الفصل الثالث

كان الحر شديدًا طوال الشهر أو الشهرَين الماضيَين، فاحترق العشب واصطبغَت أوراق الشجر بلون الأرض الأحمر الداكن. ولم تكن ثمَّة فرصة للانتعاش سوى ساعتَين فقط في الصباح، قبل أن تتحول الرءوس والرقاب إلى جداولَ من العَرق. كان أكثرها إثارةً للغضب والضيق هو ذلك العَرق المتصبِّب خلف الأذن وكأنه ذبابة تمشي .. عند هبوب الرياح الباردة لحظة الغروب كان ثمَّة إحساسٌ آخر بالانتعاش المؤقَّت. غير أن هذه الرياح المخادعة كانت بمثابة خطرٍ كبير على أفريقيا؛ حيث كان الأوروبيون المستهترون يتعرَّونَ أمامها فيصيبهم المرض.

ها هي أمطار أول العام تُواصِل السقوط بينما الكابتن «وينتربوتوم» واقف في إحدى شرفات بيته الأرضي الكثيرة يُراقِب أحداث الشَّغب.

لم يعرف الكابتن «وينتربوتوم» النوم منذ توقَّفَت الرياح الباردة الجافة فجأةً في ديسمبر وها هو منتصف فبراير .. أصبح الكابتن شاحبًا ونحيفًا، وكانت الحرارة ما تزال قويةً غير أن قدمَيه كانتا باردتَين. وكان من الأجدر له أن يكون الحمَّام ساخنًا حتى لا يصيبه سوء، لكنه في كل صباح كان يُفضِّل الحمَّام البارد، ثم يتطلع إلى المرآة فيرى لَثَة أسنانه أكثر بياضًا .. ربما كانت نوبةً أخرى من الحُمَّى .. في المساء كان مُضطرًّا لحبس نفسه داخل الشبكة التي تمنع الناموس حتى في وجود هواء بالخارج، فكان يتصبَّب بالعرق وتصير الوسادة كحوضٍ مليء بالمياه، لكنه سرعان ما كان يستيقظ بعد إغفاءةٍ قليلة على إثْر دقَّات الطبول القريبة، وعندئذٍ كانت تنتابه الدهشة من تلك الطقوس التي يمارسونها ليلًا في الغابة .. تُرى هل هي ضرباتُ قلب الظلام الأفريقي؟

أصابه الذعرُ ذات ليلةٍ عندما كان راقدًا في الليل، ولم يَقْرعوا الطبول لكن دقَّات الطبول كانت تتخلَّل مسامعه من نفس المسافة .. هل كانت مجرَّد دقَّات رأسه الساخن؟ .. هذه الأرض القديمة المثيرة للكوابيس!

ظل «وينتربوتوم» طوال خمسة عشر عامًا مكتئبًا من هذا المُناخ ونوعية الطعام، وكثيرًا ما فكَّر في ترك الخدمة في نيجيريا. وبالرغم مما يُسبِّبه له هذا المُناخ من غضبٍ سريع، إلا أنه لم يعُد يقارن بين الحياة هنا والحياة في أوروبا .. كان إيمانه قويًّا بقيمة المهمَّة البريطانية في أفريقيا، وكان هذا كافيًا، ومما ساعَد على ذلك رحلتُه للكاميرون عام ١٩١٦م، عندما كان يُحارِب ضد الألمان؛ حيث حصَل على لقب كابتن.

كان سقوط الأمطار مثار دهشةٍ كبيرة للناس .. توقَّفَت الأمطار، وكانت الشمس في النهار حارقةً كالعادة، ولم تعُد الطيور تُغنِّي في الصباح، ولم يكن ثمَّة هواء، والأشجار واقفة في سكون، ثم هبَّت فجأةً رياحٌ شديدة وأظلمَت السماء .. امتلأ الهواء بالأتربة وأوراق الشجر المتطايرة، وترسَّخَت أشجار النخيل وجوز الهند وكأنها عملاقٌ يهرُب من الرياح .. كانت الأوراق تتمايل للوراء.

سارع «جون» خادم «وينتربوتوم» إلى غلق الأبواب والنوافذ، وراح يلتقط الأوراق والصور من على الأرض بينما كان الرعد يُدوِّي بشدة .. عادت الحياة مرةً أخرى بعد سكونٍ دام عدة شهور، واخضرَّت أوراق الشجر من جديد، فأصبح «وينتربوتوم» الواقف عند درابزين الشرفة رجلًا آخر .. لم يهتم بالتراب وتركَه يهبُّ فوق عينَيه، وكان يحسُد الأطفال وهم يَقفِزون في العَراء ويُغنُّون للمطر القادم.

سأل «جون»: ماذا يقولون؟

– إنهم يُناشِدون الأمطار سرعة السقوط.

كان أربعةٌ آخرون من الأطفال يُسرِعون نحو الأولاد ليلحقوا بهم عند مروج السيد «وينتربوتوم» .. إنه المكان الوحيد الذي يتسع لألعابهم، راحوا يصيحون والسماء ملبَّدة بالسُّحب السوداء، غير أن ضوءًا كان يتسلل عَبْر الأفق البعيد وثمَّة أضواءٌ أخرى كانت تخترق السحب بصعوبة ومشقة.

تساقطَت الأمطار غزيرةً وقطراتٌ من ماء المطر المتجمد كانت تتساقط فوق رءوس الأطفال، لكنهم لم يتوقفوا عن مواصلة غنائهم .. كانت تلك القطرات المتجمِّدة تؤلمهم أحيانًا، وفي أكثر الأحيان كانت تجعلهم يضحكون، فيُسرِعون نحوها، ويقذفونها في أفواههم قبل أن تذوب.

ظلَّت الأمطار تتساقط بشدةٍ طَوالَ ساعةٍ كاملة، فعادت الأشجار إلى لونها الأخضر الجميل وكانت الأوراق ترفرف .. كانت الساعة السادسة، ومن خلال ما تثيره الأمطار في النفس من روعة وجلال كان الكابتن «وينتربوتوم» قد نَسِي الشاي والبسكويت الذي أعدَّه له «جون» قبل الساعة الخامسة .. بدأ في تناول البسكوت، وتذكَّر عندئذٍ موعد «كلارك» على العشاء، فذهب إلى المطبخ ليرى ما يقوم الطبَّاخ بإعداده.

لم تكن «أوكبيري» مدينةً كبيرة .. خمسةٌ فقط من الأوروبيين كانوا يعيشون بها .. كابتن «وينتربوتوم» كضابط، للمنطقة، السيد «كلارك»، «روبرتس»، «واد»، «رايت» .. كان علم الوحدة يرفرف أمام شرفة الكابتن مشيرًا إلى أنه ممثل الملك في المنطقة .. كان الاحتفال بيوم الإمبراطورية هو أحد المناسبات القليلة التي يرتدي فيها زيَّه الأبيض ويمتشق سيفه؛ حيث يخرج أطفال المدارس في طوابيرَ منتظمة ويبادلهم التحية.

كان السيد «كلارك» هو مساعده الذي جاء منذ أربعة أسابيع فقط، خلفًا ﻟ «جون ماكميلان» الذي مات بملاريا المخ .. لم يكن بقية الأوروبيين ممن يعملون لدى الإدارة .. كان «روبرتس» مساعدًا لمدير البوليس التابع للفصيلة العسكرية المحلية، و«واد» تابعًا للسجن يعمل مساعدًا أيضًا للمدير، أما الرجل الأخير «رايت» فلم يكن تابعًا للمنطقة؛ فهو يعمل في قسم الأعمال العامة؛ حيث كانوا يمهِّدون طريقًا جديدًا إلى «أوموارو» .. اغتنم كابتن «وينتربوتوم» الفرصة المناسبة للتحدُّث مع «رايت» بشأن ما بدَر منه من تصرفات، وخاصةً مع نساء المنطقة، مُبينًا له أن كل أوروبي في «نيجيريا»، وخاصةً أولئك المقيمين في أماكنَ بعيدة مثل «أوكبيري»، لا يجب أن ينتشروا أمام المواطنين .. قرَّر «وينتربوتوم» إبعاد «رايت» عن النادي إلا إذا أظهر تغيُّرًا ملحوظًا.

كان النادي مكانًا عسكريًّا يتناولون فيه الطعام قبل أن يغادره الجنود عند انتهاء مهمَّتهم في تهدئة ما كان من صراع في المنطقة وانتقالهم إلى مكانٍ آخر .. وكان عبارةً عن بيتٍ أرضي من الخشب واسع الشرفات يحتوي على حجرةٍ للطعام وحجرةٍ أخرى وشرفة .. أما حجرة الطعام فإنهم يستخدمونها الآن كحانةٍ ومكانٍ للاسترخاء والحجرة الأخرى كمكتبة؛ حيث يمكن الاطلاع على الصحف القديمة التي مضى عليها شهران أو ثلاثة، أو قراءة ما تُعلِنه وكالة «رويتر» فيما لا يتعدَّى عشر كلماتٍ مرتَين في الأسبوع.

كان «توني كلارك» قد أمضى أكثر من ساعة في ارتداء ملابسه استعدادًا للعَشاء .. إن ارتداء الملابس في مثل هذا الجو الحار شيءٌ مزعج، لكنه نوع من الحياة في هذه المدينة القاسية والمُفسِدة للروح المعنوية .. كان اليوم لطيفًا بسبب الأمطار، أما بعض الأيام الأخرى فقد كان «توني كلارك» يمتنع عن حضور العَشاء تجنبًا لارتداء قميصه النظيف وربطة العنق.

كان ينظر إلى ساعته الذهبية التي أهداها له والده عندما جاء للعمل في نيجيريا بينما يطالع الفصل الأخير من كتاب جورج آلين «مصافحة قبائل النيجر البدائية»، الذي أعاره له كابتن «وينتربوتوم» .. كان يجب الانتهاء من قراءته لإعادته هذه الليلة، فكانت سرعتُه في القراءة هي أحد الأشياء التي تعلَّمها هنا .. وبالرغم من صعوبة فهم الكتاب وإحساسه بالكآبة إلا أن الفِقرات القليلة الأخيرة قد أثارَتْه .. كان عنوان الفصل الأخير «النداء» وقد جاء فيه ما يلي: «من أجل تلك المطالب، بل من أجل حياةٍ أفضل واحتلالٍ هادئ، فإن نيجيريا مُغلَقة، وستظل مُغلَقة حتى تفقد الأرضُ بعضًا من خصوبتها .. من أجل هؤلاء الذين يبحثون عن حياةٍ نشطة .. لهؤلاء الذين يستطيعون معاملة الناس مثل معاملتهم للمادة .. الذين يستطيعون فهم الأوضاع الكبيرة .. الأحداث المراوغة .. الأقدار المرسومة .. نيجيريا تقدِّم ذراعَيها لأجل الرجال في الهند الذين جعلوا من الإنجليز صانعًا للقانون ومُشيدًا ومُهندسًا للعالم .. أعرف أننا نستطيع العثور على الرجال .. إن أمهاتنا لا يجذبننا نحو الجانب القاسي من الطفولة .. العودة إلى دائرة البيت .. العودة إلى ألعاب الشباب عديمة الفائدة .. إنه لمن الفخر الشديد أنهن جئن بنا أقوياءَ لا نخاف من قيادة هذه الشعوب المتخلفة .. لا شك أننا نحن! الشعوب! هل سيكون الإنجليزي الصغير الذي قاتل من أجله النورماندي ضد الساكسوني في أرضه؟ هل من أجل مكتبٍ فقط يقرأ عليه صغارنا «ذراك، ولفروبيشرا، لنيلسون، وكلايف»، ورجال مثل «مونجو بارك»؟ هل من أجل مكتب المحاسبة الذي أخذوه عن اليونان وروما؟ لا .. لا .. ألف مرة لا .. إن الجنس البريطاني سيأخذ مكانتَه .. إن الدم البريطاني سيحكُم.»

قال السيد «كلارك»: آه .. شيءٌ طيب.

ثم راح ينظر في ساعته مرةً ثانية .. دقيقتان فقط للوصول إلى كابتن «وينتربوتوم»، وإذن فهناك متَّسَع من الوقت .. كان «كلارك» قبل مجيئه إلى «أوكبيري» قد أمضى شهرَين في مراكز القيادة، تذكَّر يوم أن دعاه نائب المحافظ على العَشاء حين اعتقَد لأسبابٍ ما أن الساعة كانت تمام الثامنة، وأنه وصل في ميعاده لكن صالة الاستقبال البرَّاقة كانت فارغةً من الناس، فاضطُر «كلارك» أن يتوجه إلى الحديقة الأمامية للانتظار، وحينئذٍ جاء أحد الخدم، وقدَّم له مشروبًا، فجلس على حافة الكرسي بقلق وكأسٌ من الشيري في يدَيه .. كان يودُّ لو ينسحب تحت ظِل إحدى الأشجار في الحديقة حتى يصل بقية الضيوف، لكنَّ شخصًا ما كان يهبط السلم بسرعة وهو يطلق صفيرًا عاليًا .. قفَز «كلارك» على قدمَيه وقبل أن يتقدَّم مُضيفه لمصافحته حدَّق فيه بانتباهٍ لحظةً قصيرة، فسارع «كلارك» بتقديم نفسه، وكان على وشك الاعتذار لكن «ﻫ. ﻫ» لم يمنَحْه الفرصة، وقال: أعتقد أن العَشاء في الثامنة والربع.

دخل مساعده في تلك اللحظة، ورأى الضيف وهو يبدو قلقًا، ويهزُّ ساعته مستمعًا إلى دقاتها: لا تقلَق يا «جون»، تعالَ لمقابلة السيد «كلارك»، الذي جاء مبكرًا بعض الشيء.

صَعِد إلى أعلى مرةً ثانية تاركًا إياهم، وطَوال وقت العَشاء لم يتحدث أبدًا إلى «كلارك» .. كان بقية الضيوف جميعًا من كبار السن والمقام، ولم يُبدِ أحدهم أي اهتمامٍ ﺑ «كلارك» المسكين، وكان اثنان منهم بصحبة زوجاتهم أما بقيتهم بما فيهم «ه. ه» فإنهم غير متزوجين أو أنهم لحكمة ما تركوا زوجاتهم في انجلترا.

كانت أسوأ اللحظات التي شاهدها «كلارك» حين قام «ه. ه» بدعوة الضيوف إلى صالة الطعام دون الإشارة إليه بالإضافة إلى أن أحدًا منهم لم ينتبه لذلك، أخذوا جميعًا أماكنهم فور جلوس «ﻫ. ﻫ» ثم أرسل «أ. د. ك» واحدًا من الخدم لإحضار كرسي، ولا بد أن شيئًا ما كان وراءه عندما وقف وقدَّم مقعده الخاص ﻟ «كلارك».

لحظة وصول «توني كلارك» كان الكابتن «وينتربوتوم» يشرب البراندي والبيرة.

– إن الجو لطيفٌ اليوم .. شكرًا للرب.

قال «وينتربوتوم»: نعم، كان جميلًا أن تتساقط الأمطار.

– كيف ستكون العاصفة الاستوائية؟ .. أعتقد أن الجو سيميل للبرودة أكثر مما هو عليه الآن.

– نعم .. ولكن ليس تمامًا كما تعتقد .. سيكون الجو لطيفًا ليومَين فقط، هذا كل ما في الأمر .. إن موسم الأمطار الفعلي لا يبدأ قبل مايو وأحيانًا يونيو .. تفضَّل بالجلوس.

– أشكرك كثيرًا .. ربما يكون السيد «آلين» حقيرًا ومتغطرسًا بشدة، ويمكننا القول بأنه أنيقٌ ومعتدٌّ بنفسه بعض الشيء.

جاء «بونيفيس» الصبي الصغير للكابتن .. تقدم للأمام حاملًا صينيةً فضية وقال: ماذا تشربون؟

– لا أعرف بالضبط .. ولكن …

– فلنُجرِّب قليلًا من الكوستر القديم.

– براندي وبيرة.

– حسنًا .. شيءٌ جميل.

منذ اللحظة الأولى التي شاهد فيها الصبي بزيِّه الأبيض عرف للوهلة الأولى قَدْر وسامته، وبدا كابتن «وينتربوتوم» وكأنه قرأ أفكاره، فقال: إنه نموذجٌ مشرِّف وجميل .. أليس كذلك؟ إنه يعيش معي منذ أربع سنوات، وعندما جئتُ به كان ولدًا صغيرًا في حوالي الثالثة عشرة، وهم في مثل هذا العمر كما أرى لا يُدرِكون شيئًا من أعمارهم .. كان في ذلك الوقت لا يعرف شيئًا عن أي شيء.

– إنهم كما قلتَ لا يُدرِكون شيئًا عن أعمارهم وعن السنين و…

– إنهم يعرفون المواسم .. أنا لا أعني ذلك، ولكن إذا سألتَه عن عمره فلن يعرف.

عاد الصبي بالمشروبات.

قال السيد «كلارك» وهو يتناول مشروبًا: أشكرك جدًّا.

حَوْل المصباح عند الركن كان عددٌ هائل من الذباب والحشرات محتشدًا، وسرعان ما تساقَطوا فوق الأرض زاحفين .. ظل كلارك يتابعهم باهتمام.

– هل هذه الحشرات تلسع؟

– لا .. إنها لا تؤذي، وإنما هكذا يتساقطون بعد الأمطار .. لقد قُلتَ شيئًا عن «آلين» .. أعتقد أنكَ وصفتَه بالأناقة والاعتداد بالنفس.

– إنه مجرَّد انطباع.

– أرى أنك واحدٌ من التقدُّميين. وعلى أية حالٍ فعندما تطولُ إقامتك هنا لفترةٍ أطول مما أقام «آلين»، وتتمكَّن من فهم الناس بصورةٍ أشمل، ستبدأ حينئذٍ في رؤية الأشياء بشكلٍ مختلف .. أنتَ لم تَرَ كما رأيتُ أنا رجلًا يدفن حتى رقبته وفوق رأسه قطعةٌ من اليام المحمَّر لجذب النسور .. هل تعرف؟ حسنًا .. لا عليك؛ فنحن البريطانيين مجموعةٌ من الفضوليين نفعل كل شيء بلا حماس .. انظر إلى الفرنسيين. إنهم لا يخجلون من تعليم ثقافتهم إلى الأجناس المتخلِّفة، وموقفهم تجاه حاكم هذه الشعوب واضح .. يقولون له: إن هذه الأرض ملكٌ لك لأنك تملك من القوة ما يكفل لك رعايتها والإمساك بها، وإذا لم تكن راضيًا فتعالَ وحاربنا .. أما نحن البريطانيين فماذا نفعل؟ .. إننا نتخبَّط من طريقة إلى عكسها، نحن نبتعد عن طريقنا، ونأتي بمن ليس لهم شأن ثم نصنع منهم الزعماء .. إنهم يسبِّبون لي المرض.

رشَف ما تبقى من كأسه، وصاح مناديًا «بونيفيس» من أجل كأسٍ آخر، ثم قال مستطردًا: أنا حقًّا لا أهتم إذا ما تركوا هذا الاضطراب والعبث لأولئك المتزمِّتين القدامى في لاجوس، ولكن إذا ما تعلق الأمر بتلويث سمعة ضباط السياسة الصغار فإنني سأترك مكاني، وبعد هذا ندعو الشخص الإيجابي بأنه أنيق.

اعترف «كلارك» بأن حُكمه كان عن جهلٍ ويجب أن يعمل على مراجعته.

– «بونيفيس».

– نعم.

– كأسٌ آخر للسيد «كلارك».

– لا .. لا أريد حقًّا؛ فأنا أعتقد أن …

– لا تَعتقِد شيئًا .. إن العَشاء لن يكون جاهزًا قبل ساعةٍ أخرى، فلتُجرِّب شيئًا آخر إذا شئتَ .. ويسكي مثلًا.

طلَب «كلارك» كأسًا آخر من البراندي ولكن دون رغبة منه في مزيد من الشراب وهو يفكِّر في موضوع جديد. وكان حظه حسنًا حين أبصر مجموعةً من البنادق موضوعةً بعناية كالتذكارات بالقرب من الشباك السفلي لحجرة المعيشة، فقال: إنها مجموعةٌ ممتازة من الأسلحة النارية، هل هي بنادقُ أهل البلد؟

شعَر عندئذٍ أنه تورَّط في الحديث.

قال كابتن «وينتربوتوم» بلهجةٍ مختلفة: هذه البنادق لها حكايةٌ طويلة وشيِّقة .. كان أهلُ «أوكبيري» وجيرانهم من «أوموارو» أعداءً أو هكذا كانوا قبل مجيئي .. نشبَت بينهم حربٌ ضارية من أجل قطعة من الأرض، وكان النزاع القَبلي نزاعًا سيئًا لكن «أوكبيري» تصرَّفَت بتحرُّر وحكمة، ورحَّبَت بالرسل المبعوثين وبالحكومة، في الوقت الذي أصرَّت فيه «أوموارو» على تخلُّفها حتى ما يقرُب من السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة .. يمكنني القول بتواضعٍ شديد إن هذا التغيير لم يحدث إلا بعد أن جمعتُ كل الأسلحة وحطَّمتُها أمامهم في نفس المكان، باستثناء هذه المجموعة التي تراها .. سوف تذهب هناك كثيرًا. وإذا ا سمعتَ أحدًا يتحدث عن «أوتيجي إيجب» فلتعرف إذن أنهم يتحدثون عني. إن «أوتيجي إيجب» تعني محطِّم الأسلحة .. حتى الأطفال الذين وُلِدوا في ذلك العام ينتمون إلى تلك المرحلة الجديدة لتحطيم الأسلحة.

قال «كلارك»: شيءٌ مثير حقًّا، شيءٌ مدهش .. وكم تبعُد هذه القرية الأخرى التي تُدعى «أوموارو»؟

– أوه .. ليس سوى ستة أميال تقريبًا، لكنهم يعتبرونها بلدًا أجنبيًّا، وهي لا تشبه بعض القبائل المتقدمة في شمال أو غرب «نيجيريا» .. إن «الإيبو» لم يُطوِّروا أبدًا أيَّ نوع من السلطة المركزية؛ ولهذا فشلَت قيادتنا في التقدير.

– نعم .. لقد فهِمْتُ.

– بدأَت الحرب بين «أوموارو» و«أوكبيري» بطريقةٍ غريبة ومثيرة للدهشة .. كنتُ قد ذهبتُ إلى هناك، وثمَّة تفاصيلُ في الاعتبار.

توقَّف لحظةً ثم رفع صوتَه مناديًا على «بونيفيس» وأضاف قائلًا: كيف تبدو يا سيد «كلارك»؟ أوه .. رائع وجميل .. ينبغي أن تشرب المزيد؛ فإن الشراب شيءٌ جيد ومفيد للملاريا .. آه .. كنتُ أقول إن الحرب قد بدأَت حين ذهب رجلٌ من «أوموارو» ذات صباحٍ صحو لزيارة صديق في «أوكبيري» حاملًا معه جالونًا أو اثنَين من النبيذ وكومةً كبيرة من الخمر، لكن ذلك الرجل شَرِب الخمر كله قبل أن يصل إلى أصدقائه، وعندما وصل إلى Ikenga١ قام بتحطيمه وشَقه إلى نصفَين .. كان Ikenga من أكثر الأصنام أهميةً في «إيبو»؛ فقد كان يمثِّل الأسلاف، وكان يجب تقديم القرابين له كل يوم .. تستطيع أن تفهم الآن معنى أن يحطِّم رجلٌ من «أوموارو» صنَم مُضيفِه وتكسيره إلى نصفَين .. بالطبع كان ذلك الحدَث من أكبر الكبائر ونوعًا من التدنيس للأشياء المقدَّسة .. لم يكن أمام المُضيف الذي شعَر بالإهانة سوى الإطاحة برءوس من تَبِعوه .. وهكذا تطوَّرَت الحرب بين القريتَين حتى جئتُ أنا إلى هنا .. سألتُ عن ملكية قطعة الأرض، واكتشفتُ دون أي ظلالٍ من الشك أنها أرض «أوكبيري». وكان كل الذين أدلَوا بالشهادة من كلا الجانبَين كذَّابين .. تذكَّر دائمًا في معاملتكَ مع هؤلاء الناسِ أنهم مثل الأطفال كذَّابون .. إنهم لا يكذبون ببساطة من أجل الخروج من مأزق لكنهم يُزيِّفون الحقائق بأكاذيبَ لا أساس لها .. أما الكاهن فكان هو الرجل الوحيد الذي شهد ضد أبناء قريته .. لم أكن أعرفه، غير أن شكله كان مؤثِّرًا وذا وجهٍ متلألئ باللون الأحمر .. أحيانًا يجد المرء منا شخصًا مثل هذا الكاهن بين هؤلاء «الإيبو» .. يتملَّكُني إحساسٌ ما بأن «الإيبو» في الماضي السحيق كانوا بعيدي الشبه عن القبائل الزنجية.

نهض «وينتربوتوم» بعد ذلك وقال: والآن .. هيا إلى العَشاء.

١  Ikenga: أحد الأصنام، كانت الشعوب البدائية تعتقد في قدرته على حماية صاحبه. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤