الفصل الثامن

أنشودة المتحف

لم أستطع أن أُحدد ما إذا كانت هذه المهمة قد أحيت فيَّ مهارة مَنسية، أم أن الآنسة بيلينجهام بالغتْ في تقدير حجم العمل الذي يتعيَّن القيام به. ولكن أيًّا ما كان التفسير، ثمة حقيقة بأنه في عصر اليوم الرابع رأيت أن مُهمتنا أوشكت على الانتهاء، ولذا جاهدتُ أن يتبقَّى جزء صغير ليُشكِّل عذرًا من أجل زيارةٍ أخرى لقاعة القراءة.

ورغم قصر فترة تعاوننا، فإنها كانت طويلة بما يكفي لإحداث تغييرٍ كبير في علاقتنا كُلٍّ منَّا بالآخَر. حيث إنه لا تتولَّد صداقة حميمية ومُرضية أكثر من تلك المُتولدة من خلال العمل، وبخاصة علاقة صريحة وسليمة جدًّا بين الرجل والمرأة، على أي حال.

كل يومٍ آتي بكومةٍ من الكتب المؤشَّرة بعلامات في أماكن محددة ودفاتر من القطع الكبير ذات الأغلفة الزرقاء لأجدها جاهزة. كنَّا نعمل كلَّ يوم بثباتٍ في المهمة المخصصة، نُسلِّم الكتب ثم نذهب لنستمتع بتناول أجمل أنواع الشاي في محل الألبان، وبعد ذلك نسير عائدَين إلى المنزل عن طريق ميدان كوين، لنتحدَّث عن خطِّ سَير عمل اليوم، ونتناقش في أحوال العالَم في تلك الأيام السحيقة؛ حين كان الملك إخناتون طيِّبًا وحين كانت رسائل تل العمارنة قيد الكتابة.

كان وقتًا مُمتعًا، مُمتعًا جدًّا، لدرجة أنني حين سلَّمتُ الكتب للمرة الأخيرة تنهَّدتُ عندما فكرتُ أنه قُضي الأمر، وأن المهمة لم تنتهِ وحسْب؛ بل تعافت يدُ مريضتي الجميلة أيضًا؛ حيث أزلتُ عنها هذا الصباح الجبيرة، وقد وضع هذا النهاية للحاجة إلى مُساعدتي.

سألتُها ونحن نخرج من القاعة المركزية قائلًا: «ماذا عسانا أن نفعل؟ الوقت مُبكر جدًّا لتناوُل الشاي. هل نذهب لزيارة بعض المعارض؟»

أجابت: «ولمَ لا؟ لعلَّنا نشاهد بعض الأشياء المُتعلقة بما كنَّا نُنجزه. فعلى سبيل المثال، هناك تمثال لإخناتون بالطابق العلوي في القاعة المصرية الثالثة؛ لعلَّنا نذهب ونُلقي نظرةً عليه.»

وافقتُ بشغفٍ على الاقتراح، ووضعتُ نفسي تحت خبرتها الإرشادية، وبدأنا الرحلة بالمعرض الروماني، ومررنا على صفٍّ طويل من الأباطرة الرومانيين المألوفين جدًّا وذوي المظهر الحديث.

قالت: «لا أعرف.» ثم وقفتْ دقيقة أمام تمثالٍ نصفي تحته مُلصق «تراجان» (ولكن من الواضح أنه صورة بورتريه لفيل ماي)، واستأنفت قائلة: «كيف يَسعني أن أشكرك على كلِّ ما فعلته، ناهيك عن ردِّ الجميل.»

أجبتُ قائلًا: «ليس هناك داعٍ للقيام بأي شيءٍ من الاثنين، لقد استمتعتُ بالعمل معكِ وهذا في حدِّ ذاته مُكافأتي. ولكن …» ثم أضفتُ قائلًا: «إذا كنتِ تريدين أن تُسدي لي معروفًا كبيرًا، فالأمر رهْن إشارتك.»

«كيف ذلك؟»

«فيما يخصُّ صديقي؛ دكتور ثورندايك. أخبرتُك بأنه كان مُتحمِّسًا. الآن، هو لأسبابٍ ما، مُهتمٌّ جدًّا بكل شيء يخصُّ عمَّك، وعرفت أنه إذا كان هناك فرصة لرفع أي دعاوى قضائية، فسيروق له كثيرًا أن يُراقب القضية بصفةٍ ودية.»

«وماذا تريدني أن أفعل؟»

«أريدك، إذا سنحت الفرصة له لتقديم نصيحة أو مساعدة من أي نوع لوالدك، أن تستغلِّي تأثيرك على والدك لصالح قبولها، لا رفضها، على افتراضٍ دائم بأنه ليس لديك شعور حقيقي يُعارض قيامه بذلك.»

نظرت الآنسة بيلينجهام لي نظرةً متفحصة لبضع دقائق، ثم ضحكت برقَّة.

«إذن المعروف الكبير الذي سأُسديه لك هو أن أُتيح لك أن تُقدِّم لي معروفًا آخَر من خلال صديقك؟»

قلتُ معترضًا: «كلَّا، أنت هنا مُخطئة. هذه ليست صدَقة من جانب دكتور ثورندايك؛ إنه حماس مِهني.»

ابتسمتْ في تشكُّك.

قلت: «أنتِ لا تُصدقين ذلك، ولكن فكِّري في حالاتٍ أُخرى. لماذا ينهض جرَّاح من الفراش في ليلةٍ شتوية ليُجري عمليةً جراحية عاجلة بالمُستشفى؟ ولن يتقاضى أجرًا مقابل ذلك. ألا ترين أنه الإيثار؟»

«أجل، بالطبع. أليس كذلك؟»

«بالتأكيد، لا. لقد قام بذلك لأنها وظيفته، لأن مُهمته هي محاربة المرض والانتصار عليه.»

قالت: «لا أرى فارقًا كبيرًا. إنه عمل يتمُّ بدافع الحبِّ بدلًا من الأجر. ورغم ذلك، سأفعل ما تطلبه إذا سنحت الفرصة؛ ولكني لا أظنُّ أنني رددتُ لك المعروف.»

قلت: «لا أُمانع طالما ستفعلين.» تمشَّينا في صمتٍ لبعض الوقت.

ثم قالت توًّا: «أليس غريبًا، كيف يبدو أن حديثنا يعود دومًا إلى عمِّي؟ أوه، هذا يُذكرني بالأشياء التي منحها لي المتحف في نفس قاعة تمثال إخناتون. هل ترغب في رؤيتها؟»

«بالتأكيد، أودُّ ذلك.»

«إذن، سنذهب ونُلقي نظرةً عليها أولًا.» توقَّفَت، ثم استطردتْ في خجل وبحمرة مُتدرجة قالت: «وأظن أنه ينبغي عليَّ أن أُقدمك إلى صديقٍ عزيز عليَّ جدًّا، بعد إذنك طبعًا.»

قالت هذه الإضافة الأخيرة في عُجالة، بعد أن رأت فيما أظنُّ أنني بدا عليَّ التجهُّم من الاقتراح. وبداخلي كنت أودُّ أن أرسل صديقها إلى الشيطان، لا سيما إذا كان ذكرًا؛ ولكن ظاهريًّا عبَّرتُ عن سعادتي بالتعرُّف على أي شخصٍ شرَّفَتْه بصداقتها. ولكن ما أربَكني أنها ضحكت على نحوٍ غامض، ضحكةً ناعمة جدًّا، خافتة ومُنغَّمة، مثل هديل حمامة مُقدَّسة.

تمشيتُ بجوارها وأنا أُفكر بقليلٍ من القلق في التقدمة الوشيكة؛ هل تم اقتيادي إلى عرين أحد العلماء ذوي الصلة بالمتحف؟ هل سيضيف طرفًا ثالثًا إلى تجمُّعنا الثنائي الصغير، الكامل والودود للغاية، بعد أن كنَّا وحدنا معًا، في هذا العالم المأهول؟ وفوق كل ذلك، هل سيكون شابًّا، وسيهدِم قلاعي الخيالية فوق رأسي؟ نظرتها الخجولة واحمرار خدِّها حين اقترحت التقدمة كانت مؤشرات تُنذر بالسوء، تفكَّرت فيها بكآبة بينما كنا نصعد الدرَج ونمرُّ خلال المدخل. ألقيتُ نظرة خاطفة على رفيقتي، لتُواجهني ابتسامةٌ غامضة جدًّا؛ في تلك اللحظة توقفت أمام نافذة عرضٍ جدارية وواجهتْني.

قالت: «هذا صديقي. دعني أُقدمك إلى أرتميدورس، في أواخر عصر الفيوم. أوه، لا تبتسِم! أنا جادة جدًّا. ألم تسمع مُطلقًا عن الكاثوليكيين الورِعين الذين يعتزُّون بتفانيهم لقديس راحلٍ منذ زمن طويل؟ هذه مشاعري تجاه أرتميدورس، ولو كنتَ تعرف مدى السكينة التي يُنزلها في قلب سيدة وحيدة؛ كم كان صديقًا هادئًا مُتواريًا عن الأنظار بالنسبة إليَّ في أيام عُزلتي ووحدتي، كان دومًا مُستعدًّا بتحية على وجهه اللطيف والرصين، ستُعجَب به لهذا السبب وحدَه. وأُريدك أن تُعجَب به وأن تشاركنا صداقتنا الصامتة. هل أنا سخيفة جدًّا وعاطفية جدًّا؟»

اجتاحتْني موجةٌ من الارتياح، وارتفع مستوى الزئبق في مقياس حرارتي العاطفية إلى أعلى المُستويات بعد أن كاد يستقرَّ في القاع. كم كان لطيفًا منها وحميميًّا أن تتمنَّى مشاركتي هذه الصداقة السرية! وكم كانت فتاة مُعتدَّة جدًّا بنفسها، وكم كانت غريبةً وغامضة لتأتي إلى هنا وتُجري حديثًا صامتًا مع هذا اليوناني الراحل منذ فترةٍ طويلة. ولقد أثر هذا الرثاء فيَّ بعمقٍ وسط فرحة هذه العلاقة الحميمية الوليدة.

سألتني بنبرةٍ يشوبها خيبة الأمل بعد أن عجزتُ عن الرد: «هل تستهزئ بي؟»

أجبتُ في حماس قائلًا: «كلَّا، بالتأكيد لا. أريدك أن تتأكدي من تعاطفي وتقديري لك بدون أي إساءةٍ لك من خلال إبداء المُبالغة، ولا أعرف كيف أُعبر عن ذلك.»

«أوه، لا تهتمَّ بالتعبير، طالما أنك تشعُر. ظننتُ أنك ستفهم.» وابتسمت لي ابتسامةً جعلتني أرتعِد.

وقفنا لبرهةٍ نُحدِّق في صمتٍ بالمومياء — كان هذا صديقها أرتميدورس. لم تكن مومياء عادية؛ مصرية الشكل، ولكنها يونانية المشاعر بالكامل، بألوانٍ زاهية، مُتوافقة مع الحب العنصري للألوان، الذوق الرفيع الذي يُزين الصندوق جعل كلَّ شيءٍ حوله يبدو مُبهرجًا وهمجيًّا. ولكن السمة الأكثر لفتًا للنظر كانت لوحة ساحرة تحتل مكان القناع المُعتاد؛ كانت هذه اللوحة مصدر إلهامٍ بالنسبة إليَّ. فباستثناء أنها مرسومة بالصبغة بدلًا من الزيت، كانت لا تختلف بأي شكلٍ من الأشكال عن الأعمال الحديثة. لم يكن هناك شيءٌ قديم أو عتيق بخصوصها؛ فمن خلال أسلوبها المُتحرِّر في التناول والتصوير المناسب للضوء والظلال، ربما تمَّ رسمُها أمس؛ بالطبع كانت محاطة بإطارٍ ذهبي عادي، وربما تمرُّ عليها مرورَ الكرام في معرض للصور الحديثة.

لاحظت الآنسة بيلينجهام إعجابي وابتسمتْ في استحسان.

وقالت: «إنها لوحة بورتريه صغيرة، أليس كذلك؟ ووجه مليح أيضًا، ملامح رصينة ذات طابع بشري، يعلوه مسحةٌ من الكآبة. ولكن اللوحة ككلٍّ مليئة بالسحر. وقعتُ في حبِّها من المرة الأولى التي رأيتها فيها. إنها يونانية جدًّا!»

«أجل، هي كذلك، رغم وجود الآلهة والرموز المصرية.»

قالت: «بل بالأحرى بسببها، في رأيي. ها نحن أمام الأسلوب اليوناني النموذجي؛ الانتقائية العبقرية المُستنيرة التي تُقدر انسجام أغرب أشكال الفن. هناك أنوبيس يقف بجوار التابوت؛ وهناك تقف إيزيس ونفتيس، وبالأسفل حورس وتاهوتي. ولا نستطيع افتراض أن أرتميدورس كان يعبد أو يؤمن بهؤلاء الآلهة. هي موجودة لأنها عبارة عن زخارف باهرة ومناسبة تمامًا في طبيعتها. المشاعر الحقيقية لأولئك الذين يُحبُّون الراحل تتجلَّى في العبارة المنقوشة.» وأشارت إلى الشريط الموجود أسفل الصداري، حيث كُتب بحروفٍ كبيرة مُذهبة، عبارة من كلمتين: «وداعًا، أرتميدورس.»

قلت: «أجل، إنه عمل مهيب جدًّا وإنساني للغاية.»

وأضافت قائلة: «إنه صادق جدًّا ومليء بالمشاعر الحقيقية. أراه عملًا مؤثرًا على نحوٍ لا يوصف. «أوه أرتميدورس، وداعًا!» هنا السمة الحقيقية للحزن الإنساني، حزن الوداع الأبدي. كم كان هذا رائعًا، أروع من التباهي المُبتذل للمرثيَّات السامية أو تصورنا البائس والمُخادع للفقد قبل اللقاء. لقد رحل عنهم إلى الأبد؛ لعلهم لا ينظرون في وجهه ولا يسمعون صوته؛ أدركوا أنها آخِر مرة يودعونه. أوه، قدر كبير جدًّا من الحب والحزن يتلخَّص في هاتَين الكلمتين البسيطتَين!»

ولم يتكلم أي منَّا لبعض الوقت. لقد غمرني سحر هذا التمثال المؤثر الذي يُجسد الحزن المدفون منذ زمن سحيق، وكنت سعيدًا بالوقوف صامتًا إلى جوار رفيقتي المحبوبة ومُلهمتي، بقدْرٍ من المتعة التأملية، أطياف من المشاعر الإنسانية التي مرَّ عليها قرون كثيرة جدًّا. في تلك اللحظة التفتت إليَّ بابتسامة صادقة وقالت: «أنت كفَّتك ترجح على ميزان الصداقة، ولا ينقصك شيء. لديك موهبة التعاطُف، حتى مع الأوهام العاطفية للنساء.»

ساوَرني شكٌّ بأن عددًا كبيرًا من الرجال من شأنهم أن يكتسبوا هذه القدرة الرائعة في ظل هذه الظروف؛ ولكني امتنعتُ عن قول ذلك. لا طائل من بكاء المرء على قدراته. كنتُ سعيدًا بالقدر الكافي لأنها كوَّنت عني رأيًا جيدًا بكل سهولة، وبعد فترةٍ طويلة حين ابتعدتْ عن الصندوق وعبرتْ إلى الغرفة المجاورة، كان هناك شاب لطيف للغاية في انتظار صحبتها.

«إليك أخناتون أو خنا-تون، كما تكتبها السلطات هنا باللغة الهيروغليفية.» وأشارت إلى جزءٍ من تمثالٍ مُلون مُلصق عليه: «جزء من لوحةٍ حجرية مُلونة عليها صورة بورتريه لأمنحوتب الرابع» توقَّفنا لنُلقي نظرة على صورة رقيقة ومُرهفة للملك العظيم، بجمجمته الكبيرة وذقنه الحاد الغريب وشعاع أتون ينشر أذرُعه الغريبة كما لو أنها تُعانقه.

«لا يجب أن نبقى هنا إذا كنتَ تريد أن تشاهد منحة عمِّي؛ حيث إن هذه القاعة تُغلق في الساعة الرابعة اليوم.» بعد هذه النصيحة تحرَّكَت إلى الطرف الآخر من القاعة، حيث وقفتْ أمام صندوق عرضٍ كبير يحتوي على مومياء ومجموعة كبيرة من الأغراض الأخرى، وُملصق أسود بكتابة بيضاء تُبين المحتويات المتنوعة بشرحٍ مُختصر كما يلي:

مومياء سبك حتب؛ كاتب الأسرة الثانية والعشرين، بالإضافة إلى الأغراض المكتشفة في المقبرة؛ وهي تشتمل على أربعة أوانٍ كانوبية، التي تُحفَظ فيها الأعضاء الداخلية، وتماثيل الأوشابتي، والمُؤَن والمقتنيات المختلفة التي تخصُّ المُتوفَّى؛ كرسيه المُفضل ومسند رأسه، ولوحة الحبر، منقوش عليها اسمه واسم الملك، أوسركون الأول، الذي عاش في عهده، وغيرها من الأغراض الأخرى الأصغر حجمًا، مُهداة من السيد جون بيلينجهام.

أوضحت الآنسة بيلينجهام قائلة: «لقد وضعوا جميع الأغراض في صندوق عرضٍ واحد ليُوضِّحوا محتويات المقبرة العادية الخاصة بالطبقة الغنية. كما ترى كان المُتوفَّى يتمتع بسبل الراحة العادية؛ المؤن والأثاث ولوحة الحبر التي اعتاد استخدامها في الكتابة على ورق البردي، وطاقم من الخدم لخدمته.»

سألتها: «أين الخدم؟»

أجابت قائلة: «تماثيل الأوشابتي الصغيرة كانوا بمثابة خدَم للميت، كما تعرف، خدَمه في العالم الآخر. كانت فكرة غريبة، أليس كذلك؟ ولكنها كانت فكرة متكاملة ومُتسقة ومنطقية جدًّا، إذا كان المرء مؤمنًا بالمُعتقد الخاص باستمرار الفرد بمعزلٍ عن الجسد.»

قلت: «أجل، وهذه هي الطريقة الوحيدة للحكم على المنظومة الدينية، من خلال اعتبار المعتقدات الرئيسية أمورًا مُسلَّمًا بها. ولكن يا لها من مهمة؛ إحضار كل هذه الأشياء من مصر إلى لندن.»

«إنها تستحق العناء، لأنها مجموعة رائعة وقيِّمة. وهو عمل فريد جدًّا من نوعه. أنت تلاحظ أن تماثيل الأوشابتي والرءوس التي تُشكل سدادات أوانٍ كانوبية تم تشكيلها بدقةٍ بالغة. والمومياء نفسها، في حالة جيدة جدًّا، رغم أن تلك الطبقة من مادة القار في الخلف لم يُحسَن وضعها. ولكن لا بدَّ أن سبك حتب رجل حسن المظهر.»

«القناع الموجود على الوجه هو صورة بورتريه، أليس كذلك؟»

«بلى، في الواقع، هو أكثر من ذلك؛ إنه بدرجةٍ ما الوجه الحقيقي للرجل نفسه. هذه المومياء موضوعة فيما يُطلق عليه غلاف كرتوني، أي صندوق مُصمم على نفس الشكل. والغلاف الكرتوني تم تشكيله على هيئة عددٍ من طبقات الكتان أو البردي المُلتصقة بالصمغ أو الإسمنت، وحين تم تهيئة الصندوق ليتناسب مع المومياء، فإنه تم قوْلَبته على الجسد، بحيث إن الشكل العام للملامح والأطراف كان واضحًا عادة. وبعد أن جفَّ الإسمنت، تم تغطية الصندوق بطبقةٍ رقيقة من الجص وشُكِّل الوجه على نحوٍ كامل أكثر، ثم تم وضع الألوان على الزخارف والنقوش. وبالتالي، أنت ترى في الغلاف الكرتوني، أن الجسد ملفوف كحبَّة جوز في قِشرتها، على عكس الأشكال القديمة التي تُلَف فيها المومياء وتوضع في تابوت خشبي.»

وفي تلك اللحظة، دوَّى في آذاننا صوتٌ مُحتج بلُطف مُعلنًا بنبرة منغمة أنه حان موعد الإغلاق، وفي الوقت نفسه اقترحتُ رغبةً في تناول الشاي الذهابَ إلى محل الألبان المِضياف. وبإجلالٍ مُتروٍّ تجاهلْنا الموظف الذي قادنا عبر صالات العرض، وشققْنا طريقنا إلى المدخل، ونحن لا زلنا مُنغمسَين في الحديث حول أمور الدفن.

كان الوقت مبكرًا جدًّا عن الساعة التي اعتدْنا فيها ترك المتحف، علاوة على أنه آخِر يوم لنا في الوقت الراهن. ونظرًا لأننا تباطأنا في تناول الشاي لدرجة أن صاحبة المحل كانت تُراقبنا بازدراء، وعندما شرعْنا في العودة إلى المنزل في النهاية، سلكنا العديد من الطرُق المختصرة، حتى وجدنا أنفسنا في الساعة السادسة بعيدًا عن وجهتنا وبالقُرب من لينكولن إن فيلدز؛ حيث قطعنا رحلتنا عبر طريقٍ غير مباشر قليلًا يجتاز (بين عدة أماكن أخرى) ميدان راسل وميدان ريد ليون، عبر طريقٍ غريب بالاسم نفسه، بيدفوردرو، وجوكي فيلدز، وزقاق هاند، وجريت تيرنستيل.

وفي الشارع الأخير، لفت انتباهنا مُلصق لامع مُعلق خارج كشك لبيع الجرائد مكتوب عليه عنوان مُفزع:
المزيد من تذكارات المقتول

حدَّقت الآنسة بيلينجهام في المُلصق وارتعدت.

قالت: «فظيع، أليس كذلك؟ هل قرأت عن هذا؟»

أجبت قائلًا: «لم أطالع الجرائد خلال الأيام القليلة الماضية.»

«بالطبع لم تفعل؛ كنتَ مُستعبدًا في العمل على تلك الملاحظات المُرهقة. نحن غالبًا لا نرى الجرائد، على الأقل نحن لا نتسلَّمهما، ولكن الآنسة أومان زوَّدتنا بها خلال اليوم أو اليومين الماضيين. إنها شريرة صغيرة مثالية. إنها يُبهجها الأهوال على اختلاف أنواعها، وكلما كانت أكثر هولًا، كانت أفضل.»

سألتها: «ولكن ما الذي عثروا عليه؟»

«أوه، رفات مخلوق مسكين يبدو أنه قُتل ومُزِّق إلى أشلاء. إنه أمرٌ مُروِّع. يجعلني أرتعد حين أقرؤه، ولا يسعني سوى التفكير في العم جون المسكين. أما بالنسبة إلى والدي، فقد كان منزعجًا للغاية فعلًا.»

«هل هذه هي العظام التي عثروا عليها في حوض نبات البقلة المائية في منطقة سيدكوب؟»

«أجل، ولكنهم وجدوا المزيد منها. لقد كانت الشرطة أكثر نشاطًا. يبدو أنهم كانوا يُجرون بحثًا منهجيًّا، والنتيجة كانت أنهم اكتشفوا عدة أجزاء من الجثة، مُتناثرة في أماكن متفرقة على نطاقٍ واسع جدًّا؛ سيدكوب ولي وسانت ماري كراي؛ وأمس تم الإبلاغ عن العثور على ذراع في إحدى البرك المسماة كوكو بيتس، بالقُرب من منزلنا القديم.»

قلت: «ماذا! في إيسيكس؟»

«أجل، في إيبينج فورست، بالقُرب من وودفورد. أليس من المُخيف التفكير في ذلك الأمر؟ كانت على الأرجح مُخبَّأة حين كنَّا نعيش هناك. أظن أن هذا أرعبَ والدي كثيرًا. حين قرأ هذا شعر بخيبة أملٍ كبيرة لدرجة أنه جمع كومةً كاملة من الجرائد وأطاح بها من النافذة، وتساقطت من على الجدار، واضطُرَّت الآنسة أومان المسكينة أن تُهرع إلى أسفل وتجمعها من الزقاق.»

«هل تظنين أنه يشكُّ في أنها ربما تكون رفات عمك؟»

«أظن ذلك، رغم أنه لم يقل شيئًا بخصوص هذا، وبالطبع، لم أُلمح إليه بأي شيء. نحن دومًا نحتفظ بالفكرة الوهمية فيما بيننا، الخاصة بالاعتقاد بأن العم جون ما يزال على قيد الحياة.»

«ولكنك لا تعتقدين بأنه كذلك، أليس كذلك؟»

«كلَّا، أخشى أن أقول إنني لا أعتقد ذلك؛ وأنا متأكدة تمامًا أن أبي لا يعتقد ذلك أيضًا، ولكنه لا يُحب أن يعترف لي بهذا الأمر.»

«هل تتذكَّرين ماهية العظام التي عُثر عليها؟»

«كلَّا، لا أتذكر. أعرف أن هناك ذراعًا اكتُشفت في كوكو بيتس، وأظن أنَّ عظمة فخذ أُخرجت من بركةٍ ما بالقُرب من سانت ماري كراي. ولكن الآنسة أومان تستطيع أن تُخبرك بخصوص هذا الأمر، إذا كنتَ مُهتمًّا.» وأضافت الآنسة بيلينجهام بابتسامة: «سيُسعدها أن تلتقي بروحٍ تربطها بها صِلة قرابة.»

قلت: «لم أعرف أنني تربطني صلة قرابة بروحٍ شريرة، لا سيما هذه الروح الشريرة حادة الطباع جدًّا.»

قالت الآنسة بيلينجهام بنبرةٍ يشوبها التوسُّل: «أوه، لا تنتقص من قدرها، دكتور بيركلي! هي ليست سيئة الطباع حقًّا؛ وإنما حِدَّتها هذه من الناحية الظاهرية. ما كان ينبغي لي أن أصفها بالشريرة؛ وإنما هي أحلى وأحنُّ قنفذٍ بشري رقيق، والأكثر إيثارًا، يمكنك أن تلتقي به إذا سافرتَ حول العالم بأكمله. هل تعرف أنها تعمل جاهدة على إصلاح فستاني القديم لأنها حريصة جدًّا على أن أبدو أنيقةً في حفلك الصغير للعشاء.»

قلت: «لا بدَّ أن تحرصي على ذلك، على أي حال؛ ولكني أتراجع عن رأيي الصريح بخصوص طباعها، ولا أقصد ذلك حقًّا، كما تعرفين؛ لطالما أحببتُ السيدة الصغيرة.»

«هذا صحيح، والآن هلا أتيتَ وأمضيتَ بضع دقائق مع أبي؟ لا زال الوقت مُبكرًا رغم كل هذه الطرُق المختصرة التي قطعناها.»

قبلتُ على الفور؛ كنتُ أودُّ أن أتحدث مع الآنسة أومان بخصوص موضوع الضيافة، ولا أريد أن أناقش الأمر أمام أصدقائي؛ ومِن ثَم، دخلتُ وثرثرتُ مع السيد بيلينجهام، بالأساس حول العمل الذي قُمنا به في المتحف، حتى حان وقت عودتي إلى العيادة.

وما إن غادرتُ حتى نزلتُ الدرَج ببطء مُتأنٍّ مُحدثًا صوتًا بحذائي بأعلى ما يمكن، على أمل نتيجةٍ مُتوقعة بأنني حين اقتربتُ من باب غرفة الآنسة أومان، انفتح الباب وأخرجت السيدة رأسها.

قالت: «لو كنتُ مكانك لغيَّرتُ حذائي.»

تذكرتُ عبارة «القنفذ البشري الرقيق» وكدتُ أضحك في وجهها.

«متأكد من أنك ستفعلين، آنسة أومان، ولكن كما تُلاحظين، الشاب المسكين لا يستطيع أن يعتني بمظهره.»

قالت بحدَّة: «أنت شاب وقح للغاية.» وبالتالي ابتسمتُ ابتسامةً عريضة، ورمقتني في صمتٍ بنظرة مُهلكة. وفجأةً تذكرتُ مُهمتي وصرتُ جادًّا ومُتزنًا.

قلت: «آنسة أومان، أنا في أمسِّ الحاجة إلى نصيحتك بخصوص أمر مُهم — بالنسبة إليَّ على الأقل.» (ظننتُ أن هذا من المتوقع أن ينطلي عليها. «طُعم النصيحة» — الذي غفل عنه على نحوٍ غريب، إيزاك والتون — مضمون أن يُؤتي ثماره تحت أي ظروف.) وفعلًا لقد انطلى عليها الأمر. هبَّتْ على الفور وابتلعت الطُّعم، سهم نافذ أصاب الهدفَ قطعًا.

سألتْ بنبرةٍ متحمسة: «بخصوص ماذا؟ ولكن لا تقِف هنا حيث يستطيع الجميع أن يسمعوك باستثنائي أنا. ادخل واجلس.»

لم أكن أرغب في مناقشة الأمر هنا، بالإضافة إلى أنه ليس هناك مُتَّسع من الوقت. وبالتالي تظاهرتُ بالغموض.

وقلت: «لا أستطيع يا آنسة أومان. أنا في طريقي إلى العيادة الآن، ولكن إذا سنحت لك الفرصة كي تمري وتمنحيني بضع دقائق من وقت فراغك، فسأكون مُمتنًّا جدًّا إذا فعلتِ. أنا لا أعرف فعلًا كيف أتصرَّف.»

«كلَّا، لا أتوقع ذلك؛ الرجال نادرًا ما يعترفون، ولكنك أفضل من أغلبهم، لأنك حين واجهتَ صعوبات، حكَّمت عقلك لتستشير امرأة. ولكن بخصوص ماذا؟ ربما يجدُر بي أن أفكر في الأمر.»

قلتُ بنبرة مُراوغة: «حسنًا، كما تعرفين، الأمر بسيط، ولكن لا أستطيع أن أجيد … كلَّا، يا إلهي!» وأضفتُ وأنا أنظر إلى ساعة يدي: «يجب أن أُسرع، وإلا تركتُ الحشود تنتظرني.» وما إن قلت هذا حتى أسرعتُ مبتعدًا، تاركًا الفضول يأكلها بكل معنى الكلمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤