الفصل الثاني

(بهو منزل الباشا … سلم كبير يؤدي إلى الطابق الثاني … أبواب جانبية تؤدي إلى حجرات … وباب كبير يؤدي إلى الحديقة وهو مدخل الفيلا … رياش فاخرة … وتليفون فوق منضدة …)

(خيرية واقفة بقرب باب حجرة مغلقة وهي في قلق تتسمع … بينما الباشا يوافيها كاظمًا ما يجيش في نفسه …)

الباشا (في سخرية خفية) : إنه لم يزل على قيد الحياة! …
خيرية (هامسة من بين أسنانها) : أيها القاتل …
الباشا : لم أقتله … لقد رأيت وجهه … وهم يدخلون به الساعة من الحديقة إلى هذه الحجرة … ما هو بوجه شخص سيموت …
خيرية : سنعرف الحقيقة عندما يخرج الطبيب من الحجرة …

(تلتفت إلى باب الحجرة كالمترقبة …)

الباشا : يا له من اهتمام رائع … من غادةٍ بلصٍّ …
خيرية : إنه ليس لصًّا …
الباشا : بائع كتب! … جاء يعرض كتبه المحشوة بالعلوم والمعارف والفلسفة والحكمة والأدب … في الهزيع الأخير من الليل …
خيرية : ليس هذا وقت السخرية منه …
الباشا : ربما … ولكنه على كل حال وقت التحري عن شخصيته البارزة … وعن موقفه الشريف …

(يتجه إلى آلة التليفون …)

خيرية (تهرع إليه في جزع) : ماذا أنت صانع؟ …
الباشا (ويده تمتد إلى السماعة) : أبلغ البوليس! …
خيرية (تمسك بيده مرتاعة) : البوليس؟! …

(تظهر الأم تهبط السلم وفي يدها لفافة …)

الأم : هذا كل ما وجدت الآن عندنا من قطن طبي … أيكفي هذا يا خيرية؟ …
خيرية (وهي شاردة) : اسألي الدكتور يا ماما …
الأم (تلمح السماعة في يد الباشا) : من تريد أن تخاطب بالتليفون؟ …
الباشا : البوليس …
الأم (وقد لمحت خيرية وهي تجذب يده) : ولماذا تمنعينه يا خيرية؟ …
خيرية : اقترحت عليه أن يتمهل حتى نتحقق من مدى الإصابة …
الأم (للباشا) : الحق معها يا محمود … ما الداعي إلى العجلة … ربما كانت الإصابة خفيفة وأمكن تسوية الموضوع بغير حاجة إلى إثارة ضجة …
الباشا : تسوية «الموضوع» بالنسبة إلى من؟! …
الأم : بالنسبة إلى الجميع …
الباشا (يلتفت بعينيه إلى خيرية) : لمصلحة من؟ …
خيرية : لمصلحتك أنت … لا تنسَ أنك أطلقت الرصاص على هذا الشخص …
الباشا : القانون يعطيني هذا الحق …
خيرية : إذا استطعت أن تثبت أنه جاء بقصد السرقة …
الباشا : هو الذي عليه أن يثبت ذلك القصد الكريم، الذي أدخله هذا البيت في هذه الساعة المتأخرة! …
خيرية (بنبرة ذات معنًى خفيٍّ ردًّا على نبرته ذات المغزى الخفي) : … قد لا يجد صعوبة في إثبات ذلك …
الباشا : هناك جهة وظيفتها تحرِّي المقاصد النبيلة، وتقصي الأغراض السامية، هذه الجهة يسمونها «البوليس والنيابة»! …

(يتجه إلى آلة التليفون …)

خيرية (في رعدة) : وما وجه الإسراع يا بابا؟ …
الباشا : وما وجه الإبطاء …
الأم : خيرية حريصة على سمعتك … يا باشا …
الباشا (بنبرةٍ ذات مغزًى وعيناه إلى خيرية) : سمعتي أنا؟ …
الأم : إنها لا تريد لك أن تقف أمام البوليس موقف السؤال … على أي شكل من الأشكال …
الباشا : عواطف رقيقة … فلتطمئن عزيزتي خيرية … إن موقفي أمام البوليس هو موقف صاحب القضية الذي يريد ويشكو ويتهم …
خيرية : تشكو ماذا؟ … هل سرق منك شيء؟ …
الباشا : أكان يجب أن أنتظر حتى تُرتكب الجريمة؟ … يكفي أن أضبط في بيتي اللص …
خيرية : إنك لم تضبط في بيتك لصًّا … ولكنك أطلقت النار على شخص يمشي في الحديقة …
الباشا : في الحديقة؟ … يا لعواطفك الرقيقة! … لعله أيضًا شاعر … يمشي يترنم في الحديقة وينشد في ضوء القمر … ولو أننا في أواخر الشهر العربي ولكن هذا لا يهم … فقمر الشاعر لا يضيء حسب الشهور الهجرية أو النتيجة الرسمية … ولكنه يراه حسب مواعيد أخرى … إنك يا خيرية تغلفين الحقائق في ثياب من الحرير الناعم … ما أسعد حظ ذلك الذي تتولين عنه الدفاع …
خيرية (في حمرة تنظر إلى أمها ثم إليه) : لست أتولى دفاعًا عن أحد … ولكني أرى هذا الحادث لا يستوجب منك كل هذا الجد والعنف …
الأم : حقًّا يا محمود … رجل وجد في الحديقة … ماذا كان عليك لو أخذت الأمر باللين والتؤدة … ولم تلجأ إلى القوة وإطلاق النار … عهدي بك راجح العقل … واسع الحيلة … كثير الاتزان … ما الذي دفعك إلى هذا التصرف العنيف؟ …
الباشا : أتستطيعين أن تجيبي … يا خيرية؟! …
خيرية : لعله الوهم … لقد تخيلت شيئًا لا وجود له …
الباشا : أرجو ذلك يا خيرية … وإن كنت أرى من القرائن أن مخاوفي كانت في موضعها …
خيرية : لا ينبغي أن تحكم بما يقوم في رأسك من وهم …
الباشا : ليس وهمًا، بل ها هو ذا رجل قد وُجد بلحمه ودمه. ماذا تقولين فيه؟
الأم : كان يجب أن تناديه في الحديقة أولًا … وأن تسأله …
الباشا : وأن أقدم له سيجارة … وأدعوه إلى تناول فنجان من القهوة … في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل! …
خيرية : بل تتركه وشأنه … وعلى البواب والحراس أن يقبضوا عليه … إذا وجدوا في أمره ما يريب …
الباشا : آسف إني لم أدَعه يذهب معززًا … ولم أوصله بنفسي إلى الباب الخارجي مشيعًا بالتجلَّة والإكرام … لأستحق بعدئذٍ تقدير الآنسة خيرية …
خيرية : لتستحق راحة ضميرك! …
الباشا : ضميري مستريح … ثقي بذلك … فقد قمت بالواجب الذي تفرضه عليَّ كرامتي! … وكرامة هذا البيت! …
الأم : وهل كرامة هذا البيت يخدشها حادث مثل هذا؟ …
الباشا (يشير إلى خيرية) : سلي ابنتك! …
الأم : لست أفهم … أفهمت أنت يا خيرية؟ …
خيرية : لعله يعتقد أن دخول هذا الرجل فيه اعتداء على كرامة البيت …
الباشا (لخيرية بنبرةٍ ذات معنًى) : وأنت ألا تعتقدين ذلك؟ … دخول رجل لا في الحديقة … بل في حجرة داخل هذا البيت … افرضي أن رجلًا دخل حجرتك في ساعة متأخرة من الليل … ألا ترين في ذلك اعتداء على كرامتك؟ …
خيرية (بنبرةٍ ذات مغزًى) : أترك لك أنت الجواب عن هذا السؤال! …
الباشا (يباغَت ولكنه يتمالك) : صدقت … أعرف رأيك …
خيرية (في لهجةٍ ذات معنًى) : أرجو أن نكون الآن متفقَين في الرأي.
الباشا (بنفس اللهجة) : لا تنسَي أن الظروف مختلفة كل الاختلاف …
خيرية : الظروف واحدة … لا يوجد اختلاف إلَّا في وجهة النظر …
الأم : ما الداعي إلى كل هذا الخلاف بينكما … هو يرى أن يبلغ … وأنت لا ترين ذلك … ربما كان الباشا أدرى بالظروف يا خيرية … دعيه يفعل ما يريد … ما الذي يهمك أنت من هذا الأمر …
الباشا : حقًّا … سليها هذا السؤال …
خيرية (مرتبكة) : طبعًا … لا شيء … ولكن … ألم نتفق على تأجيل التبليغ؟ … إلى أن نعرف مدى الإصابة ويقول لنا الطبيب شيئًا عن حالة هذا الشخص، هل سيموت؟ … هل سيعيش؟ …
الباشا : وما الذي يهمك أنت من هذا الشخص؟ … مات أو عاش؟ …
الأم : حقًّا … ماذا يهمك أنت يا خيرية … لماذا تشغلين بالك بهذا الحادث … فلنضع المسألة في يد الباشا فهو أخبر منا بهذه الأمور …
الباشا : نصيحة ثمينة من أم … لعلك تصغين إليها …

(يتجه إلى التليفون …)

الأم : إذا أردت رأيي يا خيرية … فاذهبي توًّا إلى فراشك … فأنت لا تتحملين السهر الطويل …
خيرية (تتبع بأنظار قلقة الباشا وهو يضع يده على السماعة فتلفظ صيحة مكتومة) : إلهي …

(عندئذٍ يفتح باب حجرة جانبية … ويبرز رأس الطبيب.)

الطبيب (بعجلة) : القطن … من فضلكم … القطن …
الأم (مبادرة إلى الطبيب) : معي يا دكتور في يدي … كان يجب أن أسرع به إليك.
الطبيب (وهو يتناول) : شكرًا … هل لي أن أطلب معونتك لحظة …

(تدخل الأم مع الطبيب ويغلق باب الحجرة …)

خيرية (تهرع عندئذٍ إلى الباشا وتضع يدها على التليفون) : لن تبلغ البوليس … أعرف نواياك … تريد أن تنتقم … تريد أن تلوث اسم هذا الشاب وتزج به في السجن …
الباشا : عشيقك! …
خيرية : خسئت … لا تقل هذه الكلمة …
الباشا : مخاوفي كانت في محلها … ما كنت أرى لصدك معنى، إلا أن يكون في حياتك رجل …
خيرية : ليس في حياتي رجل …
الباشا : هذا الشاب … كيف دخل هنا؟ …
خيرية : لست أدري … لم أره ساعة جاء …
الباشا : ولماذا جاء؟ …
خيرية : جاء يقترض مني نقودًا …
الباشا : بعد منتصف الليل! …
خيرية : ربما جاء مبكرًا … فلما لم يجدني انتظر عودتي.
الباشا : في الحديقة؟ … أو في … حجرتك؟! …
خيرية : لست أدري … أين وجدته أنت؟ …
الباشا : سمعتك تخرجينه من هذا الباب! …

(يشير إلى باب البهو المؤدي إلى الحديقة …)

خيرية : سمعت هذا الباب يفتح … هذا كل ما تستطيع أن تسمع …
الباشا : ووجدت حجرتك خالية منك …
خيرية : خرجت أشيعه في الحديقة …
الباشا : ووجدت نافذتك مفتوحة … ووُجد هو عقب الإصابة، ملقًى تحت النافذة!
خيرية : لقد تسلَّق كي يخبرني بفعلتك …
الباشا : روميو يتسلق نافذة جولييت …
خيرية : لا تسخر من هذا البائع الفقير الذي ألقته المقادير في يدك …
الباشا : بائع كتب … قلت لي أين؟ …
خيرية : في مكتبة بحي الأزهر … اشتريت منها مصحفي.
الباشا : معرفة وثيقة … تتيح له تسلُّق النوافذ … واقتراض النقود …
خيرية : إنه شاب بائس … لو عرفت قصته لرحمته … ولكن … أين لقلبك أن يعرف الرحمة بمثله؟! …
الباشا : حسبه قلبك أنت! …
خيرية : ثق أني منذ رأيته لأول مرة في المكتبة، لم أره إلا الليلة … على غير انتظار … كانت مفاجأة لي …
الباشا : مفاجأة سارة تزري بكل ما عداها. بل كل مفاجأة أخرى إلى جانبها رخيصة!
خيرية : إنك تخطئ لو ظننت أن بيني وبينه علاقة سابقة …
الباشا : العلاقة الحاضرة بينكما تكفيني … فهي على فرض حداثة عهدها بادية النمو، غائرة الحدود، دانية الثمار …
خيرية : لا تبالغ … لا تبالغ …
الباشا : دعيني إذن أنتزعها من أصولها …
خيرية : تنتزع ماذا؟ …
الباشا : هذا السد الذي يقوم بيني وبينك، لا بد من تحطيمه …
خيرية : إن الغيرة تعميك …
الباشا : لن يأخذك هذا الشاب مني … إني أعرف أين ألقي به …
خيرية : في أعماق السجون …
الباشا : سأتخير له مكانًا يليق به! …
خيرية : إني أمنعك … لن تستطيع أن تناله بسوء … لن تمس منه شعرة … لن تمس منه شعرة …
الباشا : يا للشرر المتطاير من عينيك! لكأنك هرَّة تذود عن صغارها. هنيئًا له، هنيئًا له.
خيرية : أراك مقدمًا على شر … أرني ماذا في مقدورك أن تصنع.
الباشا : تتحدين الآن؟ … أنت تعرفين ما أنا صانع! …
خيرية : ستبلغ البوليس؟ …
الباشا (وهو يرفع السماعة) : نعم.
خيرية (بعزم) : بلِّغ وأسرع.
الباشا (يلتفت إليها مباغتًا) : مرحى! … مرحى! … هذا شيء جديد … لا تخشين التبليغ الآن.
خيرية : لا … لأني أعرف ما سأقول أمام البوليس والنيابة.
الباشا : ماذا ستقولين؟
خيرية : سأقول إن هذا الشاب لم يدخل بقصد السرقة. بل دخل لأنه خطيبي أمام الله.
الباشا : خطيبك أمام الله!
خيرية : أيستطيع القانون أن يدينه في هذه الحالة؟
الباشا : أوَحدث هذا حقًّا؟ … أم هي فكرة نيرة لإنقاذ الشاب من ورطته؟
خيرية : فليكن هذا أو ذاك … المهم هو أن تصريحي هذا في التحقيق سيوقعك أنت في ورطة كبرى.
الباشا : يوقعني أنا؟
خيرية : لقد أطلقت الرصاص على خطيبي … فعليك أن تثبت أنك لم تقصد إصابته عمدًا لغرض في النفس!
الباشا : غرض في النفس … ستقولين بالطبع سر تفاصيله.
خيرية : بكل دقة وصراحة! …
الباشا : يا لك من ماكرة … قصيرة النظر! …
خيرية : بل بعيدة النظر … أعترف أني بذلك سأثيرها فضيحة في المجتمع … تلوث اسمك، وتقضي على سمعتك … وتجرفك من فوق مقاعدك العديدة في مجالس الشركات.
الباشا : خنجر حادٌّ حقًّا … ولكنه سيصيب قلبًا آخر …
خيرية : قلب من؟
الباشا : قلب أمك.
خيرية : أمي؟!
الباشا : خنجر ذو حدين. لأن الفضيحة ستكون فضيحتك أنت، قبل أن تكون فضيحتي … وستفجع أمك في بنتها وزوجها في آن … لست أنت التي تتحدَّين … بل أنا الذي أتحدى … التليفون أمامك … اطلبي بنفسك البوليس وبلغيه أن خطيبك قد أُطلق عليه الرصاص، وأن الجاني هو محمود باشا نعمان.
خيرية (هامسة بلا حراك) : أمي! …
الباشا : ما لك وجمت! … أقدمي … نفذي تهديدك.
خيرية : وأخيرًا … ماذا تنوي أن تصنع بي؟
الباشا : بك أنت لا شيء … إنك أعز عليَّ من أن أفكر في إساءتك … لقد رأيت الساعة كيف كنت أداري الأمور أمام أمك … حتى لا تفطن إلى مرمى كلامنا … ألم تفهمي من ذلك أني حريص عليك. ضنين بك ولكنك دائمًا سيئة الظن بي … متى تدركين أني لك محب مخلص … وأن مصلحتك في أن تكوني لي صديقة … إني أريدك يا خيرية … لقد أقسمت على ذلك، ولن يقف أحد ولا شيء في سبيلي أبدًا. وإني أعني ما أقول.
خيرية (تنظر إليه يائسة وتقول كالمخاطبة نفسها) : أرى أنك تعني ما تقول.
الباشا : لا فائدة من مقاومتي يا خيرية.
خيرية (تطرق مليًّا مفكرة … ثم ترفع رأسها) : أوَما من طريقة عندك غير البطش بهذا البريء المسكين.
الباشا : خطيبك أمام الله.
خيرية (وقد غيرت لهجتها) : يدهشني كيف ذهبت فطنتك … ألم تسائل نفسك عن السبب الحقيقي الذي من أجله أدافع عن هذا الرجل وأتمسك به.
الباشا : لأنك تحبينه.
خيرية : في نصف ساعة؟! … أيمكن أن تصدق هذا؟
الباشا : لأنك تكرهينني.
خيرية : أكره من يمنحني قلبه … ويغمرني بعطفه وهداياه؟
الباشا : ألا تكرهينني؟ إنك تحيرينني … لماذا إذن تدافعين عن هذا الرجل؟
خيرية : لأن فكرة هبطت عليَّ ساعة رأيته الليلة!
الباشا : ما هي هذه الفكرة؟
خيرية : أن أتزوجه.
الباشا (بدهشة) : تتزوجينه؟!
خيرية : من أجلك.
الباشا : من أجلي؟!
خيرية : نعم من أجلك … ألم تفهم قصدي؟
الباشا : أفهم … ولكني … لا أصدق.
خيرية : لأنك أنت الذي تسيء الظن بي دائمًا … إنك على الرغم من خبرتك التي تتحدث عنها … وحنكتك وتجاربك في الحياة، تفوتك أبسط الأشياء. كيف كنت تريد مني أن أبادلك العطف تحت سقف هذا البيت؟ … وعلى أي وضع من الأوضاع تطلب ذلك … لقد نسيت أني فتاة لا بد لها من زوج … أفهمت؟ … لو كنت تنظم شركاتك هناك كما تنظم أمورك هنا لما شككت في أنها شركات مخفقة خاسرة … هل أدركت الآن كيف أنه كان يجدر بك أن تنظم وضعي أولًا، وأن تجعلني في إطار اجتماعي مفهوم، قبل أن تأتي لتطرق بابي وتطلب عطفي.
الباشا (يتأمل كلامها) : معقول …
خيرية : ما هو الترتيب الذي قمت أنت به في هذا السبيل؟ … لا شيء. كان عليَّ أن أفكر فيه أخيرًا.
الباشا : ولماذا لم تنبهيني إلى هذا قبل الليلة؟
خيرية : أتظن حياء المرأة وكبرياءها يسمحان لها في كل الأحوال بهذه المصارحة؟! إن المرأة تحب دائمًا أن تشعر أن الرجل هو الذي يفكر لها ويدبر، وليست هي التي تفكر وتدبر له.
الباشا : ولكني لم ألمس منك حركة أو نظرة أو إشارة تنم على شيء غير الصد والنفور.
خيرية : ما من شيء ينفر المرأة الرقيقة مثل الأسلوب الهمجي، الخالي من الكياسة واللياقة والذوق … إن المرأة المهذبة تهمها الطريقة قبل الغاية … وإن من الرجال من يستطيع الوصول إلى قلب المرأة التي يريدها، إذا استطاع أن يغطي أشواك هذا الطريق بحرير من المظاهر السليمة والأوضاع المقبولة … إن المرأة تحب قبل أن تمنح قلبها أن تعتقد أنها لا تأتي أمرًا يسقطها من الأعين.
الباشا : صدقت في هذا يا خيرية … لقد ظننت أني …
خيرية : لقد ظننت أنك بالهدايا تصل إلى قلبي … إنك مخطئ … هذا أسلوب ينفع مع الغواني والخليعات … غلطتك الكبرى؛ هي أنك تحسب المال كل شيء … لأنك به تشري الأسهم في الشركات … لكن ثق أن الأسهم التي تصيب بها القلوب لا تُشترى دائمًا بالأموال.
الباشا : حقًّا … أنت امرأة ليست كالأخريات.
خيرية : كان يجب أن تعرف أن المرأة ذات الكرامة لا تقبل الحب إلا من الرجل الذي يشعرها بأنه مقدر لظروفها … حريص على مظهرها، أمين على سمعتها … إن المرأة كالطاووس … لا بد لها من ثياب من الريش الزاهي الجميل، يغطي جسمها ويستر تصرفاتها.
الباشا : نعم … يجب أن أفكر لك قبل كل شيء في زوج وفي بيت.
خيرية : هل ثُبْت الآن إلى صوابك … وأدركت حقيقة موقفي؟
الباشا : وما الذي جعلك تتخيرين هذا الشاب بالذات؟
خيرية : لم أتخيره … ولكنه هو الذي جاء … وهبط علينا الليلة من السماء … فحرك في رأسي الفكرة.
الباشا (يهرش في رأسه) : فكرة في الحق، لا بأس بها. فهو على الأقل …
خيرية : واقع في أيدينا … مدين لنا … من طراز يلزمنا وينفعنا.
الباشا : آه … إن رأسك الصغير لا يخلو من عبقرية.
خيرية : في استطاعتك أن ترفعه إلى مستوانا … كما فعلت بكثير من محاسبيك الذين وزعتهم في الشركات.
الباشا : سيكون مديرًا … في بضعة أشهر، لشركة ناجحة.
خيرية : وسيكون لي بيت.
الباشا : يليق بك وبزياراتي لك!
خيرية : لن تزورني في البيت بالطبع إلا نهارًا.
الباشا : مفهوم … منذ اليوم لن تفوتني اللياقة ولا الكياسة … سأدبر المسكن الآخر الذي سيكون في يدك مفتاحه.
خيرية (وهي تطرق) : أخفِ هذه الأشياء عني الآن.
الباشا : حقًّا … لا مؤاخذة … من اللياقة والكياسة أن أفاجئك بها في حينها … والآن كيف ننفذ هذا المشروع؟ …
خيرية : اترك لي أنا الأمر فيما يختص بالشاب … المهم أمي.
الباشا : أمك … أنا أتولى عرض الأمر عليها وإقناعها.
خيرية : ماذا ستقول لها؟
الباشا : سأقول إن هذا الشاب لقطة.
خيرية : ما هذا الكلام؟
الباشا : دعيني أتصرف في الوقت المناسب. أنا لا أستطيع أن أعد الكلام قبل أوانه … حتى عند انعقاد الجمعيات العمومية لشركاتي … لا أحب تحضير خطبي مقدمًا … براعتي هي الارتجال … أنا مرتجل من الطبقة الأولى … سترين الآن حججي الدامغة أمام أمك، تخرج من رأسي ومن فمي بدون وعي.
خيرية : بدون وعي! … بل يجب أن تزن الكلام.
الباشا : سيخرج موزونًا أربعة وعشرين «قيراط»! …

(باب الحجرة يفتح وتظهر الأم.)

خيرية (هامسة) : أمي.
الباشا (يتنحنح توطئة للكلام) : كيف حال هذا الشاب المهذب المؤدب، الحلو الشمائل، الكريم الخصال؟
الأم (تنظر إليه بدهشة) : ماذا تقول؟
خيرية (تسرع) : ماما … ما رأي الطبيب؟ … أحالته خطرة؟
الأم : أبدًا … الإصابة سطحية جدًّا.
الباشا : اللهم لك الحمد … إن في فقد هذا الشاب خسارة جسيمة.
الأم : من حسن حظه أنه لم يصب إلا بخدش بسيط.
الباشا : بل هذا من حسن حظنا نحن.
الأم : اطمئن الآن … المسألة لم تعد تستحق أي تبليغ.
الباشا : بل لا بد من التبليغ.
الأم : تبليغ البوليس؟
الباشا : بل تبليغك أنت.
الأم (في دهشة) : تبليغي أنا؟ بماذا؟
الباشا : بالخبر السار.
الأم (في عجب) : أي خبر سار؟!
الباشا : خبر الخطبة …
الأم : خطبة من؟!
الباشا : ما رأيك في هذا الشاب؟ … ألم تلاحظي أنه مؤدب، مهذب، وديع، مطيع؟
الأم : لم ألاحظ شيئًا … فقد لزم الصمت ولم نتبادل الحديث.
الباشا : أما أنا فقد لاحظت من أول نظرة … قرأت على وجهه الدماثة والطيبة والتربية العالية.
الأم : سمعتك الساعة تصفه بأنه لص.
الباشا : قول مرتجل لا وزن له ولا أساس له من الصحة.
الأم : مهما يكن من صفته فالمهم أن ينتهي الحادث بسلام.
الباشا : بل يجب أن ينتهي بالأفراح والليالي الملاح!
الأم : ما الذي جرى لك؟
الباشا : هنئي خيرية! …
الأم (بدهشة) : أهنئ خيرية؟! … بماذا أهنئها؟
خيرية (للباشا) : طريقتك هذه في الارتجال، تجعل كلامك كما ترى، غير مفهوم.
الأم : في الحق أني لست أفهم شيئًا.
الباشا : المسألة بالاختصار أن هذا الشاب هو خير زوج لخيرية.
الأم : ماذا حدث لعقلك يا محمود! … ابنتي الوحيدة لا أجد لها زوجًا غير هذا الذي …
الباشا : هذا الذي ماذا؟
الأم : الذي ضُبط الليلة في هذا البيت.
الباشا : من قال لك إنه ضُبط … هذه وشاية دنيئة … هذه معلومات مستقاة من مصادر مغرضة.
الأم : أنت المصدر، وأنت الذي أطلق عليه الرصاص.
الباشا : رصاصة طائشة في ظلام الليل … كان هذا الشاب المهذب يتمشى في الحديقة يناجي القمر، أقصد القمر الذي سوف يطلع في الشهر الجديد، ولكنه رأى قمرًا آخر يطلع من هذه النافذة … هو وجه خيرية.
الأم : أكانت إذن بينهما علاقة؟!
الباشا : بريئة جدًّا.
الأم (تنظر إلى خيرية بتأنيب) : أنت؟ … أنت التي كنت أحسبها ابنتي الطاهرة الفاضلة.
خيرية : إني طاهرة فاضلة لو تعلمين يا أمي، كعهدك بي دائمًا … ثقي أني لم أرتكب شيئًا تكرهينه مني؛ ولكني أريد أن يكون لي زوج وبيت.
الأم : زوج مثل هذا الرجل؟
خيرية : هو فقير حقًّا … ولكنه مجد نشيط … وذو مبادئ عليا … وأسرته فقيرة ولكنها فاضلة شريفة.
الباشا : أهله من خيار الناس … اشتهروا دائمًا بالدماثة، والوداعة، وطيب الأخلاق وجميل السجايا.
الأم (لابنتها) : أتعرفينه من قبل؟
خيرية : رأيته في المكتبة التي كان يعمل بها، يوم اشتريت المصحف.
الأم : عامل مكتبة؟
خيرية : كان طالبًا في كلية الآداب.
الباشا (للأم) : ألم أقل لك إني لاحظته، من النظرة الأولى متحليًا بالفضل والآداب.
الأم : عامل مكتبة؟!
الباشا : سيكون مدير شركة في وقت قريب، وهذا على عهدتي.
الأم (للباشا) : يدهشني تحبيذك لهذا الخطيب بالذات.
الباشا : لأنه … لأنه … لأنها … لأنها … تحبذ ذلك … رغبات خيرية يجب أن يحسب لها حساب. نحن الآن في عصر يجب أن نزوج فيه البنات حسب رغباتهن … لا حسب رغباتنا.
الأم (لخيرية) : أوَلم يقع اختيارك إلا على مثل هذا الشخص؟!
خيرية : الظروف … يا ماما …
الباشا : يجب أن نحسب حسابًا للظروف.
الأم : أي ظروف؟
الباشا : وجود هذا الرجل هنا … في هذه الساعة من الليل … وانطلاق الرصاصة الطائشة … ووجود الطبيب … كل ذلك يدعونا إلى إنقاذ الموقف بمنتهى الكياسة واللباقة.
الأم (بنظرة توبيخ لخيرية) : فهمت، فهمت، أنت التي وضعت نفسك في هذا الموضع الشائن.
الباشا (بلهجة الشهامة) : لا توبخيها … ما دام في إمكاننا أن ندرأ الفضيحة قبل أن تشيع … فلا محل للوم أو تقريع … اتركي لي الأمر … خيرية عزيزة على نفسي كما تعلمين. وسأعمل كل جهدي لأجعلها سعيدة في بيتها الجديد … وسيكون زوجها ثريًّا ووجيهًا لائقًا بها، مرفوعًا إلى مستواها. وسوف أسهر عليها في حياتها الجديدة، وأرفرف على هنائها بأجنحة العناية والحماية والحب.
الأم : أعرف أنك لها في مقام الأب … ولكن …
الباشا : ولكن ماذا؟ … أتشكِّين في حسن تقديري للظروف وخبرتي بالحياة؟ … لو لم أرَ هذا الحل هو الحل الموفق السعيد؛ لما حبذته ونفذته … اطمئني يا زوجتي العزيزة … اطمئني دائمًا لرأيي وحكمي.
الأم (مطرقة في إذعان) : إني مطمئنة لرأيك وحكمك.
الباشا : قولي إذن لخيرية مبروك.
الأم (تتحامل على نفسها) : مبروك يا خيرية.

(باب الحجرة يفتح، ويظهر الطبيب، يحمل حقيبته الصغيرة.)

الباشا (يلتفت إليه) : خيرًا يا دكتور.
الطبيب : سليمة يا باشا! … الرصاصة لم تخدش غير الجلد في أعلى الكتف … بعد ثلاثة أيام لا يكون هناك أثر يذكر لهذا الجرح.
الباشا : ألا يحتاج لموالاة العلاج؟
الطبيب : لا أظن … عندما يرفع الرباط سيكون الجرح قد التأم.
الباشا : شكرًا يا دكتور. إن صحته غالية جدًّا.
الطبيب : هل لدى البوليس علم بالحادث؟
الباشا : البوليس؟ … ولماذا البوليس؟ …
الطبيب : لأن الحادث من رصاصة … والمصاب …
الباشا : الرصاصة من مسدسي. والمصاب نسيبي …
الطبيب : نسيبك؟
الباشا (يشير إلى خيرية) : خطيب الآنسة خيرية.
الطبيب (يلتفت إلى خيرية) : عفوًا … عفوًا (ثم يلتفت إلى الباشا) لم أفهم ذلك فقد خيِّل إليَّ عند مجيئي أني سمعتك يا باشا تقول إن المصاب ضبط في الحديقة.
الباشا : بالضبط … في الحديقة … قولي يا خيرية للدكتور.
خيرية (بدهشة) : أقول له ماذا؟
الباشا : كيف يتقابل الخطيبان في هذا الجيل الجديد؟! … (للطبيب) إنهما يا دكتور لا يعترفان بوجود الأبواب … بل يستخدمان النوافذ … الخطيبة تطل من النافذة في ظلام الليل، والخطيب يناجيها من الحديقة. مثل روميو وجولييت. رحم الله الشيخ سلامة حجازي.
خيرية : وما دخل الشيخ سلامة حجازي هنا؟
الباشا : لن أنسى قصيدته «أجولييت ما هذا السكوت»، شاهدته يمثلها منذ أعوام كثيرة … وكنت بالطبع غلامًا يافعًا … ولكن ما فكرت يومًا أن أناجي خطيبتي تحت نافذة … ها هي زوجتي تشهد … أحدَث أني …
الأم : لا … لأنه لم يكن في منزلنا حديقة.
الباشا : هذا صحيح … كانت نافذتك على الطريق العام … وفي عمارة في الطابق الخامس لو أردت يومئذٍ تسلقها لكان لا بد لي من سلم المطافئ.
الأم : ذاك منزلنا القديم، ولكن أيام خطبتنا، كنت في منزلٍ نافذتي فيه من السهل تسلُّقها … فقد كانت في الطابق الأول.
الباشا : ومع ذلك لم أفكر في تسلقها.
الأم : لأنك لو كنت تقدر على ذلك لفعلت.
الباشا : ومن قال لك أني كنت غير قادر؟ … أراهنك الآن أمام الدكتور أني مستعد أن أذهب إلى الحديقة وأتسلق أي نافذة … ولكن نافذة خيرية …
خيرية : لا … لا … أرجوك … لا تقرب نافذتي.
الباشا : لماذا؟
خيرية : لا أريد أن … أن أتحمل مسئولية ما يقع.
الباشا : وما الذي سيقع؟
الأم : أنت … ومن سيقع غيرك؟
الطبيب (ضاحكًا) : أنا أيضًا من هذا الرأي … لا أحبذ هذه التجربة … إن رواية روميو وجولييت تنتهي دائمًا بكوارث.
الباشا : بسبب النوافذ … هذا صحيح … لو لم ألمح خطيب خيرية واقفًا في الظلام تحت نافذتها، لما ظننته لصًّا وأطلقت عليه خطأً هذه الرصاصة.
الطبيب : حصل خير على كل حال، وما دامت الإصابة بسيطة والأمر حدث خطأ في محيط عائلي؛ فيحسن عدم التبليغ.
الباشا : هذا ما رأيناه بالفعل.
الطبيب : والآن اسمحوا لي (يتحرك للانصراف ويسلم على الأم) نسيت أطلب إليك شيئًا … إذا أمكن الآن تقديم شراب ساخن منعش مثل فنجان من الشاي إلى جريحنا العزيز، فإن هذا يفيده كثيرًا.
الأم : حالًا يا دكتور.

(وتترك المكان وتخرج من باب جانبي.)

الطبيب (لخيرية مسلِّمًا) : اطمئني على خطيبك، فهو في أتم صحة.

(ثم يتجه إلى الباشا مسلمًا.)

الباشا : دعني أشيعك إلى باب الحديقة الخارجي … لئلا تضل في الظلام.
الطبيب : لا داعي يا باشا … إن برد الليل …
الباشا : برد الليل لا يؤذيني. لا تخف على بنيتي القوية …

(يخرج الطبيب من باب البهو المؤدي إلى الحديقة … خيرية تتبعهما بأنظارها إلى أن يخرجا. وعندئذٍ يفتح باب الحجرة ويطل منها رأس حامد.)

حامد (هامسًا) : خيرية!
خيرية (تلتفت) : حامد … تعال … كيف صحتك؟ … أخبرني بالصدق.

(تهرع إليه وتتأمل رباطه الصحي.)

حامد : لا شيء … صحتي على ما يرام.
خيرية (تقوده إلى مقعد مريح) : اجلس هنا … عندي كلام كثير أقوله لك …
حامد : قبل كل شيء … لا بد أن أريح ضميري … وأقوم نحوك ببعض الواجب؟
خيرية : أي واجب؟
حامد : إنقاذك من هذا الموقف السيئ الذي وضعتك فيه … أين التليفون؟

(يراه ويريد أن يتجه إليه.)

خيرية (تمنعه) : التليفون؟ … لماذا؟ … ماذا تريد أن تصنع؟
حامد : أبلغ البوليس.
خيرية : اجلس هنا ولا تبرح مكانك … تبلغه ماذا؟
حامد : أني لص دخلت للسرقة … فأنا واثق أنك لم تخبريهم بالحقيقة، ولم تقولي لهم إني جئت أسرق.
خيرية : لا لزوم لكل هذا الآن.
حامد : بل لا بد لي من أن أعرف ماذا قلت لهم عني؟ … بماذا عللت وجودي في حجرتك؟ لا ينبغي أن أسبب لك فضيحة … أنت بريئة طاهرة … ولا ذنب لك في شيء، ولكني أنا المذنب الذي زل.
خيرية : لا تقل ذلك … كل شيء قد انتهى إلى خير حل …
حامد : أي حل! … إني أرفض أن تحملي عني وزري.
خيرية : إنك لم ترتكب وزرًا … تمهل وأصغ إليَّ … تعرف كل ما حصل …
حامد : أعرف أنك جاهدت لإنقاذي … هذا لا شك عندي فيه … ولكن بأي ثمن؟ … ما هو الثمن؟ …
خيرية : لم أنقذك: بل أنت الذي أنقذتني! …
حامد : أنقذتك أنا؟ … ماذا؟
خيرية : أنسيتني هكذا سريعًا؟ … إنك لم تعد تفكر إلا في موقفك أنت … ألا تذكر ساعة هتفت من أعماق نفسي: إلهي … أرسل إليَّ من عندك ملاكًا ينقذني؛ فبرزت أنت قائلًا: ها أنا ذا …
حامد : أذكر … ولما سألتني! … عمن أكون؟ … قلت لك: ملاك أو شيطان لست أدري! ولكني الآن أيقنت أني كنت لك شيطانًا … جاء يوقعك في ورطة، ويجعل اسمك مضغة في الأفواه.
خيرية : بل لقد أخرجتني أنت من الورطة، وصنت اسمي الذي كان مهددًا بالتلوث … وحفظت شرفي الذي كان موشكًا على الضياع.
حامد : أنا؟ … أنا فعلت ذلك لك؟
خيرية : أنسيت أنك خطيبي أمام الله؟
حامد : إني أحلُّك من هذا العهد، بعد أن ضُبطت في منزلك كسارق.
خيرية : إنك لم تُضبط كسارق! …
حامد : وهذه الرصاصة في أعلى كتفي؟!
خيرية : رصاصة طائشة … أُطلقت عليك خطأً … ولم يعرف الذي أطلقها شخصيتك في الظلام … فلما عرف أنك خطيبي اعتذر.
حامد : اعتذر! … أقلت لهم إني خطيبك؟
خيرية : طبعًا … إني لم أتعود الكذب … أليست هذه هي الحقيقة؟!
حامد : وكيف تلقَّوا هذا النبأ؟
خيرية : كما يتلقى العقلاء الأمر الواقع.
حامد : والباشا؟
خيرية : الباشا في أيدينا … أو في يدك … إذا أردت تبليغ البوليس أنه أطلق عليك الرصاص قاصدًا قتلك باعتبارك خطيبي … فإن في إمكانك أن تزج به في السجن.
حامد : أهددته بذلك؟
خيرية : نعم … هددته؛ فأبدى أسفه … إنه لم يكن يعرف أني ارتبطت بخطيب.
حامد : والآن … ما المخرج؟
خيرية : لماذا تبحث الآن عن مخرج؟! … ألا تريد أن تنسى أنك الشخص الذي دخل إلى هنا خلسة؟! … أنت الآن هنا رجل معترف به رسميًّا.
حامد : معترف به رسميًّا؟
خيرية : لقد أعلنت خطبتنا إلى أمي وإلى الدكتور … وستعلن في الغد إلى الجميع.
حامد : وماذا قالت أمك؟
خيرية : قالت لي (مبروك).
حامد : أنا لا أصدق …
خيرية : بل صدِّق … أنت الآن في بيت خطيبتك.
حامد : ما هذه الليلة العجيبة … بدأتها مجرمًا وختمتها متزوجًا.
خيرية : كُتب عليك في هذه الليلة، على كل حال، أن تختار بين قيدين. قيد من حديد … أو … قيد من ذهب!
حامد : لا تقولي ذلك يا خيرية … إن القيد الذي يربطني بك هو قطعة من النعيم.
خيرية : فليشرق الآن وجهك … لنطرح عنا فواجع هذه الليلة، ولا نذكر إلا خاتمتها السعيدة!
حامد (يعود إلى القلق) : والباشا … كيف كان موقفه منك بالدقة … كيف لم يثر لفكرة زواجك مني؟ … كيف يتخلى عنك هذا الرجل بمثل هذه السهولة؟ … لقد سمعته من خلف ستارتك يقسم أنه يحطم كل ما يحول بينه وبينك؟ … ما الذي يمكن أن يصرفه عن هذا المأرب؟ … وينتزع من نفسه هذه الرغبة، ويجعل قلبه صافيًا ناصعًا نقيًّا؟
خيرية (تخفي ارتباكها) : قلت لك … قلت لك.
حامد (بحدة) : تكلمي …
خيرية : لا تنظر إليَّ هكذا كما لو كنت مجرمة!
حامد : إني أريد أن أقتنع … أقنعيني كيف تخلى عنك هذا الرجل؟
خيرية : بالتهديد أولًا كما قلت لك …
حامد : التهديد بأنه في أيدينا؛ لأنه أطلق على خطيبك النار؟
خيرية : حذارِ يا حامد أن تخاطبني هكذا بلهجة الارتياب.
حامد : أريد أن أقتنع.
خيرية : من حقك أن تكون غيورًا بعض الشيء، ولكن إياك أن تشك فيَّ منذ الآن.
حامد : إني أثق بك يا خيرية كل الثقة … ولكن أريد أن أقتنع.
خيرية : إذا كنت تثق بي حقًّا فلا تُثر هذه الأسئلة الخيالية … هناك أشياء لا يستطيع الإنسان أن يقدم عنها جوابًا مقنعًا … لأن طبيعتها تأبى التعليل المعقول … من ذلك مسائل العواطف والغرائز … إن هذا الرجل الذي سمعته من خلف الستار يقذف من فمه ذلك الكلام كأنه حمم من بركان، قد خمد فجأة … أتتصور هذا؟ … نعم … لقد هدأ عندما أيقن أن هناك وثاقًا متينًا يربطني نهائيًّا بخطيب … لكأن كل أمل عنده قد انهار، وحل محل الرجاء في قلبه يأس … مريح مريح … تنفس بعده الصعداء … وكأنه أفاق من حلم مزعج … فإذا السكينة تقر في نفسه ممزوجة بالرضا … إنك لا تصدق … ولكنك الآن ستراه، وترى منه ما رأيت أنا، وتلاحظ ذلك التغير الذي طرأ عليه … أكاد أشعر أن عواطف الأبوة قد بدأت تتيقظ فيه، وتقوم مكان تلك العواطف المستعرة الأخرى؛ فهو الآن يتحدث في هنائي، ويجد راحة نفسية في أن يعينني على تأسيس بيتنا، وأن يحدب ويعطف على سعادتنا الزوجية.
حامد : واثقة أنت إذن كل الثقة من نواياه الطيبة؟
خيرية : كل الثقة.
حامد : ما دمت تثقين فأنا أثق … إنه لمن حسن حظنا أن تتحول مشاعر هذا الرجل إلى ناحية الخير.
خيرية : دخولك حياتي كان له هذا الفضل.
حامد : ربما … إن الكنز المتروك يغري بالسطو.
خيرية : سطو من؟
حامد : سطو الباشا بالطبع … رآك وحيدة منفردة … لا خطيب يحبك ولا حارس يحرسك فنبتت فيه غريزة السطو.
خيرية : أما أنت فلم تأتِ للسطو على هذا الكنز … بل على كنز آخر! …
حامد : ألا تريدين أن تنسي لي هذه الزلة؟! … ألا تظنين أني قد دفعت ثمنها هذه القطرات من دمي … من تلك الرصاصة التي كان يمكن أن تقتلني. أيسوءك أني لم أجئ للسطو عليك أنت … إنها لمفخرة لي … أني جئت أحرس هذا الكنز الأسمى، وأذود عنه، وأحفظ كرامته، وأكون دائمًا في خدمته، خالصًا مخلصًا إلى آخر أيامي على هذه الأرض.
خيرية : أتعاهدني على ذلك؟
حامد : أعاهدك.
خيرية : هات يدك …
حامد : هاتي يدك أنت!

(يتناول يدها ويلثمها طويلًا، يظهر عندئذٍ الباشا عائدًا من الحديقة.)

الباشا (يراهما فيتنحنح) : قبلة الخطبة المباركة …
خيرية (تنهض وتقدم حامد للباشا) : أقدم لك خطيبي حامد.
الباشا : إننا سعداء يا حامد بك بوجودك.
حامد : أنا لي الشرف يا باشا.
الباشا (ينظر إلى رباطه الصحي) : كيف حالك الآن؟ … لعلك غير متألم من هذا الجرح.
حامد : إنه خدش بسيط لا يؤلم.
الباشا : إني آسف أن يكون أول استقبال لك في بيتنا، لا أقدم إليك فيه شيئًا من المرطبات، أو بعض الحلوى و«الملبس».
خيرية (بابتسامة) : أما «الملبس» فقد تناوله في شكل رصاصة.
الباشا : يؤلمني ذلك … ولكن الذنب ذنبكما … بل أنت المخطئة يا خيرية … كان الواجب عليك أن تقدمي إلينا خطيبك في وضح النهار والشمس طالعة. فما من أحد يسعى في الظلام ويوحي إلى الناس بالفضيلة والسلام.
حامد : الظروف يا باشا قد قضت بذلك.
الباشا : لقد تغيرت الظروف … ومنذ اليوم تدخل بيتنا وتدخل بيتك وقت ما نشاء.
حامد : إني أتشرف …
الباشا : لا بد لكما بالضرورة من بيت لطيف أنيق؛ هذا عليَّ أنا … ثق أني سأجهز خيرية جهازًا يليق بها … ويغريها باستقبال زوارها وهي مزهوة فخورة.
خيرية : متى يتم ذلك؟
الباشا (بنظرةٍ ذات مغزًى) : أإلى هذا الحد أنت نافدة الصبر؟
خيرية : أيدهشك هذا؟
الباشا (بنظرةٍ ذات معنًى) : يدهشني قليلًا … ويسرني كثيرًا … لا تقلقي يا خيرية … ثقي أني أشد منك حرصًا على سرعة التنفيذ … فإن سعادتك تهمني … غدًا أشرع في إعداد كل ما يلزم … نعم ابتداءً من صباح الغد.

(تظهر الأم وخلفها خادم يحمل صينية عليها معدات الشاي.)

الأم : ابتداء من صباح الغد … ماذا؟
الباشا : نقوم بتجهيز خيرية … أليس هذا من رأيك؟
الأم : ولماذا الإسراع؟
الباشا : ولماذا الإبطاء؟
خيرية (وهي تساعد أمها في إعداد فنجان الشاي) : كم قطعة من السكر يا حامد؟
حامد : ثلاث قطع فقط.
خيرية (لأمها همسًا) : دعيني يا أمي أذهب إلى بيتي سريعًا … أرجوك … يا ماما … أرجوك.
الأم : فليكن ما تريدين يا ابنتي! … إني أفهمك.
الباشا (يتثاءب) : لا تنسوا أني رجل على عاتقي مسئوليات خطيرة في المجتمع، وعندي غدًا كالعادة اجتماعات هامة في مجالس إدارات شركات وجمعيات، فواجبكم أن تشجعوني على الذهاب إلى فراشي … كما يشجَّع الأطفال الأبرياء الأطهار.
الأم : وماذا يرغمك على السهر … اصعد أنت إلى حجرتك.
الباشا (لحامد وخيرية) : أكرر التهاني … وإلى الغد … موعدنا الغد.
حامد (ومعه خيرية في نفس الوقت) : إن شاء الله.
الباشا (وهو يتجه إلى السلم) : سأذهب إلى فراشي … وأنام بملء جفوني … وأحلم أحلامًا جميلة … ظريفة … لطيفة.

(يصعد السلم على مهل وهو يصلح هندامه مختالًا ويكون وجه خيرية في اتجاهه، بينما الأم وحامد ظهرهما إلى السلم فلا يريانه وقد انشغلا في حديث خاص. يقف الباشا على الدرج ويلتفت إلى خيرية ويرسل إليها قبلة طويلة في الهواء، فتتلقاها برعدة وتطرق برأسها نحو الأرض.)

(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤