العاشقان

والدتي لم تكن كبيرة السن أو هكذا تعتقد هي، أنجبتني عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها. ما زالت امرأة نحيفة قصيرة بعض الشيء، ظلت دائمًا محتفظة بنضارة الشباب، في هيأتها ذاتها عندما تخرجت في كلية الآداب قبل عشرين سنةً. لا يحق لأحد أن يقدر عمرها بأكثر من أربعين عامًا. أمي تعُدُّ نفسها أجمل مني. قد تبدو أصغر مني عمرًا، إلا أنها تصر على أنها أجمل مني، أرى أنها تخلط فيما بين ما هي عليه قبل عقد من الزمان والآن. عندما كانت أجمل بنت في الحي، وأحلى وأصغر أم في الجامعة. فالواقع أمي تؤكد على أنه إذا كانت هنالك مسابقة جمال في تلك الأزمنة لنالت جائزة أجمل بنت في السودان دون منازع. لا مصلحة لي في ألا أصدق ذلك، لكن المشكلة تكمن فيما بعد النقاش اليومي عن العمر والجمال؛ لأنه ينتهي بشجار، لأن أمي تريدني أن أتزوج بأي طريقة كانت، بل بأول من تقدم إليَّ. قد تقدم إليَّ كثيرون، بل لماذا أنتظر إلى أن يتقدم إلي أحدهم؛ فالبنت الذكية هي التي تختار زوجها وتدفعه بحنكة إلى أن يطلب يدها، قد ترفضه إذا لم يعِدها بثروته كلها. وأنت الآن تدخلين في «سن اليأس»، تضيعين وقتك في حب شخص لا يمكن أن يتزوجك، لا أعرف مثقفًا تزوج من قبل، إنهم لا يتزوجون قبل أن يشعروا بأن الموت يطرق أبوابهم أو أنهم على قارعة الإفلاس!

– قولي لي: كم من النساء تزوجن شعراء؟ أريد عشرًا منهن.

– لكن يا أمي ما شاعر …

كعادتها تهمل إجاباتي عندما تسيطر فكرة ما على رأسها، خاصة بعد أن أخذت تنتابها حالات الإحباط النفسي بين وقت لآخر.

– أنا أعرف عشرات النسوان الما تزوجوا شعراء وكانوا بحبوهم مثل عيونهم، ياما كتبوا فيهم شعر وأغاني …

أقول لها: يا أمي هذا جدل بيزنطي لا يوصِّل لنتيجة؛ إنه ليس بشاعر. وكأنها لم تسمعني، تعدد لي أصحابي الشعراء الذين لم يتزوجوا حتى الآن:
  • عثمان بشرى.

  • عاصم الحزين.

  • إلياس فتح الرحمن.

  • كمال الجزولي.

  • عاصم الرمادي.

  • عبد الله شابو.

  • عالم عباس.

– يا أمي، يا أمي ديل فيهم ناس متزوجين وعندهم أولاد وبنات متزوجات.

لكنها تواصل في إصرار مجنون، وكأنها تقرأ كتابًا منشورًا أمامها:
  • بشرى الفاضل.

  • أحمد النشادر.

  • مأمون التلب.

  • علي نصر الله.

  • محمد الصادق الحاج.

  • نصار الحاج.

  • عصام عيسى رجب …

– يا أمي يا أمي!

أضافت وهي تنحرف قليلًا عن الموضوع الأساسي، محملقة بعينيها في الأفق البعيد: كويس، أو اتزوجوا نسوان تانيات …

هل تذكرين ذلك الشاعر الذي كتب قصيدة جميلة عن حبيبته إيما، أظنه قال فيها: إنها تشبه غيمة وتشبه نجمة، وحاجات تانية ما بتذكرها، لقد تزوج من فتاة أجمل منها اسمها انتصار! وذلك الذي كتب عن فتاة ذوبته عشقًا — وهي ماريا — تلك القصيدة الطويلة التي درسناها في الجامعة بعنوان ماريا وامبوي، سقطتُ فيها مرتين، قد تزوج امرأة اسمها ليلى علم الدين. وقالت: إنَّ أراجون الذي ظل حياته كلها يكتب لعيون حبيبته إلزا أجمل الأشعار، العيون التي ظنَّ أنها الأجمل منذ أن خلق الله حواء أم البشر، اقترن في أواخر عمره بفنانة غجرية متشردة لا تكاد عيناها تريانه جيدًا.

لم يبقَ لها سوى أن تضيف للقائمة: رامبو، مالارميه، بودلير وأمل دنقل. ذات مرة اعترفت لي بأن صديقة لها — أظنها تقصدُ نفسها — كانت تعشق شاعرًا، لكنه يخونها مع صديقتها المقربة جدًّا بل الوحيدة، عندما اكتشفت أمرهما برر لها ذلك بقوله: إن للجسد سلطانًا، ونحن لسنا سوى شغيلة عنده. قالت: إنها لم تفهم شيئًا، لكنها لم تعد تحبه منذ تلك اللحظة. بل كرهت المثقفين جميعًا، على رأسهم الشعراء؛ لأن الشعراء يتفلسفون في الخيانة، ويقولون كلامًا غير مفهوم، كيف يكتب شخصٌ سويٌّ نصًّا بعنوان «في مديح الخائنات»، وهو يعني بالخائناتِ، الخائنات، نعم الخائناتُ ذاتُهن، ليس مجازًا أو رمزًا؟!

أحبت أمي وكرهت بعد وفاة أبي بسنوات، لكني أعرف أنها الآن تحب روائيًّا في عمرها، لا خير منه يُرجى — سوء الظن في الروائيين من حسن الفطن — وأظن أنه يستغلها جسديًّا وماديًّا، فأنا لا أعرف شيئًا عنه وعن علاقتهما، وخطأ تخميناتي على أمي أن تتحمله؛ لأنها لم تفصح لي عن شيء … لم تتكرم عليَّ بمعلومة مفيدة، غالبًا ما تدَّعِي: هو صديقي ما أكثر.

أمي ليست صريحة معي، لكنها دائمًا تريدني أن أكون صريحة معها: حتى لا يَخدعكِ الرجال … فكل الرجال مُسيلمة يا بنتي، كذاب! بدون فرز وبدرجات متفاوتة، بعضهم إبليس بعينه، «أوعك تدي واحد قلبك كله!»

اعشقيهم بلسانك لا أكثر؛ أقصد بطرف لسانك، لا تفرطي في قلبك أو جسدك. الرجل مثل الطفل؛ إذا شبع نسي أن له بطنًا، وإذا جاع تشهى كل الأشياء، حتى إذا كانت حجارة.

أمي أجمل مني! أنا لا أعترف بذلك. كنت أطول منها قامة لكني بدينة بعض الشيء، بل قل الشيء كله. ورثتُ بِنْيَتِي الجسمانية من أبي، لكنني جميلة أيضًا. فكثير من الرجال يحبون الأرداف المدورة، وهو الشيء الذي عليه أردافي الآن. أسمع كثيرًا من تعليقات المارة بالشوارع والمواصلات العامة، تضايقني في أحيانٍ كثيرة، أغض عنها الطرف في بعض الأحيان، أطرب لها، وخاصة إذا كان مزاجي عكرًا وكنت في حاجة إلى دُعابة ما، مهما كانت سخيفة. طولي ١٧٥ سنتيمترًا، فكرة الجمال عندي تتمثل في تصور الآخر لك من جانب، وتصورك لنفسك من الجانب الآخر. أنا أيضًا لا كرش لي، مثل أمي، أمارس الرياضة بصورة متواصلة وخاصة تمارين البطن. لا آكل الشحوم أو السمن، أمشي كثيرًا برجلي ولا أتركه يَرِقَ فيَّ. لي بشرة سوداء ناصعة ورثتها عن جدود شتى، فور ونوبة برابرة وعرب. لا أستخدم كريمات تبييض البشرة، وهذا مبدأ إنساني، جمالي وخلقي لا أحيد عنه، ولو أنني بذلك أفقد فرص العمل في كثير من القنوات التلفزيونية، البنوك، الشركات التي تهتم بالمظهر العام المنمق والمعلن عنه رسميًّا وإعلاميًّا. ورغم ذلك يحبني الكثيرون من أجل أنني أرغب أن أكون كما خلقني الله، يقولون: إن لي ملامح ملكة نوبية. باختصار، أعرف أنني جميلة وهذا يكفي.

أنا وأمي وحيدتان، أقاربنا يسكنون بعيدًا متفرقين في مدائن السودان الكثيرة. ترك لنا أبي بيتًا كبيرًا في الخرطوم بحري. قمنا بتأجير نصفه الذي يفتح على شارع السيد علي الميرغني. نسكن نحن في النصف الآخر المطل على شارع فرعي صغير لا اسم له، يحتوي على غرفتي وغرفتها، صالون وثلاثة حمامات بكل من الغرفتين والصالون. الجزء الآخر من البيت تستأجره منظمة مجتمع مدني تعمل في حماية الأطفال المتشردين. وهي المنظمة ذاتها التي أعمل فيها أنا أيضًا باحثة اجتماعية. تسمى المبادرة الصديقة للأطفال CFI.

ليس كل ما تقوله أمي لا فائدة منه؛ لأن فكرتها عن حبيبي عبد الباقي كانت في محلها. إن علاقتنا قد استنفدت فرصها كلها. هو يريدها أن تبقى طالما كنا نذهب كثيرًا إلى غرفة جدنا الخليفة عبد الله التعايشي السرية ونقضي فيها أجمل أوقات حياتنا. عندما نكون معًا كنا نمتلك الحياة كلها، لا يهمنا شيء آخر في العالم، حتى الأطفال المتشردين، المسلولين وغيرهم. كان همنا أن نمتع جسدينا … أن نشبع رغبة الوحش الساكن في حشو كل منا. أظن الجنس يستطيع أن يفعل ذلك؛ أن يقوم بواجب التواصل الإنساني، الجنس الآمن. لم أقل إنَّ همه كان الجنس أو همنا، بل كل شيء، لكن الأشياء الأخرى إما يصعب الإيفاء بها أو لنا فلسفة في جدواها. إذن، حان الوقت أن نفترق. أنا أريد أطفالًا، بل تريدهم أمي أكثر. أمي تصاب بين وقت وآخر بالإحباط النفسي، وتظل لشهر أو شهور ترى وتسمع أشخاصًا وتتحدث معهم. مرات عديدة كانت تفكر في الانتحار. لا تستمر الحالة طويلًا، لكن عندما تصاب بتلك الحالة نكون في أسوأ أيامنا. في الآونة الأخيرة أخذت تساعد في رعاية المتشردين حسب مزاجها وبما تستطيع. فهي ليست ذات بال طويل وصبر على نزق وشيطنة هؤلاء المنفلتين الذين لا يترددون في عض اليد التي تقدم إليهم كسرة الخبز. فالحياة علمتهم عدم الثقة في الآخرين، ولا في أنفسهم كذلك. أمي تريد أطفالًا يملئون حياتها، يوفرون لها الرفقة، أطفالًا تثق بهم، على الأقل يمكنها أن تتنبأ بما ينوون القيام به. كنت أتحدث إلى نفسي بصوت عالٍ؛ مما أخاف أمي وظنت أن مرضها قد انتقل إليَّ. لكن عندما حكيت لها القصة هدأت وكادت أن تبكي! أمي لا تبكي بسهولة. ثم سمعنا طرقًا عنيفًا على الباب، على الرغم من أن لدينا جرسًا إلا أن الطارق لم يستخدمه. هتفت أمي: مُنُو؟ إن شاء الله خير؟

كان يتنفس بصعوبة. ملابسه ممزقة … وتوجد فيما تبقى منها بعض بقع الدم الجاف. لم يكن هنالك زمن للأسئلة. استحم … لبس أحد جلابيب أبي، أمي تحتفظ بالكثير منها للذكرى. أمي تهمس في أذني من وقت لآخر مستفسرة عما لحق به. أهمس لها بأنني لا أدري، لكني كنت قد خمنت كل شيء. باختصار شديد وفي كلمتين أخبرني بكل شيء. احتسينا القهوة. عرفت أمي فخافت علينا. كان عبد الباقي رجلًا مربوع القامة. طوله ١٧٤ سنتيمترًا أو يقل بقليل. تدل ملامحه على أنه قد يكون من سكان وسط السودان، أو لحد ما الشمالية. كان غاضبًا وهو يحكي كيف قبضوا عليه وضربوه في الشارع العام، ثم أطلقوا سراحه ثم لحقوا به مرة أخرى في بيته. ودارت معركة معهم في البيت. تدخل جيرانه، أصحابه وزوجته. ضربوا الجماعة ضربًا مبرحًا حتى فروا بجلدهم هاربين.

قاطعتني أمي: سجمى! عنده أولاد؟ بتحبيه ليه؟

– يا أمي شنو علاقة الأولاد بالحب؟

انتفضت أمي تقول، وهي تحملق في عيني كأنها تراني لأول مرة في حياتها، ولأول مرة ألاحظ أن بعينيها حزنًا عميقًا لا يستطيع الكحل اصطياده: عندو مرا ولا لأ؟

أجبتها بهدوء: عندو مرا.

حاولت أن تكون هادئة مثلي.

– يعني عايزة تقلعي راجل المرا وتشردي عياله؟

– يا أمي ممكن نعيش مع بعض المشكلة شنو؟ أنا أصلًا ما عايزة راجل متفرغ عشاني. يكفي نصف راجل أو ربع راجل ما أكثر.

صمتت لبعض الوقت، كأنما كانت تريد أن تقول شيئًا ما، ثم غيرت رأيها، قالت وهي تمضي بعيدًا عني، وتبعثر كلماتها في المكان: كلام ما مقنع. الراجل راجل والمرا مرا ما في نص ولا ربع. وأحسن تسيبي الزول لحاله، خلينا من الكلام الفارغ، شوفي أي مخلوق ما عنده زوجة وعرسيه.

تعكر مزاج والدتي فجأة، ولم تقبل أن تستمع إلى فكرتي الجديدة بشأنه. بل لم تعرف أنه لا يريد أن يتزوجني، وأنني صرفت النظر عنه. بالطبع لم أقل لها إنَّ ما تبقى بيني وبينه هو فقط التعود على تلك المتعة الجسدية، لم يفكر كلانا إلى الآن في التخلي عنها على المدى القريب. هنالك أشياء يجد المرء نفسه ملتزمًا بالقيام بها، قد لا يفكر كثيرًا في مسألة جدواها من عدمه، خاصة الأشياء التي لها علاقة بالجسد، فهذا الأخير له منطقه الخاص وأفاعيله التي لا يستشير فيها العقل، فهو لا يفكر بالأعضاء التناسلية وحدها، لكنه يشرك كل الأجزاء الأخرى فيه، ويشرك العقل، الجزء الأكثر بشرية منه، فهو دكتاتور رحيم، ولا يُلام الجسد عندما يعمل عمل الجسد. بعد أن قرأتُ كتاب السِّر أخذت حياتي تتغير بسرعة، رميت بكلماتي في ظهرها: أنا ح أتزوج في هذا العام، ح أتزوج رجلًا كاملًا.

فاجأتني بثورة من الضحك، عادت واحتضنتني وأكدت لي للمرة الألف أنها سوف لا ترفض أن أتزوج أيًّا كان، إذا كنت أحبه ويحبني، متزوجًا أم غير متزوج مجنونًا أم عاقل، المهم يستطيع أن ينجب أطفالًا يعيشون معي في البيت هنا، ولتذهبا أنتِ وهو للجحيم. قلت لها: هل غيرت رأيك؟

قالت وفي وجهها ابتسامة رائقة: لا، لم أغير رأيي، أنا عن نفسي لا أتزوج رجلًا متزوجًا.

وضعنا الخطة، اتفقنا على أن نشرك فيها بعض الصحفيين المهتمين بالموضوع؛ لأنهم يمتلكون الخبرة في التحري، أيضًا الشرعية والحيلة في تقديم الأسئلة والدخول إلى كل المؤسسات الحكومية والمدنية. طبعًا ليس كذلك تمامًا، لكن لحد ما … الأهم أن لهم أفضلية علينا في ذلك. البحث عن الصحفي المناسب كالبحث عن إبرة في كومة من القش. كنا نريده ذكيًّا، شجاعًا ويؤمن بالقضية بصورة قريبة من وجهة نظرنا. حتى يكون هنالك توافق وتناسق في فريق العمل. أهم ما في الأمر ألا يكون مواليًا للسلطة؛ لأن الموالاة تحتم عليه التوافق مع وجهة النظر السائدة، حتى ولو أنها جانبت الصواب. وفوق هذا وذاك نحن لا نستطيع أن نقدم له أجرًا، مهما كان ضئيلًا، فالعمل تطوعي وإنساني في المقام الأول. لم أقترح عليه أحمد الباشا، سيرفضه ظانًّا منه — وأنا أعرف ظنونه — أنني كنت في يوم ما مغرمة به أو أنه مغرم بي. كما أنه صدَّق إحدى كذباتي التي كان الهدف منها إثارة غيرته. بأن أحمد الباشا أكثر وسامة منه وأن كثيرًا من البنيات يستلطفنه، قلتها بالطريقة التي تجعله يسمع كلمة كثيرًا «كل» أو أنا واحدة منهنَّ. أكدت له بأنني لا أهتم بذلك على الرغم من أنه كان يتودد إليَّ بين حين وآخر. كما أن الباشا بعد أن طُرِدَ من جريدته أصبح مخيفًا ومُتَجَنَّبًا من قبل كثير من المؤسسات وكل الجرائد الوطنية وغير الوطنية بالطبع. فلعنة حرمان الصحيفة من الإعلانات لعنة تظل تطارد صاحبها في الحياة الدنيا حتى الممات، قد تلحق بنسله الميامين، إذا استطاع أن ينسل في ظل لعنته تلك. قال لي عبد الباقي بعد قليل من التفكير: أقترح صديقنا الصحفي أحمد الباشا، هو أكثر شخص مناسب لهذه المهمة.

المشكلة الوحيدة في أنه مراقب، تليفونه لا يعمل، ولا نعرف إليه سبيلًا.

كان ينظر في عمق عيني، أو كنت أظن أنه كان يحملق في وجهي؛ ليعرف ردود أفعالي وتأثير اقتراحه المثير. اقترحت عليه حكمة رابح؛ هي ذات خلفية قانونية مثقفة وشديدة الجمال، وأعرف أنه يحب طريقتها في كتابة الشعر. تعمل بالمحاماة والصحافة في الوقت نفسه. اقترح هو صديقتنا دكتورة مريم الطبيبة البشرية ذات النشاط، والهمة والقلب الحنون. قد عملنا معًا كثيرًا، خضنا مغامرات شتى في سبيل المتشردين والأطفال، هي شخصية لا يختلف عليها اثنان. عليه أن يتصل بالباشا، عليَّ أن أتصل بحكمة ومريم.

أمي تحرص بشدة على أن تكون علاقتها الخاصة في غاية السرية والكتمان، لا تريدني أن أشك لحظة في أن لها علاقة، قد أفسرها بأنها مشبوهة قد تقلل — حسب ظنها — من حسن صورتها عندي؛ حيث إنها تعمل طوال الوقت على أن تجعل من نفسها قديسة في نظري. من حقها ذلك، ولو أنني أرى ذلك تزييفًا روحيًّا كبيرًا، وأن عليها أن تنتبه لنداء جسدها بصورة أو بأخرى. فلقد كانت جميلة وفتية، أهدرت وقتها وروحها من أجل تربيتي بصورة لائقة، فكنت وما زلت مشروعها في الحياة، المشروع الذي كاد أن يثبت فشله، أو أنه فشل بالفعل، حسب رأيها عندما لا تكون في مزاج رائق. توفي والدي ذات صباح باكر. كنت حينها نائمة في غرفتي، أحتضن كما كنت أفعل طوال طفولتي دميتي الصغيرة التي أحضرها لي أبي من دولة أجنبية زارها، على ما أعتقد كانت فرنسا أو ألمانيا. استيقظتُ على صراخ النساء، جدتي، خالاتي، أمي ونساء الجيران. انتزعت نفسي من السرير، هرولت ناحية باب الحجرة، لكنها كانت مغلقة من الخارج. أخذت أصرخ وأضرب الباب بكفيَّ الصغيرتين، أصرخ بكل ما لدي من صوت وأركل بكل قواي، إلى أن تعبت تمامًا، خمدت في شبه إغماء، لم يأتِ إليَّ أحدٌ، اختفت الأصوات تدريجًا، حلَّت محلها همهمة رجال، ليس صوت أبي من بينهم، كنت أميز صوته من بين كل الأصوات، وأستطيع أن أسمعه من مسافات طويلة. ثم جاءتني خالتي، حملتني من على الأرض، حيث تبولت دون إرادتي … أخذتني على كتفها. كان وجهها مبللًا بالدموع، وبصوتها حشرجة غير مستحبة. بدأتُ أصرخ من جديد مطالبة بأمي، إلى أن جاءت بعينين بنيتين غارقتين في الدموع؛ احتضنتني بقوة، قبلتني وطلبتْ مني أن أذهب مع «خالتو». أحسست بشيء غير عادي يحدث في بيتنا، لكن خالتي العجول هرولت بي إلى بيتها عابرةً الشوارع الواسعة الساخنة وأنا على كتفها أصرخ وأرفس بقدمي. على بعد ميلين من بيتنا تركتني؛ لألعب مع بنتيها الشيطانتين صديقتيَّ، أحبهما كثيرًا، كنت أصغر منهما قليلًا في العمر. حالما أنسَيَتاني كل شيء وأقامتا ليَّ عُرسًا، زوجتاني من طفل من القصب صنعته الأخت الكبرى علياء، رقصتُ كعروس حقيقية، على إيقاع صينية الشاي، فأنا أحبُّ الرقص، غنتا رقصتا، انضمت إلينا فتيات الجيران الأخريات؛ فقد كان عرسًا بهيًّا وجميلًا.

عندما عدت في اليوم الثالث لم أجد أبي في البيت إلى هذا الحين. كانت أمي تقول لي: إنه مسافر إلى مكان بعيد، ثم أخبرتني فجأة بأنه مات؛ أي ذهب إلى الجنة، كلنا سنلحق به آجلًا أم عاجلًا. سوف لا يأتي مرة أخرى للحياة الدنيا، هذا مصير البشر. ثم زرنا قبره مرارًا وتكرارًا لسنوات طويلة، صيفًا وشتاءً، في الأعياد وفي المناسبات العامة، كلما مرضتُ أو مرضتْ أمي، كلما بلغنا الصحة، كلما مات أحد أقاربنا، بل كلما تذكرته أمي. ثم فجأة توقفنا عن زيارة قبره، وأستطيع أن أؤرخ لذلك، منذ اليوم الذي التقينا فيه بما أسمته أمي صديقها الروائي وليد الجندي في المقابر. كان هو الآخر في زيارة لما أسماها المرحومة صديقتنا سيدة. لا أدري كيف تطورت العلاقة بينهما بعد ذلك بعيدًا عن بصري وسمعي، بينما كنت أنا أكبر قليلًا قليلًا، تمر السنوات عليَّ … عليهما … وعلى علاقتهما مع بعض. من جانبي كنت أحس بفقدان أبي، دائمًا ما أرغب في أن أتحدث إليه، كان يسافر كثيرًا، إلا أنه عندما يكون بالمنزل فإنه يلعب معي، يحكي لي ويستمع إلى ثرثرتي. رغم صغري في ذلك الحين كنت أتعلم منه وأسأله عن أمور كثيرة لا أذكرها الآن، لكنها تجعله يضحك من صميم قلبه، ويحملني على كتفه، يجري بي في حوش البيت. أريد من يفعل بي ذلك الآن، قد يكون هذا مستحيلًا لوزني الثقيل، لكن غير المستحيل أن أجد مَنْ يحكي لي، يستمع لحكاياتي ويضحك من قلبه لأجلي.

يقول عني أصحابي أنني مترددة وغالبًا ما أغير رأيي، ليس لعدم ثقة في النفس، ولو أنه يبدو كذلك، لكني كنت في صميمي أحتاج لآخر يتخذ معي القرار. أقصد أنني أحتاج فعلًا لأبي في هذا الشأن، قد يرى الناس ذلك غريبًا بالنسبة لإنسانة في نهاية العقد الثالث من العمر … تخرجت في الجامعة منذ أكثر من خمس سنوات وأحبت ما لا يقل عن خمسة رجال، وتعمل في مجال حماية الأطفال والمشردين بصورة يشهد عليها مديروها بأنها متميزة وجادة. كان عبد الباقي قد عرف في وقت مبكر هذه المعضلة، وأخذ يعلمني كيف أملأ فراغ الأب، لكن المشكلة الأساسية تقع في أنه ملأ هذا الفراغ بنفسه. كان يكبرني بعشرة أعوام؛ يعني أنه أصغر من أمي بثماني سنوات. كما قلت من قبل، أمي ليست طاعنة في السن، تكبرني بثمانية عشر عامًا لا غير. أمي أيضًا كانت تفتقد أبي، تفتقده بشدة وبصبر. إذا كانت صريحة معي كنت أمنت لها خصوصية عظيمة، بل لساعدتها في أن تتزوج أيضًا. بإمكان أمي أن تتزوج، ماذا يمنع؟!

كان وليد الجندي شخصًا غامضًا، هو أيضًا من نوعية الكُتاب الذين يصبح كل نصيبهم من الإبداع كتابًا واحدًا لم يكتمل، أو بضع مقالات لم تنشر بعد، ثم يقضون بقية العمر في التضجر، لوم الدهر، صب اللعنة على الحكومات، ضيق ذات اليد وفشل المشروع الوطني السوداني. في الحقيقة لم ألتقِ به سوى مرات معدودات طوال سنوات علاقته مع أمي؛ لأن أمي تحرص ألا تكون لي معه أية علاقة قد تقود إلى فضح تفاصيلها هي الشخصية. أمي أيضًا كانت واحدة من الفريق. اقترحت أنا للفريق أن ينضم إلينا وليد الجندي … كانوا يعرفون أنه مقرب إلى أسرتنا الصغيرة، لكنهم لا يعرفون تفاصيل علاقتنا به. رفضت أمي الفكرة في بادئ الأمر بحجة أن الفريق يجب أن يكون مختصرًا بقدر الإمكان حتى لا يفتضح أمره — كما أعلنت — وهو سبب غير وجيه. كانت تضمر سببين آخرين مقنعين لم تصرح بهما. لكن عينيها برقتا سعادة عندما أقنعتها حكمة رابح بضرورة أن ينضم إلينا الأستاذ وليد الجندي، حتمًا سيستفيد الفريق من حسه الروائي والنقدي، حيث يشاع أنه ضليع في النقد الأدبي أيضًا.

الاجتماع الأول كان في بيتنا. أنا وحكمة رابح علينا أن نجمع المعلومات عن مادة الميثانول … كل ما يخصها من تفاصيل، معلومات مكتبية من الإنترنت عن طريق الأخ «قوقل»، معلومات ميدانية عن أين وكيف يوجد هذا الميثانول في الخرطوم، ومدى سهولة أو صعوبة الحصول عليه. هذا قد يقود إلى مصدره، بالتالي يضعنا وجهًا لوجه أمام المتهم الأول أو الخيط الذي يقود إلى المتهم الأول. هذا إذا كان هنالك متهم في الأساس؛ لأن من نسميهم نحن بالجماعة أو الفرقة ونتهمهم بالتسبب في قتل المتشردين كانوا هم أيضًا يتهمون جهات شريرة أخرى — نحن بعض هذه الجهات — ويعملون ليل نهار من أجل القبض عليها ووضعها في ميزان العدالة، وهذا يضع كل اتهاماتنا لهم ليست سوى أوهام ويدرجها تحت نظرية التآمر، ما لم تكن هنالك معلومات جيدة، دقيقة ومؤكدة، لا توجد حقيقة. الرأي الأرجح، أقصد الوسطي في الصحافة أنَّ أحدهم سرق مادة الميثانول معتقدًا أنها أثينول وباعها للمتشردين بحسن نية، وغرضه من وراء ذلك الربح الحلال … لا أكثر.

أمي ووليد مسئولان عن التحقيق مع وزارة الرعاية الإنسانية، وأن يتبعا في ذلك ما يستطيعان من الحيل والمكر البشري، عليهما أن يعرفا ما هو الرأي الحقيقي لوزارة الرعاية الإنسانية في هذا الشأن، وما هي الإجراءات التي اتخذتها. ويا حبذا لو تطرقا إلى سياساتها تجاه المتشردين. الدكتورة مريم وباقي عليهما متابعة التشريح الجنائي الذي حدث للجثث، وأن يحاولا من ذلك تحديد وقت تناول الميثانول. أما الباشا الذي لم يحضر الاجتماع لصعوبة الوصول إليه، فكان عليه القيام بتحقيق صحفي شامل مع إدارة شرطة أم درمان محلية البقعة، أمين عام الرعاية الإنسانية، المدير الطبي لمستشفى أم درمان التعليمي، الأحياء من الأطفال والمتشردين الذين نجوا من الموت، وبعض منظمات المجتمع المدني. قلت لأمي، على خلفية نقاش طويل عن الحب والحياة، مصائر البشر، عن الموت والجمال، أيضًا عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وقد مَرَّرْتُ إليها عدة تلميحات عن علاقتها بالجندي، وبدا لي أنها تعاملت مع تلميحاتي بتسامح لم أعتده منها، مما شجعني على خطوة أكبر: أنا أدعوك الليلة للعشاء في سوق نمرة اتنين ومعانا الأستاذ!

سألت مندهشة: منو الأستاذ؟!

قلت لها وأنا أنظر بزاويتي عيني في أم وجهها: الأستاذ الروائي.

لم أعرف أنَّ أمي بهذا القدر من الخجل، إلا عندما عضتني في كفي، وقرصتني بشدة في خدي مثل طفلة شقية تلعب لدميتها لعبة خشنة، وكنت أحس بها تريد أن تحتضنني وتبكي، لكن أمي لا تبكي، على الأقل لم أعتد أن أرى دموعها، لكنها حولت طاقة البكاء إلى ضحكات مجلجلات. أنا التي بكيت، بكيت بقدر ما ضحكت هي.

أمي ارتدتْ بنطالها الجميل الأزرق، ارتديتُ بنطالي الجميل الأزرق. أمي تحب قمصان القطن البيضاء الخفيفة غالية الثمن. لبستُ بلوزة قصيرة بيضاء. لأن أمي قصيرة بعض الشيء؛ فإنها تختار حذاءها ذا الكعب العالي الذي لديها منه الكثير المثير. الحذاء الرياضي sport هو الأنسب لي، يظهرني عملية، أكثر شبابًا، أخف وزنًا، ويريحني في سير المشاوير الطويلة. أمي تحب المشي أيضًا. بقيتْ كثيرًا أمام المرآة … أخفتْ بعضًا من توقيعات محن الأيام بوجهها. تستطيع أمي أن تجعل عينيها أكثر اتساعًا بل ضعف حجمهما الحقيقي عندما تحيطهما بقدر زائد من الكحل في زوايا تحددها بدقة. أنا تعلمت منها فن وضع الكحل ولو أن مقلتيَّ خُلقتا جميلتين، تمامًا مثل عينيها. ساعدتني في تصفيف شعري، كما تفعل منذ أن نبت لي شعر في رأسي، فهي لا تثق في إمكاناتي في تصفيف شعري، دائمًا ما تتهمني بالعجلة والإهمال، وأنني أتعامل مع شعري كما أتعامل مع حذائي، ودائمًا ما تلومني على التدهور الذي أصابه نتيجة لذلك. لكن الأغرب في الموضوع أنها لا تؤمن بغير طريقة واحدة لتصفيفه، طريقة جعلتني أبدو في هيئة واحدة LOOK منذ ميلادي إلى اليوم: خصلتان كبيرتان طويلتان تنحدران إلى نهاية العنق. تقول أمي: إنهما في الماضي كانتا تصلان إلى منتصف ظهري، لولا أنني تمردت عليها مرتين وذهبت للكوافير مع صديقاتي: يوم تخرجي من الجامعة، ويوم ميلادي العشرين.
عطرتني … أبدت ملحوظةً غامضةً حول شفتي، قالت: إنني يجب أن أتزوج بأسرع ما يمكن، إنها تريد أن ترى أحفادها قبل أن تموت. ذكر الموت هنا وهي في كامل زينتها، سابحة في عطر برادا BRADA المحبب لديها، المقصود منه إثارة الشفقة والتخويف، قد يعني أيضًا أنها تريد أن تتزوج، وعزوفي عن الزواج هو عقبتها الكأداء، من يدري؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤