنونه التي أتقنها

غير أنَّ هذا الإجمال لا يكفي في تصوير قوته العلمية، فلا بد لنا من أنْ ننص على ما درس من الفنون، مستعينين على ذلك بما ترك من الآثار الأدبية، ومن أسماء الكتب التي ألَّفها، وإنْ كان المؤرخون لم يحفلوا بهذا الموضوع ولم يلتفتوا إليه.

العلوم اللغوية هي أظهر الفنون التي درسها أبو العلاء، فهي التي أمدت شعره ونثره بالغريب، واصطلاحات العلم، وهي التي أنفق أيام عزلته في درسها للناس، وهي التي تخرج عليه فيها التلاميذ النابغون، وألَّف فيها الكتب الضخمة. وقد كان ظاهر النبوغ في النحو، فألف فيه أكثر من ستة كتب، وامتلأت باصطلاحاته اللزوميات، وسقط الزند، والرسائل، ورسالة الغفران. وكذلك في العروض فقد ألَّف فيه كتبًا، أخصها جامع الأوزان الذي فصَّل فيه ضروب الشعر وقوافيه، ومثَّل لها بأشعارٍ نظمها ولم يروِها عن غيره، وتبلغ هذه الأشعار تسعة آلاف بيت كما حدثنا في ثبت كتبه، ومقدمته التي بدأ بها اللزوميات، واستطراداته التي ملأ بها كتبه الأدبية، تمثل لنا مقدرته في العروض أحسن تمثيلٍ. فإذا قرأت رسالة الغفران، عرفت مقدار حذقه في استظهار الغريب وتحقيقه، وحفظ ما كان بين العلماء من الاختلاف في ألفاظ وردت في الشعر القديم، وأنواع من الإعراب والتصريف روى عليها هذا الشعر.

ولقد استطرد في رسالة الغفران إلى بيتين قالهما النمر بن تَوْلَب، وهما:

ألمَّ بصحبتي وهم هجوعٌ
خيالٌ طارقٌ من أم حصن
لها ما تشتهي عسلًا مُصَفًّى
إذا شاءت وحواري بسَمْنِ

فاستطرد منهما إلى قصةٍ كانت بين خلفٍ الأحمر وأصحابه، ملخصها أنَّ خلفًا قال لأصحابه: لو أنه وضع أمَّ حفص موضع أمِّ حصن ما كنتم تقولون في البيت الثاني؟ فسكتوا، قال خلف: «وحواري بِلَمْص.» واللمص: الفالوذج. قال أبو العلاء: ويُفرَّع على هذه الحكاية، فيقال: لو كان مكان أم حفص أم جزء وآخره همزة ما كان يقول في القافية؟ فإنه يحتمل أنْ يقول: وحواري بكشء. من قولهم: كشأت اللحم إذا شويته حتى ييبس. ويقال: كشأ الشواء إذا أكله. أو يقول: بوزء. من قولهم: وزأت اللحم إذا شويته. ولو قال حواري بنسء لجاز. وأحسن ما يُتأوَّل فيه أنْ يكون من نسأ الله في أجله؛ أي لها خبز مع طول حياة، وهذا أحسن من أنْ يُحمَل على أنَّ النسء اللبن الكثير الماء. وقد قيل: إنَّ النسء الخمر. وفسَّروا بيت عروة بن الورد على الوجهين:

سقوني النسء ثم تكنفوني
عداة الله من كذب وزور

ولو حمل حواري بنسء على اللبن أو الخمر لجاز؛ لأنها تأكل الحواري بذلك؛ أي لها الحواري مع الخمر، وقد حدَّثَ مُحدثٌ أنه رأى مَلِك الروم، وهو يغمس خبزًا في خمرٍ ويصيب منه، ولو قيل: حواري بلزء. من قولهم لزأ إذا أكل، لما بَعُد. ولا يمكن أنْ يكون روي هذا البيت ألفًا؛ لأنها لا تكون إلا ساكنةً، وما قبل الروي هاهنا ساكن، فلا يجوز ذلك … ثم مضى أبو العلاء في الاستطراد الممل، حتى أتى على حروف المعجم كافةً. وهنالك عاد إلى ما كان أخذ فيه من موضوع الرسالة.

فهذه القصة تظهرك على حظ أبي العلاء من الغريب وروايته، وقدرته على الفقه به، والتأول فيه، كما أنها تظهرك على مقدار ما كان له من الصبر الشديد على البحث والاستقراء، وليس هذا كله إلا نتيجة تأثره بذلك القانون الفلسفي الذي أخذ نفسه به يوم رجع من بغداد.

أبو العلاء كان — كما قدمنا في المقالة الثالثة — شديد النقد في اللغة والعروض، دقيق الملاحظة، وليس أدل على ذلك من هذه المحاورات المسئمة، التي أجراها بين علي بن القارح وبين الشعراء من أهل الجنة والنار، فمن ذلك ما كان من المحاورة بين علي بن القارح هذا وبين لبيد في الجنة؛ إذ يقول: أخبرني عن قولك:

ترَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أرضَها
أو يرتبط بعض النفوس حِمامها

هل أردت ببعض معنى كل؟ فيقول لبيد: «كلا، إنما أردت نفسي.» وهذا كما تقول للرجل: إذا ذهب مالك أعطاك بعض النَّاس مالًا — وأنت تعني نفسك في الحقيقة. وظاهر الكلام واقعٌ على كل إنسان، وعلى كل فرقةٍ تكون بعضًا للناس، فيقول: «لا فتئ خصمه مفحمًا.» أخبرني عن قولك: «أو يرتبط»، هل مقصدك إذا لم أرضها أو لم يرتبط؟ أو غرضك أترك المنازل أو يرتبط؟ فيكون يرتبط كالمحمول على قولك: «ترَّاكُ أمكنة» فيقول لبيد: «الوجه الأول أردت.» فيقول:

أعظم الله حظه في الثواب

فما مغزاك في قولك:

وصبوح صافية وجذب كرينة
بموترٍ تأتاله إبهامها

فإن النَّاس يروون هذا البيت على وجهين؛ فمنهم من ينشده: تأتاله، يجعله تفتعله من آل الشيء يئوله إذا ساسه، ومنهم من ينشد تأتاله من الإتيان، فيقول لبيد: «كلا الوجهين يحتمله البيت.» فيقول — أرغم الله حاسده: «إنَّ أبا علي الفارسي كان يدَّعي في هذا البيت أنه مثل قولهم: استحى يستحي. على مذهب الخليل وسيبويه؛ لأنهما يريان أنَّ قولهم استحيت، إنما جاء على قولهم استحاي كما أن استقمت على استقام.» وهذا مذهبٌ ظريف؛ لأنه يعتقد أنَّ تأتي مأخوذة من أوى كأنه بُنِي منها افتعل، فقيل: ائتاي، فأُعِلَّت الواو كما تُعَل في قولنا: اعتان من العون، واقتال من القول. ثم قيل: ائتيت فحُذِفت الألف كما يُقال اقتلت، ثم قيل في المستقبل: يأتي بالحذف كما قيل يستحي، فيقول لبيد: معرض لعننٍ لم يَعْنِه، الأمر أيسر مما ظن هذا المتكلف.

فانظر إلى دقة ملاحظته في التصريف والاشتقاق، على أنَّ عامة نثره لا يخلو من مثل هذه الدقة في النحو، والصرف، والاشتقاق، والعروض، والغريب. ومن هنا تتبين مقدار درسه وروايته وحظه من التحقيق العلمي يجمع. ولقد بينا في المقالة الثالثة أنَّ التحليل الدقيق لآداب أبي العلاء يرد كثيرًا منها إلى آداب العرب الجاهليين والإسلاميين؛ فهذا يدلك أيضًا على مقدار ما كان يحفظ من الشعر والنثر، ولا سيما إذا لاحظت قوة ذاكرته وجودة حفظه. وقد أتقن أبو العلاء فن التَّاريخ كما تحدثنا بذلك آدابه، وكما حدثنا هو في اللزوميات في قوله:

ما مرَّ في هذه الدنيا بنو زمنٍ
إلا وعندي من أخبارهم طرف

أما العلوم الفلسفية، فاللزوميات ورسالة الغفران يدلاننا على أنه قد أتقنها، وحذق فيها علمًا وعملًا، وإنْ كان لا يضع فيها كتبًا على طريقة المعلمين من الفلاسفة. وقد ذكروا أنه روى شيئًا من السُّنَّة، وقدَّمنا الإشارة إلى ذلك في المقالة الثانية، وتدلُّ عليه رسالة الغفران لما رُوِي فيها من الحديث. ولا شك في أنه قد درس من الفقه مقدارًا غير قليل كما تدل على ذلك الاصطلاحات الفقهية المنتثرة في آدابه، والمحاجاة التي كانت بينه وبين أبي الطيب القاضي الشافعي، حين قدم بغداد — كما قدمنا. ومما لا يحتمل الريب أنه قد أتقن القرآن وعلومه، كما تشهد بذلك آدابه، وكتابه الذي سماه تضمين الآي، وإنْ لم يصل إلينا، فإنه قد حرص فيه على أنْ يأتي بطائفةٍ من المسجع، يختم كل فصلٍ منها بآية مقتبسةٍ من القرآن.

ثقته بنفسه

لا شك في أنَّ أبا العلاء كان ثقةً حجةً في العلم؛ لجود حفظه وقوة فهمه، وأنه لم يُتَّهَم بكذب، ولم يُطعَن عليه بتدليسٍ. وقد كان الرجل يرى في نفسه هذا الرأي، فيثق بها فيما يُحدِّثُ ويكتب. وقد بيَّنا أنه لم يعتمد في الدرس على المشافهة، فقد أثَّرت هذه الطريقة في سيرته العلمية، فقرأ عليه التبريزي كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، فلما أتمه طالبه بالسند كما جرت بذلك العادة في عصره، فقال له أبو العلاء: إنْ كنت تريد العلم فخذه عني ولا تَعدُني، وإنْ كنت تريد الرواية فاطلبها عند غيري. قال القفطي: فهذا يدلُّ على أنَّ أبا العلاء كان يثق بنفسه، ويعتقد أنه أدرك اللغة، وإنها في عصره لأنضج منها في عصر ابن السكيت.

عنايته بآثاره

أخص ما يُلاحَظ في الحياة العلمية لأبي العلاء، أنه كان شديد الحرص على علمه وأدبه، كثير العناية بآثاره فيهما، يجمعها ويفسرها ويناضل عنها، وقدَّمنا تعليل ذلك في المقالة الثالثة. ونقول الآن: إنك لا تكاد ترى كتابًا ألَّفه أبو العلاء، من غير أنْ يكون قد ألَّف له شرحًا أو تفسيرًا، فقد شرح سقط الزند، وشرح اللزوميات بكتابين، ودافع عنها بثالث، وشرح الفصول والغايات بكتابين أيضًا، وشرح الأيك والغصون، وشرح الرسائل بكتاب سماه خادم الرسائل. فهذا يُمثِّل لك مقدارَ حرصه على آثاره، واحتفاظه بها. ومصدر هذا أمران: أحدهما أنَّ الرجل كان معترفًا بنفسه مكبرًا لها، فلا يرضى أنْ تترك آثارها ناقصةً محتاجةً إلى أنْ يكملها الناس، الآخر أنه كان يخشى التأول وكثرة الكذب عليه، فيعمد إلى كلامه فيجليه ويشرح أغراضه فيه. ولكن هذا الغرض قد فاته فضاع أكثر كتبه، وعاد أمره من الشك والالتباس إلى ما كان يخاف.

كتبه

روى ياقوت والقفطي والصفدي والذهبي، ثبتًا لما ألَّف أبو العلاء من الكتب المنظومة والمنثورة في العلوم والآداب، ولكن النذر اليسير من هذه الكتب هو الذي بقي لنا، فأما أكثرها فقال القفطي والذهبي: إنه باد ولم يخرج من المعرَّةِ، وإنما أتى عليه تخريب الصليبيين لها، وتحريقهم لما فيها، وقد أحصوا هذه الكتب، فإذا هي خمسة وخمسون كتابًا في أكثر من أربعة آلاف كراسة، تتناول اللغة وفنونها، والأدب وألوانه، والوعظ وأنواعه. وكثيرٌ من هذه الكتب لم يكتبه أبو العلاء إلا حين طلبه منه بعض الناس، ومنعه الحياء من رده، وقد يُسِّر لأبي العلاء رجل يُعرَف بالشيخ أبي الحسن علي بن عبد الله بن أبي هاشم، فكتب عنه ما أملى، من غير أنْ يقتضي على ذلك أجرًا، فشكر له ذلك أبو العلاء في أول الثبت الذي وضعه لكتبه، وألف لابنه كتابين، أحدهما سماه المختصر الفتحي، والآخر سماه عون الجمل، وهو آخر ما أملى من الكتب كما نص على ذلك ياقوت. ولقد نودُّ لو نستطيع أنْ نبحث عن هذه الكتب، ونصفها وصفًا مستقصى، ولكن الدهر قد أبى علينا الظفر بهذه الأمنية، فأضاع أكثر هذه الكتب، ولم يُبقِ منها إلا ما قدمنا وصفه في المقالة الثالثة.

ذوقه في تسمية الكتب

ولئن فاتنا أنْ نَصِف هذه الكتب، فلن يفوتنا أنْ نَصِف ما بقي منها، وهي الأسماء، فلا شك في أنها تدلُّ على مزاجٍ معتدلٍ، وذوقٍ رقيقٍ، فانظر كيف سمى شرحه لديوان أبي تمام «ذكرى حبيب» فأحسن التورية والاختيار. وكذلك سمَّى إصلاحه لديوان البحتري «عبث الوليد»،١ وقد رأينا هذا الكتاب، فإذا هو إصلاح نسخة بعث إليه بها بعض الرؤساء، وفيه نقد لألفاظٍ جاء بها البحتري. ولأبي العلاء في آخره تأول ظريف في اسم الكتاب، فإنه قال: أما العبث فظاهرٌ، وأما الوليد فيجوز أنْ يُراد به البحتري نفسه لأنه اسمه، ويجوز أنْ يُراد به الناسخ؛ لأنه عبث بالكتاب، وسمَّى شرحه لديوان المتنبي «معجز أحمد» توريةً بالقرآن، وسمى كتابًا آخر «الأيك والغصون»، وقد زعموا أنه في مائة جزء، وتحدَّث من رأى الجزء الأول بعد المائة منه، ومن رأى بالمكتبة النظامية ببغداد ثلاثة وستين جزءًا من أجزائه. وعلى الجملة، كان أبو العلاء محسنًا في اختيار الأسماء، كما يدل ما بأيدينا من الكتب على أنه كان متقنًا لتأليف المسميات.
١  نشر الكتاب الأستاذ محمد عبد الله المدني سنة ١٩٣٦ في مطبعة الترقي بدمشق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤