الحُب

ارتدَّ بصرها عن الباب الذي غيَّبه، فقالت وهي تتنهَّد: «ذهب.» ولكنَّه في الحقيقة لم يذهب، لو كان ذهب حقًّا لما استولى عليها ذلك التخدير الغريب الذي جعلها بين النوم واليقظة، تذكُر وتحلُم، والصور تمرُّ أمام مخيِّلتها في تزاحُم وتسابُق وجنون.

حُقَّ لها أن تسعد؛ لأنَّها بلغَت منتهى المجد، وتسنَّمتْ ذروة البهاء، وتذوَّقتْ من آي العظمة ما لم تحلُم به امرأة على الأرض. زارها فرعون بذاته المعبودة وسَحرتْه بأنفاسها الزكيَّة، وصاح بين يدَيها أنَّ سوطًا من اللهب يُلهب قلبَه الفتيَّ، فتُوِّجتْ بهُيامه ملكةً على عرشَي المجد والجمال. وحُقَّ لها أن تسعد .. على أنَّها كانت تسعد سعادة المجد! ومال رأسها قليلًا، فوقع بصرها على فردة الصندل فخفق قلبها وأدنت رأسها حتَّى مسَّت شفتاها فارسه.

ولم تنفرد بأحلامها طويلًا إذ دخلَت شيث، وقالت: مولاتي .. أتنوين أن تنامي هنا؟

ولم تردَّ عليها .. وحملَت الصندل، وقامت في كسل وسارت تتهادى صوب مخدعها. وتشجَّعتْ شيث بسكوتها، فقالت بلهجةٍ حزينة: «وا أسفاه يا مولاتي! .. إنَّ هذا البهو الجميل الذي ألف الطرب واللهو، يُقفِر الليلة لأوَّل مرَّة من السُّمَّار والعُشَّاق .. ولعلَّه يتحيَّر مثلي سائلًا: أين الغناء؟ أين الرقص؟ أين الحبَّ .. هي مشيئتكِ يا مولاتي.»

ولم تُبالِها الغانية، وصَعِدَت أدراج السلَّم في صمت وسكون، فظنَّت شيث أنَّ حديثها ظفِر باهتمام سيِّدتها، فقالت بحماس: لشدَّ ما وجموا وأسفوا لمَّا آذنتُهم باعتذارك .. وتبادَلوا نظرات الحسرة والحزن العميق، وتراجعوا في ثقل يسحبون وراءهم ذيول اليأس.

ولازمت المرأة الصمت، ودخلَت إلى مخدعها الجميل، وُهرَعت إلى مرآتها وألقت نظرة على صورتها، ثم ابتسمَت بارتياح وغِبطة وقالت لنفسها: «إذا كان ما حدث الليلة معجزة، فهذه الصورة معجزة أيضًا.» وغمرتها نشوة سعادة، فالتفتَت إلى شيث وسألَتها: من حسبتِ الرجل الذي جاء لمقابلتي؟

– من هو يا مولاتي؟ إنَّني لم أَرَه قبل اليوم. هو شابٌّ غريب، ولكن لا جدال أنَّه من النبلاء، مليحٌ رهيب جسور، يندفع كالريح مجلجلًا، ولقدمَيه وقعٌ شديد، ولصوته لهجة الآمر، ولولا خوفي لقلتُ: إنَّه لا يخلو من …

– من ماذا؟

– من جنون.

– حذارِ.

– مولاتي .. مهما يكن ثراؤه فلا يمكن أن يرجحَ العشَّاقَ جميعًا الذين طردتِهم اليوم.

– حاذري أن تندمي حيث لا ينفع الندم.

فقالت شيث داهشة: هل يفوق غناه القائد طاهو أو الحاكم آني؟

فقالت بزهو: إنَّه فرعونُ يا حمقاء.

وحملقَت المرأة في وجه مولاتها، وتدلَّت شفتُها السفلى، ولم تنطق.

فقالت الغانية ضاحكة: هو فرعون يا شيث .. فرعون؛ فرعون بذاته دون سواه، إيَّاكِ والثرثرة .. اذهبي الآن، واغربي عن وجهي؛ فإنِّي أريد أن أخلو بنفسي.

وأغلقَت الباب ودلفَت إلى النافذة المطلَّة على الحديقة، وكان الليل جثَم في مجثَمه وأرخى على الكون جناحَيه، وبدت طلائع النجوم في كبد السماء، وأنوار المصابيح المعلَّقة بأغصان الأشجار في الحديقة، وتبدَّى الليل فاتنًا، فتذوَّقتْ جماله وأحسَّت لأوَّلِ مرَّة بأنَّ انفرادها فيه عذبٌ بل أعذب من اجتماعها بالعُشَّاق جميعًا .. وأصغت في سكونه إلى ذات نفسها وهمسات قلبها .. وبعثَت الذكرياتُ الذكرياتِ، فرجع خيالها إلى عهدٍ منطوٍ بعيد، خفق فيه قلبها خفقةً طائشة، قبل أن تتوَّج ملكة للقلوب على عرش بيجة، وتغدو للأنفس قضاءً لا يُرَدُّ. كانت ريفيةً حسناء، برزَت من بين أوراق الريف المُخضلَّة، كما تبرُز الوردة اليانعة، وكان نوتيًّا عذب الصوت نحاسيَّ الساقين، ولا تذكر أنَّها سلَّمت لإنسان بداعي قلبها سواه، وشَهدَت شواطئ بيجة مشهدًا لم تَسعَد بمثله في الأرض. ودعاها إلى سفينه فلبَّت دعاءه، وحملَتها الأمواج من بيجة إلى أقصى الجنوب، وانقطعَت من يومها صلاتها بالريف وأهلها جميعًا. واختفى النوتي من حياتها فجأة، ولم تَدرِ إن كان ضلَّ، أو فَرَّ، أو مات، ووجدَت نفسها وحيدة. كلَّا لم تكن وحيدة، كان معها جمالها فلم تتشرَّد، والتقطها كهلٌ ذو لحيةٍ طويلة، وقلبٍ ضعيف. وطابت لها الحياة وأَثْرت بموته، وتوهَّج نورها فخطف الأبصار، فانجذبوا إليها كالفراش المجنون، وألقَوا تحت قدمَيها الصغيرتَين قلوبًا فتيَّة، وأموالًا لا تُعَدُّ، وبايعوها ملكةً للقلوب في قصر بيجة، فكانت رادوبيس .. يا للذكريات!

كيف مات قلبها بعد ذلك؟ هل أماته الحزن، أم الغرور، أم المجد؟ .. كانت تُصغي إلى حديث الحبِّ بأذنٍ صمَّاء، وقلبٍ مغلق، فكان منتهى ما يطمع فيه عاشقٌ مُدَلَّه مثل طاهو أن تهبه جسدَها البارد.

استسلَمتْ للذكريات طويلًا، وكأنَّما استدعَتها لتربطها بأعجب أيَّام حياتها، وأسعد أيَّامها!

ومضى الوقت وهي لا تحسُّ به إن كانت ساعات أم دقائق، حتى انتبهَت على وقع أقدام، فالتفتَت منزعجة، فرأت بابها يُفتَح، ودخلَت شيثُ لاهثةً وقالت: مولاتي .. إنَّه يتبعُني .. ها هو ذا.

ورأت يدخل مطمئنًّا كأنَّه يدخل مخدعه الخاصَّ، فغمَرتْها دهشةٌ ممزوجة بفرح وصاحت: مولاي.

وانسلَّت شيث خارجًا، وأغلقَت الباب، وألقى الملك نظرة على المخدع الجميل، وقال ضاحكًا: هل أطلب المغفرة لتهجُّمي هذا؟

فابتسمت ابتسامةً سعيدة، وقالت: المخدع وصاحبتُه لك يا مولاي.

فضحك ضحكته الفاتنة. كانت ضحكةً رنَّانة فتيَّة تنبض بالحياة الدافقة، وأمسك بمرفقها، وسار بها إلى الديوان وأجلسَها، وجلس إلى جانبها، وقال: كنتُ أخشى أن يسبقني النوم إليكِ.

– النوم .. النوم لا يهتدي إلى أمثال هذه الليلة، يحسبها من فَرْط نور السعادة نهارًا.

فتبدَّى الجِدُّ على وجهه وقال: إذن احترقنا معًا.

لم تُحسَّ بهذه السعادة من قبلُ، ولم تعهد قلبها في مثل هذه اليقظة والحياة، ولم تشعر بلذَّة الاستسلام إلَّا أمام هذا الإنسان البديع، فقد صدَق، إنَّها تحترق، ولكنَّها لم تقُل شيئًا، وقنعَت بأن رفعَت إليه عينَين ناطقتَين يجري فيهما الصفاء والمودَّة .. ثم قالت: لم يدُر بخلَدي أنَّك تعود هذه الليلة.

– ولا دار لي بخلَد، ولكنَّني رأيتُ الاجتماع ثقيلًا مرهقًا، وأعياني تركيز فكري، واستخفَّني الجزع، وعرض عليَّ الرجل مراسيمَ كثيرة، فأمضيتُ عددًا يسيرًا، وأصغيتُ إليه بعقلٍ مشتَّت، ثمَّ ضقتُ بكلِّ شيءٍ ذرعًا، فقلتُ له إلى الغد، ولم أكن أفكِّر في العودة، ولكنِّي رغبتُ في أن أخلو بنفسي للحديث والمناجاة .. فلمَّا خلوتُ إلى نفسي وجدتُ الوحدة ثقيلة، والليل موحشًا لا يُحتمل. هنالك لمتُ نفسي قائلًا: لماذا أصبر إلى الغد؟ .. وليس من عادتي أن أُقاوم عاطفة، فما عتَّمتُ أن وجدتُني ها هنا بين يديك.

يا لها من عادةٍ سعيدة .. إنَّها تجني أشهى ثمارها، وتُحسُّ جواره بفرحٍ عجيب، وكان يضطرب حياةً ونشوةً، وقال: رادوبيس .. ما أجمل هذا الاسم! فإنَّ له وقع الموسيقى في أذني ومعنى الحب في قلبي. وهذا الحبُّ شيءٌ عجيب، كيف يصرع رجلًا تعمر لياليه الحسان من كلِّ لون وطعم؟ .. إنَّه حقًّا عجيب، تُرى ما هو هذا الحبُّ؟ إنه قلقٌ معذِّب يسكُن في قلبي، وأنشودةٌ إلهيَّة تُرَتَّلُ في أسمى مكان من روحي. إنَّه حنينٌ موجع، إنَّه أنتِ. أنتِ حالَّةٌ في كلِّ آية من آيات الدنيا والنفس، انظري إلى هيكلي هذا الشديد، إنَّه يشعُر بالحاجة إليك شعور الغريق بالحاجة إلى التنفُّس والهواء.

إنَّها تُبادله هذا الشعور، وتُحسُّ بصدقه؛ فقد تكلَّم ليصف قلبًا، فوصف قلبَين، إنَّها تسمع مثله الأنشودة الإلهيَّة، وتُشاهِد صورته في آيات الدنيا والنفس، وكان جفناها يثقلان بالأحلام والنشوة، فما عتَّم أن تماسَّت أهدابهما، فسألها برقَّة: لماذا لا تتكلمين يا رادوبيس؟

وفتحت عينَيها الجميلتَين، ونظَرتْ إليه بوجد وحنان، وقالت: ما حاجتي إلى الكلام يا مولاي؟ فطالما كان الكلام يتدفَّق على لساني، وقلبي ميت، أمَّا الآن، فقلبي يُبعَث حيًّا، ويمتصُّ كلامك كما تمتصُّ الأرض حرارة الشمس، وتحيا بها.

فابتسم إليها سعيدًا، وقال: اختطَفني هذا الحب من وسط دنيا عامرة بالنساء.

فقالت وهي تُبادِله الابتسام: واختطَفني من وسط دنيا عامرة بالرجال.

– كنت أتخبَّط في دنياي كالحائر، وأنتِ منِّي على بُعد ذراع، وا أسفاه! .. كان ينبغي أن أعرفكِ من أعوام.

– كان كلانا ينتظر النسر ليَسْفر بيننا.

فشدَّ على قبضة يده بحماسٍ، وقال: نعم يا رادوبيس، كانت الأقدار تنتظر ظهور النسر بأفقنا لتسطِّر في لَوحِها أجمل قصَّة حبِّ، وما أشكُّ في أنَّه كبُر على النسر أن يؤخر حبَّنا لأجلٍ بعيد، وما ينبغي لنا بعد اليوم أن نفترق؛ فأجمل ما في الدنيا أن نُرى معًا.

فتنهَّدتْ من أعماق قلبها، وقالت: نعم يا مولاي، فلا ينبغي أن نفترق بعد اليوم، وهاكَ صدري حقلًا ناضرًا ارتع فيه أنَّى شئتَ.

فبسط كفَّها بين يدَيه، وضغَط عليها بحنوٍّ، وقال: تعالَي إليَّ يا رادوبيس، ليُغلَق هذا القصر على الماضي الغادر؛ فإنِّي أحسُّ بأنَّ كلَّ يومٍ ضاع من حياتي قبل أن أعرفكِ طعنةٌ غادرة صُوِّبَت إلى سعادتي.

كانت كالمخمورة، ولكن ساورَها القلق، فسألَته: أيريدني مولاي على أن أنتقل إلى حريمه؟

فهزَّ رأسه قائلًا: ستنزلين بأعزِّ مكان به.

فخفضَت عينَيها ووجمَت، ولم تَدرِ ما تقول فأنكَر سُكوتَها، ووضع أنامل يمناه تحت ذقنها الصغير، ورفع وجهها إليه وسألها: ما لَكِ؟

فسألَته بعد تردُّد: أأمرٌ هو يا مولاي؟

فانقبض صدره لذكر الأمر، وقال: أمر؟ .. كلَّا يا رادوبيس، إنَّ لغة الأمر لا تُجدي مع الحبِّ، وإنِّي ما تمنَّيتُ قبل اليوم لو أُجرَّد من شخصيتي! .. وأعود واحدًا من البشر يشقُّ طريقه بلا عون، ويلقى حظَّه بغير محاباة، انسي فرعون مليًّا، وأخبريني ألا ترغبين في اللحاق بي؟

وخَشِيَت أن يُسيء فهم وجومها وتردُّدها، فقالت بلهجةٍ صادقة: أرغب فيك يا مولاي رغبتي في الحياة، بل الحقيقة أجمل من هذا. الحقيقة أنِّي لم أحبَّ الحياة حبًّا صادقًا إلا منذ أحببتُك، وأنَّ قيمتها في نظري أنَّها تُشعرني بحبِّك، وتُسعِد حواسِّي بوجودك، أليس للمحبِّين غريزة تصدُقهم القول؟ .. سلها عن قلب رادوبيس يا مولاي تُعِدْ على أُذنَيك ما جرى على لساني، ولكنِّي أتساءل حَيْرى: لماذا أهجر هذا القصر، ولماذا أُغلِق أبوابه إلى الأبد؟ .. إنَّه أنا بالذات يا مولاي، فينبغي أن تُحبَّه كما تُحبَّني. لا يُوجد فيه موضع يخلو من أثَر لي، إمَّا صورتي أو اسمي أو تمثال لي. كيف لي بهجره وقد هبط فيه النسر الذي طار إليكِ برسالة الحبِّ الخالدة؟ .. كيف لي بهجره وقد خفق قلبي فيه بالحبِّ لأوَّلِ مرَّة؟ .. كيف لي بهجره يا مولاي وقد زُرتَني فيه بذاتك العالية؟ .. حَرِيٌّ بأيِّ مكان تطؤه قدماك أن يصير — كقلبي — لك وحدك، ولا يغلق أبوابه أبدًا.

كان يُصغي إليه بحواسِّه المرهفة، وقلبه المشبوب الجامح، فتؤمن نفسه بكلِّ كلمة من كلماتها. ثم لمس بحنوٍّ جدائلَ شعرها الفاحم، واحتواها بين ذراعَيه، وطبع على شفتَيها قبلةً رطَّبتْ شفتَيه برحيقٍ عذب، وقال لها: رادوبيس .. أيَّتُها الحبُّ الممتزج بروحي .. لن يُغلق هذا القصر أبوابه ولن تُظلم حجراته، سيبقى ما بقينا مهدًا للحبِّ، وجنَّةً للهوى، وحديقةً ناضرة تُغرس فيها بذور الذكريات، سأجعل منه محرابًا للحبِّ، وأُصيِّر أرضه وجدرانه ذهبًا مصفًّى.

فأشرق وجهها بابتسامةٍ سعيدة، وقالت تُناجيه: لتكن مشيئتكَ يا مولاي، وإنِّي أُقسم بحبِّي لأذهبنَّ الغداة إلى معبد الربِّ سوتيس، وأغسل جسدي بالزيت المقدَّس، لِأَرحَضَ نفسي من الماضي الشقيِّ، وأعود إلى المحراب بقلبٍ طاهرٍ جديد، بزهرةٍ تشقُّ الأكمام وتتصدَّى لشعاع الشمس.

فوضع يدها على قلبه، ونظر إلى عينَيها وقال: رادوبيس أنا اليوم سعيد، وأُشهِد الدنيا والآلهة على سعادتي، حياتي وحسبي بها من حياة .. انظري إليَّ؛ فسواد عينَيك أشهى لقلبي من نور الدنيا.

في تلك الليلة نامت جزيرة بيجة، وسَهِر الحبُّ بقصرها الأبيض، حتَّى انحسَر في ظلمة الليل الحالكة عن زرقة الفجر الحالمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤