الفصل الثالث عشر

غادر المبعوثُ وحارسُه كوخ «إيزولو» عائدَين إلى «أوكبيري»، فسارع الكاهن بإصدار أوامره إلى قارع الطبول العجوز لدعوة الكبار إلى اجتماعٍ عاجل عند غروب الشمس، فبدأ على الفور في تبليغ الرسالة إلى القرى الست .. سمع الكبار وذوو الشأن بالرسالة في كل مكان، واستعدوا للاجتماع وهم يتساءلون: إن طارق الطبول لا يمارس عمله إلا في المواسم والحالات الطارئة فقط، فهل هو التهديد بالحرب؟ لا، إن أحدًا لا يتحدَّث عن الحرب في ظل وجود الرجل الأبيض .. كانت الدعوة عاجلة.

بدأ الاجتماع عندما عادت الطيور إلى أعشاشها، أحضر الأطفال الكراسي لآبائهم، وظلوا يلعبون عند ضواحي السوق، في انتظار نهاية الاجتماع، ليحملوا الكراسي مرةً أخرى إلى بيوتهم؛ فلم يكن مسموحًا لأي شخص باصطحاب أبنائه إلى اجتماعٍ ليلي .. حمَل الذين يعيشون بجوار السوق مقاعدَهم بأنفسهم، وحمل آخرون تحت أذرعهم حقائبهم المصنوعة من جلد الماعز.

تدفَّق إلى السوق كبار الرجال وذوو الشأن من كل القرى في «أوموارو»، وكان «إيزولو» و«أكيوبو» أول القادمين، جلسا بصعوبة، وكان كل رجلٍ بعد ذلك يقوم بتحية من جاء قبله حتى ساد الزحام، فأصبح القادم يقوم بالتحية لجاره فقط، ويُصافح قليلًا من الناس.

كان الاجتماع تحت شجرة الإيجبو العتيقة، التي أصدَر الأجيال تحتها كثيرًا من القرارات ذات الشأن .. تبادَل «إيزولو» حديثًا سريعًا مع الجالسين إلى جواره، فوافقوا جميعًا على أن الوقت قد حان لإخبار «أوموارو» عن سبب هذا الاجتماع.

نهَض الكاهن على قدمَيه، ثم غيَّر من وضع ردائه، وقدَّم التحية التي كانت بمثابة نداء إلى كل «أوموارو» بأن يتحدَّثوا بصوتٍ واحد: «أوموارو» وينو!

– هيم!

– وينو!

– ويزينو!

– هيم؟

– أشكركم جميعًا لأنكم غادرتم أماكنكم المختلفة استجابةً لندائي؛ فإن الرجل أحيانًا يوجِّه نداءً دون أن يُلبِّي أحدٌ النداء، وعندئذٍ يكون هذا الرجل كمن يحلُم أحلامًا مزعجة، أشكركم لأن ندائي لم يكن بلا جدوى.

تطَلَّع «إيزولو» حوالَيه فأبصَر «واكا» القادم من «أومونيورا» .. توقَّفَ لحظةً عن الحديث، ثم ناداه باسمه: «أجبوفي واكا»، أحيِّيك.

شرع «واكا» في الحديث لكنه توقَّف، فاستطرد «إيزولو»: كنتُ أشكركم على ما فعلتم؛ فإنك — كما يقول شعبنا — إذا تقدَّمتَ بالشكر لرجلٍ ما عما فعَل، فإنه سوف يفعل المزيد، لكنني أطلب منكم الغفران والسماح؛ إذ يجب على الرجل حين يدعو «أوموارو» للاجتماع أن يضع أمامهم — على الأقل — إناءً من النبيذ.

ثم حكى لهم باختصار عن زيارة رسول البلاط له، وقال: أقربائي، لقد استيقظتُ مبكرًا هذا الصباح، وكان معي «أجبوفي أكيوبو» حين جاءني ذلك الرسول، ولقد فكَّرتُ بعمق ولوقتٍ طويل، ثم قرَّرتُ أن تشاركني «أوموارو» فيما رأيتُ وسمعتُ؛ إذ ربما يتساءل الرجل عندما يرى أفعى بنفسه عما إذا كانت أفعى عادية أم أنها ثعبانٌ مقدس، وهكذا قرَّرتُ أن أستدعي أهل «أوموارو» غدًا لإخبارهم بما حدث، لكنني تردَّدتُ بشأن الغد لأنْ لا أحد يدري بما قد يحدُث أثناء الليل، أو في الفجر وقبل حلول الغد، وعندئذٍ كان من الضروري دعوتكم معًا بالرغم من أنني لا أملك نبيذًا لأضعه أمامكم، لكنَّ هناك وقتًا كافيًا للنبيذ إذا كان لنا بقيةٌ من حياة، وعندما يأتي يوم الصيد فسوف نصطاد في الفناء .. أحيِّيكم جميعًا.

مضى وقتٌ طويل لم يبادر أحد من حكام «أوموارو» بالرد فيما عدا تلك المحادثات العامة، والتي كانت تبدو أحيانًا كاللغَط .. جلس «إيزولو» في مقعده مُحدِّقًا في الأرض حتى إنه لم يُجبْ على «أكيوبو» حين أخبَره بأنه قال كل ما يجب أن يُقال.

نهض «واكا» القادم من «أومونيورا» وقال: «أوموارو» وينو!

– هيم!

– «أوموارو» وينو!

– هيم!

– ويكوانو أوزو!

– هيم!

كان رداؤه الرسمي غير مرتَّب عند الكتف الأيسر، فراح يعدِّل من وضع الرداء، وقال: لقد سمعنا جميعًا ما قاله «إيزولو»، وكم كانت كلماتُه طيبة، وأودُّ أن أتقدم له بالشكر لاستدعائنا وتبادُل الحديث معنا .. هل أخاطب عقل «أوموارو»؟

أجاب الرجال: استمِر.

فاستطرد «واكا»: عندما يستدعي الأب أبناءه فإنه لا يقلق بشأن تقديم النبيذ لهم، ومن الأجدَر أن يأتوا هم بالنبيذ له. مرةً أخرى أتقدم بالشكر إلى كاهن «أولو»، الذي رأى ضرورة استدعائنا وإخبارنا بتلك الأشياء التي تنم عن تقديره العظيم لنا، وهكذا نقدِّم له امتناننا، لكنَّ شيئًا واحدًا يظل غامضًا بالنسبة لي قد يكون واضحًا لدى الآخرين، وإذا كان كذلك فليُبادِر أحدٌ بتفسيره لي .. لقد أخبرنا «إيزولو» أن الحاكم الأبيض أرسل في طلبه، وعليه أن يذهب ﻟ «أوكبيري» والآن لست أدري الخطأ من الصواب .. ما الخطأ أن يسأل الرجل صديقًا لزيارته؟ ألا نرسل نحن لأصدقائنا في القبائل الأخرى عندما نحتفل بالعيد لمشاركتنا؟ ألا يرسلون هم أيضًا في طلبنا لمشاركتهم احتفالاتهم.

إن الرجل الأبيض يُعَد صديقًا ﻟ «إيزولو» وقد أرسل في طلبه، فأين وجه الغرابة في ذلك؟ إنه لم يرسل في طلبي أو طلب «أودوزو»، ولم يُرسِل في طلب كاهن «إيديميلي» أو «إيرو» ولا كاهن «أودو» أو «أجوجو» لرؤيته، ولكنه أرسل فقط ﻟ «إيزولو»، لماذا؟ لأنهم أصدقاء، وهل كان «إيزولو» يعتقد بأن صداقتهما ستكون عائقًا لزيارة بعضهما بعضًا؟ أم أنه يريد صداقة الرجل الأبيض بكلمةٍ من الفم فقط؟ ألم يُخبرنا أسلافنا بأننا ما إن نمُد أيادينا للأبرص حتى يسارع بطلب العناق؟ .. لقد مدَّ «إيزولو» يده للرجل ذي الجسد الأبيض.

همَس البعض همساتٍ خفيضة تَنمُّ عن الاستحسان، وضحك آخرون وأردف «واكا»: إن الجُذام دائمًا يُدعى باسمه المهذَّب (جسد أبيض)، مثله مثل كل الأشياء ذات الشأن التي يَنفر منها الناس ويَفْزعون.

اختلَط التصفيق والضحك بالتحية، وانتظر «واكا» حتى انتهَوا من ضحكاتهم، ثم استطرد: فلتضحكوا كما تشاءون، أما أنا فلا أستطيع.

كان «إيزولو» جالسًا بنفس الطريقة التي جلس بها فور انتهائه من الكلام.

قال «واكا»: أريد القول إن الرجل الذي يأتي بحزمة من الحطب داخل هذا الكوخ لا بد أن يتوقَّع زيارة السحالي، وإذا قال لنا «إيزولو» الآن بأنه سَئِم صداقة الرجل الأبيض فسوف نقول له إنه هو الذي ربط العقدة ويجبُ عليه أن يفُكَّها، كما أنه هو أيضًا الذي ألقى بالخِراء وعليه أن يحمله بعيدًا، ومن حسن الطالع أن التخلي عن جاذبية الشر التي جاءت إلينا ليس بالأمر الصعب، لقد عرفتُ وسمعتُ أنه مما يُخالِف عادات كاهن «أولو» أن يسافر أحدٌ بعيدًا عن كوخه، ولكن هل هذه هي المرة الأولى التي يرغب فيها «إيزولو» الذهاب إلى «أوكبيري»، وإذن من الذي شهد مع الرجل الأبيض في تلك السنة التي حاربنا فيها من أجل أرضنا وخسِرنا؟

توقَّف «واكا» إلى حين انتهاء التذمُّر الذي ساد، ثم أضاف قائلًا: لقد انتهيتُ، أحيِّيكم.

تبادل آخرون الحديث واحدًا تلو الآخر، لكنَّ أحدًا لم يتحدث بقسوة مثلما فعل «واكا»، وحدَث أن اعترض اثنان على طريقة تفكيره، وربما اعترض آخرون لكنهم لم يعبِّروا عن اعتراضاتهم، بينما قال عددٌ كبير بأنه من التهور والطيش تجاهُل نداء الرجل الأبيض، فهل نسُوا ما حدث للقبيلة التي تشاجرَت معه؟

حاول «وكيك نابيني» أن يهدِّئ من روع الكلمات قائلًا: يجب اختيار ستة من الكبار للذهاب مع «إيزولو».

صاح «واكا»: يمكنك الذهاب معه إذا كانت قدماك متعطِّشةً للمشي.

كرَّر «وكيك» اقتراحه بذهاب ستة من كبار «أوموارو» مع كبير الكهنة إلى «أوكبيري»، ثم خاطب «واكا» قائلًا: «أجبوفي واكا» أرجوك ألا تتدخل فيما أقول؛ فلقد وقفتَ أنتَ وتحدَّثتَ بما يكفي دون أن يقاطعَك أحد.

نهض «إيزولو» عندئذٍ وكان وجهه متلألئًا من النار المشتعلة بجواره، وعندما شرع في الحديث ساد الصمت، لم تكن كلماتُه تحمل ضغينةً في صدره، ولم يكن غضبه بسبب العداء الواضح في كلمات «واكا»، وإنما بسبب تلك الكلمات الرقيقة من بعض الناس مثل «نابيني» .. تطلَّعوا إليه كالفئران التي تخترقُ حذاء النائم وتقرضُه، ثم يهبُّ الهواء فوق الجرح ليُرطِّبه، فتهدأ الضحية وتعود للنوم.

قدَّم التحية ﻟ «أوموارو»، وبدأ حديثه بمرح وخفَّة روح: لم يكن ندائي لكم واجتماعي بكم لأنني بائس أو تائه أو لأن عيني شاهدَت أذني، وإنما أردتُ فقط أن أعرف الطريقة التي ستتناولون بها حكايتي، وقد فهمتُ الآن طريقتكم، وها أنا ذا راضٍ وقانع .. حين نقدِّم قطعة من اليام إلى طفل فإننا نرجوه أن يعطينا منها قطعةً صغيرة، ليس لأننا حقًّا نريد أن نأكلها، وإنما لاختبار طفلنا؛ أي أننا نريد معرفةَ ما سوف يكون عليه طفلُنا حين يكبر، هل سيكون من ذلك النوع من الرجال الذين يُوزِّعون ما يملكون، أم أنه سيقبض على كل شيء ويحتويه في صدره .. أنتم تعرفون «إيزولو» وتعلمون إذا كان هو ذلك الرجل الذي يُهرع لمجرد أن الرجل الأبيض أرسَل في طلبه .. إنني لم أسرق الماعز الخاص به، ولم أقتل أخاه أو اغتصبتُ زوجته، وإلا لكنتُ اقتحمتُ الشجيرة عند سماع صوته، لكنني لم أعمل على الإساءة إليه أبدًا.

استطرد «إيزولو» قائلًا: وفيما يتعلق بما سوف أفعلُه، فلقد قرَّرتُ قبل أن أطلب من «إيكولو» مساندتكم، لكنني على يقينٍ بأنني إذا ما فعلتُ أي شيء بدون التحدث إليكم أولًا لقلتُم: لماذا لم يُخبِرنا؟

صمَت لحظةً قصيرة، ثم أضاف: وها قد أخبرتُكم؛ ولذلك فأنا أشعر بسعادةٍ كبيرة .. ليس هذا وقت الكلمات الكثيرة، وعندما يحين موعد الكلمات فسوف نتحدث جميعًا حتى يصيبنا التعب، وربما نكتشف عندئذٍ أن هناك خطيبًا آخر في «أوموارو» إلى جانب «واكا»، والآن أحيِّيكم لأنكم استجبتم للنداء.

«أوموارو» وينو! .. هيم!

كان «أوكيك أونيني» ذلك العرَّاف الشهير والأخ الأصغر غير الشقيق ﻟ «إيزولو» هو الذي تَبِعه تلك الليلة إلى المنزل، وطلب منه الذهاب معه إلى «أوكبيري» في الصباح، لكن «إيزولو» رفض طلَبه مثلما رفض الجميع بما فيهم صديقه «أكيوبو»، فقد قرَّر الذهاب بمفرده، ولم يكن في نيته العدول عن قراره، ورغم قطرات المطر الثقيلة التي بدأَت تتساقط، فقد نهض «أوكيك أونيني» معتزمًا الخروج فسألَه «إيدوجو»: هلَّا انتظرتَ قليلًا، ألا ترى السماء؟

أجاب «أوكيك أونيني» متظاهرًا بخُلو البال: لا يا بني.

ثم أضاف: إن الذين يحملون الدواء الشرِّير في أجسادهم هم فقط من يخافون المطر.

بادر بالخروج في اتجاه العاصفة القادمة، وكان الأفق ملبدًا بالظلام، وثمَّة أضواءٌ منتظمة كانت قويةً وثابتةً في بعض الأحيان، ومرفرفةً في أحيانٍ أخرى، تنطفئ وتتلألأ وكأن ريحًا مندفعة كانت تهزُّ اللهَب.

ارتفع صوت «أوكيك أونيني» بقوة لاعنًا الرياح والرعد، وكان يصفِّر ويغنِّي لمساعدة نفسه على احتمال الظلام.

لم يقل «إيزولو» أي شيء لإغرائه بالبقاء وعدم خروجه في المطر، ولم يكن لديه ما يقوله، لكنه كان يفكِّر في أشياءَ أخرى، وبعد فترةٍ طويلة قال: هذا المطر هو نذير القمر الجديد.

لكن أحدًا لم يفهم ما يقول.

لم تكن العلاقة قوية بين «إيزولو» وأخيه غير الشقيق، وكان «إيزولو» معروفًا بكراهيته للعرَّافين، وكثيرًا ما كان يردِّد بأن معظمهم دجَّالون وجشعون، وأن العلاج الحقيقي قد انتهى بانتهاء جيل أبيه، والذين يمارسون مهنة الطب هذه الأيام ليسوا سوى مجرَّد أقزام.

كان والد «إيزولو» عرَّافًا وساحرًا عظيمًا قام بالعديد من المعجزات، وكان الناس يتحدَّثون كثيرًا عن قدرته على الاختفاء، مثلما فعل أثناء الحرب بين «أوموارو» و«أنينتا»؛ حيث لم يكن أحد يجرؤ من إحدى القبيلتَين على وضع قدمه في القبيلة الأخرى، لكن كبير الكهنة كان يفعل ذلك كلما أراد، ودائمًا ما كان يذهب مع ابنه «أوكيك أونيني» الصغير، وذلك بإعطائه مكنسة صغيرة يمسكها في ذراعه الأيسر دون التحدث، ودون تقديم التحية إلى أي شخصٍ يمُر بالقرب منهما، وكان عليه أن يسير فقط بالقرب من الحافة اليمنى للطريق أمام أبيه دون أن يغيب عن ناظره. كان أي شخصٍ يمُر بالقرب منهما يتوقف فجأة، ويبدأ في التلويح بورق الشجيرة عند الجانب الآخر من الطريق، ويواصل التلويح حتى يمُر الولد ومن خلفه أبوه.

تعلَّم «أوكيك أونيني» الكثير من طرق العلاج والسحر من والده، لكنه لم يتعلَّم قَط ذلك السحر الخاص الذي يُدعى OTI-ANYO-OFU-UZO. كان «إيزولو» الأخير أحد الكهنة القلائل في «أوموارو» الذين يمارسون الطب والسحر، ولأنهم كذلك فقد كانوا يتمتَّعون بقوةٍ غير محدودة، حتى إن «أوكيك أونيني» دائمًا ما كان يردِّد أن السبب في ضعف العلاقة وعدم القَبول بينه وبين «إيزولو» هو ذلك الفرق في القوة بينهما. وكان يقول أيضًا بأن «إيزولو» لا يعرف بأن كل ما يتعلق بالعشب والنبات يكون أحيانًا منقوشًا في خطوط باطن الكف، وهو يعتقد أن «إيزولو» الأب أخذها منه عمدًا وأعطاها له.

قال أيضًا ذات مرة: هل سمعني أشكو لحصوله على الكهنوتية؟

كانت الفجوة التي صنعها «إيزولو» بينه وبين أخيه «أوكيك أونيني» هي التي جعلَت بعض الناس لا يُحبونه، وكانوا يشيرون إلى غَيرته من سمعة أخيه الحميدة في عالم الطب والدواء.

ثمَّة آخرون مثل «أكيوب» ممن يعرفون «إيزولو» جيدًا قال بأن شيئًا ما فعلَه «أوكيك أونيني» ﻟ «إيزولو» لم يكن معروفًا، لكنه ليس مجرد شيء يحدث بين الإخوة حتى لا يمكن التسامح من أجله، ولم يجد المؤيدون ﻟ «إيزولو» والمدافعون عنه ما يقولونه سوى بعض الظنون والتخمينات.

قال البعض إن «أوكيك أونيني» قد ربط رحم زوجة «إيزولو» الأولى بعد أن أنجبَت ثلاثة أطفال فقط.

وأجاب آخرون: ذلك مستحيل، نحن جميعًا نعرف العرَّافين الأشرار في «أوموارو»، ونعرف أن «أوكيك أونيني» ليس أحدهم؛ فهو من نوع الرجال الذين لا يُوقِعون اللعنة بامرأة لم تسبِّب لهم أي أذًى، خاصةً وأنها زوجة أخيه.

وقال آخرون: لكنكَ نسيتَ أن «أوكيك أونيني» يحمل حقدًا كبيرًا تجاه «إيزولو»، وأن الأب — في طفولتهم — جعل «أوكيك» يعتقد بأنه سيُصبِح كاهنًا بعد وفاته.

وقال البعض الآخر: لا أحد أبدًا اتهم «أوكيك أونيني» بربط رحم زوجة أخيه؛ فهؤلاء العرَّافون الذين يداومون على مثل تلك الأعمال الدنيئة كمن يُحسُّون بلذة تناول اللحم البشري، لم يفلحوا أبدًا في إنجاب أطفال، وإذا ما ألقينا نظرةً سريعة إلى بيت «أوكيك» فسنجده مليئًا بالأولاد والبنات.

انتهت المناقشات دون الوصول إلى شيءٍ محدَّد، خاصةً حين الإشارة إلى أن «إيدوجو» — وهو ابن المرأة التي قيل بربط رحمها — صديقٌ عزيز ﻟ «أوكيك»، وكانت هذه العلاقة بين «إيدوجو» وعمه تُثير سخط «إيزولو»، الذي قال في الحال: هذان الاثنان، جُرنٌ مهمل وبذورُ نخيلٍ متعفِّنة.

ظلَّ الكابتن «وينتربوتوم» طوال يومين أو ثلاثة أيام يشعر بتعب وإرهاق شديدَين، وكانت السماء تُنذِر بمزيد من الأمطار، وكانت لثة أسنانه أكثر شحوبًا من أي وقتٍ مضى، وقدماه باردتان، فهل هي نوبة الحُمَّى أم أنها مجرَّد علامات؟ لم يكن خائفًا كالأطفال؛ فالحُمَّى ليست سوى أحد الأعباء التي تتطلب إجازةً قصيرة، هذا كل ما في الأمر.

قال «توني كلارك» بتأثُّرٍ ملحوظ: يجب أن نذهب للطبيب.

– طبيب؟! يا إلهي! طبيبٌ من أجل الحُمَّى؟

–لا، يا ولدي، إن «ماكميلان» المسكين لم يكن مهتمًّا بما يكفي بالرغم من تحذيراتي، كما أن الحُمَّى تُصيبُني منذ عشر سنوات مرةً كل سنة، وعندما تصيبك فإنك غالبًا ما تتوقف عن إبداء أية ملاحظات، لا، إن بعض التغيير هو كل ما أحتاجه ولو لمدة أسبوع مثلًا، وبعد عودتي ستجدني في صحةٍ جيدة مثل الزهور، والرحلة القصيرة إلى «إنوجو» ستعمل على ذلك.

كان «وينتربوتوم» يزعم الذهاب لمركز القيادة خلال يومَين، وللأسباب السابقة رأى أن ينظِّم عمل القائم بأعمال المنطقة في «أوموارو» قبل مقابلة أفراد المركز، لكنه لم يستطع الانتهاء من كل شيء في خلال يومَين، لكنه بدأ في الخطوات الأولى، ولأنه مؤمن بأهمية التغيير بعيدًا عن المنزل لبضعة أيام يعود بعدها مرةً ثانية، فقد كتب ملاحظاتٍ كثيرة إلى «توني كلارك» تشمل اقتراحه بما يجب أن يفعله «توني» بشأن رئيس «بارامونت»؛ حيث قال: «أرسلتُ اليوم مبعوثَين إلى «أوموارو» لإحضار «إيزولو» للمناقشة التمهيدية.»

كان كابتن «وينتربوتوم» يستمتع بحَيْرة الأوروبيين الآخرين عندما يتحدث بلُغة الإيبو التي درَج على التحدُّث بها بإتقان.

عاد المبعوثان من «أوموارو» حاملين ردًّا مليئًا بالإهانة من «إيزولو»، ذلك الكاهن المعبود، مما أصاب كابتن «وينتربوتوم» بالغيظ والسخط، فقام على الفور بتوقيع طلب بالقبض عليه، وأصدَر تعليماته لاثنَين من رجال البوليس أن يذهبا إلى «أوموارو» في الصباح وإحضاره، ثم قال ﻟ «كلارك»: اسجنه فَور وصوله في حجرة الحراسة؛ فلستُ راغبًا في رؤيته حتى أعود من «إنوجو». وأثناء ذلك الوقت سيتعلَّم أساليبَ جيدةً في التعامل مع القيادة، كما سيعرف المواطنون جميعًا كيفية التعامل معنا.

في الصباح الباكر عندما قبَض اثنانِ من رجال البوليس على «إيزولو» تدَهورَت صحةُ الكابتن «وينتربوتوم»، وراح في نوبة هذيان، ولم يكُن مفهومًا مما يقول سوى أن قدمَيه باردتان، طلب إناءً من الماء الساخن فسارع الخَوْلي بتسخين بعض الماء، ووضعه في زجاجة من البلاستيك فوق قدم الرجل.

صرخ «وينتربوتوم» قائلًا: إنها ليست ساخنةً بما يكفي.

صبَّ الخَوْلي الماء المغلي، غير أن ذلك أيضًا لم يكن ساخنًا بما يكفي، فراح يغيِّر الماء بين الحين والآخر، لكن الكابتن لم يتوقف عن الشكوى.

لم يكن «توني كلارك» يعرف قيادة السيارات، فاتصل ﺑ «واد» لمصاحبة الكابتن في سيارته الفورد القديمة إلى المستشفى الذي يبعُد ستة أميال .. ازدادت حالة القدمَين سوءًا، ولم يكتشف أحدٌ ذلك إلا في اليوم التالي في المستشفى.

كان «كلارك» و«واد» مندهشَين، وأصابهما الارتباك عند رؤية «ماري سافاج»، تلك الطبيبة الصارمة التي تعمل لحساب المستشفى، وقد انهمَرَت منها الدموع، وأصابها الذعر عند وصول كابتن «وينتربوتوم»، وكانت تردِّد: توم .. توم.

كانت تتصرف وكأنها غير طبيبة، ولم يتملكها الذعر مدةً طويلة؛ إذ سرعان ما تمالكَت نفسها وسيطَرَت على الموقف .. كانت الطبيبة «سافاج» معروفةً لدى الممرضات القوميات والخدم في المستشفى وفي القرية بأنها «أوميسيك»؛ أي تلك التي تمثل القوة، ولم يكن من المتوقع أبدًا أن تبكي أمام مريضٍ حتى لو كان هذا المريض هو زوجها كابتن «وينتربوتوم».

استمر هذَيان «وينتربوتوم» ثلاثة أيام، لم تغادره فيها «سافاج» إلا نادرًا حتى إنها أرجأَت العمليات التي تقوم بها كل أربعاء .. كان يوم الأربعاء معروفًا في أرجاء القرية بيوم تقطيع الأمعاء ودائمًا ما كان يتَّسِم بالحزن .. كانوا يقيمون سوقًا خارج أبواب المستشفى لإمداد المرضى بما يحتاجون، وكان عدد النساء في ذلك السوق يفوق عددهن بقية الأيام، ومن الملاحظ أيضًا أن السماء في يوم الموت ذلك كانت تبدو وكأنها حزينةٌ وكئيبة.

تفحَّصَت «سافاج» قائمة العمليات، وسعدَت بعدم وجود حالاتٍ عاجلة، ثم قرَّرَت تأجيل كل الحالات إلى يوم الجمعة. كانت حالة الكابتن «وينتربوتوم» تتحسَّن ببطءٍ شديد، وكان الأمل ضعيفًا، وكل شيء يتوقَّف على مهارة التمريض لمساعدته في التغلب على حالته الحرجة، التي سيتم التعرُّف على نتيجتها في اليوم التالي أو الذي يليه.

كان الكابتن مقيمًا في جناحٍ خاص بمفرده، ولم يكن مسموحًا لأحد بزيارته سوى الطبيبة «سافاج» وأختها الأوروبية الوحيدة.

أقسَم «جون وديك»، خَوْلي الكابتن «وينتربوتوم»، بينه وبين نفسه ألا يذهب إلى عشيرته مرةً أخرى كمبعوث من الرجل الأبيض، كما فعل آخر مرة لاستدعاء «إيزولو»، لكن عليه الآن أن يرافق رجلَي البوليس وقد عرف أن أحدهما يحمل قيدًا لليدَين للقبض على كاهن «أولو»، فازداد إصراره على عدم الذهاب، لكنه لا يستطيع أن يقول لا لسيده، وافق على الذهاب وهو يفكِّر في خطةٍ ما، تَبِع رجلَي البوليس قبل صياح أول ديكٍ في الفجر، وكان يرتعش ويُدثِّر نفسه بتلك البطانية التي أهداها له كابتن «وينتربوتوم»، عندما أنجبَت زوجتُه طفلًا منذ أربعة شهور مضت.

ظل يتطلع إلى الرجلَين ويهمس وفور وصولهم إلى «أوموارو» قال: إن أي طفلٍ رضيع يستطيع أن يدُلَّكم على منزل «إيزولو».

دخل الشرطيان «أوموارو» أثناء وقت الإفطار، والتقَوا برجل يحمل إناءً من النبيذ سرعان ما استوقفوه، فقال القائد البدين «ماثيو ويك»: أين منزل «إيزولو»؟

حدَّق الرجل بريبةٍ إلى الغرباء، وأجاب بعد وقتٍ طويل وكأنه كان يستجمع ذاكرتَه: «إيزولو»؟ أي «إيزولو»؟

فسأله البدين بغضب: كم «إيزولو» تعرف؟

قال الرجل مُردِّدًا: كم «إيزولو» أعرف؟ أنا لا أعرف أيَّ «إيزولو».

– ولماذا سألتَني ما دُمتَ لا تعرف أيًّا منهم؟

– لماذا سألتُك …؟

صاح الشرطي بالإنجليزية: اخرس أيها الأحمق.

– قلتُ بأنني لا أعرف أي «إيزولو»؛ فأنا غريب هنا.

وكذلك كان الأمر مع رجلَين آخرَين لم يتحدثا بأكثر أو أقل من ذلك، وقال أحدُهما إن «إيزولو» الوحيد الذي يعرفه هو رجل «أوموفيا».

أُصيب الرجلان بالدهشة، وكانت إثارة الخوف هي الطريقة الوحيدة التي تجعل الناس يتكلمون، لكن الضابط الأوروبي حذَّرهما من استخدام العنف والتهديد، وخاصةً عدم استخدام القيود إلا في حالة المقاومة، لكنهما كانا على يقين بعدم العثور على منزل «إيزولو» بدون استخدام بعض العنف، وأنهما سيظلان في أرجاء «أوموارو» حتى غروب الشمس إذا لم يُظهِرا كثيرًا من الردع، وعندما جاء رجل وحاول الهرب والمراوغة قاما على الفور بصفعه، وجعلاه يشاهد القيود، وهكذا تحققت النتيجة المطلوبة، فسألهما الرجل أن يتبعاه، ومضى في اتجاه الأرض التي يبحثان عنها، وأشار عليهما قائلًا: ليس من عادتنا أن نُبيِّن لأحدٍ من الجيران الدائنين الطريق إلى كوخه؛ ولهذا لن أستطيع الدخول معكم.

أطلق الشرطيان سَراحَه، فجرى بأقصى سرعته.

دخل الشرطيان فشاهدا امرأةً عجوزًا تمضغ اللبان، تطلَّعت إليهما بفزع ولم تفهم أيًّا من الأسئلة التي وجِّهت إليها، كما بدَت وكأنها لا تتذكَّر حتى مجرَّد اسمها .. دخل ولدٌ صغير يمسك بشقفةٍ صغيرة لإحضار فحمٍ محروق لأمه كي تُشعِل النار، وكان هذا الولد هو الذي قاد الرجلَين إلى مكان «إيزولو»، وفور خروجه معهما التقطَت العجوز عصاها وحرَّكَتْها بسرعة مدهشة في اتجاه كوخ أمه لتبين ما فعله الولد، ثم عادت إلى كوخها ببطءٍ شديد وهي تنحني مستندةً إلى عصاها المستقيمة، كان اسمها «وانيك»، وكانت أرملة بلا أطفال .. سمعَت الولد «أوبيلو» يبكي.

كان الشرطيان في ذلك الوقت قد وصلا إلى كوخ «إيزولو»، ولم يكونا في حاجة إلى المراوغة، فراحا يتحدثان بغضب وبشكلٍ مباشرٍ ثم تساءل البدين: أيٌّ منكم يُدعى «إيزولو»؟

سأل «إيدوجو»: أي «إيزولو»؟

– لا تسأل مرةً ثانية عن أيِّ «إيزولو»، وإلا فسوف أستخرج بذور الأكرو من فمك .. من الذي يُدعى «إيزولو» هنا؟

– أيُّ «إيزولو»؟ أم أنك لا تعرف عمن تبحث؟

كانوا أربعة آخرين في الكوخ ولم يقل أحدٌ شيئًا .. ازدحم الأطفال والنساء عند الباب المؤدي للكوخ، واكتست الوجوه بالخوف والقلق.

قال البدين بالإنجليزية: حسنًا، أيُّ «إيزولو»!

ثم قال بالإنجليزية أيضًا: Gimedatting.

كانت هذه الكلمة الأخيرة الموجَّهة إلى رفيقه، الذي سارع بإخراج القيود من جيبه.

كانت القيود في نظر القروي من أسلحة الرجل الأبيض الأقل رهبةً وشأنًا، فبدا لهم الرجل بذلك القفل الحديدي عاجزًا وحقيرًا؛ لأن تلك الطريقة هي التي يتعاملون بها مع المعتوهين والخطِرين فقط.

تحرَّك الشرطي ذو السحنة القاسية صوب «إيدوجو» ممسكًا بقيوده الحديدية، فتقدم «أكيوبو» للأمام بصفته كبير البيت، وناشد الشرطيَّين ألا يغضبا من «إيدوجو» وقال: إنه يتحدث كما يفعل الشباب، وأنتم تعرفون أن الشباب دائمًا متهور، لكن الرجل العجوز يسعى للمصالحة.

ثم أخبرهم أن «إيزولو» وابنه قد رحلا إلى «أوكبيري» في الصباح الباكر، لتلبية نداء الرجل الأبيض. نظر الرجلان كلٌّ منهما للآخر، وتذكَّرا بأنهما فعلًا قد قابلا رجلًا بصحبة آخر يبدو أنه ابنه، وقد كانا أوَّل من قابلا من الرجال .. نعم إنهما يتذكَّران، وكان الرجل وابنه يسيران في الاتجاه المضاد، وكانا أيضًا متنكِّرَين تمامًا.

قال البدين: ماذا يشبه؟

– إنه طويل كشجرة الأيروكو، وذو بشرةٍ بيضاءَ كالشمس؛ فقد كان يُدعى في شبابه «وانيانو» Nura-anyanwu.

– وماذا عن ابنه؟

– مثله تمامًا .. لا يُوجَد اختلاف.

أبدى الشرطيان — على لسان الرجل الأبيض — إعجابهما العظيم بالقرويين.

قال البدين: قابلنا شخصَين في الطريق.

وقال رفيقه: لكننا لن نعود هكذا!

كان البدين يفكِّر في نفس الشيء، وهو واثق بأنهم لم يقولوا سوى الحقيقة، لكن إثارة بعض الرعب في نفوسهم كان ضروريًّا، فخاطبهم بلغة الإيبو قائلًا: ربما كنتم تكذبون، ويجب علينا أن نتأكد، وإلا فإن الرجل الأبيض سيعاقبنا، وذلك بالقبض على اثنَين من رجالكم، واصطحابهما إلى «أوكبيري»، وإذا ما وجدنا «إيزولو» هناك فسوف نُطلِق سَراحهما، أما إذا لم ..

توقف لحظة، ثم استطرد بحركةٍ جانبية من رأسه: أيَّ اثنين سنأخذ؟

تطلَّع بعضهم إلى بعض، وتبادَلوا الحديث فيما بينهم بقلَق، ثم قال «أكيوبو» متوسلًا: ما الحكمةُ في خداع مبعوث الرجل الأبيض؟ وإذا كنا كاذبين فإلى أين سنذهب؟ إذا لم تجدوا «إيزولو» في «أوكبيري» فبمقدوركم العودة للقبض علينا جميعًا وليس على اثنَين فقط.

فكَّر البدين فيما قاله «أكيوبو»، ثم وافق، وقال: لكننا لا نستطيع المجيء والعودة دون عمل أي شيء؛ فعندما تزورك الروح المقنَّعة تكون مُضطرًّا لإخماد بصماتها بتقديم الهدايا، والرجل الأبيض في هذه الأيام هو الروح المقنَّعة.

قال «أكيوبو»: حقًّا، إن الروح المقنَّعة في أيامنا هذه هو الرجل الأبيض ومبعوثوه.

طلبوا من زوجة «إيزولو» الكبيرة أن تُجهِّز اليام بالدجاج للرجلَين، فتناولا طعامهما، وشربا النبيذ، ثم استراحا قليلًا، واستعدا للذهاب، ثم قدَّم «أكيوبو» الشكر لزيارتهما، وأخبرهما بأنهما لو قابلا صاحب البيت لعَرفا أكثر كيف يكون كرم الضيافة.

قدَّم لهما قطعةً صغيرة من الكولا وقال: هذه نيابة عن صاحب البيت، فهل تقبلونها؟

ثم وضع أمامهما دجاجتَين، وتَبِعه «إيدوجو» بوضع طاسةٍ خشبية بداخلها شلنان .. قدَّم البدين الشكر وهو يكرِّر تحذيره: إذا تبيَّن أنكم تكذبون بشأن «إيزولو»، فإن الرجل الأبيض سيجعلكم تَرونَ آذانكم بعيونكم.

كان التدهور المفاجئ الذي أصاب الكابتن «وينتربوتوم» في اليوم الذي أرسل فيه الشرطيَّين للقبض على كاهن «أوموارو» له دلالته الواضحة، وكان «جون وديكا» الخَوْلي الثاني للكابتن «وينتربوتوم» هو أوَّل من أشار إلى ذلك بقوله: لقد أصابه الكاهن؛ فالقوة لم تزل في مكانها المعتاد.

وسأل بقية الخدم بعد ذهاب سيدهم إلى المستشفى: ألم أقل لكم؟ وهل كان رفضي مصاحبةَ الشرطيَّين من أجل لا شيء؟ .. قلتُ لهم إن كاهن «أوموارو» ليس مجرَّد حَساءٍ يستطيعون لعقه في عجلةٍ من أمرهم.

اتَّسَم صوتُه بالفخر والكبرياء وهو يستطرد: يرى سيدنا أن العرَّاف لا يستطيع أن يلمسه طالما هو رجلٌ أبيض.

عند قدوم الخَوْلي الخاص ﺑ «كلارك» غيَّر لغته من الإنجليزية إلى لغة الإيبو التي لا يعرفها الخَوْلي.

انتشَرَت في أرجاء القيادة الحكومية قصةُ القوى السحرية ﻟ «إيزولو» مرتبطةً بقصة التدهور الغامض للكابتن «وينتربوتوم».

عند عودة السيد «كلارك» من المستشفى سأله الخَوْلي عن حالة السيد الكبير، فأجاب «كلارك» وهو يهزُّ رأسه: إنه في حالةٍ سيئة، وأنا خائف.

قال الخَوْلي بقلقٍ شديد: آسف.

كان «كلارك» يُحِس بالإجهاد، ولم تكن حالته تسمح له بتبادل الحديث مع الخَوْلي فقال: اذهب وجهِّز الحمام.

وهكذا فقد الفرصةَ لسماع السبب في مرض الكابتن، الذي انتشر في كل «أوكبيري» وليس في الإدارة فقط، لكن «كلارك» لم يعرف إلا حين أخبره «رايت» بعد يومَين.

انتظر الخدم الآخرون الخَوْلي في مطبخه لسماع آخر الأخبار، فقال لهم أثناء طريقه لإعداد الحمَّام إنه ليس ثمَّة أملٌ لأن «كلارك» خائف.

عاد «كلارك» و«واد» مرة ثانية في المساء إلى المستشفى، ولم يتمكنا من رؤية المريض ولا الطبيب، فقالت الممرضة «وارنر»: لا يُوجد أيُّ تغيير.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها «توني كلارك» بالقلق، ثم عاد في هدوء، وكان رسول البلاط خارج منزله حين عاد.

قال الرجل: مساء الخير.

أجاب «كلارك»: مساء الخير.

– يُوجد عرَّافٌ قادم من «أوموارو». إنه خائفٌ من أجل الجدري الزاحف إلى القرية.

– ماذا تقول؟

أخبره الرجل بمزيد من التفاصيل، وعندئذٍ فقط أدرك «كلارك» بأنه يتحدث عن «إيزولو»، فبادر بالدخول وقال: احجزه في غرفة الحراسة حتى الصباح.

– هل أضعه في غرفة الحراسة يا سيدي؟

صاح «كلارك»: هذا ما قلت، هل أنت أخرس؟

– لا .. لستُ أخرسَ يا سيدي ولكن …

– اخرج من هنا.

أرسل الرجل بعض الناس للعمل على نظافة غرفة الحراسة، ووضع حصيرة نظيفة تصلح لإقامة الضيوف، ثم توجه إلى «إيزولو» الجالس مع «أوبيكا» في غرفة البلاط، وقال له بلطف: إن السيد الكبير مريض، والآخر يرحِّب بكم، ويخبركم أن الوقت متأخر، وسوف يراكم في الصباح.

لم يُجب «إيزولو» بشيء، وتبعه إلى غرفة الحراسة المظلمة، وجلس على الحصيرة، وكذا فعل «أوبيكا» .. تناوَل «إيزولو» من جيبه زجاجة النشوق.

قال رسول البلاط: سنرسل في طلب مصباح لك.

وما هي إلا لحظاتٌ قليلة حتى جاء «جون وديكا» مع زوجته حاملة فوق رأسها شيئًا صغيرًا سرعان ما وضعَتْه على الأرض، فإذا به كميةٌ هائلة من المنيهوت (النَّشَا) وطاسةٌ من حَسَاء الورق المُر. صنَع «جون وديكا» كرة الفوفو، وألقى بها في الحَسَاء، ثم بلَعها ليؤكِّد عدم وجود سُمٍّ بها.

قدَّم «إيزولو» له ولزوجته الشكر، وقد تبيَّن أن زوجته هذه هي ابنة صديقه في «أومواجو»، لكنه رفض أن يأكل، وقال: ليس الطعام هو ما يشغلُني الآن.

قال ابن «وديكا»: أستحلفك بالله أن تأكل ولو قليلًا، قضمةً واحدة فقط.

ولم يكن من اليسير إغراء الرجل العجوز كي يأكل، فقال: «أوبيكا» سيأكل نيابةً عني.

قال الآخر: إن الطير لا يأكل في بطن الماعز.

لكن «إيزولو» لم يتنازل عن رأيه، وظل رافضًا للطعام.

عاد المبعوث بالمصباح، فشَكَره «إيزولو».

عاد «ماثيو ويك» من مهمته في «أوموارو» بصحبة الشرطي الآخر، فوجد زوجاته يبكين وجمعًا غفيرًا من الناس مزدحمين في غرفته، فاحتار في أمره وانتابه القلق، وفكِّر في ابنه الصغير المصاب بالحصبة، ثم اندفع تجاه الحصيرة التي يرقد عليها ابنه، وتحسَّسه، فوجده يقظًا وسليمًا وعندئذٍ سأل: ماذا حدث؟

لم يُجب أحد، فتوجَّه بالسؤال مباشرةً إلى أحد رجال الشرطة في الحجرة، تنحنح الرجل وأخبَره بعدم توقُّعهِم أن يعود هو ورفيقه أحياء، خاصةً وأن الرجل الذي ذهب للقبض عليه موجود هنا.

دخل «جون وديكا» فسأله «ماثيو»: لكنك لم تكن على ما يُرام في الصباح؟!

– وهذا ما جئتُ لأخبرك به؛ فالمرض كان تحذيرًا من كبير الكهنة.

ثم قال لهم «جون» بأن الكاهن كان يعرف كل شيءٍ عن مرض الكابتن.

تساءل شخصٌ ما وربما كانوا شخصَين: وماذا قال؟

– إذا كان مريضًا فسوف يبرأ .. ولم أكن أعرف ما يعني غير أن صوته كان يحمل بعض السخرية.

لم يكن «ماثيو ويك» أو «كوبل» كما كانوا يَدْعونه قلقًا بما يكفي؛ فلديه الحماية الشخصية التي صنعها له «ديبيا» العظيم في قريته، لكنه بعد سماع المزيد عن «إيزولو» بدأ إيمانُه بتلك الحماية يقل، وعندئذٍ تشاوَر مع الشرطي الذي كان بصحبته في «أوموارو»، وقرَّر كلٌّ منهما — نحو مزيد من الأمان — أن يتوجَّها مباشرةً إلى «ديبيا» .. كانت الساعة تقترب من العاشرة مساءً حين وصلا منزل الرجل الذي يَدْعونه في القرية «الرمح المنطلق نحو السماء».

سألهما عن الموضوع الذي جاءا من أجله فَور وصولهما، ثم قال: خيرًا فعلتُما بالحضور عندي مباشرةً لأنكما في الحقيقة هاجمتما فَم النمر، ولا يُوجد شيءٌ أكبر من النمر، ومن أجل هذا أرحِّب بكما لأنكما هنا في الملجأ الأخير.

أخبَرهما بعدم تناول أي شيءٍ أحضراه من «أوموارو»، ووجوب إحضار الدجاجتَين والنقود كقربان، ثم قدَّم لهما شيئًا ما لشُربه وخلطه في ماء الحمام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤