حث القرآن على العلم

باعث للمسلمين على سبق الأمم في الرقي
العالم الإسلامي يمكنه النهوض والرقي واللحاق بالأمم العزيزية الغالبة إذا أراد ذلك المسلمون ووطنوا أنفسهم عليه، ولا يزيدهم الإسلام إلا بصيرة فيه وعزمًا، ولن يجدوا لأنفسهم حافزًا على العلم والفن خيرًا من القرآن الذي فيه: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.١
والذي فيه: وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ.٢
والذي فيه: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.٣
والذي فيه: شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ.٤
والذي فيه: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.٥
والذي فيه: يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ.٦
والذي فيه: وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.٧
وفيه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.٨
وفيه: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا.٩
وغير ذلك من الآيات الكريمة، وفيه ما هو خاص بالأمة العربية: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ.١٠

وقد زعم بعضهم — ومن جملتهم (سيكار) هذا الذي بالمغرب قد ألف كتابًا في الطعن على الإسلام، وهو الذي يكتب في مجلة «مراكش الكاثوليكية» — أن المراد بلفظة «العلم» في القرآن هو العلم الديني، ولم يكن المقصود به العلم مطلقًا لنستظهر به على قضية تعظيم القرآن للعلم وإيجابه للتعليم.

وقد أتى سيكار من المغالطة في هذا الباب ما لا يستحق أن يرد عليه؛ لما فيه من المكابرة في المحسوس، وكل من تأمل مواقع هذه الآيات المتعلقة بالعلم وبالحكمة وغيرها مما يحث على السير في الأرض والنظر والتفكير يعلم أن المراد هنا بالعلم هو العلم على إطلاقه متناولًا كل شيء، وأن المراد بالحكمة هي الحكمة العليا المعروفة عند الناس، وهي غير الآيات المنزلة والكتاب كما يدل عليه العطف، وهو يقتضي المغايرة، ويعزز ذلك الحديث النبوي الشهير: «اطلبوا العلم ولو في الصين».١١

فلو كان المراد بالعلم هو العلم الديني — كما زعم سيكار — ما كان النبي يحث على طلبه ولو في الصين؛ إذ أهل الصين وثنيون؛ لا يجعلهم النبي مرجعًا للعلم الديني كما لا يخفى.

وفي بعض الآيات من القرائن اللفظية والمعنوية ما يقتضي أن المراد بالعلم علم الكون؛ لأنه في سياق آيات الخلق والتكوين، وهي في القرآن أضعاف الآيات في العبادات العملية؛ كالصلاة والصيام؛ كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ.١٢

أي العلماء بما ذكر في الآية من الماء والنبات والجبال وسائر المواليد المختلفة الألوان وما فيها من أسرار الخلق، لا العلماء بالصلاة والصيام والقيام.

وقد كنا ظننا هذا الرجل على شيء من حب الحقيقة، فلما أنكر المدنية الإسلامية رددنا عليه من المنار وجادلناه بالتي هي أحسن، وعظمنا من قدر المدنية المسيحية، ووقرنا منها، ورددنا على القائلين من الأوروبيين بأن النصرانية كانت وقفًا لسير المدنية، وسببًا لسقوط اليونان والرومان، إلى غير ذلك.

فكان من سيكار هذا أن نشر سلسلة مقالات تتضمن من الطعن على الإسلام ما لو جئنا برده لم نستغنِ عن إيراد شبه واعتراضات تتعلق بالدين المسيحي مما نأبى أن نتعرض له؛ لأنه ليس من العدل، ولا من الكياسة، ولا من حسن الذوق أن نغيظ إخواننا المسيحيين من أجل رجل اسمه سيكار أو غيره من هذه الطبقة من الدعاة والمبشرين، هذا زائدًا إلى ما رأيناه في كلامه من الخلط والخبط والمغالطة التي من قبيل قوله: إن العلم المقصود في القرآن ليس هو العلم المعروف عند الناس بمفهومه المطلق، وإنما هو العلم الديني فقط؛ لأن القرآن لا يهمه شيء من علوم الدنيا! فمكابر كهذا لا يستحق الجواب.

ثم علمنا أن المسيو سيكار هذا هو من مستخدمي فرنسة في الرباط بإدارة الأمور الإسلامية، وأنه هو والمسيو لويس برينو مدير التعليم الإسلامي هناك، والقومندان ماركو مدير قلم المراقبة على الجرائد والمطبوعات، والقومندان مارتي مستشار العدلية الإسلامية ورهطًا آخرين — هم الذين لعبوا الدور الأهم في قضية العمل لتنصير البربر.

وما كان استخدام فرنسة لهم في مهمات كلها عائدة للإسلام إلا على نية نقض كل ما يقدرون عليه من بناء الإسلام بالمغرب، وستذوق فرنسا ولو بعد حين وبال ما عملته وتعمله من التعرض للدين الإسلامي الذي تعهدت في معاهداتها باحترامه.

إنا لا نريد لفرنسا إلا خيرًا ولكننا ننصح لها بالعدول عن هذه السياسة التي هي على خط مستقيم ضد المبادئ التي تعلنها عن نفسها من أن الأديان في نظرها على حد سواء! فإن كانت الأديان عند الدولة الإفرنسية على حد سواء؛ فلماذا هذا الاجتهاد في تنصير البربر وهم مسلمون؟! ولماذا هذه المساعي الحثيثة في تنصير العلويين سكان جبال اللاذقية، وفي فصلهم عن الوحدة السورية، والحال أن العلويين هم فرقة من الفرق الإسلامية كما لا يخفى؟! وكذلك ننصح الإنكليز بالعدول عن دعايتهم الدينية في السودان والأوغاندة، وننصح لهولاندة بترك دعايتها الدينية بين مسلمي إندونيسيا.

كلمة لطلاب النهضة القومية دون الدينية

يقول بعض الناس١٣ ما لنا وللرجوع إلى القرآن في ابتعاث همم المسلمين إلى التعليم! فإن النهضة لا ينبغي أن تكون دينية، بل وطنية قومية كما هي نهضة أهل أوروبة؟! ونجيبهم: أن المقصود هو النهضة؛ سواء كانت وطنية أم دينية١٤ على شرط أن تتوطن بها النفوس على الخب في حلبة العلم، ولكننا نخشى إن جردناها من دعوة القرآن أن تفضي بنا إلى الإلحاد والإباحة وعبادة الأبدان واتباع الشهوات، مما ضرره يفوت نفعه، فلا بد لنا من تربية علمية سائرة جنبًا إلى جنب مع تربية دينية، وهل يظن الناس عندنا في الشرق أن نهضة من نهضات أوروبا جرت دون تربية دينية؟! وهل جرت نهضة اليابان دون تربية دينية؟!

أفلم يقل رئيس نظار ألمانيا في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات: إن ثقافتنا مبنية على الدين المسيحي؟ وهذه هو إعلان ألمانيا التي هي المثل الأعلى في العلم والصناعة وإتقان الآلات والأدوات، لا ينازع في ذلك أحد، ولا أعداؤها.

أفتوجد جامعة في ألمانيا أو إنكلترا أو غيرهما من هذه الممالك الراقية من دون أن يكون فيها علم اللاهوت المسيحي؟!١٥

ثم إنهم عندما يقولون: في أوروبا (نهضة وطنية) أو (نهضة قومية) أو جامعة وطنية أو قومية، لا يكون مرادهم بالوطن: التراب والماء والشجر والحجر، ولا بالقوم: السلالة التي تنحدر كلها من دم واحد، وإنما الوطن والقوم عندهم لفظتها تدلان على وطن وأمه بما فيهما من جغرافية وتاريخ وثقافة وحرث وعقيدة ودين وخلق وعادة؛ مجموعًا ذلك معًا، وهذا الذي يناضلون عنه، ويستبسلون كل هذا الاستبسال من أجله.

هوامش

(١) الزمر: ٩.
(٢) البقرة: من الآية ٢٤٧.
(٣) آل عمران: من الآية ٧.
(٤) آل عمران: من الآية ١٨.
(٥) العنكبوت: من الآية ٤٩.
(٦) المجادلة: من الآية ١١.
(٧) البقرة: من الآية ١٢٩، وآل عمران: من الآية ١٦٤، والجمعة: من الآية ٢.
(٨) البقرة: ٢٦٩.
(٩) النساء: من الآية ٥٣.
(١٠) الجمعة: ٢.
(١١) تتمته: «فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم» رواه العقيلي وابن عدي والبيهقي وابن عبد البر عن أنس، وفيه عند الأخير زيادة أخرى في فضل العلم، وله طرق يقوي بعضها بعضًا (ر).
(١٢) فاطر: الآيتان ٢٧ و٢٨.
(١٣) أي من ملاحدة المسلمين الجاهلين أو المتجاهلين لحال أوروبا في عصبيتها الدينية (ر).
(١٤) ولكن المسئول عنه هو نهضة المسلمين من حيث هم مسلمون.
(١٥) وهذا بعد التربية المنزلية الدينية المحضة، والتربية المدرسية الابتدائية؛ وجلها دينية (ر).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤