الرواق والحديقة

كانت المدارس الفلسفية في اليونان كثيرة، أشرنا إلى أبرزها وأهمها وأعظمها أثرًا في تاريخ الفكر البشري. وورد في أثناء ذلك ذكر بعض المدارس التي لم تلبث أن انقرضت بموت أصحابها. وفي أواخر القرن الرابع وأوائل الثالث قبل الميلاد، ظهرت أربع مدارس؛ هي الكلبية والشكاك والرواقية والإبيقورية، وأشهرها الرواقية والإبيقورية. فالرواقية نسبةً إلى مكان التعليم في الرواق، والإبيقورية نسبةً إلى صاحبها إبيقور، الذي كان يُعلِّم في الحديقة.

وعلى الرغم من زوال المدرستين منذ القرن الأول للميلاد تقريبًا، إلَّا أن روح الرواقية لا تزال ساريةً حتى اليوم، على حين اكتسبت الإبيقورية معنًى منحرفًا، وأصبح الشخص الذي يُوصف بأنه إبيقوري إنما يدلُّ ذلك على انهماكه في الشهوات وإسرافه في الملذَّات.

نبدأ بالحديث عن الرواقية فنقول: إن الذي أسَّس هذه المدرسة هو زينون الرواقي، أصله من مدينة أكتيوم بجزيرة قبرص، وهي مدينة يونانية استقرَّ بها مهاجرون من فينيقيا التي تقع على الشاطئ المقابل للجزيرة. ويُروى أنه خرج في تجارة فغرقت السفينة على مقربة من بيرايوس ميناء أثينا، فلمَّا نجا توجَّه إلى أثينا، واستقرَّ بها، ودرس فيها، وكان فيما يُقال في الثلاثين من عمره. فلمَّا استقرَّ به المقام، اشترى من ورَّاق كتاب زينوفون عن سقراط، وهو المذكِّرات المشهورة، فأُعجب به وسأل: أين يوجد رجل مثل سقراط؟ فأشار عليه الورَّاق باتباع أقراطيس الكلبي. وتنقَّل زينون عشرين عامًا بين المدارس الفلسفية في أثينا، ثم أخذ يُعلِّم الفلسفة في رواق مشهورٍ بأثينا كان محلًّى بنقوش بوليجبنوتس أشهر الرسَّامين اليونانيين في القرن الخامس قبل الميلاد. وكان ذلك الرواق فيما مضى منتدًى للأدباء والشعراء يلتقون فيه، وكان إلى ذلك مباحًا لكل طارق، فلمَّا اتخذه زينون مكانًا للتعليم، سُمِّي وأتباعه بالرواقيين.

الواقع كانت طريقة التعليم في اليونان، كما ذكرنا، تتم بين المعلِّم وتلاميذه؛ إمَّا في رواق، وإمَّا على ممشًى بين الأشجار؛ أي في حديقة. فالأكاديمية — وهي التي سمَّاها العرب أقاذيميا — كانت في الأصل حديقةً سُمِّيت باسم البطل أكاديموس. وكان كبار السفسطائيين الذين علموا في بيوت أشراف أثينا يُلقون دروسهم وهم يمشون في الرواق. ذلك أن القصور كانت تبنى بحيث يُفسح فيها مكان لأروقة تُقام على أعمدة تُلقي ظلًّا يُخفِّف من حرارة الجو. ولكن بعض المدارس اشتُهرت تاريخيًّا بنسبتها إلى خاصية معيَّنة؛ مثل مدرسة المشَّائين، وحديقة إبيقور، ورواق الرواقية.

والرواقية مذهب تغيَّر على مر الزمن؛ فهي على يد مؤسِّسها زينون خلافها على يد أبكتيتوس أو مرقص أوريليوس مثلًا. ولكنها على الرغم من تطوُّرها، وعلى الرغم من هجرها لاتجاهات ماديةٍ أو طبيعية، فقد بقي لها طابع عام لا يزال حتى اليوم يُميِّزها عن أي مدرسة فلسفية أخرى. والرواقي صفة تُطلق — وبخاصة في اللغات الأوروبية — على الشخص الذي يمتاز بثلاثة أمور كلها أخلاقية؛ هي التحرُّر من الأهواء، وعدم الخضوع للأفراح والأحزان، والاستسلام لقانون القضاء. فإذا تيسَّر لأحد أن يملك زمام نفسه على هذا النحو؛ فهو الحكيم الرواقي. ويمكن القول بعبارة أخرى، إن الحكيم الرواقي هو الذي يصبر على أحداث الزمان، ويرضى بما يجري عليه ولا حيلة له فيه من العطاء أو الحرمان، وهذا شيء ليس من اليسير أن يتقبَّله كل إنسان.

والرواقية مدرسة عجيبة ظهرت في بلاد اليونان، ولكن مؤسِّسها غير يوناني، وجمعت بين السيد والعبد على صعيد واحد، ولم تُميِّز بين شرقي ولا غربي، ولم تستقر في مكان واحد أو داخل جدران مدرسة واحدة، ومع ذلك انتشرت تعاليمها، ولا تزال ساريةً حتى الآن. وتطوَّرت آراؤها على مر العصور، ولكنها احتفظت بطابع أخلاقي يُميِّزها عمَّا عداها.

استمرَّت رسميًّا خمسة قرون، من الثالث قبل الميلاد، إلى الثاني بعد الميلاد. أول ممثليها زينون، وآخرهم مرقص أوريليوس المتوفى ١٨٠ب.م. وتُقسَّم المدرسة عادةً إلى قديمة ووسطى وحديثة؛ فالقديمة في أثينا، ويُمثِّلها زينون وكليانتس وكريسبوس. ووسطى يُمثِّلها بناثيوس وبوزيدونيوس، وحديثة في روما يُمثِّلها سينيكا وأبيكتيتوس ومرقص أوريليوس. ثم تسرَّبت آراؤها إلى المسيحية واستمرَّت في التراث الغربي حتى الوقت الحاضر. وقد كان لها أثرٌ كبير على الحُكَّام والملوك الذين اعتنقوا هذه الفلسفة، حتى قيل إن معظم الملوك بعد الإسكندر المقدوني كانوا من أتباع الرواقية.

وتقوم الرواقية على مبدأين أساسيين مع التوفيق بينهما؛ وهما الحتمية الكونية والحرية الإنسانية. والأول منهما خاص بالطبيعة، والثاني بالإنسان؛ ذلك أن حوادث الكون محكومةٌ بقوانين صارمة، وليس ثمة في نظر الرواقيين صدفة أو اتفاق. وعندهم أن كل شيء في هذا العالم مسوق نحو غاية ومدبَّر لخدمة الإنسان، وهذه هي نظرية العناية الإلهية. وعلى الإنسان أن يسعى بإرادته، ومحض حريته واختياره إلى أن يتوافق مع القوانين العامة للطبيعة. فالفضيلة إذن تقوم في حرية الإرادة الموافقة للطبيعة. وما دام الأمر كذلك، فلا بد أن يكون الحكيم الرواقي سيد نفسه، لا يُهمه فقر أو غنًى، ولا تصده أي قوة خارجية عن الفضيلة.

ولمَّا كانت آراء هذه المدرسة غير منفصلةٍ عن حياة أصحابها، فلْنشرع في الحديث عن أبرزهم، مبتدئين بمؤسسها.

ذكرنا أن زينون الرواقي — وهو خلاف زينون الإيلي تلميذ بارمنيدس — من أصل فينيقي. وُلد في قبرص بمدينة أكتيوم، وازدهر في أوائل القرن الثالث من قبل الميلاد. وكان أبوه تاجرًا، فاشتغل زينون في صباه بالتجارة، وركب البحر متجهًا إلى بلاد اليونان يبيع شحنةً من الأُرجُوان، غير أن السفينة تحطَّمت، فذهب إلى أثينا، وأخذ يدرس الفلسفة. ويُحكى في سبب ذلك أنه اختلف إلى دُكَّان ورَّاق (أي صاحب مكتبة)، وقرأ عنده مذكِّرات زينوفون التي روى فيها أحاديث سقراط، فأُعجِب بالمحاورات إعجابًا شديدًا وسأل أين يمكن أن يجد شخصًا مثل سقراط. ولقد ظلَّت شخصية سقراط المثل الأعلى للرواقية في شتى عصورها؛ إذ أُعجِب الرواقيون بموقفه في المحاكمة، ورفْضه الهرب من السجن، وهدوئه في مواجهة الموت، وعلى الجملة سيرته الأخلاقية الفاضلة. كما أُعجِب الرواقيون كذلك ببساطة سقراط في الطعام والشراب والملبس، وعدم مبالاته بالحَر أو البرد، وعزوفه عن الرفاهية والترف؛ من أجل ذلك اقترنت الرواقية بالزهد والأخلاق الفاضلة.

عاش زينون حتى بلغ التسعين، وظفر بشهرة واسعة، وكان له تلاميذ كثيرون في المدرسة التي خلفه على رئاستها كليانتس. اشتُهر بأمرين؛ الأول: التمسُّك بأن الأرض مركز الكون؛ ولذلك يجب الحكم على أرسطارخوس بالإعدام لإلحاده بسبب قوله إن الشمس مركز الكون لا الأرض. والثاني: قصيدته التي نظمها في تقديس زيوس.

غير أن خليفته في المدرسة وهو كريسيبوس (٢٨٠–٢٠٧ق.م.) هو الذي يُعزى إليه تثبيت دعائم المدرسة، وتنظيم المذهب، والعناية بالمنطق ونظرية المعرفة. وكان زينون يقول إن الفلسفة بستان والمنطق سوره، والطبيعة شجره، والأخلاق ثمره؛ وبذلك جعل الأخلاق لب الفلسفة، والمباحث النظرية من طبيعة ومنطق تابعةً لها. ولكن يبدو أن كريسبوس أفرد للدراسة النظرية مكانًا أوسع، وبخاصة المنطق، الذي أضحى جزءًا من الفلسفة، لا كما ذهب أرسطو آلة لتحصيلها فقط. ومن أقواله في الأخلاق إن الرجل الفاضل سعيد دائمًا، والشرير شقي أبدًا، وإن النفس تبقى بعد فناء البدن إلى أن يحين الاحتراق العام.

ثم انتقلت الرواقية إلى روما غربًا، مع ظهور الإمبراطورية الرومانية. وتعدَّل المذهب أولًا على يد بناثيوس (تُوفي ١١٠ق.م)، الذي أدخل في الرواقية عناصر أفلاطونية، وهجر مادية المدرسة القديمة، وكان صديقًا لشيبيو. كما أثَّر في شيشرون صاحب الفضل في نشر الرواقية بين الرومان. وقد تعلَّم بوزيدونيوس من بناتيوس وخلفه. وبوزيدونيوس إغريقي من سوريا، شهد في صباه نهاية الدولة السلوقية في سوريا، ودفعه ما رآه من فوضى إلى الهجرة غربًا، فذهب أولًا إلى أثينا، حيث رضع لِبان الرواقية في ظل الرواق. غَرَّب إلى أقصى غرب الإمبراطورية الرومانية في شمال أفريقيا وإسبانيا وفرنسا. وقد تعلَّم شيشرون على بوزيدونيوس في رودس وعنه أخذ هذا المذهب. وقد اتجه وجهةً رياضيةً موفِّقًا بين تعاليم أفلاطون الأصلية — لا تعاليم الأكاديمية التي اصطنعت مذهب الشك — وبين الأخلاق الرواقية.

ذكرنا أن الرواقية في عصرها المتأخِّر اشتُهرت برجال ثلاثة، على رأسهم سنيكا (من ٣ق.م. إلى ٦٥ب.م)، أصله إسباني، عاش أبوه في روما، تثقَّف ثقافةً سياسيةً هيَّأته للاشتغال بالسياسة، فأصبح وزيرًا للإمبراطور كلاوديوس، الذي نفاه إلى كورسيكا بسبب عداوته لزوجته مسالينا، ثم استدعته أجريبا زوجة الإمبراطور الثانية، وعيَّنته معلِّمًا لابنها البالغ من العمر إحدى عشرة سنة. وهذا الصبي هو الذي أصبح فيما بعدُ الإمبراطور نيرون. وهكذا كان سنيكا معلِّم الإمبراطور، كما كان أرسطو معلِّم الإسكندر، ولكن شتَّان بين التلميذَين، وبين المعلِّمين. وقد لقي سنيكا من تلميذه جزاء سِنِمَّار؛ إذ غضب نيرون عليه عقب اتهامه بالتآمر على حياته، ومحاولة تنصيب إمبراطور آخر على العرش. وقد سُمح له أن يُنفِّذ حكم الإعدام على الطريقة الرومانية بأن ينتحر، فاختار أن يقطع شريانه. ومع أنه كان يزدري المال، إلَّا أنه جمع ثروةً كبيرة، قيل إنها بلغت مليونًا من الجنيهات.

أمَّا أبكتيتوس (٦٠–١٠٠ بعد الميلاد) فكان عبدًا إغريقيًّا، حرَّره نيرون واتخذه وزيرًا. عاش في روما وعلَّم بها حتى سنة ٩٠، إلى أن نفاه الإمبراطور دومتيان — ولم يكن يُحب أرباب الفكر والنظر — مع من نفاهم من الفلاسفة. وذهب أبكتيتوس إلى نيقوبوليس في أبيروس، حيث أخذ يُعلِّم ويُؤلِّف.

أمَّا الإمبراطور مرقص أوريليوس (١٢١–١٨٠) فقد عاش حياةً رواقيةً فاضلة. تميَّز عصره بوقوع كوارث عديدة؛ من زلازل، وأوبئة، وحروب طويلة دامية. وكان ابنه الإمبراطور كومودس من أسوأ الأباطرة سيرة، ولكنه أخفى نواياه الشريرة عن أبيه مدة حياته. وقد اشتُهر مرقص أوريليوس بكتابه الذي نُشر بعد وفاته، وهو «التأمُّلات». وهو عبارة عن خواطر كان يُدوِّنها لنفسه، ولم يكن يُعدُّها للنشر. وقد اتُّهمت زوجته «فاوستينا» بفساد السيرة، ولكن زوجها لم يشكَّ في شرفها. وقد اضطهد أوريليوس المسيحيين لخروجهم على دين الدولة الذي كان يعتبره ضرورةً سياسية. وعلى الجملة عاش مرقص أوريليوس حسن السيرة نقي السريرة.

كانت فلسفة أبكتيتوس ومرقص أوريليوس ملائمةً للعصر الذي عاشا فيه، ذلك العصر الذي تميَّز بالقلاقل والاضطرابات والكوارث، ولم يكن ثمة أمل في تحسين تلك الأحوال التي سارت من سيِّئ إلى أسوأ، حتى انتهى الأمر بسقوط الإمبراطورية الرومانية؛ من أجل ذلك كانت الأخلاق الرواقية التي بشَّرا بها وسارا عليها أفضل أخلاق ملائمة لذلك الصبر؛ إذ كانت تدعو إلى الصبر على الأذى، واحتمال المصائب، والرضا بالقضاء، أكثر منها رسالة أمل ورجاء.

وفلسفتهما متشابهة إلى حدٍّ كبير. ومن أقوال أبكتيتوس: إننا نعيش مساجين على الأرض، وفي بدن أرضي. ومن أقوال مرقص أوريليوس: ما أنت أيها الإنسان سوى روح ضئيلة تحمل على كاهلها جثة.

•••

وقد أصبحت حديقة إبيقور عنوانًا على البحث الفلسفي في الأخلاق واعتمادها على اللذة، وعلى الصحبة الفلسفية لتبادل الآراء. وقد شاع عن إبيقور أن مذهبه هو الإقبال على اللذة، والحق أن أحدًا لم يُظلم مثلما ظُلم إبيقور، إن في سيرته أو في مذهبه. وقد أشاع عنه خصومه الشائعات وألصقوا به التهم جُزافًا. وأكبر الظن أن خصومه في الفكر هم الرواقيون أصحاب الرواق، والذين كانت مدرستهم تُنافس حديقته. قيل مثلًا إن أمه كانت كاهنةً مشعوذة، وكان يطوف معها من دار إلى أخرى يُرتِّلان الأدعية الدينية. كما كان يُساعد أباه في مهنة تعليم الصبيان لقاء أجرٍ ضئيل. ولو صحَّت الرواية السابقة عن أمه، فيكون في ذلك السر في كراهية إبيبقور فيما بعدُ للخرافات الدينية التي تميَّزت بها تعاليمه.

أبوه أثيني استقرَّ في ساموس، وهناك أنجب ابنه إبيقور سنة ٣٤٢ق.م، وفيها أمضى الصبي حداثته، وشرع يدرس الفلسفة وهو في الرابعة عشر من عمره. وفي الثامنة عشر ذهب إلى أثينا يبغي أن يكون مواطنًا أثينيًّا، ولكن في ذلك الوقت طُرد المستعمرون في ساموس، فلجأ مع أسرته إلى آسيا الصغرى. وقد تعلَّم إبيقور المذهب الذري على يد ناوزيفانس أحد أتباع ديمقريطس.

بدأ يفتتح مدرسةً فلسفيةً سنة ٣١١ في ميتلين، ثم في لامباسكوس.

وفي سنة ٣٠٧ افتتح مدرسته في أثينا، وظل يُعلِّم بها إلى أن تُوفي سنة ٢٧٠، فكانت بذلك رابع مدرسة كبرى في أثينا بعد الأكاديمية و«اللوقيون» والرواق. وتُعد حديقة إبيقور مدرسةً منظَّمةً كالثلاث الأخرى، وهذا سر بقائها حتى نهاية القرن الأول قبل الميلاد؛ إذ تعلَّقت بمكان ثابت، وكان لها رؤساء تولَّوا إدارتها بعد موت صاحبها، وهذا على عكس المدرستَين اللتين أشرنا إليهما في بداية هذا الفصل؛ وهما مدرسة الكلبيين ومدرسة الشكاك.

اشترى إبيقور في أثينا بيتًا وحديقةً هي التي كان يقوم بالتدريس فيها، ومنذ ذلك الوقت أصبحت حياته هادئةً لا يُعكِّر صفوها سوى اعتلال صحته.

اشترك بالمدرسة منذ إنشائها في ميتلين إخوته الثلاثة وبعض الأصدقاء، ولكن عدد التلاميذ أخذ يزداد في أثينا. ولم تقتصر المدرسة على قَبول طلبة الفلسفة فقط، بل ضمَّت الأصدقاء والأطفال والعبيد والصواحب. وكان لاشتراك المرأة في الحديقة أثره في التشنيع على المدرسة، وذريعة اتخذها خصومه لاتهامه بالباطل؛ إذ لم يكن من المألوف فتح أبواب المدارس الفلسفية للمرأة، فيما عدا مدرسة فيثاغورس التي كانت في واقع الأمر فرقةً دينية.

والرابطة الأساسية التي كانت تجمع بين أفراد المدرسة هي الصداقة. وكانت حياة الجماعة — أو الفرقة — في المدرسة بسيطةً جدًّا، لا لأن تعاليم المدرسة كانت تنصح بالبساطة، كما هي الحال في سائر المدارس الأخرى، بل لحاجتها إلى المال. وكان طعام إبيقور الخبز والماء، وكذلك باقي التلاميذ، وفي ذلك كفاية لحفظ الحياة. ومن أقوال إبيقور: إن بدني لينتشي حين أعيش على الخبز والماء، وإني لأبصق على اللذات المترفة، لا لذاتها، بل بسبب ما تجلبه من عواقب غير حميدة.

اعتمدت المدرسة على الهبات التي كان يطلبها صاحبها من الأصدقاء ومن التلاميذ، وهذه الهبات بعضها من الطعام الذي يحتفلون به في أعيادهم، وبعضها من المال. وقد جاء في إحدى الروايات أنه سأل أحدهم أن يهب المدرسة جُبنًا يأكلونه في العيد.

وكان إبيقور سليط اللسان على أصحاب الفضل عليه في تعلُّم الفلسفة؛ إذ أنكر كل فضل لديمقريطس ولوقيبوس صاحبَي المذهب الذري، ووجَّه إليهما أقذع الشتائم. والمذهب الإبيقوري ماديٌّ ذري من جهة النظر إلى الفلسفة الطبيعية، وداعٍ إلى اللذة في الأخلاق.

اللذة هي الخير، وهي بدء الحياة السعيدة ونهايتها.

ومن أقواله التي حُفظت في كتب المؤرِّخين: لست أدري كيف أتصوَّر الخير إذا نزعت عنه لذة الذوق، ومتعة المرأة، وبهجة السمع والبصر؟

ومن أقواله أيضًا: أول كل خير وأساسه لذة البطن، وحتى الحكمة والثقافة فإنهما يرجعان إليها.

ومع أن اللذة هي مبدأ الحياة، إلَّا أن الإنسان لا ينبغي أن يُقبل عليها دون نظر إلى عواقبها، فإن كانت وخيمة، فلا بد من التضحية بها، بل تحمُّل الألم المؤقَّت في سبيل اللذة المستقبلة. واللذة عنده هي البعد عن الألم وتجنُّبه أكثر منها إقبال على المتعة. وهذا هو السبب في الزهد في الطعام؛ لأن عواقب التخمة وخيمة. والصلة الجنسية لا تُؤدِّي إلى خير أبدًا، والسعيد السعيد من لم يُصَب منها بضرر. أمَّا رأس الفضائل فهي الصداقة، وهي لا تنفصل عن اللذة؛ إذ من دونها لا يعيش المرء آمنًا بغير خوف.

والخوف محور آخر لفلسفة إبيقور، وتجنُّبه هو الذي يُحقِّق اللذة، ومن أقواله في ذلك: لا تُسرف في الأكل خشية سوء الهضم، ولا في الشرب خشية ما يحدث صباح اليوم التالي. واحتقر السياسة والمرأة وسائر الأعمال الشهوانية. على الجملة: عِش واتقِ الخوف.

ومصادر الخوف أمران — في زمانه طبعًا — الدين والموت، وهما متصلان؛ لأن الدين الذي كان سائدًا كان يُعلِّم أن الموتى أشقياء؛ ولذلك نادى بفلسفة تستبعد من الدين ما يجعله يبعث الخوف. ومذهبه أن الآلهة لا تتدخَّل في شئون البشر، وأن الروح تفنى بفناء البدن. إنه لا يُنكر وجود الآلهة، فهي موجودة، ولكنها لا تتدخَّل في أعمال البشر، ولا تُعنى بهم، فلا حاجة للخوف منها، أو إغضابها واستجلاب رضائها، أو الذهاب إلى الجحيم بعد الموت.

وفلسفته الطبيعية ذرية، وهي استمرار لفلسفة ديمقريطس؛ فالعالم مركَّب من ذرات وخلاء، ولكن الذرات ليست خاضعةً دائمًا لقوانين طبيعية صارمة؛ أي لفكرة الضرورة التي سادت الفلسفة اليونانية وجاءت من الدين.

والذرات عند إبيقور لها ثقل؛ ومن أجل ذلك تقع باستمرار، لا نحو مركز الأرض، بل إلى «تحت». وبين حين وآخر تنحرف بعض الذرَّات عن السقوط إلى تحت متأثرةً بإرادة باطنة حرة. والنفس مادية ومركَّبة من ذرَّات تتخلَّل سائر أجزاء البدن.

•••

ثم خلف إبيقور على الحديقة رؤساء يذكرهم ديوجينيس لايرتوس في تاريخه، ولكن لم يُشتهر أي واحد منهم، اللهمَّ إلَّا لوكريتيوس الذي عاش في روما، وكتب قصيدته المشهورة «في طبيعة الأشياء»، شرح فيها فلسفة إبيقور. ولم تُعرف القصيدة في زمانه (عاش ٩٩–٥٥ق.م)، بل في عصر النهضة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤