الفصل الخامس

نظر الكابتن «وينتربوتوم» إلى المذكِّرة التي أمامه بتركيزٍ وانفعالٍ ونوع من الازدراء .. كانت المذكِّرة قد انتقلَت إليه من الحاكم عَبْر المندوب السامي، ثم ضابط المقاطعة الكبير، اللذَين أضافا على المذكِّرة تعليقَهما الخاص .. غضب الكابتن «وينتربوتوم» مما أضافه ضابط المقاطعة لما رآه من توبيخ، في محاولة لإعاقته، فقال بينه وبين نفسه: لو أن شخصًا آخر فعَل ذلك لما غضبتُ؛ لأنني متقدم على «واثينسون»، كما أنني أكبر منه بثلاثِ سنوات.

كثيرًا ما قال «وينتربوتوم» لنفسه ولمساعديه: إن أي أحمقَ يستطيع أن يكون متقدمًا دون عمل أي شيء، وإنما بالمحاولة فقط، أما نحن المشغولين بأعمالنا فلا نملك وقتًا للمحاولة.

أشعل غَليونه وبدأ يسير في مكتبه الفسيح، الذي صمَّمه بنفسه كي يتخلَّله الهواء، وبينما يواصل سيره جيئةً وذهابًا كعادته سمع لأول مرة غناء المساجين .. كانوا يقطعون العشب، وكم هو مدهش نمو العشب هكذا طويلًا رغم عدم سقوط الأمطار إلا مرتَين متتاليتَين! .. توجَّه صوب النافذة وظل ينظر إلى المساجين فترةً قصيرة، كان أحدهم يضرب بشيءٍ يشبه قطعة الحجر في إناءٍ فارغ ويُغنِّي منفردًا بينما يقوم الآخرون بدور الكورس ويلوِّحون بأسلحتهم .. انتزع كابتن «وينتربوتوم» غَليونه من فمه، ووضعه فوق عتبة النافذة، ثم وضع كلتا يدَيه فوق فمه، وصاح قائلًا: سكوت، اخرسوا.

نظَروا جميعًا إلى أعلى وعرفوا من هو الصائح، ثم توقَّفوا عن الغناء .. كان الحارس واقفًا بالقرب من ظلال شجرة المانجو، ففكَّر في أخذ رجاله إلى مكانٍ آخر حيث لا يمكن إزعاج الضابط، ثم جمعهم في طابور، وأشار لهم بالتوجُّه إلى مكانٍ آخر، كانوا يرتدون ستراتٍ بيضاء مصنوعة من قماش البافتا وقبَّعاتٍ كالجمجمة، فبدَوا جميعًا متشابهين .. اثنان منهم كانا يحملان القوارير فوق الرءوس، والمغني يُمسِك بإنائه والحجر الذي يضرب به، وسرعان ما بدءوا في الغناء من جديد فور وصولهم إلى المكان الجديد:

«أنا أقطع العشب .. أنت تقطع العشب،
كلانا يقطع العشب،
فما هو حقُّك إذن في إهانتي؟»

عاوَد الكابتن «وينتربوتوم» قراءة المذكِّرة: «إن هدفي فيما سأقوله محدد .. إنه التأثير على المكاتب السياسية التي تعمل وسط القبائل، تلك القبائل التي تنقصها مهارة التطوَّر .. إن الحكم غير المباشر يرتكز على المعاهد الوطنية والإدارة الوطنية أو القومية بالنسبة لعديد من الأمم الاستعمارية، نحن نسعى لتطهير النظام القومي من شوائبه لبناء حضارة عليا تسمو فوق الجذور القومية التي اكتسبت أفكارها من قلوب وعقول الشعب .. لا يجب أن ندمِّر البيئة الأفريقية أو العقل الأفريقي أو أصل جنسه.»

– كلمات، كلمات، كلمات، حضارة، عقلٌ أفريقي، بيئةٌ أفريقية .. هل أنقذ رجلًا كان مدفونًا إلى رقبته حيًّا وقطعة من اليام المحمَّرة فوق رأسه لجذب النسور؟

قال الكابتن «وينتربوتوم» ذلك، وبدأ في السير إلى الأمام وإلى الخلف مرةً ثانية .. كان يعرف أنهم جميعًا خائفون من فقدان الترقية.

دخل السيد «كلارك» قائلًا: سأقوم بأول جولةٍ في المنطقة.

ودون أن ينظر إليه كابتن «وينتربوتوم» كعادته دائمًا لوَّح بيدَيه وقال: رحلة سعيدة.

وقبل أن يهمَّ «كلارك» بالمغادرة سارع في ندائه قائلًا: عندما تكون في «أوموارو» حاول جاهدًا — بدون أن يدري أحد — أن تراقب «رايت» وترى الطريق الجديد الذي يشرف عليه؛ فلقد سمعتُ حكاياتٍ بذيئة كالجلد بالسياط وأشياءَ أخرى يمارسها، ولا أريد إصدار حكم قبل معرفة الوقائع، وإلا فلن أستطيع اتهامه .. لقد ضاجع امرأةً سوداء .. على أية حالٍ سوف أراك في خلال أسبوع، اهتم بنفسك، ورحلة موفقة.

كانت مقاطعة «كلارك» له قد مكَّنَته من العودة إلى الاطلاع على المذكِّرة، وقد خفَّت حدَّة غضبه، لكنه كان يشعُر بالإجهاد .. كانت المأساة الكبرى في إدارة الاستعمار البريطاني في الرجل الذي يعرف أفريقيتَه، ويعرف ما يقول حيث تتسلَّط عليه الأعين، وتتبعُه إلى مركز القيادة.

كانوا منذ ثلاث سنواتٍ يضغطون على كابتن «وينتربوتوم» لاختيار الرئيس المفوض ﻟ «أوكبيري». وبعد مباحثاتٍ طويلة اختار «جيمس إيكيدي» الذكي، كي يقوم بالتعليم الخاص بالتبشير في تلك الأجزاء .. ولكن ما الذي حدث؟ .. سمع «وينتربوتوم» بعد ثلاثة شهور بعضَ الأقاويل عن هذا الرجل الذي تسلَّم التفويض .. لقد أقام حكمًا غير شرعي وسجنًا خاصًّا، وكان يتزوَّج من امرأةٍ جميلة دون أن يدفع لها المهر المألوف.

عَرفَ كابتن «وينتربوتوم» كل شيء، وتجاهل كثيرًا من الفضائح الخطيرة، ثم قرَّر أن يتركه في منصبه ستة شهورٍ أخرى، يبدأ بعدها في سحب تفويضه تدريجيًّا، لكن المندوب السامي كان قد عاد حديثًا من الخارج ولم يكن يعرف شيئًا عن تلك الأحداث، فأعاده إلى منصبه وسرعان ما عاوَد فضائحَه.

كانوا في ذلك الوقت يعملون في الطرق والمصارف والمجاري بعد انتشار مرض الجدري الوبائي، وكانت سمعة «جيمس إيكيدي» سيئة حتى لقَّبوه برئيس العمال السكِّير، وكان أهل البلد يَدْعونه بالمدمِّر .. كانت خطة الطرق والمجاري قد اكتملَت منذ زمنٍ طويل، ووافق الكابتن «وينتربوتوم» بنفسه دون التدخل مع الناس في شئون أرضهم وبيوتهم، لكن هذا المُلاحِظ راح يثير الخوف في قلوب الفلاحين بقوله إن الطريق الجديد سيتخلَّل أراضيَهم وبيوتَهم، ولم يكن يتوقف عن تهديده إلا بعد أن يأخذ منهم نقودًا، وكان من لا يملك مالًا يقترض من أحد جيرانه؛ فقد كانوا يعتقدون أن تلك أوامر الرجل الأبيض، وفي بعض الأحيان كانوا يبيعون الماعز أو اليام، فيأخذ المُلاحِظ ضريبته، ثم ينتقل لأخذها من مكانٍ آخر، وكان حريصًا على اختيار القرى الغنية.

عندما كانوا يتأخرون في الدفع كان يقوم بهدم ثلاثة أو أربعة من البيوت رغم بعد المسافة بين هذه البيوت وبين العمل في الطريق والمجاري. وهكذا فقد حصل رئيس العمال «إيكيدي» على قسطٍ كبير من الأموال الحرام.

التمَس كابتن «وينتربوتوم» العذر ﻟ «إيكيدي» .. إنه رجلٌ من عشيرة أخرى، ويعتبرونه أجنبيًّا، ولكن كيف يغفر لرجلٍ من نفس الدم.

كانت القسوة العنصرية تجعل أصحاب البلد الأصليين غير قادرين على فهم الرجل الأبيض كما يجب أن يفهموه.

عندما بدأ الكابتن «وينتربوتوم» في التحقيق كان من الصعب اتهام الملاحظ «إيكيدي»؛ فقد كان رجلًا ذكيًّا، ولم يستطع الكابتن في ذلك الحين النَّيل منه، ولكنه كان واثقًا من النَّيل منه في يومٍ ما وإصدار حكم عليه بالعقوبة ثمانية عشر شهرًا.

كان «وينتربوتوم» متأكدًا من أن الملاحظ «إيكيدي» لم يزل فاسدًا ومرتشيًا، بل إنه أصبح أكثر مهارةً وذكاءً عما قبلُ؛ فلقد جعل الناس تُعامِله كملك، حتى إنهم كانوا ينادونه «إيكيدي الأول» .. ملك «أوكبيري» .. حدث هذا بين قومٍ يُكِنُّون الكراهية للملوك. وهكذا كانت الإدارة البريطانية تصنع كثيرًا من الملوك الوهميين.

واصل كابتن «وينتربوتوم» قراءة المذكِّرة .. هناك ما يستطيع عمله لإيقاف ذلك الانحراف .. لقد ضحَّى بفرصته في الترقية من أجل ضميره، حتى أصبَحَت كل دفعته من الضباط في قائمة الرؤساء، بينما لم يصل هو بعدُ إلى ضابط المقاطعة الرئيسي .. سيُحاوِل البحث عن الكاهن، الشاهد الوحيد الذي سانده في أحقية إعطاء الأرض ﻟ «أوكبيري» ونطق بالحقيقة .. تُرى هل ما زال على قيد الحياة؟

تذكَّر كابتن «وينتربوتوم» أنه شاهده مرةً ثانية أو مرتَين أثناء جولاته الروتينية في «أوموارو» .. نعم، لكن ذلك كان منذ سنتَين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤