منطقُ الجسد

أثناء البحث بالقوقل عن «فرقة الموت» المنوط بها مهمة اغتيال الأطفال المتشردين في البرازيل، تحصلنا على كتاب «الحرب ضد الأطفال في شوارع أمريكا». وهو كتاب مشهور «ألفه السيد أوفه بولمان». بهذا الكتاب حقائق مخيفة ومرعبة في الوقت نفسه. تركنا مهمة تلخيصه على الصديقة الصحفية حكمة رابح، على وعد أن تقوم بطباعته وتوزيعه لنا.

فقد تشكلت «فرقة الموت» في البرازيل، من داخل وزارة الداخلية في سبعينيات القرن الماضي. وعلى ذمة العم قوقل، كانت تُمَوَّل من قبل بعض الأثرياء، الأسر الكبيرة، الشركات الرأسمالية العملاقة، ولفيف ممن لا يرون في المتشردين سوى قاذورات وفضلات اجتماعية يجب التخلص منها بأي شكل في سبيل بيئة إنتاجية معافاة.

قامت لجنة في البرلمان البرازيلي في نهاية عام ١٩٩١ بإحصائية مخيفة؛ حيث أشارت إلى مقتل ٧٠٠٠ طفل خلال السنوات الخمس المنصرمة، وفي أواسط عام ١٩٩٢ ازداد عدد الأطفال القتلى ليصل ١٦٤١٤، وحسب إحصائية الحكومة البرازيلية فإن عدد الأطفال المشردين في السبعينيات في القرن الماضي كانت ١٫٥ مليون طفل.

قرأتُ هذه الفقرة لأمي، بالتأكيد لم أقرأ لها الطريقة البشعة الدموية التي كانوا يقتلون بها الأطفال، وأخفيت عنها حكايتين — في الحقيقة شهادتين — لطفلين نجيا من مذبحة، أو كما يسمونها في البرازيل حفلة مريعة. لكني أكدت لها أن القتل كان مباركًا ومؤيدًا من قبل الحكومة نفسها وتحت إشرافها. كعادتها، أمي لم تصدق أن يحدث ذلك في أي دولة كانت في العالم. والسبب بسيط جدًّا، وهو أن الحكومات عليها حماية الناس وليس قتلهم وفقًا للعقد الاجتماعي غير المُعْلن بين الشعب والسلطة. قلتُ لها: هذا ما يُدَرَّس في الجامعات ويُعْمَل به في الدول التي أنتجته فقط، فنحن نستهلك كل ما أنتج الغرب من تكنولوجيا ومعارف مادية، ولكننا نتجنب تمامًا منتجاته من القيم الإنسانية الرفيعة والأخلاق العالية. قالت أمي: أعرف، نحن نأخذ ما يتناسب وطبيعتنا.

طبعًا، أمي كانت تقصد إغاظتي، لكنني تجاهلت الأمر … أخذت ألعب مع الطفلين. كان يومًا طويلًا جدًّا، الأطفال الأشقياء لا يكفون عن الصراخ. كما هو متوقع من أمي أنها اشترت لهم ملابس صينية من المحطة الوسطى بحري. قام والدهما بعملية الاستحمام، وقصف أظافر الكفين والقدمين. كما قام بإزالة شعر رأسيهما إزالة تامة بماكينة حلاقة أبي القديمة. هذه الخطوة لا بد منها لكي لا يبدوا كمتشردين، بالتالي نبعد عنهم عين الرقيب الحقيقي أو المتخيل. كما أنه لا بد للروائح النتنة التي تنبعث منهما أن تزول. لكن أمي رغم ذلك لم تحبهما أو تطمئن لهما؛ فلقد كانا فوضويين بامتياز. أمي تحب النظام، كما أنها لم تعتد على الأطفال في بيتها، وتبين أن حُبها للأطفال كان نظريًّا بحتًا. كانت تحتج على كل ما يقومان به حتى أكلهما، فهما لا يعرفان كيف يأكلان سوى عن طريق خطف الطعام وحشو أكبر كمية ممكنة منه في الفم والبلعوم، ولا تفيد صفعات والدهما الخجلة على ظهورهما من إثنائهما عن ذلك. كانا أيضًا يسرقان كل ما تقع عليه أياديهما الصغيرة: صابون الحمام، زجاجة عطر، راديو أمي الصغير كم مرة وجدته مخبأ خلف الباب، الأحذية، قوارير المشروبات الغازية الفارغة، حتى الخبز والعظام، يفعلون ذلك جميعًا. لكن البنت كانت أكثر هدوءًا وخجلًا، أقل إصدارًا للضجيج، ربما للإعياء الشديد الذي يبدو عليها. يظهر واضحًا أنها تعاني من سوء تغذية حاد وفقر في الدم، وأنها مهمومة بأمور أخرى عميقة غير الأكل، الشرب، والفوضى. كانت الأكبر عمرًا، قدرت دكتورة مي عمرها بعشر سنوات. قال والدها: إنها أكبر من ذلك بكثير، أي أن عمرها خمسة عشر عامًا، إنها إذا تزوجت ستنجب أطفالًا. قال: إنها تحيض في كل شهر مرتين، ذلك دليل عنده على خصوبتها وكبر سنها. قد ساورني شك عظيم في أنه يخفي عنا شيئًا، فسألته: وين أم العيال ديل؟

قال في حزن، وهو يُعَدِّلُ بنطاله الجديد: ماتت قبل أيام. شربت الأسبرت «المسموم».

وأضاف أنها كانت صغيرة العمر، أكبر بقليل من بنته نونو.

– إذن، نونو أمها براها.

أجاب سريعًا بأن نونو في الحقيقة ليست ابنته من صلبه، بل إنه تبناها، كانت ترعاها أمه، وتقيم معها في الزقاق. وجدها منذ أن كان عمرها يومًا واحدًا مرمية في إحدى المزابل، كادت تأكلها القطط والكلاب الضالة: كانت «بِتْ حَرَامْ».

تخلَّصت منها والدتها خوفًا من الفضيحة.

– ظاهر إنو أُمَّا (أمها) من أسرة غنية شديد …

لأنه وجد معها مائة جنيه كاملة وخاتم ذهب، قام بأخذها إلى أمه التي أرضعتها ورعتها. الحمد لله نجت من الموت. قال: إنها كانت جميلة زي القمر وسمينة … لكن أكل الشوارع والعفن «أثر معاها».

قالت نونو الصغيرة، التي كانت تستمع للقصة في هدوء، بعد أن جلست قربه، بل التصقت به في غنج، مبعثرة خصلات شعرها المتوحشة على صدره، واضعة راحة كفها على فخذه الأيسر، ووجهها يكاد أن يلتصق بوجهه الجاف الخالي من الشعر، أزاحها عنه بعيدًا بحركة لا إرادية، وهو متجاهلًا النظر إليها كلية: الفِكِي ده راجلي (زوجي) أنا، مش أبوي، راجلي عدييييل كده!

كانت دهشتنا كبيرة، لدرجة أن بُقا توقف عن اللعب مع الطفلين وانضم إلينا بعينين واسعتين. كان الفِكِي هادئًا ولو أنه بدا مرتبكًا بعض الشيء، قال: طبعًا تزوجتها، عشان ما يقرب منها واحد من بتاعين الشوارع الصعاليك المعفنين ديل، الناس الما بترحم، الزواج سترة، مش كدا؟

قال له بُقا وهو لا يستطيع أن يخفي غيظه: لكنها طفلة!

قال وهو ينظر إليها مبتسمًا: أنا أمي لمان ولدتني كانت أصغر منها بكثير، يا اخوي البت إذا نطت عتبة البيت، تشيل راجل قدر أبوها، والكلام ده معروف، ومن الأحسن تتزوج النسوان وهم صغار أحسن مما «يجلكنوا»، مش كده؟

قلت له: إن هذا عيب وغير صحيح، وإن البنت لا يكتمل نموها الجسدي والعقلي إلا بعد ثماني عشرة سنة على الأقل، والرجل الطبيعي، الشهم والإنساني لا يتزوج البنات القاصرات. أعرف أنني لم أجد اللغة المناسبة التي تجعله يفهم، وهو أيضًا لم يجتهد ليفهم، كان يحملق فيَّ واضعًا ابتسامته الغريبة الغبية في وجهه، فلم أعرف أنه كان سعيدًا حقًّا أم يريد أن يبكي الآن! المهم أنه لفت نظري لكي أحملق لأول مرة في نونو حقيقة، وأتمعن في تفاصيلها، كان ثدياها صغيرين جدًّا، فارغين تمامًا، متدليان مثل كيسين من الجلد مبتلين بالماء. يتضح ذلك من خلال فستان الطفلات الذي اشترته لها أمي عندما كانت تظن أنها طفلة، وجهها طفلي، بعينها نزق وبريق لا يمكن فهمهما مطلقًا، كانت شفتاها جافتين، وزنها لا يتعدى ثلاثين كيلو جرامًا، لها بطن صغير بارز قليلًا ولا يتناسب مع حجمها. أكثر الأشياء غرابة فيها هو شعرها الغزير شديد السواد القذر الخشن، الذي يتبعثر على كتفيها يغطي جانبًا كبيرًا من ظهرها، بل يتدلى إلى ما دون الردفين، هذا إذا كانت تُسمي تلك الجلدتان الباليتان ردفين! همست لي أمي ذات مرة: إنَّ هذه البنت ذات أصول أجنبية، من جهة الأم أو الأب، كثير من ملامحها تدل على ذلك، شُوفَى أنفها، شوفى شعرها. وقالت محرزة فجأة: أنا عرفت أهلها الحقيقيين، والله عرفتهم.

ذلك عندما حدثنا الفِكِي عن المزبلة التي التقطها منها. في الحقيقة كان هو أيضًا يعرف أمها، اعترف لنا لاحقًا أنه ابتزها كثيرًا، إلى أن هدده رجل — قال إنه والد الأم — بالقتل. وهو الذي أرسل إليه من يذبح رِجْلَه اليسرى كعربون لعملية أكثر إيلامًا في الطريق إليه: إذا قليت أدبك تاني يا وسخ!

عندما تفحصتها دكتورة مريم لاحقًا قالت: إنها مصابة بالسل الرئوي. مثلها مثل الطفلين والفِكِي نفسه، وبرحمتها المعهودة بدأت معهم دورة علاج السُّل، الجيد في الأمر أن عقاقيره متوافرة ومجانًا.

في الحقيقة، بدأنا نفهم الفِكِي بصورة أوضح، وفهمنا أيضًا لماذا عندما دخل الحمام مع نونو أخذ زمنًا طويلًا جدًّا! إذا كنا أسأنا الظن فيه مبكرًا؛ لفسرنا الأصوات التي صدرت من الحمام في ذلك الوقت تفسيرًا صائبًا. وعندما خرج اعتذر لنا بحيلة أنها لم تستحم منذ الخريف الماضي على الأقل، وأن الكوشة التي برأسها تحتاج إلى مياه سيل لكنسها وليس دُشًّا، فصدقناه وضحكنا. الآن تأكد لنا أننا كنا نضحك على أنفسنا لا أكثر، علينا منذ الآن ألا نصدق حرفًا واحدًا مما يقول لنا، طلبتْ أمي منه مغادرة البيت فورًا، أن يأخذَ زوجته وأطفاله، إذا كانوا حقًّا أطفاله ولم تكن هنالك قصص مؤلمة أخرى وراء كل واحد منهما: وأمشى أختانا …

قال مستعطفًا: إذا لقوني حيقتلوني، وأنا عايز أعيش، أربي عيالي.

انتهرته أمي محتجة: أنت زول تستحق الموت، تنوم مع شافعة (طفلة)؟!

قالت نونو محتجة، وهي تُرقص صدرها الأعجف الفارغ: أنا ما شافعة يا أمي، أنا مرا بالغة والأولاد ديل أولادي، ولدتهم من بطني دي!

وأشارت إلى بطنها الصغير غير المتناسب مع حجمها الضئيل. بالتأكيد كاد التعجب أن يقتلنا، وسيبدو الأمر مقبولًا إذا وقفت عند هذا الحد. لكنها رفعت جلبابها للأعلى — ذلك الأطفالي الجديد، الذي اشترته لها أمي من كشك بالمحطة الوسطى — بسرعة لا يتوقعها منها أحد … رقدت بظهرها مواجهة الأرض … أبعدت ساقيها النحيفين الأصفرين، المنقوشين ببقع سوداء كبيرة وصغيرة، في زاوية مقدارها مائة وثمانون درجةً بالضبط، كومت شعرها سريعًا في شكل وسادة صغيرة من الصوف، وصاحت بصوت قبيح — أو هكذا سمعناه — قائلة: ده يدَخَّلْ جَمَلْ!

مشيرة إلى شيء مريب كان ما بين ساقيها، تحجبه عن أعيننا غابةٌ كثيفة من الشعر الأسود الطويل. حمدنا الله كثيرًا على ذلك الغطاء الصوفي الطبيعي للعورات البشرية ذات الأبعاد الاجتماعية الحساسة.

أحسست بأنني أنا الفاعلة، وينظر العالم كله الآن إلي، إلى شيئي أنا، وكدت أن أموت من الخجل، أما أمي فهربت خارج الصالون تلعن اليوم الذي جمعها بالفِكي وأسرته غير المحترمين، أطلقت أحد أمثالها المحببة إلى نفسها:

اللي يلعب مع الجريوات يخربشنه.

لم تعجب أيةً أو أيًّا منا طريقتها في التدليل على إمكاناتها الأنثوية بمنطق الجسد. كانت طريقة شاذة وقبيحة بكل المقاييس! ضربها الفِكي ضربًا عنيفًا على ظهرها ووجهها، وسحبها من شعرها الغزير محاولًا أخذها للخارج، طبعًا كان ذلك عبثًا؛ لأنه لم يستطع أن يفعل. كانت مثل جزع شجرة عرديب معمرة تعتصم بالأرض، تحملق في عينيه بلا دموع بلا استعطاف أو رجاء، إلى أن تدخلنا وحُلْنَا بينهما. تلفظ الفِكي بألفاظ لا يمكن ذكرها في هذه الرواية خوفًا من شيوخ المصنفات الفنية والأدبية الرساليين، وكان غاضبًا جدًّا ومبتسمًا جدًّا وهو يعتذر عن سلوك زوجته المشين: امسحوها لي في وشي يا جماعة دي زولة ماسورة.

أمي بدأت تتفهم الأمر شيئًا فشيئًا. أعدت لهم وجبةً أخرى، طعموها بهدوء أكثر. خرج الطفلان جُلجُل وحَسْكا، حتى الآن لم نتبين أيهما جلجل وأيهما حسكا؛ لأننا إذا نادينا حسكا التفت الاثنان، أو جاءا معا إذا كانا بعيدين، والعكس صحيح. ولأن اسم جلجل ثقيل بعض الشيء؛ فإن أمي اكتفت بأن تطلق على الاثنين اسم حسكا. تبولا عند باب الديوان مباشرة، تغوطا كثيرًا. عرفنا ذلك عندما داهمتنا الرائحة المتميزة للمخلفات الآدمية مع طليعة فوج الذباب. قامت «ما أصبحت أم الطفلين» بنظافة المكان جيدًا، ورمي القاذورات في الشارع يمين الباب. قالت لها أمي إنَّ ذلك خطأ أيضًا، عليها أن تتخلص منها في المرحاض! هزت نونو رأسها في استغراب وابتسمت. لقد نسيت أمي تمامًا أن نونو لم ترَ مرحاضًا في حياتها. مرحاضها هو هذا الفضاء الرحب، وكل مكان وزمان لا يشاهدها فيه شخص غريب وهي تقضي حاجتها، هو بلا شك مرحاض. أما براز الأطفال، من يهتم ببراز الأطفال؟!

الساعة الآن قاربت الثانية عشرة منتصف الليل. نحن لم نستطع أن نعرف المعلومات الأساسية عن المورد الأصلي للميثانول القاتل، كان كل مرة يأتينا الفِكي بفكرة جديدة، ولا ندري هل نصدقه أم أنه سيجيد مرة أخرى إدهاشنا باكتشاف كذباته الكبيرة جدًّا؟! فالفكي مثل قنبلة موقوتة في يد جندي، قد تنقذه من الموت وقد تقتله، لا ندري هل سينفجر بين أيدينا أم أننا سنحطم به جدران سر موت المتشردين المسمومين بالميثانول.

عندما نَعِسَ الأطفالُ ونعستْ زوجته، تركنا لهم الصالون، بعد أن أحضرت أمي فرشًا خاصًّا للأطفال؛ لأن أمهم أكدت لها أنهم يتبولون عادة أينما ينامون. بقا رحل إلى بيته متصيدًا آخر باص من المواصلات العامة. أنا وأمي لم ننم، ساهرنا إلى أن غدر بنا النُّعاس، لا ندري بالضبط متى نمنا … كنا خائفتين من مصيبةٍ لا ندريها قد يفعلها الفقيه المتشرد وأسرته الصغيرة العجيبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤