فرعون

وفتحَت عينَيها فرأت ظُلمة. تُرى أما يزال الليل جاثمًا، وكم ساعة استطاعت أن تخلُد فيها إلى السكينة والنوم؟ ولبثَت دقائقَ لا تعي شيئًا مطلقًا ولا تذكُر شيئًا، كأنَّها جهلَت الماضي كما تجهل المستقبل، وكأنَّما ابتلَعتْ شخصيَّتها ظلمةُ الليل الحالكة. وأحسَّت هنيهةً بذهول وضيق، ثم ألفَتْ عيناها الظلمة فبهتَت وخفَّت وطأتها، واستطاعت أن ترى ضوءًا خفيفًا يشعُّ من خصائص النوافذ فتبيَّنتْ أثاثَ المخدَع، ورأت المصباح المدلَّى المُكَفَّت بالذهب، وولج الشعور حواسَّها، فذكَرتْ أنَّها ظلَّت يقظةً لا يذوق جفنَاها نومًا حتَّى غمرها الفجر بموجه الأزرق الهادئ، وأنَّها ارتمت عند ذاك على السرير، فاختلَسَها النوم من عواطفها وأفكارها، وعلى ذلك تكون في نهار اليوم الثاني، أو في مسائه.

وذكَرتْ حوادثَ الليلة الماضية، وعادت إلى مخيِّلتها صورةُ طاهو وهو يُرغي ويُزبد، ويئن من اليأس ويتوعَّد بالمقت، يا له من رجلٍ عنيف! إنَّه لرجلٌ جبَّار شديد الغضب، وحشيُّ الغرام، ولا عيب فيه إلَّا أنَّ حبه عنيدٌ مثابر، شديد التغلغل. وتمنَّت صادقةً لو ينساها أو يمقتها، إنَّها لا تجني من الحب سوى المشقَّة. الكلُّ يتلهَّف على قلبها، وقلبها زاهدٌ نافر، كحيوانٍ غير أليف. وكم اضطُرت إلى خوضِ مواقفَ مؤثِّرة ومآسٍ أليمة وهي كارهة، ولكنَّ المآسي كانت تتبعُها كظلِّها، وتحُوم حولها كخواطرها، فلوَّثَت حياتَها بالقسوة والآلام.

ثم ذكَرتْ ما قال طاهو عن فرعون الشاب من أنَّه يرغب في رؤية صاحبة الصندل، وأنَّه سيدعوها حتمًا إلى حريمه العامر .. آه! .. إنَّ فرعون شابٌّ ملتهب الدماء، جنونيُّ الشباب. كما قيل لها، فليس عجيبًا أن يقول طاهو ما قال، ولا مستحيلًا أن تُصدِّق أقواله، ولكن عسى أن تأخذ الحوادث مجرًى جديدًا، إنَّ ثقتها بنفسها لا حدَّ لها.

وسمعَت طرقًا على الباب، فقالت بصوتٍ متكاسل: شيث .. ادخلي.

وفتحَت الجارية الباب، ودخلَت تسير في خفَّتها المعهودة وهي تقول: حمدًا للربِّ الذي يسَّر لكِ النوم بعد طُول السهاد. وا رحمتاه لك يا مولاتي! لا بدَّ أنَّ الجوع نال منكِ كلَّ منال.

وفتحَت النافذة، فانبعث منها نورٌ مكلَّل بسُمرة، وقالت ضاحكة: غابت شمس اليوم دون أن تراكِ، فباءت من زيارتها للأرض بالخسران.

وسألَتها رادوبيس وهي تتمطَّى وتتثاءب: أأتى المساء؟

– نعم يا مولاتي، والآن هل تذهبين إلى الماء المعطَّر أم تتناولين الطعام؟ .. وا أسفاه أنا أعلم بما سهَّد جفنَيك بالأمس!

فسألَتها باهتمام: ما هو يا شيث؟

– أنَّك لم تدفِّئي الفراش برجل.

– خسئتِ يا ماكرة.

فقالَت الجارية وهي تغمز بعينَيها: الرجال عادةً مستبدَّة يا مولاتي، ولولا هذا ما احتملتِ غرورهم.

– حسبك ثرثرة يا شيث.

وشكَت من ثقل رأسها، فقالت لها الجارية: هَلُمِّي بنا إلى الحمَّام .. فالعشَّاق يتقاطرون على بهوِ الاستقبال، ويؤلمهم أن يروه خاليًا منك.

– هل جاءوا حقًّا؟

– وهل خلا بهو استقبالك منهم قَطُّ في هذه الساعة؟

– لن أرى منهم أحدًا.

فبُهتَت شيث، ونظَرتْ إلى سيِّدتها بارتياب، وقالت: خيَّبْتِ بالأمس آمالهم .. فماذا تقولين اليوم؟ .. آه! لو تعلمين يا مولاتي كم جزعوا لتأخُّر حضورك.

– آذنيهم بأنِّي تَعِبَة.

وتردَّدتِ الجارية، وهمَّت بالاعتراض، ولكنَّها صاحت بها بعنف: اصدعي بما أُمِرتِ.

فغادرت المرأة المخدع مرتبكةً لا تدري بما غيَّر مولاتها.

وارتاحت الغانية لما فعلَت، وقالت إنَّ هذا ليس وقتهم؛ فهي لا تستطيع أن تجمع شتيت أفكارها لتُصغي إلى إنسان، ولا أن تحصُر خواطرها في حديث فضلًا عن أن ترقص أو تغنِّي .. فليذهبوا جميعًا .. وخشِيَت أن تعود شيث بتوسُّلات القوم، فقامت من السرير وهَرولَت إلى الحمَّام.

وتساءلَت في وحدتها: تُرى هل يرسل فرعونُ في طلبها هذا المساء؟ آه! أهي لهذا تضطرب وتقلق؟ أهي تخشى؟ كلَّا .. إنَّ هذا الحُسن الذي لم تحظَ بمثله امرأةٌ من قبلُ حقيقٌ بأن يملأها ثقةً بنفسها لا حدَّ لها، وإنَّها لكذلك .. ولن يقاوم جمالها إنسان، ولن يذلَّ حُسنُها لمخلوق، ولو كان فرعون نفسه، ولكن لماذا إذن هي مضطربةٌ قلقة؟ لقد عاوَدها ذاك الشعور الغريب الذي تلبَّسها مساء الأمس، والذي نبض بقلبها أوَّل ما نبض حين وقع بصرها على الملك الشابِّ الواقف على ظهر عَجلته كالتمثال. يا عجبًا! .. أتُراها حائرةً لأنَّها حيال لغزٍ غامض؟! واسمٍ جبَّار هائل؟! وربٍّ معبود؟! أتُرى أنَّها تودُّ لو تراه في نشوة البشر بعد أن رأَته في جلال الآلهة؟! أتُراها قلقة لأنها تريد أن تطمئنَّ إلى قوَّتها بإزاء هذا الحصن المنيع؟!

وطرقَت شيث باب الحمَّام، وقالت إنَّ السيد عانن أرسل معها كتابًا إلى مولاتها، فغَضبَت الغانية، وقالت بعنف: مزِّقيه إرْبًا، وخَشيَت الجارية أن تثير غضب مولاتها عليها، فذهبَت تتعثَّر في الارتباك. وغادرت رادوبيس الحمَّام إلى مخدعها في أجمل صورة وأكمل هيئة، وتناولَت الطعام وشَربَت كأسًا مترعة من خمر مريوط. ولم تكد تطمئنُّ إلى الديوان حتَّى دخلَت عليها شيث مهرولةً بلا استئذان، فتلقَّتها بنظرة تحذير ووعيد، وقالت الجارية في خوف: في البهو رجلٌ غريب يلحُّ في مقابلتك.

فاستولى الغضب على الغانية، وصاحت بها: هل أصابكِ مسٌّ من الجنون يا شيث؟ أتُحالفين أولئك القوم المزعجين عليَّ؟!

فقالت الجارية وهي تلهث: صبرًا يا مولاتي .. لقد دفعتُ الزوَّار جميعًا، أمَّا هذا الرجل فغريبٌ لم تَرَه عيناي من قبلُ .. التقيتُ به بغتةً في الردهة المؤدِّية إلى البهو، ولا أدري من أين أتى .. وحاولتُ أن أعترض سبيله، ولكنَّه سار بغير مبالاة، وأمرني أن أُبلِّغك رجاءه.

فسهمَت الغانية إلى الجارية هُنيهةً، وسألَتها باهتمام: هل هو من ضبَّاط الحرس الفرعوني؟

– كلَّا يا سيِّدتي .. إنَّه لا يرتدي زي الضبَّاط .. وقد سألتُه أن يعلن لي عن شخصيته، فهزَّ منكبَيه باستخفاف، فأكَّدتُ له أنَّكِ لا تقابلين أحدًا اليوم .. ولكنَّه استهان بكلامي، وأمرني أن أُوذِنكَ بانتظاره .. أوَّاه يا مولاتي! .. إنِّي أحرص على رضاكِ، ولكنِّي لم أجد وسيلةً إلى دفع هذا الثقيل الجريء.

وتساءلَت: أيكون هو رسول الملك؟ وخفَق قلبها لهذه الفكرة خفقةً شديدة ارتَجَّ لها صدرها .. وجرت إلى المرآة، وألقت على صورتها نظرةً فاحصة، ثمَّ دارت دورةً كاملة على أطراف أصابعها ووجهُها ثابت في المرآة، وسألَت الجارية: ماذا ترينَ يا شيث؟

فقالت الجارية، وهي تدهش لتبدُّل حال مولاتها: أرى رادوبيس يا مولاتي!

وغادرت الغانية المخدع، تاركةً جاريتَها في دهشتها وحَيْرتها، وانتقلَت كالحمامة من حجرة إلى حجرة، ثم هبطَت أدراج السلَّم المفروشة بفاخر السجَّاد، وتريَّثتْ قليلًا عند مدخل البهو .. رأت رجلًا يُوليها ظهره، ووجهُه إلى جدار البهو يُطالِع شعرًا لرامون حتب .. تُرى مَن هو؟ كان في مثل طول طاهو ولكنَّه أمْيَل إلى النحافة والدقَّة، عريض المنكبَين، جميل الساقَين، على ظهره وشاحٌ مرصَّع بالجواهر يصل ما بين منكبَيه ومنطقة وزرته، وعلى رأسه قلَنسوةٌ جميلة ذات شكلٍ هرميٍّ لا تشبه قلَنسوات الكهنة، ترى من يكون؟ إنَّه لا يشعر بها لأنَّها تتقدَّم بخفَّة على سجَّادٍ غليظ .. ولمَّا صارت منه على قيد خطواتٍ قالت بصوتٍ خفيض: سيِّدي.

فالتفت الرجل الغريب إليها.

ربَّاه! وجدَت نفسها وجهًا لوجه أمام فرعون؛ فرعون نفسه بعزَّته وجلاله، مرنرع الثاني دون غيره من الخلق!

ربَّاه! لقد زعزعَت المفاجأة كيانها، فأُخذَت قهرًا، وغُلبَت على أمرها. تُرى أهي في حُلم من الأحلام! ولكنَّها تعرف حقَّ المعرفة هذا الوجه الأسمر، والأنف الأشمَّ الطويل. إنَّها لا يمكن أن تنساه أبدًا، لقد رأَته مرَّتين، فنفذ إلى ذاكرتها بقوَّة، وحفَر صفحتها حفرًا عميقًا لا يزول، ولكنَّها لم تحسب حساب هذا اللقاء، ولا أخذَت أُهبتها له، لم ترسم له خطَّة من خطَطها الرابعة. وهل كانت رادوبيس تلقى فرعون لقاءً ارتجاليًّا، وهي التي تُعدُّ العدَّة للقاء تجَّار النوبة؟! أُخِذَتْ على غِرَّة، فقُهرَت قهرًا! ومُنيَت بالهزيمة الساحقة، وبادرَت تنحني لأوَّلِ مرَّة في حياتها، وتقول بصوتٍ متهدِّج: مولاي.

وكانت عيناه تُرسلان نظرةً عميقة، فتستقر على وجهها الجميل، وكان يُلاحِظ ارتباكها واضطرابها بلذَّةٍ غريبة، ويُشاهِد السحر الذي تنفثُه قسماتها بنشوةٍ فاتنة، فلمَّا حيَّته قال لها بصوته ذي النبرات الواضحة واللهجة العالية: أتعرفينني؟

فقالت بصوتها العذب الموسيقي: نعم يا مولاي .. هكذا شاء حظِّي السعيد أمس.

وكان لا يشبع من النظر إلى وجهها. وأخذ يُحسُّ بتخديرٍ عامٍّ يعتور حواسَّه وعقله، فلم يعُد يأبه لإرادته، واندفع قائلًا: إنَّ الملوك قوَّامون على الناس، يسهرون على أرواحهم، وعلى أموالهم، ولهذا جئتُ إليكِ لأردَّ لك أمانةً ثمينة.

ولم يُبالِ الملك أن يدُسَّ يده تحت وشاحه، فيُخرج فردة الصندل ويقدِّمها لها وهو يقول: أليس هذا صندلكِ؟

وتبعَت عيناها يد فرعون، وشاهدَت فردة الصندل تبرز من تحت وشاحه بعينَين مرتاعتَين لا تكادان تصدِّقان ممَّا تريان شيئًا، وتمتمَت بانفعالٍ شديد: صندلي!

فضحك الملك ضحكةً عذبة، وقال وعيناه لا تتحوَّلان عنها: بعينه يا رادوبيس، أليس هذا اسمك؟

فأحنَت رأسها، وتمتمَت قائلةً: نعم يا مولاي. وكانت مضطربة فلم تَزِد، أمَّا الملك فاستدرك: إنَّه لصندلٌ جميل، وأعجَب ما فيه هذه الصورة المنقوشة على باطنه، وكنتُ أحسبها زخرفًا جميلًا حتَّى وقعَت عليكِ عيناي، فعلمتُ أنَّها حقيقةٌ رهيبة، وعلمتُ حقيقةً أجلَّ، وهي أنَّ الجمال كالقضاء يُباغِت الإنسان بما لا يقع له في حسبان.

فشبكَت كفَّيها، وقالت: مولاي .. ما كنتُ أحلُم قطُّ أن تُشرِّف قصري بذاتك، أمَّا أن تحمل صندلي .. ربَّاه! ماذا أقول؟ .. لقد فقدتُ جَناني. غفرانكِ يا مولاي! ويحي نسيتُ نفسي يا مولاي، وتركتُكَ واقفًا.

وهُرعَت إلى عرشها وأشارت إليه، ثم انحنت باحترام، ولكنَّه اختار ديوانًا وثيرًا، وجلس عليه، وقال لها: ادْنِي مِنِّي يا رادوبيس. اجلسي ها هنا.

فدنت الغانية حتى صارت على بُعدٍ قريب، ووقفَت تُغالِب اضطرابها وذهولها، فأجلسها بيده، وأمسك بمعصمها — وكانت أوَّل لمسة — وأجلسها إلى جانبه .. وكان قلبها يخفق بشدَّة، فوضعَت الصندل جانبًا، وخفضَت عينَيها، ونسيت أنَّها رادوبيس المعبودة، التي تعبث بالقلوب والرجال كيف شاء لها العبث. غلبَتْها المفاجأة، وهزَّ نفسها الشخص المعبود، كأنَّه ضوءٌ متوهِّج سلَّط على عينَيها بغتةً، فانكمشَت كعذراء تتصدَّى لرجلها أول مرَّة .. إلَّا أنَّ جمالها الرائع خاض المعركة — بغير علمٍ منها — ثابتَ الجنان، عظيمَ الثقة، وسلَّط شعاعه السحريَّ على عينَي الملك الداهشتَين كما تُسلِّط الشمس شعاعها الفَضِّيَّ على نائم النبت، فيصحو ويرفُّ رفيفًا فاتنًا. كان جمال رادوبيس قاهرًا نفَّاذًا، يحرق من يدنو منه، ويبعث في نفسه الجنون، ويملأ صدره برغبة لا تروى ولا تشبع.

كانا في تلك الليلة الخالدة — رادوبيس المتعثِّرة في ارتباكها والملك التائه في الحُسن — أحوج بشرَين إلى رحمة الآلهة.

وأحبَّ الملك أن يسمع صوتها فسألها: كيف لا تسألينني عن وقوع صندلك بين يديَّ؟

فساورَها القلق، وقالت: نسيت أمورًا أجلَّ يا مولاي.

فابتسم وسألها: كيف ضاع منك؟

وهدَّأتْ رقَّة صوته من انفعالها، فقالت: خطَفه النسر وأنا أستحمُّ.

وتنهَّد الملك ورفع رأسه كأنَّه ينظر إلى تهاويل السقف، وأغمض عينَيه يتخيَّل ذلك المنظر الفاتن؛ إذ رادوبيس تلعب في الماء بجسمها العاري، والنسر يهوي من عَلٍ فيخطف صندلها. وسمعَت الغانية رفيف أنفاسه، وأحسَّت بها تلفح خدَّها، وعاد إلى النظر إلى وجهها، وقال بوجد: خطَفه النسر وطار به إليَّ. يا لَلقصَّة الفاتنة! ولكنِّي أتساءل مُنكِرًا: أكنتُ أُحرَم من رؤيتكِ لو لم يقيِّض إليَّ الربُّ هذا النسر الكريم؟ .. يا له من فرضٍ محزنٍ! ومع هذا فإنِّي أُحسُّ في أعماقي بأنَّه كبُر على النسر ألَّا أعرفكِ وأنت على قيد ذراعٍ منِّي، فرماني بالصندل لأنتبه من غَفلتي.

فقالت كالداهشة: هل رمى النسر بالصندل بين يدَيك يا مولاي؟

– نعم يا رادوبيس .. هذه هي القصَّة الفاتنة.

– يا لها من مصادفة كالسحر!

– أتقولين مصادفة يا رادوبيس .. وما المصادفة؟ .. إنَّها قضاءٌ مقنَّع!

فتنهَّدتْ وقالت: صدقتَ يا مولاي .. إنَّها كالعاقل المتغابي.

– سأُعلن رغبتي على الملأ ألَّا يعرض إنسان من شعبي للنسر بسوء!

فابتسمت ابتسامةً سعيدة فاتنة، ومضت في ثغرها كتعويذةٍ سحرية. وأَحسَّ الملك بهُيامٍ يملك قلبه، ولم يكن من عادته أن يقاوم عاطفةً فاستسلم في وجدٍ بَيِّن، وقال وهو يتنهَّد: إنَّه هو المخلوق الوحيد الذي أدين له بأثمنِ ما في حياتي .. رادوبيس! كم أنتِ جميلة! هذا حُسنٌ يُزري بأحلامي جميعًا.

وسُرَّت المرأة لقوله، كأنَّها تسمعه لأوَّل مرة في حياتها، فرنَت إليه بنظرةٍ صافية حلوة زادته هُيامًا، فقال وكأنَّه يضرع ويشكو: كأنَّ سوطًا تشتعل به النيران يُلهِب قلبي.

ثم أدنى وجهه من وجهها المشرق، وهمس: رادوبيس .. أريد أن أنغمر في أنفاسك.

فبسطَت له وجهها، وأسبلَت جفنَيها. وجعل يهوي بوجهه حتَّى مسَّ أنفه أنفها الرقيق، وداعب أهدابها الطويلة بأنامله، وسها إلى عينَيها السوداوَين حتَّى صارت الدنيا ظلامًا، وأذهلَه الهوى، فاستولى عليه تخديرٌ ساحر، حتى تنبَّه على تنهُّدها العميق، فاعتدل قليلًا، وهمس في أذنها قائلًا: رادوبيس! إنِّي أقرأ أحيانًا مصيري، سيكون الجنون منذ الساعة شعاري.

وأسندَت رأسها إلى كفِّها إعياءً، وكان قلبها يخفق، فجلسا ساعةً صامتَين يسعد كلاهما بحديث نفسه، وما يُحادث — وهو لا يدري — إلا صاحبه، وعلى حين فجأةٍ قامت رادوبيس واقفة، وقالت له: هلَّا اتَّبعتَني يا مولاي لتشاهد قصري؟

كانت دعوةً سعيدة .. ولكنَّها ذكَّرته بأمورٍ كاد أن ينساها، فوجد نفسه مُضطرًّا إلى الاعتذار .. وما يضيره لو أجَّل اللقاء ساعة. والقصر وما فيه ملك يمينه .. فقال بأسف: ليس الليلة يا رادوبيس.

ونظَرتْ إليه بإنكار، وسألَته: ولِمَ يا مولاي؟

– هناك قوم ينتظرونني منذ ساعات في القصر.

– أيُّ قومٍ يا مولاي؟

فضحك الملك، وقال باستهانة: كان ينبغي أن أكون مجتمعًا برئيس الوزراء الآن، والحقُّ يا رادوبيس أنَّني منذ حادثة النسر فريسةٌ للعمل الشاقِّ، وكنتُ أُبيِّت نيَّة زيارة قصرك، ولكن لا أجد فرصةً مؤاتية، ولمَّا رأيتُ هذا المساء يكاد يلحق بالذي سبقه، أجَّلتُ اجتماعًا هامًّا ريثما أُشاهد صاحبة الصندلِ الذهبي.

واستولَت الدهشة على رادوبيس، وتمتمَت قائلة: «مولاي.» وكانت تعجَب من استهتاره الذي دفَعه إلى تأجيل اجتماعٍ هامٍّ من الاجتماعات التي تُبرم فيها مصائر المملكة، لكي يُشاهِد امرأةً شُغل قلبه بها ساعة .. ووجدَت عمله جميلًا ساحرًا لا نظير له بين أعماق العشَّاق ولا شعر الشعراء.

أمَّا الملك فقام بدوره وقال لها: أنا ذاهبٌ الآن يا رادوبيس .. واهًا! .. إنَّ القصر خانق .. إنَّه سجنٌ مُسوَّر بالتقاليد، ولكنَّني أمرقُ منها مروق السهم .. سأترك الآن وجهًا حبيبًا لألقى وجهًا بغيضًا، فهل رأيتِ أغرب من هذا؟ .. إلى الغدِ يا رادوبيس الحبيبة، بل إلى الأبد.

نطق بهذه الكلمات ثم ذهب بروعته، وشبابه، وجنونه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤