الفصل الرابع

اشتد العداء بين «إيزولو» و«واكا» في السنوات الخمس الأخيرة منذ أن حطم الرجل الأبيض أسلحة «أوموارو»، وكان شعارهم في «أوموارو» يقول: «اقتل وخذ الرأس».

أصبح العداء بين الفريقَين عنيفًا، وتسرَّبَت إلى الآذان حكاياتٌ كثيرة عن التسمُّم.

كان «واكا» معروفًا بالحكمة والاتزان ويعرف دائمًا ما يقول، لكنه في تلك الليلة عندما هدَّد «أولو» في بيته فإن كثيرًا من الناس قد ارتعَدوا منه.

لم تكن رأس «واكا» أو بطنه تؤلمانه، ولم يتأوَّه في منتصف الليل رغم تهديده ﻟ «أولو»، وربما كان هذا معنى الأغنية التي كان يَشْدو بها في احتفال «إيديميلي» هذا العام .. كان «واكا» يملك قناعًا كبيرًا يرتديه في ذلك الاحتفال وبقية المناسبات الهامة. وكان اسم القناع «أوجالانيا» أو رجل الثروة .. في احتفالات ومهرجانات «إيديميلي» كانت حُشودٌ من الناس تأتي من كل القرى لرؤية هذا القناع العظيم، المزخرف بالمرايا والملابس الغالية ذات الألوان الكثيرة.

تحدَّث القناع ذلك العام بفخرٍ واعتزاز، وقال الذين يعرفون لغة أرواح الأسلاف إن «واكا» كان يتحدث عن مقاومته ﻟ «أولو»: «أيها الناس، أنصتوا جيدًا إلى ما أقول .. هناك مكانٌ ما لا يعرفه أحد؛ حيث لا رجل ولا روح تجرؤ على المغامرة إلا إذا أمسك صديقه بيده اليمنى وقريبه باليد اليسرى، ولكنني أنا «أوجالانيا» ذهبتُ إلى هذا المكان وحيدًا دون صديق أو قريب.»

ارتفعَت نغمات الفلوت ودقات الطبول: «أوجالانيا آجومو».

ثم استطرد: عندما وصلتُ هناك اتخذتُ لي صديقًا، لكنه تحول إلى ساحر، فبحثتُ عن صديقٍ آخر فعرفتُ أنه شخصٌ فاسد، وكان الصديق الثالث مصابًا بالجُذام. وحين ارتفعَت نغمات الفلوت ودقات الطبول مرةً ثانية بدأ «أوجالانيا» في الرقص، وراح يتحرك خطواتٍ قليلة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، وكان يلُف ويدور بسرعةٍ رافعًا يدَيه إلى أعلى. عدتُ عندئذٍ من جولتي، ومرَّت الأيام، وجاء يوم «آفو» مرةً ثانية ولم تؤلمني رأسي أو بطني، كما أنني لم أُحِس بالدوار .. أخبروني إذن أيها الناس، هل الذي يفعل كل ذلك لا تكون ذراعه قوية؟

أجابوا جميعًا: إن ذراعه قوية، قوية جدًّا.

كان الفلوت يواصل نغماته مع دقات الطبول.

ظل الناس طوال سنواتٍ خمس يتساءلون كيف أن هذا الرجل استطاع أن يتحدى «أولو» دون أن يلحقه أذًى .. ها هو يعيش متباهيًا .. من الأفضل القول بأنه لم يكن «أولو» هو الذي تحدَّاه الرجل .. إنه لم يستدعِ اسم الله، ولكن إذا كان كذلك فمن أين حصل «واكا» على هذه القوة؟

عند رؤيتنا لطائرٍ صغير يرقص في منتصف الطريق فلا بد أن طارق الطبول ليس ببعيد .. لا بد أنه بجوار الشُّجيرة.

كان قس «إيديميلي» هو طارق الطبول الذي يُغنِّي بالثناء على «واكا». إنه الإله الشخصي ﻟ «أومونيورا»، إنه «إيزيديميلي» صديق «واكا» الحميم، ومعلمه الخاص الذي جعل «واكا» قويًّا، ودفع به للأمام. غير أن أحدًا لم يكن يعرف ذلك لمدةٍ طويلة.

أشياءُ قليلة كانت تحدث في «أوموارو» لم يكن يعرفها «إيزولو»، لكنه عرف أن كهنة «إيديميلي» و«أجوجو» و«أيرو» و«أودو» كانوا يشعرون بالحزن والضيق لاختيار «أولو» إلهًا فوق كل الآلهة القدامى، فانتابه إحساسٌ بأن أحدهم سيقوم بعملٍ ما يتجاوز مجرد الإحساس بالحزن والضيق، وأنه سيجرؤ على تحدِّي «أولو».

بدأَت صداقة «واكا» و«إيزيديميلي» منذ كانا شابَّين صغيرَين، ودائمًا ما كانا يلتقيان .. وُلِد أحدهما قبل الآخر بثلاثة أيام، وكان «واكا» هو الأصغر .. هكذا قالت أمهاتُهم .. كان كلاهما يجيد المصارعة، غير أنهما كانا مختلفَين تمامًا.

كان «واكا» طويلًا ذا جلدٍ لامع ومضيء بينما «إيزيديميلي» قصير وأسود كالفحم .. مضى كلٌّ منهما في حياته بعيدًا عن الآخر، غير أن «واكا» كان دائمًا ما يطلب النصح من صديقه قبل القيام بعمل أي شيء، وكان هذا ما يثير الدهشة والعجَب؛ لأن «واكا» كان رجلًا عظيمًا وخطيبًا بارعًا، وكان أصدقاؤه يَدْعونه «صاحب الكلمة» .. كانت صداقتُه مع «إيزيديميلي» هي سبب عَداء «إيزولو» الشديد.

ذات يومٍ كان «واكا» جالسًا مع «إيزيديميلي» في كوخه يشربان النبيذ ويتبادلان الحديث عن شئون «أوموارو». وكالعادة تحوَّل الحديث إلى ذكر «إيزولو»، ثم سأل «إيزيديميلي»: ألم يسأل أحدٌ عن إزالة رأس كاهن «أولو» من الجسد لحظة الموت؟

كان السؤال بلا إجابة طَوال أجيالٍ عديدة، ولم يكن «واكا» يعرف الإجابة.

قال: في الحقيقة أنا لا أعرف، ويمكن القول إن «إيزولو» نفسه لا يعرف.

أفرغ «واكا» النبيذ في قدَحه ضاربًا إيَّاه مرتَين على الأرض وقد انتابته حالة من الشوق لسماع القصة العظيمة، لكنه لم يُظهِر اشتياقه وترقُّبه .. صبَّ لنفسه قدَحًا آخر، ثم استطرد قائلًا: «إيزيديميلي» إنها حكايةٌ شيقة، ولا أعتقد أنني أخبرتُ بها أحدًا من قبلُ .. لقد سمعتُها من آخر «إيزيديميلي» قبل أن يموت.

توقَّف قليلًا، وتناول بعضًا من النبيذ، وأضاف: إن هذا النبيذ مخلوط بالماء.

ثم واصل حديثه قائلًا: إن كل ولَدٍ في «أوموارو» يعرف أن «أولو» من صُنع آبائنا، لكن «إيديميلي» كان موجودًا منذ بدء الحياة ولم يصنعه أحد .. هل تعرف معنى «إيديميلي»؟

كان قدَح النبيذ بين شفتي «واكا» الذي هزَّ رأسه برفق وقال: إن «إيديميلي» تعني عمود الماء أو الأساس .. تمامًا مثل قائمة هذا البيت التي تحمل السقف .. إن «إيديميلي» يتحكَّم في السحب الممطرة كي لا تتساقط .. «إيديميلي» يختص بالسماء؛ ولهذا فإنني أنا الكاهنُ الخاص به لا أبحث في أرضٍ مكشوفة.

أومأ «واكا» برأسه مرةً ثانية وأضاف: كل الأولاد في «أوموارو» يعرفون أن «إيزيديميلي» لا يبحث في أرضٍ مكشوفة؛ ولهذا أيضًا فإنني عندما أموت فلن يدفنوني في الأرض .. إن الأرض والسماء شيئان مختلفان .. ولكن كيف تم دفنُ كاهن «أولو» بنفس الطريقة؟ .. إن «أولو» لم يكن في نزاع مع الأرض، فحين صنَعه آباؤنا لم يقولوا إن الكاهنَ الخاصَّ به لا يجب أن يلمس الأرض، ولم يكن سوى «إيزولو» الأول الذي كان رجلًا حسودًا مثل «إيزولو» الحالي، وهو الذي طلب من شعبه أن يدفنوه مع القُدامى، مما أصاب كاهن «إيديميلي» بالرهبة والفزع.

أومأ «واكا» برأسه مرةً ثالثة في تعجُّب، وراح يضرب يدًا بيد.

كان المكان الذي بنى المسيحيون فيه كنيستَهم قريبًا من أرض «إيزولو»، الذي كان جالسًا في كوخه يفكِّر في الاحتفال بأوراق القرعة .. سمع أجراس الكنيسة وبدأ يفكِّر في ذلك الدين الجديد .. ساورَتْه الشكوك ولم يكن يعرف فيما يفكِّر .. كان من الضروري حين مجيء الرجل الأبيض بكل قوته أن يتعلم بعضُ الناس أساليب دينه؛ ولذا فقد وافق على إرسال ابنه «أودوش» ليتعلم الدين الجديد .. أراد له أيضًا أن يتعلم حكمةَ الرجل الأبيض التي عَرفَها عن «وينتابوتا»، والتي سمعها عن الآخرين من بني جنسه.

لكن «إيزولو» أصبح خائفًا لكون الدين الجديد مثل الجُذام .. صار يتحدث مع ابنه بقوة وعنف .. ابنه الذي كان يتغيَّر يومًا بعد يوم، وأصبح من العسير محاولةُ ردِّه عن ذلك الدين .. ماذا يحدُث لو تحقَّقَت نبوءة العرَّافين وسيطر الرجل الأبيض على الأرض والحكم؟

من الحكمة إذن أن يكون «أودوش» من بينهم.

هكذا كان يفكِّر «إيزولو» بينما جاء «أودوش» يرتدي قميصًا أبيض ويحمل فوطةً أعطَوها له في المدرسة، وكان «وافو» بصحبته يتعجَّب من قميصه .. قدَّم «أودوش» التحية لأبيه ومضى؛ فقد كان اليوم هو صباح الأحد، وكانت الأجراس تواصل رنينها ذا النغمات الحزينة.

عاد «وافو» إلى الكوخ فسأل أباه عن معنى دقات الجرس.

هزَّ «إيزولو» رأسه قائلًا: تعني أن تترك اليام وجَوزة اليام لتذهب إلى الكنيسة .. ذلك ما أخبَرني به «أودوش».

استطرد «إيزولو» بعد تفكير واهتمامٍ كبير: ذلك يعني أن يترك الناسُ اليامَ وجَوزة اليامِ ليُنشِدوا بعد ذلك أغنية الفناء، أليس كذلك؟

توقَّفوا عن الحديث إثر صياح واضطراب داخل البيت .. هُرع «وافو» لرؤية ما يحدث بينما الأصوات قد زادت حدَّتُها وصياحُها، وانتبه «إيزولو» الذي لم يكن يهتَم بصياح النساء .. عاد «وافو» سريعًا وقال بأنفاسٍ متقطعة: إن صندوق «أودوش» يتحرك!

كان الصياح والقلق أكثر حدَّة مما كان، وصوت «أكيوك» كالعادة كان أعلى الأصوات.

قال «إيزولو» ببطءٍ وهدوءٍ يُوحيان بعدم الاهتمام: ماذا يعني أن صندوق «أودوش» يتحرك؟

– إنه يتحرك فوق الأرض.

– أشياءُ غريبة تحدُث هذه الأيام .. سوف يسمع الإنسان الكثير.

هكذا قال «إيزولو» ثم اتجه ناحية الباب الخلفي لكُوخه نحو النساء المُنبهِرات .. لحق به «وافو»، وكانت «أكيوك» و«ماتيفي» أكثر المتحدثين، أما «أوجوي» أم «وافو» فكانت صامتةً تضُم كلتا يدَيها إلى بعضهما وترفعهما إلى السماء.

هُرعَت «أكيوك» نحو أبيها قائلة: تعالَ يا أبي لترى ما رأيناه. إن هذا الدين الجديد …

قال «إيزولو»: اقفلي فَمكِ ولا تتكلمي.

لم يكن «إيزولو» يرغب في أن يسأله أي شخصٍ، وخاصةً إحدى بناته، عن الحكمة في إرسال أحد أبنائه للالتحاق بالدين الجديد.

كان الصندوق الخشبي في الحجرة التي ينام فيها «أودوش» و«وافو» هو الصندوق الوحيد ذو القفل في أرض «إيزولو»، ولم يكن أحدٌ من الناس يملك مثل ذلك الصندوق سوى أولئك الناس في الكنيسة، والتي كان يصنعها لهم بعض النجَّارين المتخصصين، وكانت لها قيمةٌ كبيرة في «أوموارو».

لم يكن صندوق «أودوش» يتحرك، لكنَّ شيئًا ما بداخله هو الذي كان يتحرك بقوة وكأنه كان يناضل من أجل حريته.

وقف «إيزولو» أمام الصندوق مفكرًا فيما يجب عملُه .. يجب أن ينتظر قليلًا حتى يتوقَّف الصندوق عن الحركة .. انحنى حاملًا إيَّاه إلى الخارج، وفرَّ الأطفال والنساء إلى كل الاتجاهات.

كان «إيزولو» يحمل الصندوق بطول ذراعَيه كقربان ذي شأن وهو يقول: سوف أرى .. سواء كان شيئًا سيئًا أو طيبًا فسوف أرى.

لم يمضِ في سيره خلال كوخه، لكنه مضى ناحية مدخل الحائط الأحمر بلون الأرض، وتبعه ابنه الثاني «أوبيكا»، ثم وراءه بقليل «وافو»، وكان الأطفال والنساء يتبعُونهم من بعيد والخوفُ يتملَّكُهم .. نظر «إيزولو» إلى الخلف وسأل «أوبيكا» أن يأتي له بالفأس، وحين أصبح بعيدًا عن أرضه وضَع الصندوق على الرصيف، فأبصر «وافو» والنساء والأطفال .. قال لهم: عودوا جميعًا إلى البيت .. إن الفرد الذي يسأل كثيرًا يتلقى رصاصةً في وجهه.

بادَروا في طريق العودة، لكنهم توقَّفوا أمام الكوخ .. أحضر «أوبيكا» الفأس لأبيه الذي وضعه جانبًا، وأرسله في طلب المنجل الذي يستخدمونه في اقتلاع اليام .. كانت الحركة داخل الصندوق قويةً وعنيفة.

ربما كان «إيزولو» خائفًا لكنه تناوَل المنجل من «أوبيكا» ووضع حافتَه الرفيعة بين الصندوق وغطائه، وعندما حاول «أوبيكا» أن يأخذ منه المنجل وبَّخه «إيزولو» قائلًا: قفْ بعيدًا .. ماذا تعتقد، ماذا تعتقد بشأن هذه الحركة داخل الصندوق؟ اثنان من الديوك؟

ثم أطبق أسنانه وهو يرفع الغطاء .. كان المشهد مرعبًا، وتصبَّب الكاهن العجوز بالعَرق .. ما شاهده «إيزولو» و«أوبيكا» كان كافيًا لأن يفقد الإنسان بصره .. لم يَقْوَ «إيزولو» على الحركة، وسارع الأطفال والنساء بالمجيء.

كان «أنوسي» أحد جيران «إيزولو» مارًّا بالقرب منه فانضَم إليهم ليرى، وسرعان ما تجمَّع حشدٌ كبير من الناس لرؤية ذلك الثعبان الضخم المرهق راقدًا داخل الصندوق.

قال «أنوسي»: ربما يكون ممنوعًا من قِبل الإله الكبير.

وقالت «أكيوك»: لقد أصابنا الاشمئزاز.

وعلَّقَت «ماتيفي»: إذا كان هذا علاجًا فلا بد أنه فقد تأثيره.

تساقط المنجل من يد «إيزولو» الذي صاح: أين «أودوش»؟

لكنَّ أحدًا لم يجب.

كرَّر سؤاله بصوتٍ متعَب: أين «أودوش»؟

أجاب «وافو»: لقد ذهب للكنيسة.

رفع الثعبان الضخم المقدس رأسه إلى حافة الصندوق، وبدأ يتحرك ببطء.

قال «إيزولو» وهو يلتقط الفأس: سوف أقتل الولد اليوم بيدي هذه.

كرَّر «أنوسي» قولتَه: ربما يمنع الإله الكبير مثل هذه الأشياء.

أجابه «إيزولو»: لقد قلتَ هذا.

بكت أم «أودوش»، وشاركَتْها النساء الأخريات، بينما راح «إيزولو» يعود ببطء إلى كوخه حاملًا الفأس، ومضى الثعبان بعيدًا في اتجاه الشجرة.

سأل «أنوسي»: «أوجوي» .. ما فائدة البكاء؟ أرسليه إلى أقربائك .. من حُسن حظنا أن الثعبان لم يمُت.

كان «أنوسي» في طريقه إلى «أومونيورا» لشراء بذور اليام من أحد أصدقائه، فقال لنفسه وهو يواصل سيره: إنه لمن حُسن الحظ حقًّا أنه حي .. كنتُ أعرف ما سيُحدِثه هذا الدين الجديد في «أوموارو» .. ذلك الدين الذي يرتدي أصحابه قُبَّعةً فوق رءوسهم.

كان يتوقَّف في الطريق عند مقابلة أي شخصٍ ليُخبره عما فعله ابن «إيزولو»، وقبل موعد الظهر كانت الحكاية قد انتشَرَت حتى وصلَت إلى «إيزيديميلي»، كاهن «إيديميلي»، صاحب الثعبان الملكي الضخم.

منذ خمسِ سنوات كان «إيزولو» قد وعَد الرجل الأبيض بإرسال أحد أبنائه إلى الكنيسة، لكنه لم يفِ بوعده إلا بعد ثلاث سنوات؛ لأنه كان يريد التأكُّد من أن الرجل الأبيض لم يأتِ في زيارةٍ قصيرة، ولكن لبناء المنازل والعيش مدةً طويلة.

لم يكن «أودوش» في بادئ الأمر يرغب في الذهاب إلى الكنيسة، فدعاه «إيزولو» إلى كوخه، وتعامل معه كرجلٍ يتحدث إلى صديقه العزيز .. فَرِح «أودوش» وأحَسَّ بالفخر الشديد؛ فلم يحدُث من قبلُ أبدًا أن سمع أيَّ شخصٍ يتحدث مع «إيزولو» كنظيرٍ له، وعندئذٍ لم يتردَّد في الذهاب إلى الكنيسة.

قال «إيزولو» لابنه: العالم يتغيَّر من حولنا، وأنا لا أحب ذلك، لكنني أحب طائر «الأوبا» الذي سأله أصدقاؤه عن سبب طيرانه الدائم فأجابهم بأن رجال اليوم تعلَّموا الرماية دون أن يفقدوا شيئًا، وأنه تعلَّم الطيران دون الركوع .. أريد أن يختلط أحد أبنائي بأولئك الناس ليكون رسولي عندهم .. إذا لم يكن لديهم ما يستحق فسوف تعود، وإذا كان ثمَّة شيءٌ فسوف تُخبرني به .. إن العالم يا بُني مثل رقصة القناع، وإذا أردتَ معرفة العالم جيدًا فلا تقف في مكانٍ واحد .. إن إحساسًا يتملَّكُني بأن أولئك الذين يرفضون صداقة الرجل الأبيض اليوم سيَقْبلون غدًا.

كانت «أوجوي» قلقةً بشأن اختيار ابنها ليكون ضحيةً للرجل الأبيض.

حاولَت كثيرًا مع زوجها، لكنه كان عنيفًا معها.

قال لها: وما شأنُكِ بما أفعله مع ابني؟ أنتِ لا ترغبين في انضمام «أودوش» للكنيسة واتباع الأساليب الجديدة .. يجب أن تعلمي أنه في بيت الرجل العظيم يجب أن يكون هناك من يتبع كل أنواع الأساليب الغريبة .. الطيبون والأشرار موجودون في كل مكان، وكذلك الشرفاء واللصوص وصانعو السلام وصانعو الحروب .. مهما كانت الموسيقى التي تعزفينها بطَرْق الطبول فلا بد من وجود شخصٍ ما يستطيع الرقص عليها.

تعلَّم «أودوش» بسرعة وبدأ يفكِّر في اليوم الذي يتحدَّث فيه بلغة الرجل الأبيض مثل أساتذته، ومثلما يتحدَّث السيد «مولوكو» مع السيد «هولت» عندما يزور الكنيسة.

كان «بلاكيت» المُرسَل للتبشير من غرب الهند ذا تأثيرٍ كبير على «أودوش»؛ فبالرغم من كونه ملونًا إلا أن معرفته كانت تفوق الرجل الأبيض.

قال «أودوش»: لو أنني أعرف القليل جدًّا مما يعرفه «بلاكيت» لأصبحتُ رجلًا عظيمًا في «أوموارو».

تقدَّم «أودوش» تقدُّمًا ملحوظًا، وكان محبوبًا من أستاذه ومن أعضاء الكنيسة، وكان أصغرَ الذين اهتدَوا إلى الدين الجديد. كان في حوالي الخامسة عشرة من عمره، وقد تنبَّأ له الأستاذ «مولوكو» بمستقبلٍ عظيم، وقبل انتقاله إلى «أوكبيري» كان يعمل على تعميده.

كان الأستاذ الجديد رجلًا من دلتا النيجر يتحدث الإنجليزية وكأنها لغته الأصلية، وكان اسمه «جون جود كنتري»، حكى لهم عن المسيحيين في دلتا النيجر الذين حاربوا العادات السيئة لشعبهم، وحطموا أصنامهم ومقدساتهم، وأخبرهم عن قريبه «جوزوا هارت» الذي عانى من الاستشهاد، وقال: يجب علينا كمسيحيين أن نكون دائمًا على استعداد للموت في سبيل الإيمان .. يجب أن نستعد لقتل الثعبان الضخم؛ فأنتم تعتبرونه إلهًا رغم أنه لا شيء سوى ثعبان، الثعبان الذي خدع أمنا حواء. وإذا كنتم خائفين من قتله فلا تحسبوا أنفسكم مسيحيين.

كان «جوزيا مادو» من «أومواجو» هو أوَّل رجل من «أوموارو» قتَل ثعبانًا وأكَلَه، ولم يعرف به سوى مجموعةٍ قليلة من المسيحيين، لكن غالبيتهم قد رفَضوا أن يفعَلوا مثلما فعل «جوزيا»، وكانوا يتبعون «موسى أوناشوكو»، أوَّل وأشهَر المهتدين في «أوموارو».

كان «أوناشوكو» هو النجار الوحيد في كل أرجاء البلاد، وقد تعلَّم النجارة من مبعوث التبشير الأبيض الذي بنى مصنع «أونيتشا»، وكان في شبابه يعمل حمَّالًا لمعدَّات الجنود المُرسَلين لتعمير «آبام»، وقد شاهد «أوناشوكو» أثناء تلك البعثة التأديبية أشياءَ كثيرةً تعلَّم منها أن الرجل الأبيض ليس مجرد شيء للسخرية والضحك .. لم يعُد إلى «أوموارو» بعد الانتهاء من مهمته معهم، وظل يعمل في مصنع «أونيتشا» حتى أصبح مساعدًا للنجار المبعوث «جي-بي هارجرجريفز»، وقبل عودته إلى «أوموارو» كان قد أمضى عشر سنواتٍ في أرضٍ غريبة، عاد بعدها مع مجموعة من المبشِّرين نجحوا في تثبيت العقيدة الجديدة في نفوس الناس، بعد أن فشِلوا مرتَين في أوقاتٍ سابقة .. كان «أوناشوكو» يُرجِع ذلك النجاح إلى نفسه.

كان النجار الوحيد في البلاد؛ ولهذا فقد بنى الكنيسة الجديدة في «أوموارو» بمفرده، وأصبح واعظًا بروتستانيًّا وحارسًا للقس الذي لم يكن موجودًا في «أوموارو» قبل ذلك، وكان يعقد كثيرًا من الجلسات في الكنيسة الجديدة لاقت احترامًا كبيرًا من الناس، حتى إن السيد «مولوكو» كان يستشيره في كل ما يفعل، على عكس ما كان يفعل مع السيد «جود كنتري» الذي كان يُحاول جاهدًا تجاهله .. لم يكن «موسى أوناشوكو» رجلًا يمكن تجاهلُه ببساطة.

كانت أحاديث السيد «جود كنتري» عن الثعبان المقدس هي أول شيء أتاح الفرصة ﻟ «موسى» في أن يتحداه علانيةً ليس فقط بالرجوع إلى الكتاب، بل أيضًا إلى أساطير شعب «أوموارو»، وكان ذلك مثار دهشة المهتدين .. تحدَّث بقوة واقتناع عن قدومه من القرية التي تحمل قداسة «إيديميلي» .. كان «موسى أوناشوكو» يعرف ما لا يعرفه الآخرون عن ذلك الثعبان الضخم، بالإضافة إلى إقامته في «أونيتشا» مصدر الدين الجديد، التي زوَّدَته بمزيد من المعلومات عن الكتاب المقدس وزوَّدَته بالثقة.

قال للأستاذ الجديد بشيء من الحدة: لا يُوجَد في الكتاب المقدس ولا حتى في كتاب الطقوس الدينية ما ينُص على قتل الثعبان .. إنه الوحش مُفعَم بالتفاؤل المريض.

وسأل: أليست هناك حكمةٌ في أن الله وضع اللعنة في رأسه؟ ثم جاء به فجأةً إلى «أوموارو» .. يُوجَد اليوم ستٌّ من القُرى في «أوموارو»، وقد قال لنا آباؤنا إنهم كانوا سبعًا من قبلُ، وكانت القرية السابعة تُدعى «أومواما».

أومأ بعض المهتدين برءوسهم موافقين بينما كان السيد «جود كنتري» يستمع بنفادِ صبرٍ وازدراء.

استطرد «أوناشوكو»: ذات يومٍ قام ستة من الأخوة بقتل الثعبان الكبير في «أومواما»، وطلَبوا من أحدهم ويُدعى «أيويكا» استخدامه في صُنع حَساء اليام المركَّز .. أحضر كلٌّ منهم قطعةً من اليام وطاسةً من الماء إلى «أيويكا»، وبعد انتهائه من طهي حَساء اليام تقدَّموا واحدًا بعد الآخر لتناوُل نصيبهم، وبدءوا في ملء طاساتهم، لكنَّ أربعةً منهم فقط حصَلوا على نصيبهم، وانتهى الحَسَاء.

ابتسم المستمعون فيما عدا السيد «جود كنتري» الذي كان جالسًا كالصخرة.

ابتسم «أودوش» لسماعه هذه القصة في الماضي من ولدٍ صغير، وكان قد نَسيَها .. هزَّ «أوناشوكو» رأسه مواصلًا: تشاجر الأخوة شجارًا عنيفًا، وتقاتلوا بشدة، وسرعان ما انتشَرَت أخبار القتال خارج «أومواما»، ومن ظل منهم حيًّا فرَّ هاربًا من قريته عَبْر النهر الكبير نحو أرض «أولو» حيث هم منتشرون اليوم .. قال أحد العرَّافين إن الثعبان الملكي الضخم كان مقدسًا ﻟ «إيديميلي» الإله الذي عاقب «أومواما». ومنذ ذلك الحين يرى الناس في القرى الست أن من يقتُل ثعبانًا كأنه قتَل أحد أقربائه.

راح «أوناشوكو» يُحصي القرى والقبائل التي منعَت قتل الثعبان فوق أصابعه، وانتهى من حديثه.

قال السيد «جود كنتري»: ليس من المناسب سماعُ مثل هذه القصة التي قمتَ بسردها هنا في بيت الله، ولكنني سمحتُ لك بالاستطراد حتى يعرف الجميع حماقةَ هذه القصة.

ساد التذمُّر وسط المجتمعين، ولم يعرفوا في جانب مَن يكونون.

نظر السيد «جود كنتري» إلى كل الحاضرين قائلًا: سوف أترك الحكم إلى الناس الذي تنتمون إليهم.

لم يتحدث أحد.

– ألا يُوجَد بينكم مَن يستطيع التعبير عن رأيه بحرية؟

كان «أودوش» جالسًا بجوار «أوناشوكو» فرفع يده، ثم سارع بإنزالها مرةً ثانية، لكن السيد «جود كنتري» شاهدَه.

– نعم.

– ليس حقيقيًّا بأنه لا يُوجَد في الكتاب المقدَّس ما ينُص على قتل الثعبان .. ألم يُخبر الله آدم أن يسحق رأس الثعبان بعد أن خدع زوجتَه؟

صفَّق كثيرٌ من الحاضرين.

– هل تسمع يا «موسى»؟

أوشك «موسى» على الإجابة، لكن السيد «جود كنتري» قاطعه قائلًا: تقول بأنك أول مسيحي في «أوموارو»، وأنك شاركتَ في الوجبة المقدَّسة، وحين تفتح فمك فلا شيء يخرج منه سوى بعض القذارات الوثنية، وها هو طفلٌ يرضع من ثدي أمه يُعلِّمكَ الكتاب المقدَّس .. لقد قال الرب إن الأول سيُصبِح الأخير ويصير الأخير في المقدِّمة .. إن العالم سينتهي، لكنَّ كلمةً واحدة من الرب لن تضيع هباءً.

ثم اتجه ناحية «أودوش» وقال: عندما يحين موعد تعميدك سيكون اسمك «بيتر»، وفوق هذه الصخرة سوف أبني كنيستي.

ومن أحد الجوانب ارتفع التصفيق، وأصبح «موسى» أكثر حماسًا حين قال: هل هو مجرَّد شخص يستطيع أن تضعه في حقيبتك وتمضي بعيدًا؟ .. لقد كنتُ على رأس هذا الدين الجديد ورأيتُ بعيني الرجل الأبيض وهو يأتي بهذا الدين، وأودُّ أن أخبرك الآن أنني لن أضل بواسطة الآخرين ممن يبكون ويصرخون أكثر من أصحاب المتوفى .. أنت لست أوَّل مدرس أراه أو الثاني أو الثالث، فإذا كنتَ حكيمًا فسترفع يدَيك عن الثعبان، وتذكَّر بأنني أخبرتُك بهذا، ولن يتقدم لك أحدٌ هنا بالشكوى لأن الثعبان وقف في طريقه وهو قادم إلى الكنيسة .. إذا شئت أن تُنجِز عملَك في سلام فلا بد أن تفهم كلامي، أما إذا أردتَ أن تكون سحليةً تُخرب جنازة أمها فعليكَ أن تتحمَّل ما تفعل.

ثم قال ﻟ «أودوش»: وفيما يتعلق بكونهم سيدعونك «بيتر» أو «بول» أو «بارناباس» فذلك لا يثيرني أبدًا، وليس عندي ما أقوله لولدٍ لا يتعدى كونه ولدًا، أما إذا أصبَحتَ مدرسًا في يومٍ ما فسأكون في انتظار اليوم الذي تملك فيه الشجاعة لقتل الثعبان في «أوموارو» هذه .. إن الجبان يتكلم كثيرًا وإذا ما حان موعد القتال فإنه يفرُّ بعيدًا.

كان «أودوش» في تلك اللحظة قد اتخذ قراره .. كان ثعبانٌ صغير وآخرُ كبير يعيشان في كوخ أمه عند قمة الحائط الذي يستند عليه السقف .. لم يتسبَّب الثعبانان في أي أذًى، ولم يقربا الفئران إلا مرةً واحدة أحسَّا فيها بالخوف، فابتلعا بيض الدجاجة .. قرَّر «أودوش» أن يضرب واحدًا منهما في رأسه بعصًا غليظة، ويجب أن يخطِّط لذلك في سريةٍ كاملة حتى يعتقد الناس أنه مات من تلقاء نفسه .. مضت أيامٌ ستة قبل أن يجد «أودوش» اللحظة المناسبة، وطوال هذه الفترة كان قلبه يخفق، وفقَد بعضًا من عزيمته، ثم قرَّر أن يضرب الثعبان الأصغر، دفعه أسفل الحائط بالعصا، وخُيل إليه أنه يسمع وَقْع أقدام فلم يستطع أن يحطِّم رأسه، وكان مضطرًّا إلى قتله بسرعة حتى لا يراه أحد، ثم التقَطَه بسرعةٍ شديدة، كما كان يرى جارهم «أنوسي»، وحملَه إلى حجرة نومه، وبعد تفكيرٍ قليل فتح الصندوق الذي صنَعه «موسى» له، وأخرج الفوطة والصديري، ثم وضع الثعبان داخل الصندوق، وأغلق عليه. وعندئذٍ شعَر براحةٍ كبيرة وبقَدْرٍ من السعادة والرضا حين فكَّر قائلًا لنفسه: إن الثعبان سيموت لنقص الهواء، وسيكون هو المسئول عن موته، فلا ينتابني الإحساس بذنب القتل.

كان «إيدوجو» أول أبناء «إيزولو» قد غادر البيت مبكرًا هذا اليوم للانتهاء من صُنع قناع روح الأسلاف الجديد؛ فلم يعُد باقيًا على الاحتفال بأوراق القرعة سوى خمسة أيام فقط .. ذلك الاحتفال الذي يتوقَّعون فيه عودة الروح من أعماق الأرض على هيئة قناع .. كانوا متشوِّقين للقناع الذي يصنعه «إيدوجو» .. كان يُوجد صنَّاع آخرون للقناع في «أوموارو»، وبعضٌ منهم كان أفضل من «إيدوجو»، لكن سمعته كانت طيبة؛ فهو ينتهي من عمله في الموعد المحدَّد، وهذا ما لم يكن يفعله «أوبياكا» الذي يُعَد أحسن من يصنع القناع .. كان العمل في القناع مختلفًا؛ فلا يستطيع «إيدوجو» أن يصنعه في البيت أمام تحديق النساء والأطفال، ولكنه يحتاج للعزلة في منزل الأرواح المشيَّد خصوصًا لذلك العمل في أحد الأركان من سوق «كوا»؛ حيث لا يجرؤ أحدٌ ممن لا يعرفون سر القناع على الاقتراب.

كان الكوخ مظلمًا بالداخل لكن العين سرعان ما تتعود عليه .. أمسك «إيدوجو» بقطعة الخشب البيضاء ثم شد حقيبته المصنوعة من جلد الماعز، والتي يحمل فيها أدواته، ودون الحاجة إلى العزلة كان «إيدوجو» يرى هذا الكوخ مناسبًا لنحت الأقنعة .. كان كل ما حوله عبارةً عن أقنعةٍ قديمة وبعض علامات أرواح الأسلاف، وكانت معظم الأقنعة لأرواحٍ عنيفة وشرِّيرة ذات قرون وأسنان بحجم الأصابع، غير أن أربعةً كانوا يصنعون أقنعة أرواح الفتيات، وكانت هذه الأقنعة جميلة جدًّا .. ابتسم «إيدوجو» عندما تذكَّر زوجة «وانينما»، التي أخبرَتْه بغَيرتها الشديدة من روح الفتاة التي تُنافسها.

كان الضوء قريبًا من الباب حيث جلس «إيدوجو» وبدأ في العمل .. توقَّف فجأةً واستَرقَ السمع فسمع صوتًا مألوفًا لديه جدًّا. إنه «أنوسي» أحد جيرانهم .. ظل «إيدوجو» يستمع ثم نهض صوب الحائط القريب من مركز السوق، واستطاع حينئذٍ أن يسمع بوضوح .. كان «أنوسي» يتحدَّث إلى رجلَين أو ثلاثةٍ آخرِين وكان يقول: نعم .. لقد كنتُ هناك ورأيتُ بعيني ولم أصدِّق .. رأيتُ الصندوق مفتوحًا وبداخله الثعبان الكبير.

قال أحد الآخرين: لا تقل ذلك مرةً ثانية؛ فلا يمكن أن يكون ذلك حقيقيًّا.

– هكذا قالوا جميعًا، ورغم أن أحدًا لم يصدِّق إلا أنني شاهدتُ بعيني .. اذهبوا الآن إلى «أومواشالا» لترَوْا أن القرية كلها في حالة اضطراب.

– إن «إيزولو» سيجلب ﻟ «أوموارو» امرأةً حاملًا وطفلًا رضيعًا في نفس الوقت.

– لقد سمعتُ أشياءَ كثيرة، لكنني لم أسمع أبدًا بمثل تلك الكراهية والاشمئزاز.

كان «إيزولو» في حالةٍ سيئة لحظة وصول «إيدوجو» إلى البيت، ولم تكن حالته هذه بسبب «أودوش» بقَدْر ما كانت بسبب الجيران ذوي الوجهَين وأولئك العابرين الذين يُخفون تحت كلماتهم المتعاطفة حقدًا في قلوبهم .. كان «إيزولو» يكره من يُشفِق عليه، وظل الغضب بداخله حتى تفجَّر عند دخول آخر مجموعة من النساء لرؤية زوجاته؛ فقد كُنَّ كمن جئن للعزاء.

سمع صيحاتهن: أي .. ي .. ماذا سنفعل لأطفال الغد؟

أسرع نحوهن وأمرهن بالرحيل قائلًا: إذا رأيتُ أي واحدةٍ منكن هنا بعد عودتي فستجدونني رجلًا شرِّيرًا.

– وما الخطأ الذي ارتكبناه؟ .. لقد جئنا لمساعدة امرأةٍ أخرى.

– ارحَلْن فورًا من هنا.

هُرِعن إلى الخارج: سامحنا .. لقد أخطأنا.

أخبره «إيدوجو» بما سمع في السوق، فازداد غضب «إيزولو»، وعندما انتهى «إيدوجو» من سرد القصة سأله «إيزولو»: وماذا فعلتَ عند سماعك ما قالوا؟

– ماذا كان ينبغي أن أفعل؟

كان «إيدوجو» مندهشًا، وكان صوت «إيزولو» يُنبئ عن الغضب، فقال موجهًا حديثه إلى لا أحد: آه .. إن ابني الأول يسمع من يقول إن أباه قد تسبَّب في الكراهية، ثم يسألني ما كان ينبغي عليه أن يفعل .. عندما كنتُ في مثل عُمركَ كنتُ أعرفُ ما أفعلُه .. كنتُ بالطبع قد حطَّمْتُ رأسَ الرجل بدلًا من الاختفاء في بيت الأرواح.

غَضِب «إيدوجو» لكنَّه أمسَك لسانَه وهو يقول: عندما كنتَ في مثل عمري لم يُرسِل جدِّي أحد أبنائه لعبادة إله الرجل الأبيض.

ثم توجَّه إلى كُوخه مفعمًا بالمرارة، وقد اعتراه الندم لتركه العمل في القناع ومجيئه إلى هنا من أجل الإهانة.

فكَّر «إيزولو» قائلًا: أنا ألوم «أوبيكا» أحيانًا من أجل طبعه الحاد، لكن هذا الطبع الحاد أفضلُ كثيرًا من هذا الرماد البارد.

مال للوراء، وأسند رأسه على الحائط، وبدأ يصرُّ أسنانه ويقول: كان يومًا سيئًا بالنسبة لرئيس الكهنة .. عند غروب الشمس جاء لزيارته رجلٌ شاب من «أومونيورا»، لكن «إيزولو» لم يقدِّم له جَوزة الكولا بسبب العَداء بين قرية «إيزولو» و«أومونيورا»، حتى لا يشعُر الرجل بالمغص ويُرجع ذلك إلى ضيافة «إيزولو».

لم يتردَّد الرجل في تبليغ رسالته: لقد أرسلَني «إيزيديميلي».

– حقًّا؟ إنني واثقٌ أنه بخير، أليس كذلك؟

– إنه بخير، وفي نفس الوقت هو ليس على ما يُرام.

انتبه «إيزولو» وقال: أنا لا أفهمك .. إذا كنت قد جئتَ لتُبلغني بشيءٍ ما فأسرع بتبليغ رسالتك؛ لأنني لا أملك الوقت الكافي لسماع ولدٍ يتكلم بالألغاز.

تجاهل الرجل الشاب الإهانة ثم قال: إن «إيزيديميلي» يودُّ لو يعرف ما تنوي عمله بشأن ما تسبَّبتَ فيه من كراهية واشمئزاز في بيتكم.

قال رئيس الكهنة ممسكًا بكلتا يدَيه في غضب: بماذا أخبرك؟

– هل أكرِّر ما قلتُ؟

– نعم.

– حسنًا، إن «إيزيديميلي» يريد معرفة ما تنوي عملَه إزاء الكراهية التي تسبَّب فيها ابنُك.

– أخبِر «إيزيديميلي» عند عودتك أن يأكل الخِراء .. هل تسمعني؟ أخبِره أن «إيزولو» سيذهب ويملأ فمه بالخِراء .. أما أنت أيها الشاب فاذهب في سلام؛ لأن العالم لم يعُد كما كان وإلا كنتُ قد فعلتُ بك ما يذكِّرك دائمًا باليوم الذي وضعتَ فيه رأسَك في فم النمر.

أراد الشاب أن يقول شيئًا، لكن «إيزولو» استطرد قائلًا: اسمع نصيحتي، ولا تقل شيئًا آخر.

نهَض «إيزولو» مهددًا، وسارع الشاب بالمغادرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤