الفصل الأول

(حجرة نائية في منزل فخم بالزمالك … بها فرش وثيرة ومقاعد مريحة، وخزانة للملابس، وخزانة للزينة، وبها نافذة مفتوحة تطل على حديقة المنزل … الحجرة غارقة في الظلام … ولكن شعاعًا من بطارية كهربائية صغيرة ينطلق في الحجرة من جهة النافذة … ويظهر شبح يتسلق جدار النافذة صاعدًا من الحديقة إلى الحجرة …)

(ويتحرك الشبح في أرجاء الحجرة مصوبًا شعاع بطاريته إلى أركانها …)

(ويقع الشعاع أخيرًا على الفرش … ثم على مصحف فوق الوسادة … فيتقدم الشبح إليه … ويتناوله ويقرأ غلافه تحت ضوء البطارية …)

الشبح (يقرأ ثم يهمس في عجب) : مصحف … نشر المكتبة الأحمدية بالأزهر! … (وعندئذٍ تدق الساعة دقة واحدة بعد منتصف الليل … فينطفئ شعاع البطارية في الحال (كالمفزوع) ثم تُسمع أصوات تقترب … فيترك الشبح المصحف فوق الفراش … ويسرع باحثًا عن مكان يختبئ فيه … ويهتدي إلى ستارة النافذة فيختفي خلفها … وعندئذٍ يفتح باب الحجرة … وتدخل الآنسة خيرية … بملابس الخروج … وتدير زرًّا في الحائط قرب الباب فتضيء الحجرة … وإذا خلفها «الباشا» داخلًا الحجرة بملابس الخارج …)
خيرية (تصد الباشا بأدب) : لا تدخل … أرجوك! …
الباشا (يرسل أنظاره في أنحاء الحجرة متنهدًا) : الجنة! … بأي حق تصدينني عن دخول الجنة؟! …
خيرية : انصرف … من فضلك …
الباشا : أي ذنب ارتكبت لأطرد من هذه الجنة؟ …
خيرية : حجرتي ليست الجنة …
الباشا : كل مكان تحلِّين فيه هو بالنسبة إليَّ نعيم معطر بأنفاسك! …
خيرية : إني لفي جحيم … في جحيم …
الباشا : مرحبًا بهذا الجحيم! … مهما يكن من سعير جحيمك فإنه لا شيء إلى جانب نيران قلبي! …
خيرية : أهي رواية السينما التي أخرجتك الليلة عن أطوارك؟ …
الباشا : كان العاشق في الرواية أبرد من لوح الثلج …
خيرية : كان سلوكك معي في السينما غير لائق … أحذرك من أن تمسك بيدي هكذا في الظلام مرة أخرى … تذكَّر أمي التي كانت بجواري … غارقة في ثقتها العمياء، وحبها العميق لك …
الباشا : لم يكن لي على يدي حكم ولا سلطان … لكأن في تلك اليد قلبًا مستقلًّا يدفعها إلى يدك …
خيرية : إنك ستدفعني إلى كارثة …
الباشا : إني واثق أن صدك لن يدوم طويلًا … أوَمستطيع كيانك الرقيق أن يقاوم اللهب … مهما تفعلي فأنت محترقة بما يضطرم به قلبي من غرام …
خيرية (مرتاعة) : بابا …
الباشا : لا تنطقي بهذه الكلمة … لا تنطقي بهذه الكلمة …
خيرية : أرجوك أن تذهب … اذهب …
الباشا : أرجوك أن لا تحرميني هذه اللحظة! … حذارِ أن تحرميني هذه اللحظة بقربك في هذا الليل الساكن الجميل … لحظة واحدة منك أشتريها بكل ما في رصيدي من أموال … اسأليني شيئًا مهما يكن باهظًا … اطلبي … لا تخجلي … ليس أحبَّ إلى نفسي من أن أراك تطلبين إليَّ طلبًا … ولو كان روحي …
خيرية : أطلب خروجك …
الباشا : خروج روحي؟! …
خيرية : خروجك أنت من هنا … من حجرتي الآن …

(الجرس يدق في البهو …)

خيرية : هذه أمي! … أمي تدعو الخدم لتسأل عنك … إنها لم ترك صاعدًا إلى حجرتك … اذهب إليها … اذهب …
الباشا : سأذهب لأخلع ثيابي ثم أعود …
خيرية : إني متعبة … سأغلق بابي وأنام …
الباشا : لا تنامي يا خيرية قبل أن أراك مرة أخرى … وأقدم إليك ما أعددته لك من مفاجأة … ألا تعرفين أني سأفاجئك بما يبهرك؟! …
خيرية : في الصباح … قدِّم إليَّ ما أعددت في الصباح …
الباشا : بل الليلة … إن هذه المفاجأة لا يكون لها معنى إلا في الليل …

(الجرس يرن في البهو …)

خيرية : اذهب قبل أن تقلق أمي وتأتي فتجدك هنا! …
الباشا : إلى اللقاء بعد ربع ساعة، لا تنامي … سأطرق بابك، ولأوقظك …

(يخرج وهو يرسل إليها قبلة في الهواء …)

خيرية (تندفع إلى الباب وتغلقه بالمفتاح) : أف … إلهي … إلهي … أنقذني مما أنا فيه … أرسل إليَّ ملاكًا أو شيطانًا يخرجني من هذا المأزق …

(الشبح يخرج من خلف الستار … وإذا هو شاب وسيم في ثياب نظيفة، ولكنها غير فاخرة.)

الشاب : ها أنا ذا …
خيرية (تصرخ صرخة فزع مكتومة) : النجدة! …
الشاب (يبادر ملاطفًا) : لا تصرخي … ولا تستنجدي … ألست أنت التي سألت الله أن يرسلني إليك؟!
خيرية : من أنت؟ …
الشاب : ملاك أو شيطان … لست أدري …
خيرية (تنظر إلى النافذة المفتوحة بجوار الستارة) : لص؟ …
الشاب : يا للناس! … أهكذا تسمون من يأتي إليكم من السماء؟ …
خيرية : إنك جئت من هذه النافذة …
الشاب : لأنها أسهل طريقة …
خيرية : ماذا أنت تصنع هنا في حجرتي؟ …
الشاب : أولًا … ألا تذكرين أننا تقابلنا قبل الآن؟ …
خيرية : تقابلنا؟! … أين نستطيع أن نتقابل؟ …
الشاب (يتناول المصحف) : من أين اشتريت هذا المصحف؟ …
خيرية : من مكتبة في حي الأزهر …
الشاب : بالضبط … من المكتبة الأحمدية … ألا تذكرين البائع الذي يدير المكتبة … تفرَّسي في وجهي جيِّدًا …
خيرية (تتفرس في وجهه) : أنت! … حقًّا … حقًّا … تذكرتك …
الشاب : كان ثمن المصحف ثلاثين قرشًا … ولكنك دفعت إليَّ ورقة من فئة الخمسة جنيهات … فأوقعتني في حيرة … ولم يكن في المحل وقتئذٍ نقود صغيرة لأرد إليك الباقي …
خيرية : نعم … نعم … أذكر الآن … وقد قدمت إليَّ كرسيًّا … وطلبت لي كوبًا من العرقسوس … من بائع جائل … وذهبت تبحث عن الفكة …
الشاب : تاركًا المحل في حراستك …
خيرية : وجاء في غيبتك بعض الزبائن يسألونني عن كتب في التفسير والفقه … ويدهشون لبائعة في حيِّ الأزهر بثيابي هذه …
الشاب : التي على آخر «موضة»! …
خيرية (تتأمله) : حقًّا … هذا أنت … ولكن ماذا جئت هنا تصنع في حجرتي في مثل هذه الساعة من الليل؟! …
الشاب : جئت كي … أتريدين الصراحة؟ …
خيرية : أريد الصراحة طبعًا …
الشاب : إني الآن خجل من ذكرها … ما كنت أحب القدر يوقعني في بيتك أنت بالذات … وفي حجرتك … ولكني تخيرت منزلًا فخمًا في حي الزمالك، لا أعرف لمن … وبعد أن تمكنت من دخول الحديقة وجدت نافذة مفتوحة، في هذا الطابق الأول … فمن غير المعقول أن أتركها، وأتسلَّق إلى حجرة مغلقة في الطابق الثاني … خصوصًا وأنا حديث عهد بهذا العمل غير الشريف …
خيرية (في دهشة واستنكار) : جئت تسرق؟ …
الشاب : بل أقترض … لقد كان في نيتي أن آخذ من هنا حاجتي من النقود على سبيل القرض … ثقي بذلك … ولو لم تفاجئيني الساعة لوجدت ها هنا قرب فراشك ورقة هي إيصال بالمبلغ، ووعد بالسداد عندما ينجح المشروع …
خيرية : أي مشروع؟ …
الشاب : مشروع تجاري … لا يهمك فيما أظن أن تعرفي الآن تفاصيله …
خيرية : أولا يستطيع البنك أن يقرضك ما تريد؟ …
الشاب : أنا لا أحب التعامل مع البنك … أتدرين لماذا؟ … لأنه لا يثق بي … إنه يقول لي: قبل أن تقترض مني أخبرني أين رصيدك وأين ضامنك؟ … يجب أن أكون غنيًّا ليدفعوا لي … ثراء يقرض ثراء … تلك هي البنوك … خُلقت لتمد الأغنياء. أما بنك الفقراء فلم يُخلق بعد. ذلك البنك الذي لا يطالب المحتاج المعدم إلا برصيد من نيته وضامن من ضميره …
خيرية (تفتح حقيبة يدها) : كم تريد أن أقرضك؟ …
الشاب : مائة جنيه بالتمام …
خيرية : مائة جنيه … هذا مستحيل … إني لا أملك في حقيبتي أكثر من … انظر بنفسك … من ثلاثة وعشرين …
الشاب : آسف … إن سوء الحظ يلازمني … ألا أستطيع يا ربي العثور على مائة جنيه بشرف أو بغير شرف …
خيرية : أنت أيضًا تريد أن تعتدي على الشرف؟! … كل الناس من حولي لا يعنيهم الشرف! … إلهي! إلهي! …
الشاب : عفوًا أيتها الآنسة، أعلم لماذا تقولين ذلك … أنانيتي حبستني في نطاق مصالحي وأهدافي … ولكني أعرف ما أنت فيه … لقد سمعت كل شيء من خلف هذه الستارة …
خيرية : سمعت كل شيء؟ … نعم … لا بد أنك سمعت …
الشاب : إنها حقًّا لكارثة! … أهذا الرجل أبوك؟
خيرية : لا …
الشاب : ليس أباك …؟ ولكني سمعتك تقولين له يا بابا …
خيرية : أقول له يا بابا، ولكنه ليس أبي، (كالشاردة) آه … إن هذا فظيع.
الشاب : ما هذا الاصفرار على وجهك، وما لشفتيك ترتجفان! …
خيرية (تجلس متخاذلة على مقعد) : أرجوك أن تتركني الآن وحدي …
الشاب : أخبريني ماذا بك؟ …
خيرية (تضع رأسها في كفيها) : دعني … دعني لمصيري …
الشاب : لمصيرك؟ … لست أفهم شيئًا … يا له من أمر عجيب … لقد قابلتني بشجاعة … وقد رأيتني فجأة في حجرتك … وها هي ذي شجاعتك تخونك فجأة لأمر لا أعرفه …
خيرية : أرجوك … لا شأن لك بي (تتناول حقيبتها) ألا يكفيك هذا المبلغ الذي معي؟ …
الشاب : ألا تريدين أن تطلعيني على ما يعذبك؟ … ربما استطعت لك بعض المعونة.
خيرية : لا أظن في مقدورك أن تصنع لي شيئًا … تكلم في شأنك أنت … ليس في حقيبتي الآن ما أقدم إليك سوى …
الشاب : صدقت، ليس من حقي أن أسألك الإفضاء إليَّ بأسرارك. فلأرجع إلى شئوني أنا. أصارحك أن المبلغ الذي أحتاج إليه هو مائة جنيه. لا تنقص قرشًا … ولا تزيد قرشًا …
خيرية : ولماذا تصر على هذه المائة جنيه …
الشاب : للمشروع …
خيرية : ما هذا المشروع؟ …
الشاب : اسمعي … لا بأس عندي الآن من أن أطلعك على مشروعي … بل ولا ضير من أن أكشف لك عن كل حياتي. أنا يا آنستي كنت طالبًا في كلية الآداب … وكان أبي موظفًا في إحدى الشركات الكبرى، وله سبعة أولاد غيري … فمات ولم يترك لنا شيئًا … إنما ترك بعض أولاده عاجزين عن مواصلة دراستهم … فتشردوا يطلبون الرزق من أعمال مختلفة، وكان نصيبي هذا العمل في المكتبة التي رأيتني فيها بحي الأزهر … صاحبها أميٌّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة. فكنت أنا له اليد اليمنى بل المعين والعقل والروح … وأخلصت لعملي كل الإخلاص … فكنت أنا الذي أعقد له صفقات الكتب القديمة والحديثة … وأقتني له المصاحف النفيسة والرخيصة، وأبيعها له بأحسن الأثمان وآتي له بأوفر الأرباح … وأنظم له المكتبة وأنظفها وأكنسها وأنفض الغبار عن رفوفها وأرش بالخرطوم أمام بابها … بينما يجلس هو يدخن الشيشة ويشرب الشاي الأخضر في المقهى المجاور … ثم فوق ذلك أحتال له على مغموري المؤلفين فآخذ منهم مؤلفاتهم وعصير أذهانهم بأبخس الأجر … ملوِّحًا لهم بسراب المجد نافخًا فيهم روح الفخر … فيطبعها هو، أو على الأصح أباشر أنا طباعتها له وأُشرف على نشرها … فيكون له من وراء ذلك جميع الغُنم … ولمؤلفيها الأفاضل المتضورين جوعًا لا شيء غير الوهم … وكان لي على كل هذا التفاني في الخدمة والإخلاص في العمل مرتب شهري … أتدرين كم مقداره يا آنستي؟ …
خيرية : كم؟ … عشرون جنيهًا على الأقل …
الشاب : سبعة جنيهات لا غير …
خيرية : ماذا تقول؟ …
الشاب : الحقيقة. وكلما رجوته أن يرفع مرتبي قليلًا بكى واشتكى ثم هدد وتوعَّد … ثم جعل أذنًا من طين وأخرى من عجين … وردد عبارته الدائمة: «اصبر وتحمل»، فصبرت وتحملت إلى أن شيَّد فوق أكتافي عمارة في السكة الجديدة مكونة من سبع طبقات … وأخيرًا يا آنستي حدث ذات يوم أن دب بيننا خلاف … إذ اتهمني بأني حابيت مؤلفًا مغمورًا فاتفقت معه على أجر لكتابه استكثره عليَّ واستهوله … مع أنه أجر لا يكاد يمسك الرمق … فصرخ في وجهي وشتمني وسبني، وسمع كل أهل الحي صياحه وهو يقول لي: «سرقتني! جعلت المؤلفين يسرقونني أيها اللص … أيها اللص …» ونسي خدماتي الطويلة له … وعرقي الذي سال في جيوبه ذهبًا وهو جالس، بشيشته، في المقاهي … فطردني أشنع الطرد … نعم طردني أمس فقط … فخرجت من دكانه على غير هدًى … لا أدري ماذا أصنع … أسائل نفسي: ما هو ذلك الشيء الذي جعل منه سيدًا وجعل مني كلبًا؟ … أهو العلم؟ … لا … أهو العمل؟ … لا … فأنا الذي من نصيبي هذان الشيئان! … ما هو ذلك الشيء إذن؟ … لا شك أنها تلك (المائة جنيه) التي اعترف لي يومًا قائلًا بزهوٍ إنها كانت كل رأسماله الذي فتح به تلك المكتبة في أول عهدها! … نعم … مائة جنيه … عندئذٍ أقسمت أن أعثر على مبلغ ١٠٠ جنيه مثل التي فتح بها مكتبته من أي طريق لأفتح مكتبة وأستخدم موظفًا أعتصر جهوده قطرةً قطرة وأشيد فوق كاهله — حجرًا حجرًا — عمارة من سبع طبقات في السكة الجديدة أو الحسينية أو حتى باب الشعرية! … ذلك هو مشروعي أيتها الآنسة.
خيرية : نعم … نعم … فهمت … ولكن …
الشاب : لكن ماذا؟ …
خيرية : كل هذا لا يبرر أن تكون لصًّا؟! …
الشاب : وهل كنت كذلك حقًّا عندما اتهمني مخدومي ظلمًا وصاح بي في حي الأزهر: أيها اللص … لقد كنت وقتئذٍ أشرف إنسان … ولكن الناس صدقوه هو … وما دار في خلدهم قط أن اللص الحقيقي هو ذلك الصارخ المستنجد … ما عاد يهمني مصدر النقود يا آنستي … ما دمت لم أُضبط … وما دام في جيبي هذه المائة جنيه، فسوف أرغم الدنيا كلها على احترامي وأتهم بملء فمي أشرف الناس باللصوصية …
خيرية : إني أعذرك … وأدرك ما أنت فيه … إن الإنسان في مثل موقفك ليثور أحيانًا على كل الأوضاع … ويفقد إيمانه بالفضيلة … ولكني مع ذلك لا أقرك على هذا المسلك … ثق أني لا أقولها تنصلًا من إعطائك ما تريد … فإني سأدبر لك المبلغ مهما يكلفني ذلك … ولكن لن أنسى مطلقًا أنك لص ضبطته في حجرتي …
الشاب : رأيك فيَّ له قيمته ولا شك … لكن الذي أطمع فيه الآن ليس نبل المسلك، ولا حسن السمعة … ولا طيب الأحدوثة …
خيرية : أخشى أن تندم يومًا على هذه الزلة.

(يُسمع طرق خفيف على باب الحجرة … فيرتبك الشاب ولا يدري ما يفعل … ويضع أصبعه على فمه طالبًا من الفتاة أن لا تكشف أمره … ويستمر الطرق فيسرع الشاب إلى الاختفاء خلف ستارة النافذة، بينما تتجه خيرية إلى الباب وتلمس مقبضه ولا تفتحه …)

الباشا (يهمس من خلف الباب) : أنا يا خيرية … هل أدخل؟ …
خيرية (تنظر إلى الستارة ثم إلى الباب مترددة ثم تسرع قائلة) : لا … لا يا بابا … لا تدخل الآن … إني … إني لم أخلع ثيابي بعد …
الباشا (همسًا من الخارج) : خذي راحتك … سأعود بعد قليل …

(يسكت صوت الباشا … وتظل خيرية لحظةً بلا حراك تنظر إلى الباب … ويبرز الشاب رأسه خلف الستارة فتلتفت إليه الفتاة طالبةً إليه بإشارة من يدها ألا يحدث صوتًا ولا ضجة …)

الشاب (يخرج من خلف الستارة هامسًا) : شكرًا لك أيتها الآنسة … لقد أنقذت حياتي … أو حياة ذلك الرجل … إذ لو كان دخل وضبطني …
خيرية : يجب أن تذهب الآن.
الشاب : نعم … قبل أن يعود …
خيرية (كالمخاطبة لنفسها) : يعود؟ … نعم … إنه لا شك عائد الليلة! … إني أفضل أن أفتح بابي هذا للموت على أن أفتحه الليلة لهذا الرجل …
الشاب : هذا الرجل الذي يعرض عليك غرامه … ويعد لك مفاجأة …؟
خيرية : ألا تستطيع الأرض أن تبتلعني قبل أن يأتي؟ … ألا تستطيع السماء أن تخطفني؟ … أين أذهب؟ … أين أهرب؟ …
الشاب : لو أخبرتني بأمرك أيتها الآنسة؟! … لقد أخبرتك أنا بأمري … إني أراك في محنة لا أعرف ما هي؟ … أطلعيني على محنتك؟ … ثقي أني حفيظ لأمانتك. إنها لسعادة كبرى أن تتيح لي الظروف أن أكون موضع سرك!
خيرية : بل قل إنها لسخرية كبرى! … لكن … ما حيلتي … ما من شيء أمسى يصدمنى أو يحرجني بعد هذا الحرج الذي أنا فيه … إني لست فقط في حرج … بل إني لفي خطر … نعم … إني في هذه الحجرة أشد تعرضًا للخطر منك أنت …
الشاب : تتعرضين للخطر وأنت في حجرتك هذه أيتها الآنسة؟! … ليس لي حق التدخل في حياتك أو الاطلاع على شئونك … ولكن واجبي كإنسان تتحتم عليه حمايتك، يرغمني على أن أطلب إليك الإفضاء إليَّ في الحال بأمرك! … تكلمي … بل أحتم عليك الكلام …
خيرية (تطرق لحظة تفكر ثم ترفع رأسها) : اسمع إذن يا سيدي … اللص أو المفترس أو المجتهد أو ما شئت لا تهمني صفاتك ولا مؤهلاتك … كل ما يهمني أنك إنسان … أستطيع الآن أن أُسمعه قصتي التي كتمتها في صدري وكدت بها أختنق … قلت لك إن هذا الرجل ليس أبي … لقد مات أبي منذ أكثر من ثمانية أعوام … وكنت في الثالثة عشرة … فلم ينقضِ عام حتى تزوجت أمي هذا الرجل … فقد كانت في عنفوان جمالها … وما كان من الممكن أن تظل طويلًا بلا زوج؛ فتتعرض لأقاويل الناس … ومنذ زواجها أُلحقتُ بالقسم الداخلي في المدارس الأجنبية إلى أن تخرجت منذ شهور … وكان لا بد لي بعدئذٍ أن أتخذ هذا البيت سكنى … وأن أعيش مع والدتي وزوجها. ولقد أوصتني أمي أن أتخذ من هذا الرجل أبًا … فأطعتها وصرت أناديه يا بابا … وكان هو يحدب عليَّ حقًّا … ويحوطني بعطف وعناية وحنان امتلأ بها قلبي اطمئنانًا، وأفعم بها قلب والدتي اغتباطًا … ومرت الأيام وهو يزداد حرصًا على إرضائي وتدليلي ويكثر من الذهاب بي إلى السينما مع والدتي أحيانًا وأحيانًا بدونها … وفي الظلام الدامس يأخذ يدي في يديه … ويميل بوجهه حتى يلامس خده شعري … وأحس حرارة أنفاسه تهب لافحة محرقة على أذني كريح الخماسين … إنها ليست حرارة الحب الأبوي … إنها شيء ارتجف له قلبي خوفًا … وجسدي اشمئزازًا، وصرت أُظهر التعامي والتجاهل وأبدي التغابي والتغافل. وصار هو يلاحقني بالتلميح تارة ثم بالإشارة … ثم أخيرًا بالتصريح … ثم انتهى إلى التوسل والتذلل والترغيب والإغراء … لا يخجله استنكاري الذي أبديه بفزع وجزع … ولا تصده عني كلمة «بابا» التي ألقيها بيني وبينه كأنها تعويذة تقى من شيطان … لقد أسفر الآن عن وجه مأربه … إنه لا يراني كابنته … ولكن كامرأة … وهو يريدني بأي ثمن أن أكون له …
الشاب (مرتاعًا) : ماذا؟ … (هامسًا) عشيقة؟! …
خيرية : صه! … نعم … يا له من أمر فظيع كما ترى! … ولكنها حقيقة الموقف … إنه يريد أن يسلبني أعز ما أملك … ولا يفطن إلى فداحة ما يأخذ مني … نعم … لقد هالني أنه يريد ذلك ببساطة … وبغير تفكير … كأنما هو شيء طبيعي؛ شأن من اعتاد أن يأخذ كل ما يريد بلا تفكير ولا جهد … وهو معتاد ذلك ولا شك … هذا «الباشا» الذي يدخن سيجاره الكبير ويجلس في ناديه، وعلى النقود أن تُصب في حساباته الجارية في البنوك دون أن يحفل كيف تنبعث ولا كيف صنعت … فهو كما قد تعلم مساهم في كل الشركات تقريبًا … إنه من أولئك المدرجة أسماؤهم في تلك القائمة الخاصة التي توزع فيما بينها أسهم كل شركة مضمونة الربح قبل أن تعرض النفاية القليلة على الجمهور؛ ذرًّا للرماد في العيون … إنك لا شك سمعت عن هذا النوع …
الشاب : من رجال الأعمال …
خيرية : نعم … كما يقولون … هؤلاء الذين يأخذون المال من الأعمال ويتركون للآخرين الأعمال بغير المال …
الشاب : مثل صاحب مكتبتي …
خيرية : أرجوك … لا تفكر الآن في أمرك … أصغ إلى مصيبتي أنا … فهي أفدح من مصيبتك … إن ذلك الذي يشتري عرقك بدراهم … ليس مثل الذي يشتري عرضي؛ مهما يكن الثمن … إن هذا الباشا الذي أدعوه أبي لا يريد أن يفهم خطورة ما يريد … لقد جعل يبذل لي من الهدايا ما أدهش والدتي، ما من أسبوع يمر دون أن يقدم لي حلية من ماس أو لؤلؤ حتى امتلأت خزانة زينتي هذه الجواهر (ينظر الشاب إلى الخزانة مليًّا). إن قاموس هذا الرجل لا يحوي غير كلمة واحدة: النقود … ذلك أنه لا يطالع في الدنيا غير وجهها وحده … فبها يتنفس ويعيش ويبطش. ليس أخطر من إنسان لا يدرك أن في الحياة قيمًا أنفس من المال وأسمى … لذلك عجزت عن أن أُفهمه لغتي.
الشاب : إنها عين العقلية عند هؤلاء جميعًا … إن الذهب ليس فقط نوعًا من المعادن النفيسة، ولكنه أيضًا نوع من المعادن السامة، قاتلٌ لكثير من الفضائل الإنسانية … إني مقدر للخطر الذي أنت فيه، وأخشى أن يكون الأمر قد …
خيرية : لا … لم يقع شيء بعد … إني أدافع عن نفسي دفاع المستميت … ولكن هجومه شديد … كان الأمر يسيرًا عليَّ يوم كان يكتفي بمغازلتي في البهو نهارًا أو في ظلام السينما. ولكنه تجرأ منذ أيام على اقتحام حجرتي في الليل بعد أن تنام والدتي والخدم …
الشاب : ألم تخبري والدتك؟ …
خيرية : كيف تريد أن أخبر هذه المسكينة؟ إنها تهيم به حبًّا … أي فاجعة تصيبها لو علمت … ثم هي وحيدة فقيرة لا عائل لها غيره. وهنا موضع ضعفي الذي يستغله هذا الرجل … عندما طرق بابي في الليل أول مرة … همس راجيًا أن أفتح له لأمرضه؛ فقد زعم أنه أصيب ببرد في الكلى … ويريد شرابًا ساخنًا، ولا يود إزعاج والدتي … فلم يسعني إلا أن أفتح له؛ فدخل يبسم ويلثم يدي … ويضع في معصمي سوارًا فاخرًا … فأطرقت شاحبة مرتجفة وزجرته برفق واحتلت عليه حتى خرج … لكنه كرر هذا العمل بعد ذلك؛ فرفضت عندئذٍ أن أفتح له الباب … وهنا بدأ يتوعد ويتهدد بأنه سيوقظ أهل المنزل ويجعلها فضيحة ويطلق والدتي. فهو وحده الذي يستطيع أن يبطش بها ويطردها ويشردها. وأنا وحدي كما يقول، التي أستطيع أن أشتريها وأنقذها وأدرأ عنها وأحميها … ففتحت له وجعلت أتضرع إليه وأبكي بين يديه، ولكنه ما كان يذعن وينصرف إلَّا على وعد بالرجوع في ليلة أخرى … وعلى أمل بأن يظفر يومًا بما يسميه الرضا والوصال. تلك حالي. ماذا أصنع؟ … أخبرني … ما من أحد جرؤت على أن أفضي إليه بهذا السر … انصحني بما يجب أن أفعل، إن مقامي في هذا البيت أمسى مستحيلًا … وخروجي منه ليس أيضًا بالأمر اليسير … فهذا الرجل لا يقبل طبعًا مغادرتي لمنزلي وسكني عند أهل والدي المرحوم … وهؤلاء أيضًا ليسوا الآن في ظروف عائلية تسمح لهم بإيوائي … ومن المتعذر أن أتزوج … فهذا الرجل يرفض ويطرد كل خاطب … وليتني تعلمت في الجامعة أو غيرها ذلك النوع من التعليم الذي أستطيع به اكتساب رزقي في الحياة … والاستقلال بنفسي … إني حيرى، ضعيفة، مهددة في شرفها في كل لحظة … لا أجد غير هذا المصحف … جئت به لأستمد منه الشجاعة والعزاء … أطالع فيه كل ليلة آية بعينها: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا … وإني لأتخذه درعًا كلما دخل عليَّ هذا الرجل ليلًا … أتناوله في يميني لأخجله … وأجعله بيني وبينه سدًّا يحميني … إني تعسة … تعسة (تخرج منديلها وتكفف دموعها) …
الشاب : لا تبكي يا آنسة … إن الذي يجب أن يسيل ليس دمعك … بل دم هذا الشقي … أصغي إليَّ جيدًا … تريدين مخرجًا من كارثتك؟ … لا أرى الآن غير حل واحد …
خيرية : ما هو؟ …
الشاب : هذا الحل الوحيد هو … أتعديني أولًا أن لا تترددي؟ …
خيرية : ما هو؟ …
الشاب : قتل هذا الرجل … إنه عائد إليك الآن … سأكمن له خلف هذه الستارة … فإذا دخل حطمت رأسه بهذا (يلتفت حوله باحثًا فيرى كرسيًّا) بهذا الكرسي … ثم خنقته بيدي … وقفزت من هذه النافذة حاملًا جواهرك … وبعد ذلك تصيحين (اللص … اللص) بهذا أبني أنا لنفسي حياة جديدة … وتتحررين أنت منه، وتتنفسين حياة طليقة شريفة …
خيرية : شريفة؟! … بعد هذا الجرم؟! … أجننت؟ … أيخطر في بالك أني أوافقك على ارتكاب جريمة؟! … وهل تظن أنك بهذا الحل المنكر تسعدني؟ … وقد شقيت أمي بموت الرجل الذي تحبه؟ … ثم أنت؟ … كيف يسوِّغ لك ضميرك مثل هذا الفعل الأثيم؟! …
الشاب : لقد رضيت لنفسي أن أكون لصًّا … فهل أرفض من أجلك أن أكون قاتلًا؟!
خيرية : لا … لا … إنك قد زللت بدخولك حجرتي كلص … وقد كدت أعتقد أنك الآن نادم على هذه الزلة … فلا تفجعني في عقيدتي …
الشاب : أيهمك أن أكون رجلًا شريفًا؟ …
خيرية : نعم …
الشاب : الآن؟ … وأنت معرضة لهذا الخطر الذي يهدد طهرك؟! …
خيرية : سأدافع عن نفسي … وأظل أدافع حتى أموت … ولكن لا ينبغي لك ولا لي أن نفقد الشرف دفاعًا عن الشرف …
الشاب : أنت فتاة غريرة؛ تتغذين بالكلمات … بينما الآخرون يتغذون بدمائنا …

(يُسمع طرق خفيف على الباب … وصوت الباشا يهمس: خيرية … خيرية … فترتعد الفتاة …)

خيرية (بصوت مرتفع) : انتظر لحظة يا … بابا … لحظة (للشاب هامسة) اذهب من النافذة بسرعة … اذهب … اذهب …
الشاب (همسًا) : سأبقى … وسأنفذ ما في رأسي …

(يجذب الكرسي قرب الستارة ثم يختبئ خلفها.)

خيرية (همسًا) : أتوسل إليك … أتوسل إليك أن لا تقدِم على هذا الإثم …
الشاب (همسًا وهو يطل برأسه من خلف الستارة) : إذا استفزتني دناءة هذا الرجل فلن أضبط أعصابي …
الباشا (من الخارج) : من عندك يا خيرية؟ … أسمع كلامًا في حجرتك … افتحي حالًا (يدير مقبض الباب).
خيرية (تسرع إلى فتح الباب فيدخل الباشا في روب دي شامبر حريري) : إني متعبة … وما كان ينبغي أن أذهب إلى السينما الليلة … كنت أود أن آوي توًّا إلى فراشي.
الباشا (يتأملها) : ومع ذلك لا تزالين بملابس الخروج … من كنت تحادثين (يجيل بصره في الحجرة) خيِّل إليَّ أني سمعتك تخاطبين أحدًا.
خيرية (رابطة الجأش) : نعم … خيِّل إليك … أوَلم تقل إنك عائد … لم أرد خلع ملابسي انتظارًا لمجيئك.
الباشا : أحقًّا … كنت تنتظرينني أنا؟ …

(يجول في الحجرة منقبًا بعينيه … ويدنو من النافذة المفتوحة ويطل منها …)

خيرية : عمن تبحث؟ …
الباشا : الليل ساكن … والهواء منعش … والشجر في حديقتنا يهمس … و… (يلتفت إليها) وجمالك مغرٍ … وشبابك يسحر … ونضارتك تسكر …

(يجلس إلى الكرسي المجاور للستارة …)

خيرية (تسرع صائحة) : لا … لا تجلس على هذا الكرسي …
الباشا : لماذا؟ …
خيرية (مخفية ارتباكها) : إنه بجوار النافذة وبرد الليل مضر لمن في سنك …
الباشا : إني لست مسنًّا متهدمًا يا عزيزتي خيرية … ومع ذلك أشكر لك هذا الحرص على صحتي (ينهض من الكرسي ويجلس على المقعد الكبير وظهره للستارة) ما دامت صحتي تهمك … فأنا إذن أهمك.
خيرية (بفتور) : طبعًا …
الباشا : هذا تقدُّم كبير يا خيرية، لقد بدأ العقل يهديك … وبدأت تقدرين حبي، وتدركين أن صدك لا معنى له … وأن صداقتي خير لك وأبقى … اعترفي أنك كنت مخطئة يوم أظهرت لي بعض النفور …
خيرية : إني لا أنفر منك يا بابا … ولكن …
الباشا : بابا؟ … أتلفظينها عمدًا؟ … نبهتك كثيرًا إلى أن هذه الكلمة تجرح إحساسي … تريدين إيهامي أيتها الخبيثة أني لا أصلح لك حبيبًا …
خيرية : أرجوك ألا تتفوه بهذا الكلام المعيب الشائن المخجل البذيء …
الباشا : حياؤك؟ ما أجمل احمرار خديك وأنت تقولين لي ذلك … حياء العذارى يزيدك فتنة وإغراء ويزيد قلبي هيامًا … خيرية، عثرت لك على بروش من الماس (يخرجه من جيب الروب) مبتكر الصياغة، لم يوضع مثله على صدر امرأة … إنه يمثل شق القمر (ينهض ويدنو من خيرية) دعيني أضعه يستمد الحرارة من هاتين الشمسين الطالعتين من هذا الصدر …

(يمد يده إلى صدرها …)

خيرية (صائحة) : لا تلمسني (الستارة تهتز قليلًا).
الباشا : لا تصيحي هكذا … أتريدين أن توقظي والدتك والخدم؟ …
خيرية : اخرج …
الباشا : ما هذا الارتجاف في صوتك؟! … إنك خائفة مني …
خيرية : إنك لا ترى نفسك … إن ما تأتيه لبشع …
الباشا : أتعودين؟ … لقد مضى الحديث في ذلك كما تعلمين … إنك لن تصدي عنك غرامي بآرائك الصبيانية … لقد صبرت أكثر مما ينبغي ومما أحتمل … لقد كنت ضعيفًا أمام تمنُّعك وتعلُّلك … وكنت أغادر في كل مرة خائبًا فارغًا … حتى ولا قبلة صغيرة أنالها منك … أقسم لك أني لن أتركك الليلة حتى أنال …
خيرية : تنال شرفي! …
الباشا : عدنا إلى هذه الكلمات التي تعكر الجو … خيرية … أنت تعرفين جوابي في ذلك … أنا عندي أيضًا كلماتي المعكرة … وإذا كنت تحرصين على سعادة أمك …
خيرية : أعرف سلاحك الدنيء …
الباشا : ماذا تقولين! … لا يعنيني أن أسمع … ما من شيء يخرج من شفتيك الرطبتين يسيئني أو يؤلمني … أيتها النحلة المحبوبة، الذعي ما شئت … فإن الذي يهمني هو عسل فمك! …
خيرية : أنت يا من لا تعرف غير لغة الأخذ والشراء … أريد أن أشتري منك طهري … ماذا تطلب في مقابله … كم أدفع لك فيه؟ …
الباشا : أنا الذي أدفع في قبلة منك كل مال الأرض يا خيرية … أرجوك ألا تسمي الأشياء بغير أسمائها … أهنالك اليوم فتاة تتحدث هكذا عندما تجد الغرام … إني لست غرًّا … رجل حنكته الدنيا … إذا رفضت حبي فمعناه أنك تحبين آخر …
خيرية : آخر؟! …
الباشا : نعم … رجل آخر لا تكرهين أن تمنحيه فمك … فمن هو إذن حبيبك الآخر الحقيقي أيتها الماكرة …
خيرية : ليس لي حبيب …
الباشا : أنا إذن حبيبك … لأن هذا الهيكل البديع … لا بد له من عابد يحرق البخور وينثر العطور … خيرية … هذا القمر الماسي لم يزل في يدي مظلمًا معتمًا … دعيني أجعله يضيء في صدرك …

(يمد يده بالمشبك الماسي إلى صدرها …)

خيرية : ابعد عني أيها الرجل … لا تلمسني …

(الستارة تهتز بعنف …)

الباشا : كل فتاة قالت هكذا … وهكذا في أول الأمر صاحت … وكان لا بد أن تؤخذ منها القبلات غصبًا … لن يروعني صدك … أنت لي يا خيرية … لن تهربي الليلة من ذراعي …

(يهجم عليها ليضمها فتدفعه عنها … وتبرز عندئذٍ يد الشاب من خلف الستارة لتتناول الكرسي القريب …)

خيرية (تلمح الستارة ويد الشاب فتصيح) : لا … لا … لا تفعل … لا تفعل …
الباشا : لا تصيحي هكذا … ستوقظين البيت …
خيرية : لا تفعل … من أجلي … من أجلي …
الباشا (متعجبًا) : من أجلك؟ … ماذا تقصدين؟ … لماذا تنظرين جهة النافذة.
خيرية (حاضرة البديهة) : أُلقي بنفسي منها … إذا فعلت أنتحر … أسامعني أنت؟ … إياك … إياك …
الباشا (مصغيًا إلى ناحية الباب) : أسمع صوتًا يقترب …

(صوت الأم في الخارج يصيح …)

الأم (من الخارج) : خيرية … أتصرخين … ماذا بك؟ …
الباشا (هامسًا بسرعة) : تصنَّعي المرض يا خيرية … بسرعة … رأفةً بأمك …

(خيرية تضجع على فراشها سريعًا …)

الأم (تدخل) : ماذا جرى (تنقل بصرها بين ابنتها وزوجها).
الباشا : يظهر أنها أصيبت ببرد وهي في السينما … برد في الكلى … وقد تنبهت أنا فبادرت إليها … ولم نشأ إزعاجك …
الأم (لزوجها) : أشكر لك اهتمامك بها. (لابنتها) أتشعرين بألم يا خيرية …
خيرية : لا يا ماما … لقد زال الآن كل ألم … إنه ليس بردًا في الكلى كما حسبنا … إنها مجرد وخزة بسيطة عابرة في جنبي وانصرفت …
الأم : هل أحضر لك شرابًا ساخنًا …
خيرية : لا لزوم يا ماما … لا أشعر الآن بشيء … كل ما أحتاج إليه هو النوم والراحة.
الأم : لم تخلعي ملابسك بعد … هل أساعدك على خلعها؟ …
خيرية : أشكرك يا ماما … سأخلعها بنفسي الآن …
الباشا : دعيها تستريح … فلندعها لتستريح … هلمي بنا (يأخذ يد زوجته ليخرجا معًا).
الأم (تسحب يدها منه برفق) : سأتبعك بعد قليل. عد أنت إلى فراشك …
الباشا (وهو يخرج) : لا تطيلي المكث هنا وهي متعبة … إنها كما ترين في حاجة إلى الراحة (يخرج) …
الأم (لابنتها) : ألا تحتاجين إلى شيء يا خيرية؟ …
خيرية : لا يا أماه … اذهبي إلى فراشك أنت أيضًا …
الأم (ترى المشبك وتتناوله) : ما هذا البروش الملقى بجوارك … هو طبعًا الذي أهداه إليك؟ …
خيرية : نعم …
الأم : الليلة؟ … نعم، لا بد أن يكون الليلة … لأني لم أره من قبل …
خيرية : نعم … الليلة …
الأم (تضعه بجوار ابنتها) : مبروك … لديك الآن ثروة من جواهره يا خيرية.
خيرية : نعم …
الأم : ما كنت أتصور يومًا أن يتفتح قلبه لك على هذا النحو …
خيرية (تنظر إلى أمها مليًّا) : ماذا تقصدين؟ …
الأم : إنك لا شك تشعرين بمقدار عنايته بك يا خيرية …
خيرية : نعم … إنه شديد العناية بي …
الأم : ألاحظ ذلك … وها هو ذا نفسه يبادر إليك في جوف الليل ليسهر على راحتك …
خيرية : إني ما أردت قط أن يهتم بي ذلك الاهتمام …
الأم : أهذا شعورك حقًّا؟ …
خيرية : أراك لا تصدِّقين … ما عدت تصدقين ابنتك التي لم ترزقي غيرها … ولكني أقسم يا أماه … أقسم لك أن هذا شعوري حقًّا …
الأم : يدهشني ذلك منك يا خيرية … كم أتعذب بسببك …
خيرية (تمسك بيد أمها) : أعرف يا أماه … أعرف … ولو علمت كم أتحمل أنا من أجلك … إن سعادتك يا ماما هي وحدها التي تلهمني الصبر وتدفعني إلى الرضا صامتة بما أنا فيه …
الأم : بما أنت فيه؟ … ماذا أسمع منك يا خيرية … أنت حقًّا إلى هذا الحد لست سعيدة هنا …
خيرية : سعيدة بجوارك أنت وحدك …
الأم : يا لنكران الجميل! … ماذا كنت تطمعين في أن يصنع لك كي يرضيك … ألا تكفيك هذه الهدايا التي يغدقها عليك … بمناسبة وغير مناسبة … وهذه النزهات وهذه الملاهي التي يخرجك إليها في كل آن، وهذا الإغراق في الإعزاز والتدليل والحنان، وهذه اللهفة والحماسة والحرارة التي تبدو في نظراته ونبراته كلما حدثك أو دنا منك … أو تعلق الأمر بك … إذا صدق ظني فأنت معبودته الصغيرة … أنت شغله الشاغل … أنت كل ما في عقله وقلبه وفكره … اسمك هو الكلمة الأولى التي يلفظها عند دخوله البيت … إن ألذ لحظاته ساعة يجلس إليك … إن كل ما يسره الآن أن يبقى بجوارك … وكل ما يسعده أن يلصق بك دائمًا … ولا يفارقك أبدًا … إنه لمن الواضح يا خيرية أنك الآن كل شيء في حياته …
خيرية (تنظر إلى أمها لتستشف ما وراء كلامها) : وأنت يا ماما؟ … أراضية بهذا؟ …
الأم : ماذا تقصدين؟ … أنا التي يجب أن ألقي عليك هذا السؤال؟ …
خيرية : لا شيء يرضيني غير سعادتك أنت يا أمي … هل أنت الآن سعيدة؟ …
الأم : أرى أنك تكثرين من الحديث في سعادتي … لا تشغلي بالك كثيرًا بأمري يا ابنتي … هنالك أحوال لا يحق فيها لأم أن تفكر في هناءتها هي … إنك وحيدة يا خيرية … ولست أدري كيف أتصرف نحوك … وما واجبي حيالك … ولكني عظيمة الثقة بالله … وبشجاعتك … إن الحياة يا بنيتي لتضعنا أحيانًا في ظروف لا يستطيع غير الله وحده أن يجد لها مخرجًا … لقد وضعت أمرك في يد الله … وهو خير مصرف للأمور … نامي الآن يا خيرية … بملء جفنيك … وأريحي نفسك وفكرك … أتركك في حمى الله … تصبحين على خير …

(تقبلها وتخرج وتغلق الباب خلفها … وعندئذٍ تقفز خيرية من مضجعها ويبرز الشاب من خلف الستارة …)

خيرية (للشاب) : سمعت حديثها؟ …
الشاب : نعم … ولم أفهم منه شيئًا …
خيرية : ولا أنا … إن موقف والدتي ما زال شديد الغموض … لم أستشفَّ منها بعدُ إذا كانت تعرف أم تجهل …
الشاب : يبدو لي أنها تجهل وأنها تحسب اهتمام هذا الوغد بك عطفًا أبويًّا …
خيرية : أتظن ذلك … أخشى أن تكون عارفة وتتجاهل ببراعة … ولمَ لا تقول إن هذه الأم المسكينة تعرف … ولكنها لا تدري كيف تتصرف! … وهي تخاف أن تثيرها في هذا البيت عاصفة تنتهي بجرفنا جميعًا … وفضيحتنا الشاملة في المجتمع … إني أعرف والدتي … سيدة متدينة … شديدة الإيمان بالله … وقد ورثت ذلك عنها … نعم … ربما آثرت إخفاء شعورها عن الجميع … وترك الأمر لتدبير المولى وحده …
الشاب : دعينا الآن من علمها بالحقيقة أو جهلها … مهما يكن من أمرها فإن عليك أنت اليوم أن تحددي موقفك … وأن تقرري شيئًا …
خيرية : لست أرى غير شيء واحد … أن وجودي في هذا البيت أمسى متعذرًا … إن شجاعتي لن تخونني … ولكني أخشى لؤم هذا الرجل وجرأته على سلوك كل سبيل دنيء … كفاحي ضد مآربه الآثمة يجب أن يوضع له حد … وشكوكي في أمر أمي التي قد تكون ملاحظة لكل شيء وتعيش صامتة تتعذب، يجب أن يوضع لها حد … ما رأيك أنت؟ …
الشاب : لقد رأيت لك الحل … ولكنك فزعت وصحت بي صيحة دهتني ومنعتني من التنفيذ …
خيرية : آه … لا تذكرني … عندما مددت يدك إلى الكرسي لترتكب جريمتك شعرت كأن روحي تسقط في الجحيم …
الشاب : وأنا عندما لمحت من خلف الستارة يد ذلك الرجل تمتد إلى صدرك … شعرت كأن نيران الجحيم كلها تأكل قلبي … وأن دم هذا الرجل حلال كدم كافر يلقي الدنس على أعتاب حرم مقدس …
خيرية : أعتاب حرم مقدس! … يا له من تشبيه! … يسرني أن أتلقى منك هذا التشجيع.
الشاب : العفو، أعترف أنه أمر مضحك حقًّا أن تتلقَّي ذلك التشجيع مني … أنا الذي ما تشرفت بزيارتك إلا من هذه النافذة … ولكن ثقي، على الرغم من كل شيء … أني رجل بدأ يحس الآن الطهر يدب في روحه كأنه خمر ما كنت أظن الفضيلة تعدي كالمرض بهذه السرعة …
خيرية : إنك لم تكن يومًا، فيما أعتقد، روحًا شريرًا … ولكن الغضب أضلك وظُلم الأقوياء أعماك، والرأي الفاسد أغواك … فأشرفت على الزلل …
الشاب (بعد تفكير كالمخاطب نفسه) : كانت بالفعل زلة … يداخلني إحساس غريب أني لا بد دافع ثمنها يومًا …
خيرية : انسَ كل شيء الآن … وتذكَّر فقط أني أنقذتك في الوقت المناسب … وأن عليك أن تنقذني أنت بدورك …
الشاب : هل تمكنيني حقًّا من إنقاذك؟ … هل تصغين إلى نصيحتي هذه المرة وتنفذين ما قام برأسي الآن؟ …
خيرية : ماذا قام برأسك الآن؟ …
الشاب : قبل كل شيء اسمحي لي أن ألقي عليك سؤالًا … هل تثقين بي؟ …
خيرية (تنظر إليه مليًّا) : لست أدري … لكن إذا استمعت إلى صوت شعوري الداخلي فإني أستطيع أن أثق بك …
الشاب : ضعي أمتعتك في حقيبة … واتبعيني …
خيرية : إلى أين؟ …
الشاب : إلى حيث تعيش والدتي … إنها تعيش الآن بعد وفاة أبي مع أسرة أخي الأكبر … إنه موظف، وتقطن مع زوجته وأولاده في حي السيدة زينب …
خيرية : أتظن هذا حلًّا أن أعيش عالة على أسرة أخيك …
الشاب : مؤقتًا حتى نبحث لك عن عمل …
خيرية : نعم … أريد أن أعمل … وأن أحيا من عرق جبيني …
الشاب : أعرف ذلك … وأطالع أفكارك … لأننا نلتقي في آراء كثيرة … ونشترك في ظروف متشابهة … لست أدري هل تصدقينني إذا قلت لك إنه قد تبيَّن لي الآن أن لا أمل لأمثالنا … أنا وأنت … إلا في العمل الشريف لنعيش.
خيرية : نعم … الشريف …
الشاب : تجيدين بالطبع لغة أجنبية … إذن من السهل أن تعملي كبائعة في محل تجاري …
خيرية : أفضل العمل في مكتبة …
الشاب : أنت أيضًا؟ أرأيت إلى أي حد نتحد في الاتجاه والميول … لقد يسرت مهمتي … هذا ميدان أعرفه … ولن يشق عليَّ أن أجد لك وظيفة بائعة أو صرافة في مكتبة … ولكن لن تكون بالطبع في حي الحسين.
خيرية : في أي حي شئت …
الشاب (مازحًا) : لو كنت سمحت لي بسرقة جوهرة واحدة من جواهرك التي في هذه الخزانة … لأنشأت أنا المكتبة … ووضعتك أنت موظفة بالمحل.
خيرية : حذارِ أن تمس شيئًا مما في هذه الحجرة. يجب أن نترك لهذا الرجل كل جواهره وهداياه. لن أحمل معي غير ملابسي الخاصة الضرورية.
الشاب (جادًّا) : هذا حقًّا ما ينبغي أن نفعله …
خيرية : يسرني أنك طرحت أفكارك القديمة … ونبذت مشروعاتك السابقة … آه يا صديقي … لقد قلتها أنت الساعة … لن تكون سعادتنا … أنت وأنا وأمثالنا … من أصحاب النفوس الرفيعة … إلا في الخبز الشريف والعرق الطاهر … ثق يا صديقي أنه ليس ألذ طعمًا في الوجود كله من كسرة خبز اكتسبت بشرف …
الشاب : يا صديقي! … تقولين «يا صديقي»؟! ما أسعدني بهذه الكلمة! …
خيرية : ولمَ لا … أوَلسنا من نفس النوع والروح والطبقة …
الشاب : هلمي بنا إذن … إلى حقيبتك …
خيرية (بتردد) : الآن … معك؟ … نخرج معًا …
الشاب : نعم … معي، لكن انتظري … أنت على صواب … لدي اقتراح، سخيف بلا شك … أو جريء … أو فيه تطاول عليك …
خيرية : قل ولا تخف …
الشاب : لا … لن أقول. إني ولا شك جننت … نعم … كل ما فعلت ورأيت وسمعت في هذه الليلة الغريبة كان عجيبًا وسريعًا ومفاجئًا إلى حدٍّ عطَّل في رأسي كل أداة للتفكير … ما أنا الآن إلا إنسان لا يصلح إلا للإقدام على الأشياء الجنونية. حقًّا … لم يعد بيني وبين مستشفى المجاذيب غير خطوة.
خيرية : قل كل ما يجول في خاطرك …
الشاب : حتى وإن كان لا يقبله العقل الصحيح ولا الذوق السليم؟ …
خيرية : نعم …
الشاب : يجول في خاطري … أني … لو لم أكن هكذا بائسًا مضبوطًا متلبسًا بالشروع في سرقتك، لكنت رأيت أن أتقدم إليك بطلب … يدك.
خيرية : طلب يدي؟ …
الشاب : لأحمي سمعتك … وأكافح من أجلك، ومعك … بذلك لا تتعرضين لألسنة السوء وأنا أخرج إلى جانبك في الحياة الواسعة … ولكني أسترد في الحال هذا الاقتراح الجنوني … وألتمس منك المغفرة على هذا التهجم المهين … إنه لمن سوء الأدب أن أتجاهل الفارق الذي بيننا …
خيرية : حقًّا … إنه لفارق كبير …
الشاب (خجلًا) : نعم … لم أفقد بعدُ كلَّ الوعي والبصر حتى لا أراه …
خيرية : من حيث الأسرة … كان المرحوم والدي موظفًا في الحكومة متوسط الحال …
الشاب (دهشًا) : كالمرحوم والدي تقريبًا …
خيرية : من حيث الدراسة … لم أذهب إلى الجامعة ولم أنل دبلومًا عاليًا …
الشاب : أما أنا فذهبت … وكدت أظفر بهذا الدبلوم …
خيرية : ومن حيث الأخلاق … فأنا لم تزل بي القدم … ولم يضلني اليأس … ولم يذهب عني الإيمان لحظة بقيمة المبادئ الفاضلة …
الشاب : أما أنا فمع الأسف …
خيرية : هذا هو الفارق الوحيد الذي بيننا …
الشاب (بتأثر صادق) : صديقتي … ائذني لي في أن أناديك باسمك مرة … خيرية … أعاهدك وأقسم لك أني سأكون مدى الحياة جديرًا بك …
خيرية : أصدِّقك …
الشاب : هلمي بنا إذن … حياتي لك منذ هذه اللحظة … ضعي ثيابك في حقيبتك ولنذهب توًّا إلى حيِّنا … فنوقظ المأذون لعقد زواجنا …
خيرية (تتحرك إلى خزانة الملابس) : ساعدني في إعداد الحقيبة (وهي تخرج ثيابها) أواثق أنت أني لن أزعج حياتك … ولن أكون عبئًا على كاهلك؟
الشاب (بفرح) : واثق أني سأكون شخصًا أسمى وقلبًا أنبل … نسيت أن أطلعك على خبر … بعد تركي لعملي القديم عرضت مكتبة أخرى أن أعمل فيها بمرتب شهري عشرة جنيهات … فإذا عملت أنت أيضًا … فلن يكون مرتبك أقل من ستة جنيهات … أفلا تعتقدين أن في مقدورنا أن نكون سعداء بستة عشر جنيهًا …
خيرية : وأنا نسيت أن أطلعك على خبر … إني أحسن الطهي بأقل نفقة … وأجيد تفصيل ثيابي وثيابك … وأحذق تنظيم البيت … انظر … ألا ترى حجرتي هذه منظمة … سأجعل بيتك أجمل نظامًا ولو كان غرفة فوق سطح …
الشاب : وسأقتصد أنا في مصروفي … فأنا، كما أحب أن تعلمي، لا أدخن ولا أجلس في مقهى … لقد كان عملي مستغرقًا كل وقتي … إني شاب مستقيم … وما أوفره من مصروفي أستطيع به أن أدعوك إلى السينما مرة كل شهر …
خيرية : كل شهرين، لا تكن زوجًا مسرفًا متلافًا. تعلَّم الاعتدال وإلا اضطررت إلى تعليمك كيف تعيش بحكمة … هنالك أنواع من النزهة في الهواء الطلق لا تكلف قرشًا … دعني أدبر كل ذلك … والآن افتح لي الحقيبة من فضلك … ولا تقف هكذا مكتوف اليدين (يسرع هو إلى الحقيبة) لا تنتظر مني تدليلًا في كل وقت … أسرع … يا … عجبًا … ما اسمك؟ … كل شيء تحدثنا فيه … وبحثناه ودبرناه … إلا شيئًا واحدًا نسيت أن أعرفه منك … اسمك! …
الشاب : خير لك أن تعرفي نفسي قبل أن تعرفي اسمي … وإن كان عكس ذلك هو الذي يحدث عادة بين الناس … اسمي يا خيرية … لا بريق فيه ولا رنين … «حامد حمدي حسنين» …
خيرية : إنه عندي ذو بريق … ما الاسم للنفس إلا كالزجاج للمسرجة، يضيء بضوئها … هلم بنا يا «حامد»، لا أحسب أني نسيت شيئًا مما احتاج إليه … بل انتظر … ناولني هذا المصحف …
حامد (يسرع إلى المصحف ويناوله إياها) : أول شيء لمسته يدي في حجرتك.
خيرية (حاملة المصحف في يدها … تعبر رأسها فكرة) : حامد! …
حامد : ماذا بك يا خيرية؟ …
خيرية : الآن … وأنا أحمل هذا الكتاب المطهر تذكرت شخصًا … أمي … كيف أخرج الساعة معك … وأتركها هكذا نهبًا للهواجس؟ … لا … لا بد أن أمكث الليلة في هذا المنزل … فإذا طلع النهار حاولت أن ألمح لوالدتي أو أصرح لها بعزمي على الاستقلال بحياتي … يجب يا حامد أن أمهد الأمر هنا قبل الرحيل … حتى تستطيع أمي أن تواجه على الأقل من يسألها عن غيبتي …
حامد : أترين ذلك …
خيرية : وأنت؟ … ألست ترى أنني على صواب في هذا؟ …
حامد : هذا هو المعقول حقيقة … لا بد أن تطلعي والدتك على ما انتويت … أما زوجها فحذارِ أن يعلم … تستطيع والدتك أن تخترع حجة مقبولة فتقول له مثلًا بعد ذهابك … إنك في ضيافة أهل أبيك …
خيرية : هذا ما سأصنع …
حامد : أتركك الآن إذن يا خيرية … لكن … كيف ألقاك غدًا؟ …
خيرية : تعال قبيل الظهر في غيبة ذلك الرجل … من الباب الكبير طبعًا … وقل للخدم (بائع الكتب) …
حامد : إلى الغد إذن يا خيرية … ولا تنسي أني خطيبك أمام الله …
خيرية : لن أنسى ذلك أبدًا …

(يتناول يدها ويقبلها بإجلال … ثم يتجه إلى النافذة.)

خيرية : ماذا تفعل؟ … أتخرج من هنا؟ …
حامد : كيف أخرج إذن؟ …
خيرية : من الباب يا عزيزي … لا ينبغي لخطيبي أن يتسلق النوافذ بعد اليوم … اتبعني وأنا أخرج بك بلا جلبة من باب البيت …

(تقوده وتخرج به من الحجرة … ويخلو المكان … ويسمع في الخارج صوت باب خارجي يفتح … ولا تمر لحظة حتى يدخل الباشا الحجرة شبه راكض يبحث بعينيه في أرجائها … ثم يسرع إلى النافذة يطل منها.)

خيرية (تدخل وتبغت لوجود الباشا) : ماذا تفعل هنا؟ …
الباشا (يستدير) : وأنت أين كنت ومن الذي خرج الساعة من الباب الخارجي.
خيرية (متهربة) : أتريد أن توقظ ماما مرة أخرى؟ …
الباشا (بحدة) : أجيبي على سؤالي … من كان هنا معك؟ … ومع ذلك لا حاجة بي إليك لأعرف سرَّك … (يحدق ببصره من النافذة) أرى شبح رجل يتخبط في الحديقة كلص … عشيقك بالطبع …
خيرية : خسئت أيها … أيها الظالم …
الباشا (يترك النافذة والحجرة ويهرع إلى الخارج صائحًا) : اللص … إلى اللص … إلى اللص …

(ويسمع الباب الخارجي يفتح … ولا تمضي لحظة حتى يدوي طلق ناري في الحديقة ثم ضجة أهل المنزل وهم يهبون صائحين لاغطين …)

خيرية (تسرع إلى النافذة) : يا ربي … يا ربي … رحمتك بي و… به.

(تحدق في الحديقة المظلمة وفجأة تسمع صوتًا هامسًا.)

حامد (يهمس من الحديقة تحت النافذة) : خيرية! …
خيرية (تطل عليه هامسة) : أنت؟ … تزحف إلى نافذتي …

(تظهر بعد قليل يداه تتسلقان النافذة … ثم يبدو رأس حامد وهو شاحب الوجه …)

حامد (بصوت هامس متمزق) : لا تغضبي يا خيرية … هذه آخر مرة أتسلقها … لأراك …
خيرية (جزعة ملهوفة) : حامد … ما هذا الدم في صدرك؟ …
حامد (منتزعًا ابتسامة) : قتلني … ولكني … دفعت … ثمن … زلتي …

(تترك يداه النافذة ويسقط جثة في الحديقة …)

خيرية (تضع كفها على عينيها وتبقى بلا حراك … ثم تقع بلا حراك … ثم تقع متهالكة على المقعد الكبير هامسة) : رباه … ما أبهظ الثمن الذي ندفعه نحن … لنكون شرفاء! …
ستار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤