كون المسلمين الجامدين فتنة لأعداء الإسلام وحجة عليه

ونعود إلى المسلم الجديد فنقول: إنه هو الذي طرّق لأعداء الإسلام على الإسلام، وأوجد لهم السبيل إلى القالة بحقه؛ حتى قالوا: إنه دين لا يأتلف مع الرقي العصري، وإنه دين حائل دون المدنية.

والحقيقة أن هؤلاء الجامدين هم الذين لا تأتلف عقائدهم مع المدنية، وهم الذين يحولون دون الرقي العصري، والإسلام براء من جماداتهم هذه.

إن الإسلام هو من أصله ثورة على القديم الفاسد، وجبٌّ للماضي القبيح، وقطع كل العلائق مع غير الحقائق، فكيف يكون الإسلام ملة الجمود؟ والقرآن هو الذي جاء فيه من قصة إبراهيم عليه السلام: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَـٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.١
وجاء فيه: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ.٢
وجاء فيه: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ.٣
وجاء فيه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ.٤
وجاء فيه: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.٥

وغير ذلك من الآيات الداعية إلى الثورة على القديم إذا لم يكن صحيحًا ولم يكن صالحًا.

على أن الذين يفهمون الإسلام حق الفهم يرحبون بكل جديد لا يعارض العقيدة، ولا تخشى منه مفسدة، ولا أظن شيئًا يفيد المجتمع الإسلامي يكون مخالفًا للدين المبني على إسعاد العباد، أفلا ترى علماء نجد وهم أبعد المسلمين عن الإفرنج والتفرنج، وأنآهم عن مراكز الاختراعات العصرية، كيف كان جوابهم عندما استفتاهم الملك عبد العزيز بن سعود أيده الله في قضية اللاسلكي والتلفون والسيارة الكهربائية؟ أجابوه: إنها محدثات نافعة مفيدة، وإنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله لا بالمنطوق ولا بالمفهوم ما يمنعها.

أفليس الأدنى لمصلحة الأمة أن تقدر الدولة على معرفة أي حادث يحدث بمجرد وقوعه حتى تتلافى أمره؟ أفليس الأنفع للمسلمين أن يتمكن الحاج ببضع ساعات من اجتياز المسافات التي كانت تأخذ أيامًا وليالي، لقد سألت الشيخ محمد بن علي بن تركي من العلماء النجديين الذين بمكة عن رأيه في التلفون واللاسلكي فقال لي: هذه مسألة مفروغ منها، وأمر جوازها شرعًا هو من الوضوح بحيث لا يستحق الأخذ والرد.

ولم تكن مقاومة الجديد خاصة بجامدي الإسلام، فقد قاومت الكنيسة في النصرانية كل جديد تقريبًا من قول أو عمل، ثم عادت فيما بعد فأجازته، ولما قال «غاليله» بدوران الأرض كفرته، ولا يزال يوجد إلى اليوم من أحبار النصارى من يكفر كل مخالف لما جاء في التوراة من كيفية التكوين، ومن سنتين حوكم أحد المعلمين في محاكم إحدى الولايات المتحدة لقوله بنظرية داروين ومنع من التدريس، ولكن هذا لا يمنع سير العلم في طريقه.٦
فالنصارى عندهم جامدون كما عندنا جامدون، والمسلم الجامد يحارب كل علم غير العلم الديني التقليدي الذي ألفه، حتى إنه ليحارب من لا يعتد في دينه إلا بالكتاب والسنة، وينسى أن العلوم الطبيعية والرياضية والهندسة وجر الأثقال والفلك والطب والكيمياء وطبقات الأرض وكل علم يفيد الاجتماع البشري هي علوم دينية إن لم تكن مباشرة فمن حيث النتيجة،٧ وكم جرى تدريس هذه العلوم في الأزهر الأموي والزيتونة والقرويين وقرطبة وبغداد وسمرقند وغيرها عندما كان للإسلام دول كبار وأعاظم رجال، وكم نبغ في الإسلام من عظماء جمعوا بين الحكمة والشريعة، ونظموا بين الحديث والرياضة، وإن أكبر فيلسوف عربي اشتهر اسمه في أوروبة هو القاضي ابن رشد؛ وقد كان من أكابر الفقهاء.

هوامش

(١) الأنبياء: الآيات من ٥٢ إلى ٥٤.
(٢) الشعراء: الآيات من ٧١ إلى ٧٧.
(٣) الزخرف: من الآيتين ٢٣ و٢٤.
(٤) البقرة: ١٧٠.
(٥) البقرة: ١٤٢.
(٦) وقد تألف في إنكلترة وأمريكة حزب ديني جديد أو جمعية للدعوة إلى الإيمان بظواهر التوراة في الخلق والتكوين، وكل شيء من غير تأويل (راجع ص٧٢٣ م ٣٠ المنار). (ر).
(٧) أي من باب قول العلماء: ما لم يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب. وقد بينا في تفسير: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ أن آلات القتال البرية والبحرية والجوية واجبة بنص هذه الآية؛ لأنها من القوة المستطاعة للمسلمين كما هي مستطاعة لغيرهم، فليس وجوبها بقاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، بل بنص القرآن ودلالة المنطوق منه فراجع تفسيرها في ص٦١ ج١٠ من تفسير المنار (ر).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤