عيد النيل

لاحت في الأفق الشرقي تباشير ذلك اليوم من شهر بشنس، المنطوي في أثناء الزمان منذ أربعة آلاف سنة. وكان الكاهن الأكبر لمعبد الربِّ سوتيس يتطلَّع إلى صفحة السماء بعينَين ذابلتَين، أضناهما التعب طَوال الليل.

وإنَّه لفي تطلُّعه إذ عثَر بصَره بالشعرى اليمانيَّة، يتألَّق نورها في كبد السماء، فتهلَّل وجهه بالبِشْر، وخفَق قلبه بالفرح، وسجد على أرض المعبد الطاهرة شكرًا وزُلفى، وصاح بأعلى صوته أن قد بدت صورة الربِّ سوتيس في أفق السماء، تحمل إلى الوادي بشرى فيضان النيل المعبود، وتسير بين يدَي رحمته. وأيقظ صوته الجميل النِّيام، فهبُّوا من نومهم فرحين، وقلَّبوا وجوههم في السماء، حتَّى قرَّت أعينهم على النجم المعبود، فردَّدوا ترتيلة الكاهن، وأُفعمَت قلوبهم غبطةً وامتنانًا، ثم تركوا ديارهم مهطعين صوب شاطئ النيل، يشهدون أوَّل موجةٍ حاملة للخير والبركة. وردَّد جوُّ مصر الهادئ صوتَ كاهن الربِّ سوتيس، وأذاع البشرى إلى الجنوب، للاحتفال بعيد النيل المقدَّس، فحزموا أمتعتهم، ونَشِطوا خفافًا وثقالًا من طيبة ومنف وهرمونت وسوت وخمونو، يُولُّون وجوههم شطر آبو العاصمة، فنَهبَت العجلات الوادي، ومَخرتِ السفن عُباب الماء.

كانت آبو عاصمة مصر، يقوم بنيانها الشامخ على دعائم من الصوَّان، تؤلِّف بينها الكثبانُ الرملية، وقد غشَّاها النيل بطبقاتٍ من طميه الساحر، بثَّت فيها الخصب والخير العميم، وأنبتَت أرضها السنط والتوت والنخيل والدوم، وكست سطحها البقول والخضروات والبرسيم. ونشَرتْ فيه الكروم والمراعي، والجِنان تجري من تحتها الأنهار، وترعاها القطعان، يطير في سمائها الحمام والطير، ويتضوَّع نسيمها بشذا العطر والأزهار، وتتجاوب في جوِّها أغاريد البلابل والأطيار.

فما هي إلَّا أيَّامٌ معدودات، حتَّى ضاقت آبو وجزيرتاها؛ بيجة وبيلاق، بالنازحين، فامتلأَت البيوت بالنازلين، وازدحمَت الميادين بالخيام، وغصَّت الطرق بالغادين والرائحين، وانتشَرتْ حلقات اللاعبين والمغنِّين والراقصين، وزخَرتِ الأسواق بالعارضين والبائعين، وازدانَت واجهات البيوت بالأعلام وأغصان الزيتون، وبهَرتِ الأنظارَ جماعاتٌ من حرس جزيرة بيلاق بثيابها المزركشة وسيوفها الطويلة، وهُرعَت جموع القانتين المؤمنين إلى معبدَي سوتيس والنيل، يُوفُون بالنَّذْر، ويقدِّمون القرابين، واختلط غناء المنشدين بصياح السكارى الثملين .. وشاع في جوِّ آبو الرزين فرحٌ راقص، وطربٌ حارٌّ بهيج.

وجاء يوم العيد الموعود، وقَصدَت هاتيك الخلائق جميعًا إلى هدفٍ واحد، هو الطريق الطويل الممتد ما بين القصر الفرعوني والهضبة القائم عليها معبد النيل، فسخن الهواء بأنفاسهم الحارة، وناءت الأرض بحملهم، ويئس قومٌ لا عداد لهم من الأرض، فهبطوا إلى السفن، وأطلقوا الشرع، وطافوا بهضبة المعبد يُنشِدون أغاني النيل على أنغام المزمار والقيثار، ويرقصون على توقيع الدفوف.

ووقف الجنود صفَّين على جانبَي الطريق العظيم شاهري الرماح، وقد نُصبَت على مسافاتٍ متباعدة تماثيلُ بالحجم الطبيعي لملوك الأُسرة السادسة، آباء فرعون وأجداده، فرأى الأقربون تماثيل الفراعين؛ أسر كري، وتيتي الأول، وبيبي الأول، ومحتمساوف الأول، وبيبي الثاني.

وكان الجوُّ يضجُّ بأصوات القوم المختلفة، فيضيع تمييزها كما تضيع الأمواج في المحيط المُصطخِب، ولا يبقى منها إلَّا دويٌّ هائل شامل، ولكن كانت تعلو أحيانًا أصواتٌ جهيرة، تخترق الضوضاء، وتبلُغ الآذان، يهتف بعضها قائلًا: «مجِّدوا الربَّ سوتيس الذي بشَّرنا بالخير.» ويصيح صوت آخر: «مجِّدوا النيل الرب المقدَّس الذي يجلب إلى أرضنا الحياة والخصب.» وبين هذا وذاك، ترتفع أصواتٌ منادية على خمر مريوط، وأنبذة آبو، داعية إلى السرور والنسيان.

وكان جماعة من المشاهِدين يتجاورون ويخلُصون نجيًّا، تبدو على وجوههم آي النُّبل والنعيم، فقال أحدهم وهو يرفع حاجبَيه متأمِّلًا متعجِّبًا: كم من فرعون اطَّلع على هذه الجموع الحاشدة، وشاهد هذا اليوم العظيم! .. ثم ذهبوا جميعًا كأنَّهم لم يكونوا ملء الصدور، ملء الأبصار والأفئدة!

فقال آخر: نعم ذهبوا ليحكموا عالمًا أجلَّ من هذا العالم، كما سنذهب جميعًا .. انظر إلى هذا المكان الذي أشغل .. كم من البشر سوف يشغله في الأجيال المقبلة، ويجدِّد الآمال والأفراح التي تخفق في صدورنا الآن .. تُرى هل يذكُروننا كما نذكُرهم؟

– إنَّنا أكثر من أن يذكُرنا مذكر .. ألا ليت الموت لم يكن.

– وهل كان يمكن أن يسع الوادي تلك الأجيال التي ذهبَت؟ إنَّ الموت طبيعيٌّ كالحياة .. وما قيمة الخلود ما دمنا نشبع بعد الجوع، ونشيخ بعد الشباب، ونسأم بعد المسرَّة؟

– فكيف يعيشون في عالم أوزوريس؟

– انتظر، ستعلم ذلك بعد حين.

وقال آخر باهتمام: هذه أوَّل مرة يُسعِدني الربُّ برؤية فرعون.

فقال له صاحبه: أمَّا أنا فقد رأيتُه يوم التتويج العظيم منذ أَشهُر في نفس المكان.

– انظُر إلى تماثيل أجداده الأماجد.

– سترى أنَّه قريب الشبه بجدِّه محتمساوف الأول.

– ما أجملَ هذا!

– أجل .. أجل .. إنَّ فرعون شابٌّ جميل، لا نظير له في طُوله الفارع، وحُسنه الجاهر!

وتساءل أحد المتحدِّثين قائلًا: ترى ماذا يخلِّف حكمه؟ .. أمسلَّات ومعابد، أم ذكريات غزو في الشمال والجنوب؟

– إن صدَق حَدْسي فهي الثانية.

– ولِمَهْ؟

– إنَّه شابٌّ عظيم البأس.

فهزَّ الآخر رأسه بحذَر وقال: يقال إن شبابه من نوعٍ جامح، وإنَّ جلالته ذو أهواءٍ عنيفة، يُغرَم بالحبِّ، ويهوى الإسراف والبذخ، ويندفع في سبيله كالريح العاصفة!

فضحك المستمع ضحكةً خافتة، وهمَس قائلًا: وهل في ذاك ما يدعو إلى العجَب؟ ما أكثر المصريين الذين يُغرَمون بالحبِّ ويهوَوْن الإسراف والبذخ! .. فما بالُكَ بفرعون؟

– صه .. صه .. أنت لا تدري من الأمر شيئًا، ألم تعلم بأنَّه اصطَدم برجال الكهنوت منذ اليوم الأوَّل لتوليته العرش؟ إنَّه يريد المال ليُنفِقه في تشييد القصور، وغَرس البساتين، والكهنة يُطالِبون بنصيب الآلهة والمعابد كاملًا. لقد منحَهم آباء الملك نفوذًا وثراءً، والملك الشاب ينظُر إلى هذا بعين الطمع.

– حقًّا إنَّه محزن أن يبدأ الملك حكمه بالاصطدام.

– أجل .. ولا تَنسَ أنَّ خنوم حتب، رئيس الوزراء والكاهن الأكبر، رجلٌ حديديُّ الإرادة، شديدُ المِراس. وهناك أيضًا كاهنُ منف، تلك المدينة المجيدة التي لحقَها الأُفول على عهد هذه الأُسرة الجليلة.

فارتاع الرجل لهذه الأخبار التي تصُكُّ أذنَيه لأول مرة، وقال: إذن فلندعُ الأرباب جميعًا أن تُلهِم الرجال الحكمة والأناة والرأي السديد.

فقال الآخرون بإخلاصٍ صادر من الأعماق: آمين .. آمين.

ولاحت من أحد الواقفين التفاتةٌ إلى النيل، فلكز صاحبه بمرفقه قائلًا: انظر أيُّها الصديق إلى النهر .. لمن يا ترى هذه السفينة الجميلة الآتية من جزيرة بيجة، كأنَّها الشمس صاعدةً من الأفق الشرقي؟

فعطَف صاحبه رأسه نحو النهر، فرأى سفينةً عجيبة، لا بالكبيرة ولا بالصغيرة، خضراء اللون كأنَّها جزيرةٌ مُعشَوشِبة تطفو على سطح الماء، تبدو مقصورتها على البُعد متعالية، وإن قصَّرت العين عن رؤية ما بداخلها، ولاح في أعلى صاريها شراعٌ متموِّج عظيم، وانتظَمتْ جانبَيها حركةُ مجاديفَ بديعة تنبعث من مئات الأيدي .. فاستولَت الحَيْرة على الرجل، وقال: عسى أن تكون لمُوسرٍ من أهل بيجة.

وأصغى إلى حوارهما رجلٌ قريب، فحدَجهما بنظرة إنكار، وقال لهما: أُراهن أيُّها السيدان أنَّكما ضيفان.

فضحك الرجلان معًا. وقال ثانيهما: صدقتَ يا سيدي المحترم؛ فنحن من طيبة واثنان من الآلاف التي ناداها العيد المجيد فلبَّت هارعةً إلى العاصمة من جميع البلدان .. هل تكونُ هذه السفينة الجميلة لكبيرٍ من رجالكم البارزين؟

فابتسم الرجل ابتسامةً غامضة، وقال وهو يشير لهما بإصبعه محذِّرًا: طبتما نفسًا أيُّها السيدان الكريمان، ليست هذه السفينة لرجل من رجالنا، ولكنَّها امرأة .. أجل هي سفينةُ غانيةٍ حسناء يعرفها حقَّ المعرفة جميع أهل آبو وجزيرتَيها بيجة وبيلاق.

– ومَن عسى أن تكون هذه الحسناء؟

– رادوبيس .. رادوبيس الفاتنة، ملكة النفوس والأهواء جميعًا.

وأشار الرجل بيده نحو جزيرة بيجة، واستدرك: وهي تقيم هناك في قصرها الأبيض الساحر .. هدف العشَّاق والمُعجَبين، حيث يستبقون إلى نَيْل عطفها، واستدرار رحمتها .. وعسى أن يُسعفَكم الحظ برؤيتها، صانت الأرباب قلبَيكما عن التلَف.

واتجهَت أنظار الرجلَين وسواهما من الواقفين إلى السفينة مرَّة أخرى، وقد بدا على الوجوه الاهتمام الشديد. وكانت السفينة تدنو من الشاطئ، رويدًا رويدًا، والزوارق تُوسِع لها طريقها على عَجَل، وكلَّما عبَرتْ ذراعًا اختفت شيئًا فشيئًا وراء الهضبة المقام عليها معبد النيل، ومضى يغيب عن الأبصار مُقدِّمها ثم مقصورتها، فلمَّا أن اطمأنَّت إلى المرفأ لم يكن يُرى منها سوى أعلى صاريها وقمَّة شراعها المتموِّج، كأنَّه علَم الحبِّ يُظِلُّ القلوب والنفوس.

ومضت فترةٌ وجيزة، ثم رُئِيَ أربعة من النوبيين قادمين من الشاطئ يُوسعون في البحر المتلاطم طريقًا، يسير في أثَرهم أربعةٌ آخرون يحملون على الأكتاف هودجًا جميلًا فاخرًا، لا يحوزه إلَّا الأمراء والنبلاء، جلَستْ فيه غادةٌ حسناء، تستند في طراءة إلى وسادة، وتتكئ على نُمرُقة، بساعدٍ بضٍّ، وتُمسِك في يمناها بمروحة من ريش النعام، تلُوح في عينَيها الجميلتَين نظرةٌ ناعسة حالمة، تُصوِّبها إلى الأفق البعيد في كِبرياء سامية، تقتحم الخلق أجمعين.

وكان الركب الصغير يسير على مهَل، ترمقُه العيون من كلِّ صوب، حتَّى بلَغ الصف الأول من المُشاهِدين، وهناك مالت المرأة إلى الأمام قليلًا بجيدٍ كالغزال، ونثَرتْ من فمها الوردي كلماتٍ تاقت نفوسٌ إلى سماعها، فتوقَّفَ العبيد عن السير، ولزموا أماكنهم كأنَّهم تماثيلُ من البرنز، وارتدَّت المرأة إلى جلستها الأولى، واستَغرقَت فيما كانت فيه من الأحلام، ولبِثَت تنتظر الموكب الفرعوني الذي لا شكَّ جاءت لمشاهدته.

وكان ما يُرى منها نصفُها الأعلى، فاستطاع المجدِّودون أن يُشاهِدوا شَعَرها الأسود الحالك السواد، ينتظم على رأسها الصغير في أسلاكٍ من الحرير اللامع، ويهبط على كتفَيها في هالةٍ من الليل كأنَّه تاجٌ إلهيٌّ، ينبلج في وسطه وجهٌ مشرق مستدير، عانقَت فيه أشعَّة خدَّين كالورد اليانع، وفمًا رقيقًا مفترًّا كأنَّه زهرة من الياسمين في الشمس في خاتمٍ من القَرنفُل، وعينَين دعجاوَين صافيتَين ناعستَين، تلُوح فيهما نظرةٌ يعرفها الحبُّ معرفة المخلوق لخالقه، فما رُئي وجهٌ قبل هذا اختاره الجمال سكنًا ومسقَرًّا.

وقد فَتَنَ الناس منظَرُها كافَّة، وحرَّك قلوب الشيوخ الفانية، فصوبَتْ إليها من جميع الجهات نظرات نارية، لو عثَرت في طريقها بصوَّان لأذابته، ورمقَتها أعين النساء شَزْرًا ومَقتًا، وسرى الهمس بين المحيطين بها، وانتقل الحوار من فمٍ إلى فم.

– يا لها من امرأةٍ فاتنة!

– رادوبيس .. يُسموُّنها ربَّة الجزيرة!

– هذا جمالٌ قهَّار، لا يمكن أن يعصاه قلب.

– هو اليأس لمن يرى.

– صدَقتِ، فما وقعَت عليها عيناي حتى قامت في نفسي ثورةٌ جامحة، ونؤتُ بأعباء ظلمٍ فادح، وأحسستُ بتمرُّدٍ شيطاني، وصدَّت نفسي عمَّا بين يديَّ، وغلبَني على أمري الخذلان والخزي الأبدي.

– هذا أمرٌ محزن .. لكأنِّي بها صورة للسعادة حقيقة بالعبادة.

– هي شرٌّ وبيل!

– نحن أضعف من أن نحتمل مثل هذا الحُسن القاهر.

– ألا رحمة للعاشقين!

– ألا تعلم أنَّ عُشَّاقها هم صفوة رجال المملكة؟

– حقًّا؟

– إنَّ حبَّها فرضٌ على عِليَة القوم، كأنَّه واجبٌ وطني.

– لقد شيَّد المعمارُ النابغة هني قَصرَها الأبيض.

– وأثَّثه بآيات منف وطيبة آني حاكمُ جزيرة بيجة.

– مرحى .. مرحى!

– وصنَع تماثيله، ونحَت جُدرانه، المثَّالُ النابغة هنفر.

– نعم، وأهدى تُحفه الثمينة القائدُ طاهو، رئيس الحرس الفرعوني.

– إذا كان جميع هؤلاء يتنافسون في حبِّها فمن السعيد الذي تستخلصه لنفسها؟

– سل عن السعيد في هذه المدينة الشقيَّة.

– لا أظنُّ أنَّ هذه المرأة تَعشَق أبدًا.

– من أدراك؟ .. عسى أن تَعشَق عبدًا أو حيوانًا.

– كلَّا .. إنَّ جمالها هو القوة الجبَّارة .. وما حاجة القوة إلى الحب؟

– انظر إلى نظرة عينَيها الرفيعة القاسية .. إنَّها لم تذُق الحب بعدُ.

وكانت امرأةٌ تُصغي إلى هذا الحديث، فضاق صدرها.

وقالت بجفاء: ما هي إلَّا راقصة .. تربَّت في بؤر الفساد والمجون، ووهبَت نفسها منذ الطفولة للخلاعة والغواية، وأجادت فن المساحيق، فتبدَّت في هذا المظهر الخلَّاب الكاذب.

فكبُر هذا الكلام على أحد الرجال المفتونين فقال: معاذ الرب يا سيدتي، ألم تعلمي بعدُ أنَّ جمالها الرائع ليس كل ما وهبَتْها الآلهة من ثراء؟ .. وأنَّ توت لم تبخل عليها بنور الحكمة والعرفان؟

– بخٍ .. بخٍ .. من أين لها بالحكمة والعرفان، وهي تُنفِق عمرها في إغواء الرجال؟

– قصرها يستقبل كلَّ مساءٍ جماعةً ممتازة من الساسة والحكماء والفنَّانين، فلا عجب أن تكون كما يُشاع عنها من أعمقِ الناس فهمًا للحكمة، وأدراهم بالسياسة وأَذوقِهم للفنِّ.

وسأل سائل: كم عمرها؟

– يقولون إنَّها بنت ثلاثين.

– لا يمكن أن تُجاوز الخامسة والعشرين.

– ليكُن عمرها ما تشاء، فهذا الحُسن يانعٌ قاهر، يُقسِم أن لن يلحقه الذبول أبدًا!

وعاد السائل يسأل باهتمام: ما منشؤها، وما أصلها؟

– عِلمُ هذا عند الأرباب .. وكأنِّي بها وُجدَت منذ الأزل في قَصرها الأبيض بجزيرة بيجة!

•••

وشقَّت الصفوف المتراصة بغتةً امرأةٌ غريبة، كانت منحنية الظهر كالقوس، تتوكَّأ على عصًا غليظة، منفوشةَ الشعر بيضاءَه، طويلةَ الأنياب صفراءَها، مقوَّسة الأنف، حادَّة البصر، يشعُّ من عينَيها نورٌ مخيف يُرسل من تحت حاجبَين كثيفَين أشيَبَين، وكانت ترتدي جلبابًا واسعًا طويلًا، يضيق عند وسطها بمنطقةٍ من الكتَّان .. وصاح الذين رأوها: ضام .. الساحرة ضام!

فلم تُبالهِم، وسارت بقدمَيها الهزيلتَين. كانت تدَّعي الاطِّلاع على الغيب، وكشْفَ الستار عن المستقبل، وكانت تُسخِّر قوَّتها الخارقة لقاء قطعةٍ من الفضة، وكان المحيطون بها بين خائفٍ منها ومتهكِّمٍ بها. والتقَت الساحرة في طريقها بشابٍّ حدث، فعَرضَت عليه أن تقرأ له صفحة الغيب، ولم يمانع الشابُّ، وكان في الحقيقة ثملًا يترنَّح في سيره، لا تكاد تحملُه ساقاه، فدفَع لها بقطعةٍ من الفضة، وهو يرنو إليها بعينَين نصف نائمتَين، وسألَتْه بصوتها الأجشِّ: كم عُمركَ يا غلام؟

فأجابها وهو لا يعي ما يقول: اثنتا عشرة كأسًا.

وعلا ضحك الساخرين، فاهتاجت المرأة غضبًا ورمَتْه بالقطعة التي نفحَها بها، واستأنفَت مسيرها الذي لا ينتهي. واعترض سبيلها شابٌّ آخر ساخر وسألها بقِحة: ماذا ينتظرني من الحادثات يا امرأة؟

فنظَرت إليه مليًّا وهي مَغيظةٌ مُحنَقة، ثم قالت له: أبشر .. ستخونُكَ امرأتُك للمرة الثالثة.

وضحك الناس وصفَّقوا لها، وانزوى الشابُّ خجلًا، وقد رُدَّ السهم إلى صدره. وسارت الساحرة حتى بلغَت هودج الغانية، وطمعَت في سخائها فتوقَّفَت بإزائه، وصاحت تحدِّث صاحبته وهي تبتسم ابتسامةً كريهة: أيَّتُها السيدة المحروسة بالعناية! هل أقرأ لك الطالع؟

ولم يبدُ على الغانية أنها سمعَت صوت الساحرة، فصرخَت العجوز: مولاتي!

وانتبهَت إليها رادوبيس فيما يشبه الذعر، ثم عطفَت عنها رأسها سريعًا وقد لمسها الغضب، وقالت لها العجوز: صدِّقيني ما من إنسانٍ في هذا الجمع الحاشد يحتاج إليَّ اليوم حاجتك!

فتقدَّم منها أحد العبيد، وحال بينها وبين الهودج، وكاد الحادث على تفاهته يثير اهتمام القريبين، ولكن سُمِعَ صوت بوقٍ شديد يخترق الفضاء، ووضَع على أثَره الجند المصطفُّون على جانبَي الطريق الأبواقَ في أفواههم، ونفخوا فيها نفخًا طويلًا متصلًا، فعلم الناس جميعًا أن الركب الفرعوني بدأ تحرُّكه، وأنَّه عمَّا قليلٍ يغادر فرعونُ القصرَ في طريقه إلى معبد النيل، فنسي الجميع ما كانوا فيه وشخصوا إلى الطريق بأعناقٍ مُشرئبَّة، وحواسَّ مُرهَفة.

ومضت دقائقُ طويلة ثم بدأَت طلائع الجيش تسير صفوفًا متراصة على أنغام الموسيقى الحربية تتقدَّمها حامية بيلاق بعُددها المتنوِّعة، تسير وراء علَمها المتوَّج بصورة الباز، فكانت الجنود تُقابَل في كل مكانٍ بالهُتاف والتصفيق.

وقفَتها بعد حينٍ قليل فرقةُ المشاة حاملي الرماح والتروس، تتأثَّر موسيقاها، وعلَمها المزدان بصورة الربِّ حورس، وقد استقامت الرماح في صورةٍ هندسية دقيقة، فرسمَت في الهواء خطوطًا متوازية طولًا وعرضًا.

وجاءت فرقةُ الرماة الكبرى حاملي القسيِّ والسهام، واستغرق مسيرها فترةً طويلة من الزمن، يتقدَّمها علَمها الموسوم بصولجان العرش.

ثم سُمع من بعيدٍ دويٌّ وصلصلة وصهيلُ خيل، ولاحت للأنظار فرقةُ العَجَلات تنطلق عشرة عشرة في صفوفٍ متوازية دقيقة كأنَّما رُسمَت بالقلم، يجرُّ العَجَلة جوادان مطهَّمان، ويقوم على ظهرها فارسان؛ سائقٌ مزوَّد بالسيف والمزراق، ورامٍ مُدرَّع يمسك قوسه بيدٍ ويحمل جَعْبته بيدٍ، فذكر المشاهدون لمرآها غزو النوبة وطُور سيناء، وخالوا أنَّهم يَروْنها تنتشر في السهول والوديان كالنسور المنقضَّة، والعدوُّ يتشتَّت أمامها، وقد أذهلَه الرعب، وأحاط به الهلاك، فاشتعل الحماس في عروقهم نارًا، وشقَّ هُتافُهم السماوات.

وبدا للناظرين الموكب الفرعوني المهيب، تتقدَّمه العَجَلة الفرعونية، وتتبعُها مباشرةً أهلَّة من العَجلات خُماسَ خُماسَ، تحمل الأمراء والوزراء وكبار رجال الكهنوت والقضاة الثلاثين وقُوَّاد الجيش وحكَّام الأقاليم، واختتم الموكب بذيلٍ من الحرس الفرعونيِّ على رأسه القائد طاهو.

ووقف فرعون في عَجَلته منتصب القامة، مهيب الطلعة كأنَّه تمثالٌ من الجرانيت لا يميل يمنةً ولا يسرةً، ويُصوِّب بصَره إلى الأُفق البعيد غير ملتفتٍ إلى الخلق جميعًا، ولا إلى هُتافهم الصاعد من أعماق القلوب.

وكان يضع على رأسه تاج مصر المزدَوج، ويقبض بيدٍ على السوط الملكي، وبالأخرى على العصا المعقوفة، وقد ارتدى فوق لباسه الملكي كساءً من جلد النمر احتفالًا بالعيد الديني.

وأُفعِمَت القلوب حماسةً وسعادة، فتعالى الهُتاف، فكاد لشدَّته أن يُفزع الطير المحلِّق في السماء. وأثار الحماس رادوبيس نفسها فدبَّت بها حياةٌ فجائية، وأضاء وجهها بنورٍ بهيج، وصفَّقَت يداها الرخصتان.

وأفلَت من بين الأصوات الهاتفة صوتٌ يصيح على عَجَل: «ليَحيَ صاحب القداسة خنوم حتب.» فردَّد هُتافَه عشراتُ الأصوات، وأحدَث هُتافه انزعاجًا وأهاج ضجَّةً شديدة، وتلفَّت الناس يبحثون عن الجَسور الذي هتف باسم رئيس الوزراء على مسمعٍ من فرعون الشاب، والجماعة التي ناصَرتْ هذا التحدِّي العجيب!

ولم يتركِ الهُتاف أثرًا ظاهرًا، ولم يبدُ على أحدٍ من حاشية الملك أدنى تأثُّر، وتابع الموكب سَيْره حتى بلغ هضبة المعبد، فتوقفَت العَجلاتُ جميعًا، وتقدَّم إلى عَجَلة فرعون أميران يحملان وسادةً من ريش النعام مكلَّلة بغطاء من نسيجٍ ذهبي، فترجَّل الملك عليها. ونُفخ في الصور، فأدَّى الجند التحية العسكرية، وصَدحَت موسيقى الحرس بنشيد النيل المعبود، وصَعِد فرعون درجات الهضبة في تُؤدَة وجلال، يتبعُه وجوه مملكته من الأمراء والوزراء والحكَّام، ولدى باب المعبد العظيم وجد الكهنة في استقباله سجَّدًا. ولمَّا أعلن كبير الحجَّاب سوفخاتب وصول الملك، وقف رئيس كهنة المعبد وأحنَى ظهره، وأخفى عينَيه بيدَيه، وقال في صوتٍ خافت: يتشرَّف خادم الربِّ المعبود النيل، بإزجاء تحيَّة العبودية والإخلاص إلى مولاي سيِّد القُطرَين، ابن رع وربِّ المشرقَين.

فأعطاه فرعون العصا المعقوفة، فقبَّلها الكاهن في إجلالٍ عميق، وقام الكهنة واصطفُّوا صفَّين موسعين لفرعون، فسار تَتبعُه حاشيته إلى ساحة المذبح المحاطة بالأعمدة الشاهقة من كل جانب، وطافوا بالمذبح، وكان الكهنة يُحرقون البخور، فينتشر أريجه في جوِّ المعبد، وتتنفَّسه الرءوس المنعكسة إجلالًا وقنوتًا. وأحضَر بعض الحجَّاب ثورًا ذبيحًا، ووضَعوه على المذبح قربانًا وزلفى، ثم تلا فرعون هذه الكلمات التقليدية:

«مثَلتُ في رحابك أيُّها الإله المقدَّس بعد أن طهَّرتُ نفسي. وقدَّمتُ القربان زلفى إليك، فامنُن بالخير على أرض هذا الوادي الطيِّب، وأهله الآمنين.»

وردَّدتِ الكهنة الدعاء في صوتٍ عالٍ مؤثِّر، يفيض بالإيمان والتقوى، رافعين رءوسهم إلى السماء، باسطين أيديهم في الهواء. وردَّد الحاضرون جميعًا الدعاء، وسرى الصوت إلى خارج المعبد، فسارع الناس في ترديده، وما هي إلَّا هُنيهةٌ حتى لم يَبقَ لسانٌ لم يلهج بدعاء النيل المقدَّس، ثم سار الملك وفي معيَّته كاهن المعبد، ويتبعُهما رجال المملكة إلى بهو الأعمدة ذي الصحون الثلاثة المتوازية، ووقفوا صفَّين بينهما الملك وخادم الربِّ، ثم رتَّلوا نشيد النيل المعبود بأصواتٍ متهدِّجة، تختلج بخفقات القلوب، فيرنُّ صداها في جوِّ المكان القاتم المهيب.

وصَعِد الكاهن الدرجات المؤدِّية إلى البَهْو الخالد، واقترب من باب قُدس الأقداس، وأبرز المفتاح المقدَّس، وفتح الباب العظيم وانتحى جانبًا، وركع ساجدًا يصلِّي. وتبعه الملك ودخل الحجرة المقدَّسة حيث يرقد تمثال النيل في السفينة الإلهية، وأغلق الباب، وكان المكان واسعًا، شاهق السقف، شديد الظلمة، قويَّ الأثَر، وعلى مقربة من الستار المسدل على تمثال الآلهة أُقيدَت الشموع على مناضدَ من الذهب الوهَّاج. ونفذَت هيبة المكان إلى قلب الملك الكبير، فوهنَت حواسُّه، وتقدَّم في إجلالٍ إلى الستار المقدَّس وأزاحه بيده، وأحنَى ظهره الذي لا ينحني أبدًا، وسجد على ركبته اليمنى ولثم قدَم التمثال، وكان ما يزال مهيبًا، ولكن غابت عن وجهه آي مجد الدنيا وكبريائها، واكتست صفحته بلونٍ باهت من الخشوع والتقوى .. وصلَّى فرعون صلاةً طويلة، واستغرق في العبادة ناسيًا مجده التالد وعظمته الدنيويَّة.

ولمَّا بلغ النهاية لثم القدم المقدَّسة مرةً أخرى، وقام واقفًا وأسدل الستار الكريم، وانسحب إلى الباب ووجهه إلى الربِّ، حتى تنفَّس هواء البهو الخارجي ثم أغلق الباب.

وحيَّا القوم فرعون بالدعاء، وساروا وراءه إلى بهو المذبح، وتبعوه إلى خارج المعبد، وعرَّجوا جميعًا إلى حافة الهضبة المطلَّة على النيل. ورآهم الأهلون المتجمِّعون فوق أسطح السفن، فتعالت أصواتهم بالهُتاف، ولوَّحوا بالأعلام والغصون.

ودُعي رئيس الكهنة إلى إلقاء الخطبة التقليدية، فنشَر بين يدَيه ورقةً طويلة من أوراق البردي، وتلا بصوتٍ قويِّ النبرات:

«السلام عليك أيُّها النيل، يا من يعمُّ فيضه الوادي مبشِّرًا بالحياة والسعادة. إنَّك لتسكن الغياهب أشهرًا، فإذا أصختَ إلى توسُّلات عبادك، ولان قلبك الكبير رحمةً بهم، خرجتَ من الظلمات إلى النور، وانسبتَ في بطن الوادي زاخرًا، فتبعث في الأرض الحياة، وسرعان ما تهتَز النباتات طربًا، وتفضُّ الصحراء تحت بساطٍ سندسيِّ، وتزدهر البساتين، وتُغنِّي المغارس، وتصدَح الطير، وتهتف القلوب بنشوة الفرح، فيُكسى العاري، ويطعَم الجائع، ويَروى الصديان، ويتزوَّج الأعزب، وتتلفَّع أرض مصر بالسعادة والمجد .. تعاليتَ والمجد لك .. تعاليتَ والمجد لك.»

ورتَّل كهنة المعبد أنشودة النيل على نغم القيثارة والمزمار والناي، وعلى توقيع الدفوف في ألحانٍ عذبة وأنغامٍ شجيَّة.

ولمَّا أن ضاعت الأنغام في تضاعيف الفضاء، تقدَّم الأمير ناي من فرعون وأسلم إليه قرطاسًا مختومًا من البرديِّ، يشتمل على دعاء النيل المعبود، فأخذه الملك ورفعه إلى جبينه، ثم تركه يهوي إلى النيل فحملَته أمواجه المتدافعة في صخبٍ صَوب الشمال.

وهبط فرعون أدراج الهضبة، وركب عَجلتَه، ورجع الموكب كما أتى تحفُّ به العظمة ويحوطه المجد، وتهتف له قلوب الملايين من الرعايا المخلصين، وقد أهاجهم الحماس، وأسكَرتْهم نشوة الطرب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤