الفصل السابع

كان السوق مزدحمًا بالرجال والنساء من كل الأماكن، وكانت النساء يلبسن أحسن الثياب ويتحلَّين بزينات من العاج والخرز كلٌّ منهن حسب ثروة زوجها، أو حسب قدرة كلٍّ منهن على التدبير .. حمل الرجال النبيذ فوق رءوسهم في أوانٍ يتدلى شريطٌ من أحد جوانبها، واحتلوا أماكنهم تحت ظلال الأشجار، ثم بدءوا في الشراب مع أصدقائهم وأقربائهم وذويهم. أما مَن جاءوا بعد ذلك فقد جلسوا في العَراء حيث كان الجو معتدلًا.

كان الاحتفال في ذلك العام عظيمًا، وبدَت «أوموارو» متماسكةً كما لم تكن من قبلُ .. كان العَداء بين «أومونيورا» و«أومواشالا» عنيفًا؛ إذ كان ينظر رجالُ كلتا القريتَين إلى بعضهما بحذَرٍ وشك، لكنهم اليوم يتبادلون النبيذ بدون حذَر وخوف؛ إذ لا يستطيع أحدٌ في هذا الاحتفال أن يدُسَّ السُّم للآخر.

وضعَت زوجة «إيزولو» الصغرى المرآة بين فخذَيها وراحت تمشِّط شعرها، ولم يساورها أي شك في أن شعرها أحسن من شعر «أكيوك». كانت تبدو فَرِحةً لتلك الخطوط الصفراء في فستانها، ودائمًا ما كانت في السنوات السابقة أول مَن تصل إلى السوق سعيدةً ومبتهجة، لكنها هذا العام بدت متثاقلة؛ لأن ما فعَلَه «أودوش» قد أثَّر على خطواتها، وكان عبئًا ثقيلًا ظل يؤرِّقها. قرَّرَت أن تُصلي لتطهير ما ارتكَبه «أودوش» من دنَس .. أخذَت النساء أماكنهن وسط الجميع، ورحن يتعانقن، لكنها لم تفعل مثلهن؛ إذ بدَّد ذلك العبء سعادتها .. أثار سِوارُها المصنوع من العاج حسَد وغَيرة «ماتيفي».

كانت تقوم بتلميع العاج عندما خرَجَت «ماتيفي» إلى سوق «كوا»، وقبل أن تبادر بالخروج سمعَت من يقول: هل أم «أوبياجيلي» مستعدة؟

أجابت: لا .. سوف نتبعُكم فلا تنتظرونا.

فرغَت تمامًا من إعداد نفسها، ثم ذهبَت «أوجوي» إلى كوخها .. التقطَت أوراقَ القرعة التي زرعَتْها خصوصًا بعد سقوط الأمطار، ثم قطعَت أربعًا من الأوراق وربطَتْها معًا بحبل، ثم وضعَت الأوراق فوق الكرسي، واتجهَت ناحية أحد أدراج البامبو لرؤية إناء الشوربة والفوفو الذي ستتناوله «أوبياجيلي» و«وافو» عند الظهر.

انحنَت «أكيوك» أمام العتبة، وظلت تصفر، ثم قالت «أوجوي»: هل أنتِ مستعدة الآن؟ وما هذه الجلَبة الصادرة من عندك وكأن فرخةً تبحث عن عشِّها؟ يجب أن تسرعي وإلا فلن نجد أحدًا في السوق.

دخلَت «أكيوك» بعد ذلك إلى الكوخ حاملةً عنقود أوراق القرعة .. تبادلَتا الإعجاب بملابسهن، ولم تستطع «أكيوك» أن تُخفي انبهارها بالعاج.

قالت «أكيوك» وهن في طريقهن للخروج: ألا تعرفين السبب في غضب «ماتيفي» هذا الصباح؟

– يجب أن تسألي نفسك .. أليست هي زوجة أبيك؟

– كان الغضب باديًا فوق وجهها .. هل سألتكِ عن استعدادك للذهاب؟

– نعم .. ولكن بصوتٍ خفيض.

قالت «أكيوك»: لم أعرف شخصًا مثلها .. إنها تشعر بالمرارة والغضب منذ أن طلب منها أبي أوَّل أمسِ إعدادَ الطعام لزوجي وأهله.

كان الناس ما زالوا يتدفَّقون إلى السوق من كل الأنحاء، التحقَت «أوجوي» و«أكيوك» بالناس، وكانت كل امرأةٍ من «أوموارو» تحمل عنقودًا من أوراق القرعة في يدها اليمنى، أما بقية النساء من القرى المجاورة فقد جئن فقط لرؤية الاحتفال دون أن يحملن العناقيد في أياديهن، وكانت الأحاديث والثرثرات تملأ السوق.

بدأَت زوجات «واكا» الخمس في الظهور، وقد أحدثن جلَبةً كبيرة، وكانت كل واحدةٍ منهن تتحلى بالعاج من أول القدم حتى الركبة، وترتدي القطيفة الملونة. ولم يكن هذا بالشيء الجديد في «أوموارو» لكنه لم يحدُث من قبلُ أن تظهر مثل تلك الأشياء بهذه الوفرة من بيت رجلٍ واحد.

كان «أوبيكا» وصديقه «أوفيدو» جالسَين بصحبة ثلاثة من شباب «أومواجو» فوق حصيرةٍ قذرة مصنوعة من شجرة الأوجبو يتوسطهم إناءان أسودان من النبيذ وإناءٌ ثالث بالقرب منهم .. أصبح أحدهم مخمورًا وبدا «أوبيكا» و«أوفيدو» وكأنهما لم يشربا شيئًا بعدُ.

قال أحد الرجال: هل حقيقة يا «أوبيكا» أن زوجتك الجديدة لم ترجع بعدُ.

أجاب «أوبيكا» بهدوء: نعم يا صديقي .. إنني دائمًا مختلفٌ عن الآخرين، فإذا شربتُ الماء فإنه يقف بين أسناني.

قال «أوفيدو»: لا تشغَل نفسكَ كثيرًا .. إن أمها مريضة، وقد طلب والدها أن تبقى للاعتناء بها بعض الوقت.

– آه، ها، أعرف أن ما سمعته ليس حقيقيًّا؛ فكيف تستطيع العروس الشابة أن تتردَّد أمام شابٍّ وسيم مثل «أوبيكا»؟

كان أحدُهم مخمورًا بعض الشيء، فقال: آه يا صديقي، لا، ليس الأمر هكذا .. ربما لم تكن في حجم عضوك.

أجاب «أوبيكا»: لكنها لم تشاهده أبدًا.

– لم تشاهده؟ ها، ها، أتتحدث إلى أولادٍ صغار؟

أوشك رئيس الكهنة على الوصول؛ حيث كان الصياح عاليًا في السوق، وسارع الناس بشرب نبيذهم.

لم ينقطع الهتاف وكانوا ينادون بأسماء القرى وأسماء آلهتهم، وفي بعض الأحيان كان ممكنًا سماع ذوي الشأن في «أوموارو»، مثل «واكا» و«سيسي» و«أودوزو»، واستقر الأمر في النهاية على تحية «أولو»، الإله الأكبر ﻟ «أوموارو».

كان «أوبيوزو إيزيكولو» رجلًا عجوزًا لكن مهارته في دق الطبول لم يكن لها نظير، وفي شبابه كانت القُرى الست تدعوه «أوزو» لتفوُّقه في هذا المضمار. كانت دقَّاته تحرِّك قلوب أقربائه بقوة أيام الحروب، وتُشعِل فيهم الحماسة، غير أنه اليوم بعد أن صار عجوزًا لا يستطيع أن يكون مُتفوِّقًا كما كان .. تجمَّعوا حول طارق الطبول القديم، وقام أحد معارفه بتحيته، وأثنى عليه.

قال العجوز: ليس من الصواب أن نَصِف المرأة التي تأتي لترقُص رقصتَها المعتادة بأنها عجوز.

ضحكوا جميعًا، وفي تلك الأثناء بدأ رسل «إيزولو» يظهرون وسط السوق المزدحم، بينما كان الناس يتقاتلون من أجل الفوز بمكانٍ في المقدمة .. راحوا ينظِّمون حلقةً كبيرة، وكانت أوراق القرعة التي تحملها النساء سببًا في عرقلة النظام .. ظل الرجال خارج الحلقة فلم يكونوا في حاجةٍ للمقدمة.

دقَّت الطبول لتحية رئيس الكهنة، ولوَّحَت النساء بأوراقهن من جانب إلى آخر أمام وجههن، ثم رُحن يُصلِّين إلى «أولو»، الإله القادر على الموت والحياة.

كان الترحيب ﺑ «إيزولو» هائلًا .. تقدَّم للأمام، ثم توقَّف فجأةً أمام طارق الطبول، وقال: استَمِر، «إيزولو» يسمع.

ثم بدأ في الرقص.

كان يرتدي الرافيا من خصره إلى ركبتَيه، وكان النصف الأيسر من جسده ملونًا بالطباشير الأبيض وربطة من الجلد حول رأسه مُزيِّنة بريش النسر في الخلف. وكان يحمل الأوفو في يده اليمنى وقضيبًا طويلًا من الحديد في يده اليسرى، كان يضرب نهايته بالأرض .. أبصر أحدَ أصدقائه واقفًا في الخلاء فركَض نحوه مسرعًا .. مدَّ ذراعه ولوَّح بالقضيب الحديد جهة اليمين واليسار .. سمع الناسُ ارتطام قضيب «إيزولو» الحديدي بقضيب الرجل الآخر، الذي لا يعرفه أحد.

ضرب «إيزولو» بعصاه المعدنية فوق الأرض، وظل يرقص قليلًا على دقات الرجل العجوز الذي لم يتوقَّف منذ ظهور الكاهن، بينما النساء كُن يُلوِّحن بأوراق القرعة أمامه، ثم راح يتطلع إلى كل رجال ونساء «أوموارو» من حوله دون أن يقصد رؤية شخصٍ معيَّن، ثم شد العصا المعدنية من الأرض وقفَز للأمام حاملًا العصا في يده اليسرى والأوفو في يده اليمنى، وراح يركُض حول السوق.

النساء كُن يُلوِّحن بأوراق القرعة، ويقذفن بها فوق «إيزولو» كلما مضى في أي مكانٍ بالسوق، فبدا وكأن آلافًا من الحشرات العملاقة تحتشد فوق رأسه.

عند اقتراب «إيزولو» من الدائرة التي تقف عندها «أوجوي» اندفعَت حتى أصبحَت في المقدمة .. كانت تُتمتِم بالدعاء مرةً بعد أخرى وهي تقول: «أولو» العظيم، يا مَن له القدرة على الموت والحياة، أتوسَّل إليك أن تُطهِّر بيتي من كل الدنس الذي بدَر مني أو رأيتُه بعيني أو سمعتُه بأذني، أو الذي تسبَّب فيه أولادي أو أصدقائي وأقربائي.

كان العنقود الصغير على شكل دائرة، فلوَّحَت به حول رأسها، وألقت به بقوة نحو رئيس الكهنة، الذي كان قادمًا نحوها.

كان الرسل الستة بالقرب من الكاهن، فانحنى أحدُهم بسرعة، والتقَط أحد عناقيد الأوراق. وكانت الطبلة تُواصِل دقاتها بشدة حين أوشك رئيس الكهنة على الانتهاء من رقصاته .. توقَّفَت دقَّات الطبول فجأة، فانحنى الرسل نحو قدم «إيزولو»، وساد السكون لحظةً قصيرة عرفوا بعدها أن رئيس الكهنة قد دفَن ستةً من عناقيد الأوراق، وهذا يعني أنه قد دفَن في أعماق الأرض كلَّ خطايا «أوموارو».

خرجَت نساء «أومونيورا» من الحلقة، وبدأن الركض في السوق، ثم بدأ الجميع في الركض تباعًا، فامتلأ الفضاء بسحابة من الرمال .. لم يستطع كبار السن وأولئك الذين امتلأَت أقدامهم بالعاج من اللحاق بهم إلا مؤخرًا، وسارعَت نساء «أومواجو» في الخروج من الحلقة الكبيرة.

تفرَّق الجمع مرةً ثانية إلى مجموعات من الأصدقاء والأقرباء، وكانت «أكيوك» تبحث عن أختها الكبرى «آديز» التي جرت مع نساء «أوموزيني» .. كانت «آديز» طويلةً وذات جلدٍ برونزي، ولو أنها رجلٌ لأصبحَت شبيهة بأبيها أكثر من «أوبيكا» .. لم تبحث «أكيوك» بعيدًا وهي تقول لنفسها: لا بُد أنها وسط إحدى المجموعات.

قالت «آديز»: كنتُ أعتقد أنكِ ذهبتِ للبيت .. لقد قابلتُ «ماتيفي» الآن وسألتُها عنكِ فأخبرَتْني أنها لم تشاهدكِ أبدًا.

– وكيف تستطيع أن تشاهدَني؟ أنا لستُ كبيرةً بما فيه الكفاية حتى يمكنها رؤيتي.

– هل تشاجرتما مرةً أخرى؟ لقد رأيتُ شيئًا في وجهها .. ماذا فعلتِ بها؟

– أختي .. اتركي «ماتيفي» ومتاعبها جانبًا، ولنتحدَّث فيما هو أهم.

لحقَت بهن «أوجوي» قائلة: كنتُ أبحث عنكِ في كل مكانٍ بالسوق.

ثم قامت باحتضان «آديز».

قالت «آديز»: كيف حال الأولاد؟ هل تُعلِّمينهم حقًّا أكل الثعبان؟

صاحت «أوجوي» من كُل قلبها: هل تعتقدين أنه مجرَّد شيءٍ لإثارة الضحك .. لا عجب إذن في أنكِ الوحيدة في «أوموارو» التي لم تأتِ لتسأل عما حدث.

– هل حدث شيء؟ لم يخبرني أحدٌ بأي شيء، هل شبَّ حريقٌ أم أن أحدًا قد مات؟

قالت أختُها: لا تشغلي بالكِ يا «آديز». إن «أوجوي» مثل والدها، وهل يكون والد النمر مختلفًا عن النمر؟

ساد الصمت لحظةً ولم يُجب أحد.

– لا تغضبي مني يا «أوجوي»؛ فلقد سمعتُ كل شيء، ويجب أن تعلمي أن أعداءنا وأولئك الذين تتملَّكَهم الغَيْرة يتوقون لرؤيتنا متفرقين، لكن «آديز» لن تساعدهم، نعم، لن أجعلهم يشعرون بالرضا .. لقد جاءت عندي تلك المرأة المجنونة «أكويني وزيزي» كي تُشفِق عليَّ، تلك المرأة التي يرتكب أهلها كل الفضائح والاضطرابات في «أوموارو».

قالت «أكيوك»: هل ستأتين معنا؟

– نعم، يجب أن أرى الأطفال، كما أنني قلقة؛ لأن «أوجوي» و«ماتيفي» لا تُحسنان العناية بأبي.

صرخَت «أوجوي» بخوفٍ مصطنع: من فضلك أيتها الزوجة، أتوسل إليك .. إنني أفعل كل ما عندي. إنه والدُكِ الذي يُسيء معاملتي.

ثم قالت بجدِّية: عندما تتحدَّثين إليه اعرفي منه كيف أنه في مثل عمره هذا يجري كالظبي، في حين أنه في العام الماضي لم يستطع بعد الاحتفال أن ينهض، وظل راقدًا عدة أيام.

اختلَسَت «أكيوك» النظر للتأكد من عدم وجود أحد الرجال بالقرب منهن، ثم قالت وهي تخفض صوتها: هل تعرفين أنه في أيام شبابه كان مثل «أوبيكا» الآن.

– أنتما اللتان شجَّعتُماه وهو يصدِّق نفسه، هو يحب أن يصدِّق بأنه أقوى من كل شباب اليوم .. لو أنه أبي لأخبرتُه بالحقيقة.

قالت «آديز»: أليس هو زوجك؟ أفلا تضعين الرماد في أواني الطهي لمدة سبعة أسواق إذا مات في الغد؟ هل أنتِ أم أنا التي سترتدي الخيش طول عامٍ كامل؟

سألَت «أكيوك» وهي تغيِّر موضوع الحديث: ماذا كنتُ أقولُ لك؟ آه، إن زوجي وأهلَه جاءوا في اليوم الثاني.

– ولماذا جاءوا؟

– وهل يُوجَد شيءٌ آخر يأتون من أجله؟

– لقد سئموا الانتظار؛ فقد كانوا يتمنَّون لو أنكِ حملتِ النبيذ وتوسَّلتِ إليهم.

قالت «أكيوك» متظاهرةً بالغضب: لا تخطئي في حق أهل زوجي، وإلا فسوف نتشاجر.

– سامحيني إذن؛ فأنا لم أكن أعرف أنكما أصبحتما فجأةً حبيبَين مرةً أخرى .. متى ستعودين إليه؟

– في يوم السوق القادم بعد «أوي».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤