الفصل الثالث

(مكتب مدير شركة الحامدية … مقاعد جلد فاخرة وأثاث فخم، وخرائط زراعية وإحصائية إلخ … حامد المدير … جالس إلى مكتبه، وأجراس التليفونات العديدة حوله ترن في وقت واحد …)

حامد (يتناول السماعات) : نعم! … مفهوم … سأتحرى الأمر الآن بنفسي ونكتب إليكم الرد (يضع سماعة ويجيب في التليفون الآخر) فاهم … فاهم … سيصلكم قريبًا جدًّا … سأتحرى الموضوع … باشكاتب الشركة سيعرض عليَّ البيانات! … (يضع السماعة ويدق جرس السكرتير الخاص. وإذا التليفون يرن) أف! … غير موجود الآن! … (يضع سماعة التليفون ويدخل السكرتير) «الباشكاتب؟!» … أين حضرة الباشكاتب؟ … طلبته منذ ساعة … ألا يريد أن يأتي؟!
السكرتير (في ارتباك) : قال لي إنه مشغول قليلًا.
حامد : عجبًا! … ألست أنا مدير الشركة! … ألا يستطيع مدير الشركة أن يطلب باشكاتب الشركة؟
السكرتير (في يده بطاقة زيارة) : شاكر بك هنا يريد مقابلة سعادتك في أمر هام.
حامد : شاكر بك … من هو شاكر بك؟
السكرتير : هو …

(يفتح الباب ويدخل الباشكاتب فجأة.)

حامد : أخيرًا! … يا حضرة الباشكاتب.
الباشكاتب (يتجه إلى حامد ولكنه يلتفت إلى البطاقة في يد السكرتير ويخاطبه بعنف) : من قال لك أن تستقبل هذا الرجل؟!
السكرتير (بأدب وخضوع) : لقد جاء يلتمس مقابلة البك المدير.
الباشكاتب : هذا الرجل ممنوع أن يضع قدمه في هذه الشركة … ألا تعرف ذلك؟
السكرتير : ممنوع؟
الباشكاتب : بأمر الباشا … ممنوع بأمر الباشا.
السكرتير : لم أكن أعرف.
الباشكاتب : لقد عرفت الآن … اذهب واطرده في الحال.
السكرتير (يخرج بسرعة صادعًا بالأمر) : في الحال.
حامد : ما شاء الله … حتى زوَّاري لا أستطيع أن أستقبلهم؟ … ما معنى كل هذا؟
الباشكاتب : العفو يا سعادة البك! … جنابك هنا المدير … مطلق التصرف … صاحب الكلمة النافذة … الآمر الناهي … لكن من واجبنا أن نحميك — وأنت لنا الذخر والسند والموجه والمرشد — من زيارات الثقلاء، وأن نحمي وقتك الذهبي الثمين من أصحاب الشكاوى …
حامد : أوَليس من واجبي أيضًا تحري شكاوى المساهمين؟ …
الباشكاتب : ثق أن كل شيء بخير … كل شيء بخير … ومركزنا المالي والحمد لله أرسخ من الجبال! … امسك جنابك الخشب! …
حامد : هذا جواب غير مقنع … وقد أجبتني بمثله مرارًا … ولكن المساهمين في قلق على هذه الشركة …
الباشكاتب : ولماذا القلق … لا سمح الله؟ …
حامد : لأنكم بعد أن أعلنتم عنها ذلك الإعلان الضخم، وطرحتم أسهمها في السوق، وأقبل الجمهور على الاكتتاب … وسار كل شيء على ما يرام؛ إذا فجأة لا يسمع أحد شيئًا عن هذه الشركة.
الباشكاتب : وماذا يريد الناس أن يسمعوا؟ … لقد تم الاكتتاب وانتهى الأمر … أي داعٍ بعدئذٍ للطبل والزمر؟!
حامد : إني لا أسأل عن الطبل والزمر؟ … إني أسأل عن الشركة؟ … أين هي هذه الشركة الآن.
الباشكاتب : موجودة.
حامد : أين مديرها؟
الباشكاتب : هذه مسألة أخرى …
حامد : أين أسهمها؟ … هل سلمتم كل الأسهم لأصحابها؟ … مئات من الخطابات والتليفونات، من صغار المزارعين، والمهندسين والمدرسين والمحامين، أهل الطبقة المتوسطة من الجمهور؛ ممن بادروا إلى الاكتتاب. يقولون إنهم دفعوا النقود ولم يتسلموا سوى إيصالات غير قابلة للتحويل … ولما طالبوكم بالأسهم أجلتم وماطلتم … وأخيرًا اقترحتم عليهم أن يأخذوا بنقودهم أسهم الشركة الجديدة (الحامدية) بدلًا من الشركة القديمة (الشاكرية).
الباشكاتب : هذا صحيح … وأي ضرر في هذا؟ … إن غرضنا دائمًا هو مصلحة الجمهور.
حامد : وما هي مصلحة الجمهور هنا؟
الباشكاتب : الشركة الجديدة التي تتشرف بإدارتكم خير ألف مرة من الشركة القديمة.
حامد : شيء عجيب … لقد ساهم الجمهور في الشركة القديمة بأمواله … فبأي حق توجهونه إلى شركة أخرى؟
الباشكاتب : الشيء العجيب حقًّا هو أن الجمهور يشكو من ذلك … هذا الجمهور الذي لا يعرف مصلحته!
حامد : إنك لم تجب عن سؤالي … لماذا حولتم الجمهور من شركة إلى شركة، من الشاكرية إلى الحامدية …؟
الباشكاتب : وما الفرق بين الشاكرية والحامدية؟
حامد : أتسألني أنا؟ … هذا هو السر الذي أريد أنا أن أعرفه؟!
الباشكاتب : لا يوجد سر على الإطلاق … ولكن نستطيع القول إن شركة الشاكرية سائرة في طريقها …
حامد : في طريقها …
الباشكاتب : نعم … إلى التصفية.
حامد : ماذا تقول؟ … التصفية؟ … بعد نجاح اكتتابها وتغطية أسهمها؟
الباشكاتب : هذا هو الشيء الغريب! … ولكن ماذا نفعل؟ … ومديرها رجل محتال نصاب، مزور.
حامد : يا للكارثة! … احتال وزوَّر على من؟
الباشكاتب : على الجميع … على الجمهور، وعلى الباشا، وعلى أعضاء مجلس الإدارة.
حامد : وكيف تمكن من الاحتيال والتزوير؟ … أخبرني بكل شيء!
الباشكاتب : تلك حكاية طويلة … يحسن أن أقصها على سعادتك في وقت أوسع من واقع الملف الخاص … حتى يكون كلامي مؤيد بالمستندات. أما الآن فإني مشغول جدًّا … ولو سمحت لي بالإمضاء (يعرض أوراق ملفه).
حامد (دون أن ينظر إلى الأوراق) : وأموال الجمهور؟
الباشكاتب : لا خوف عليها … لقد حولناه إلى شركتكم الناجحة المضمونة.
حامد : فهمت … وهذا المحتال في السجن طبعًا.
الباشكاتب : مع الأسف … لا … أنت تعرف قلب سعادة الباشا المتدفق بالرحمة، الفياض بالشفقة … النابض بالعواطف الجميلة النبيلة … (مشيرًا إلى الأوراق) لو سمحت بالإمضاء هنا …
حامد (ينظر إلى الأوراق) : ما هذا أيضًا؟ … أسهم؟! …
الباشكاتب : نعم … لقد أردت أن أخفف عن سعادتك العبء … فرأيت أن أحضر للإمضاء في كل يوم كمية من الأسهم الصادر بها المرسوم.
حامد (وهو يمضي بالقلم) : حقًّا … في كل يوم أمضي كمية … أما من طريقة أخرى … لماذا لا أوقع بختمي؟ … حتى ننتهي من هذه العملية سريعًا.
الباشكاتب : لا بد من إمضاء سعادتك على كل سند … زيادة في الضمان.
حامد : إنك شديد الحرص يا حضرة الباشكاتب … وإنه ليدهشني كيف استطاع مدير «الشاكرية» أن يحتال ويزور وأنت هنا، على مقربة منه، مفتوح العينين!
الباشكاتب : ساعة القدر يعمى البصر.
حامد : لقد شوقتني إلى معرفة هذه الجريمة! … (يضع القلم) فلنؤجل إمضاء ما بقي من الأسهم إلى لحظة أخرى … اذهب الآن وأحضر إليَّ الملف الذي وعدتني به.
الباشكاتب (بقلق) : أي ملف؟
حامد : الملف الخاص بحكاية الاحتيال والتزوير.
الباشكاتب : الآن؟
حامد : نعم … الآن … ما الذي يمنعك؟
الباشكاتب : إنه ليس عندي.
حامد : أين هو؟
الباشكاتب : إنه عند … عند سعادة الباشا.
حامد : المسألة بسيطة … نطلبه من سعادة الباشا بالتليفون … فيرسله مع ساعٍ في أقرب وقت (يمسك بالسماعة).
الباشكاتب (يضطرب) : لا … لا داعي إلى مخاطبة الباشا في ذلك؟ … لئلا يظن أني …
حامد : أنك ماذا؟
الباشكاتب : أني متحامل على المدير السابق … وأني أريد فضيحته … لقد رأى الباشا وأعضاء مجلس إدارة الشركة القديمة أن يكون الأمر سرًّا وأن يطوى الموضوع، ويسوى بهدوء، حتى لا يثار اللغط حول مشروعاتهم. فلا تحرجني يا سعادة المدير.
حامد : ليس في هذا إحراج لك، ولكني أريد أن أعرف مركز الشركة القديمة التي دخلت في شركتي.
الباشكاتب : ما دام الباشا لم يذكر لك شيئًا …
حامد : إذن يجب أن أسأله …
الباشكاتب : لا … لا تسأل … نصيحتي المتواضعة أن لا تفعل … ماذا يهمك من كل ذلك يا سعادة البك … أنت مدير ناجح … تتقاضى مرتبًا كبيرًا، وتعيش في بحبوحة وسعادة … كل أوامرك مطاعة وطلباتك مجابة … حائز لثقة مجلس الإدارة … متمتع ببيت جميل وحياة عائلية رغدة ناعمة في ظل سعادة الباشا وكرمه وعطفه.
حامد (بحدة) : ما معنى هذا؟
الباشكاتب : لا شيء … لست أعني شيئًا على الإطلاق سوى أن الموضوع لا يساوي الآن أن تحدث من أجله ضجة أو تثير فيه ساكن الباشا أو المجلس.
حامد : ولكني أريد أن أعرف.
الباشكاتب : إذا كان لا بد من ذلك فاترك لي الأمر أحضر لك المعلومات خلسة بلا ضوضاء.
حامد : أريد الاطلاع على الملف.
الباشكاتب : «ملف الشاكرية»؟ … أنا أحضره إليك.
حامد : متى؟
الباشكاتب : مع شيء من الصبر … مع شيء من الصبر.
حامد : اذهب الآن وأحضره … الآن …
الباشكاتب (يأخذ أوراقه من أمام حامد ويذهب) : سأحاول.
حامد : نعم … اذهب وحاول.

(يخرج الباشكاتب، وينهض حامد ويقترب من إحدى الخرائط فوق الحائط وهو يلفظ «الشاكرية» … «الشاكرية» … ولا تمضي لحظة حتى يفتح الباب ويطل منه رأس شاب في مثل سن حامد … ثم يدخل المكتب.)

حامد : من حضرتك؟
الشاب : لا تؤاخذني …
حامد (مقاطعًا) : من حضرتك؟
الشاب (متابعًا كلامه) : لم أجد غير هذه الطريقة … كلهم هنا يريدون منعي من مقابلتك.
حامد : من حضرتك؟
الشاب : أنا مدير الشركة السابق … شاكر …
حامد : الشاكرية …؟! مدير الشاكرية؟!
شاكر : نعم … أنا المدير … ولا فخر! …
حامد (يبادر ويقدم إليه كرسيًّا) : تفضل … تفضل … فرصة طيبة … إني ليسرني أن أراك … ماذا أطلب لك … قهوة؟ … ليمون؟
شاكر : لا … لا … لا تطلب لي شيئًا … ولا يحسن أن يراني أحد معك … بعد أن غافلت الجميع ودخلت عليك هكذا.
حامد (يقدم إليه علبة السجاير) : سيجارة؟
شاكر (يتناول واحدة) : متشكر.
حامد : ولماذا يريدون منعك من مقابلتي؟
شاكر : لأنهم يخشون أن أطلعك على معلومات ليس من مصلحتهم أن تعرفها أنت، في الوقت الحاضر.
حامد : في الوقت الحاضر؟
شاكر : نعم … في الوقت الذي تصدر فيه أسهم شركة «الحامدية».
حامد : لست أفهم شيئًا … أفصح قليلًا.
شاكر : لقد طلب إليك باشكاتب الشركة أن توقع بإمضائك على كل سهم باعتبارك المدير؟!
حامد : طبعًا … زيادة في الضمان.
شاكر : ضمان من؟ … ضمان خلو مسئوليتهم هم … ما علينا … أراقبت بنفسك الأرقام المسلسلة لهذه الأسهم؟!
حامد : فعلت ذلك في أول الأمر … ولكني في كل يوم أوقع بإمضائي على كميات كبيرة. وأصبحت العملية آلية كما تعلم.
شاكر : نعم … كما أعلم … للأسف … بعد فوات الأوان.
حامد : أرجو أن توضح لي الأمر أكثر من ذلك.
شاكر : هل اطلعت أولًا على ما تم من موضوع الشركة القديمة (الشاكرية).
حامد : لقد حاولت ذلك كثيرًا … ولكني اليوم أصررت على أن أطلع على الملف … وقد ذهب الباشكاتب بالفعل ليحضره إليَّ.
شاكر : إنه لن يحضره إليك.
حامد : لماذا؟
شاكر : لأنك ستجد فيه إجراءات وأساليب، يتضح لك منها أني محتال ومزور.
حامد : هذا حقًّا ما قيل عنك … ولكن ما دخلي أنا في ذلك.
شاكر : سيتضح لك منها في عين الوقت أنك أنت أيضًا محتال ومزور.
حامد : أنا؟ … ما هذا الذي تقول؟
شاكر : تريد أن تعرف بالضبط ما حدث؟ … إذن فاسمع … لقد تأسست الشركة المساهمة (الشاكرية) بمقتضى مرسوم … برأس مال قدره مائة ألف جنيه … دفع منه الباشوات أعضاء مجلس الإدارة نحو الثلث … على الورق مفهوم؟ … أي إنهم لم يدفعوا مليمًا … ولكن أسهمهم قدمت إليهم هدية كما تقدم باقات الزهر … تيمنًا بأسمائهم الكريمة … وطرحت بقية الأسهم في السوق … ودقت طبول الإعلان مصحوبة بالأسماء الكريمة … فأقبل الجمهور الواثق بهم على الشراء إقبالًا جارفًا … حتى ارتفع ثمن الأسهم إلى ضعفه في أيام … وهنا يأتي دوري؛ فإن قلمي باعتباري مديرًا جعل يمضي على أسهم لا ينتهي عددها كل يوم … وإذا الحقيقة تظهر لي بعدئذٍ أن هذه الكميات الأخيرة من الأسهم قد طُبعت حديثًا بعد ارتفاع الأسعار بأرقام مسلسلة مزورة. أي إن السهم رقم ١٧٥ مثلًا قد تكرر أكثر من أربع مرات؛ أي إن السهم الواحد قد بيع أكثر من أربع مرات.
حامد : يا للمصيبة! … ومن الذي فعل ذلك؟
شاكر : أنا طبعًا المسئول؛ لأن إمضائي بيدي على كل سهم!
حامد : وفي جيب مَن دخلت أثمان الأسهم المكررة؟
شاكر : اسأل الباشا والباشكاتب.
حامد : والجمهور من المساهمين؟
شاكر : لم يسلموهم الأسهم المزورة … بل أعطوهم إيصالات بالمبلغ. وجعلوا يماطلونهم في تسليم هذه الأسهم … ثم رأوا أن يصفُّوا «الشاكرية» قبل أن ينكشف الأمر … ويؤسسوا مكانها «الحامدية» ويعطوا الضحايا أسهمها بدلًا من أسهم الأولى … مفهوم؟
حامد : وأنت … ما مركزك؟
شاكر : كما ترى … عنقي هي التي تحت السيف … كلمة من الباشا إلى النيابة … فإذا بي أنا في أعماق السجون بتهمة التزوير والاحتيال.
حامد (يشير إلى الحائط) : وما هذه الأطيان المرسومة على الخرائط باسم تفتيش «الشاكرية».
شاكر : تلك أرض بور ورمال كان يملكها الباشا في صحراء الشرقية، مساحتها نحو ألف فدان، لا تساوي كلها أكثر من ألف جنيه، باعها سعادته للشاكرية بعشرين ألف جنيه. وجعل من أغراضها أن تزرعها بالفول السوداني، وأن تستخرج من الفول السوداني زيتًا، وأن يصنع من الزيت صابون وأن يجعل من الصابون إلى آخره … إلى آخره …
حامد : ولكن هذه الأطيان حُولت الآن إلى الشركة «الحامدية».
شاكر : حُولت بطريق البيع مرة أخرى.
حامد : مرة أخرى؟
شاكر : بعد تصفية «الشاكرية» باع سعادة الباشا بصفته رئيس مجلس إدارة الشركة القديمة إلى سعادة الباشا بصفته رئيس مجلس إدارة الشركة الجديدة هذه الأطيان نفسها بمبلغ ثلاثين ألف جنيه … تجد ذلك ثابتًا في الملفات … أي بربح عشرة آلاف جنيه في الصفقة … والأرض هي الأرض، والرمل هو الرمل … ولم تكن قد أخرجت بعد لا فولًا ولا صابونًا.
حامد (كالمخاطب لنفسه) : يا للعجب! … هكذا إذن يصنعون المال!
شاكر : نعم … هكذا يصنعون المال.
حامد (يمد يده إلى الجرس) : لقد نبهتني إلى خطر.
شاكر (يستوقفه) : مهلًا … ماذا أنت صانع؟
حامد : يجب أن أنادي الباشكاتب … وأفحص معه أرقام الأسهم.
شاكر : حذارِ من أن تخبره أنك مرتاب في شيء … فإنه قدير على أن يضلك ويخفي عنك كل أثر.
حامد : وما العمل؟
شاكر : اعتمد على ذاكرتك … وراقب بنفسك كل رقم تشك في أنه مكرر. واضبطهم متلبسين بالجريمة.
حامد : ولكني وقعت بإمضائي على أسهم كثيرة … من يدريني أنها ليست مزورة؟
شاكر : في هذه الحالة تكون قد وقعت في الفخ، وفات الأوان.
حامد (في رعدة) : يا لله! … في أي مكان نعمل هنا؟ … وأنا الذي حسبت أني أدير شركة محترمة منتجة؟
شاكر : الشركة «الحامدية»! … ومن يدري ماذا ستتخذ لها غدًا من الأسماء والمترادفات.
حامد : غدًا؟
شاكر : أنسيت أن اسمها بالأمس كان «الشاكرية» وكنت أنا مديرها الذي يجلس في نفس هذه الحجرة … وإلى نفس هذا المكتب، محاطًا بهذا الفرش والرياش والخرائط والأرقام والإحصاءات. ما من شيء تغير هنا الآن إلا اسم الشركة واسم المدير.
حامد : وما عملك اليوم؟
شاكر : لا شيء … مطرود إلى قارعة الطريق!
حامد : ولماذا يطردونك؟
شاكر : لأن الباشا لم يعد في حاجة إليَّ.
حامد : وكيف لا يحتاج إليك وإلى خبرتك وكفاءتك؟! … لقد كنت مديرًا!
شاكر : خبرتي وكفاءتي؟! هذا ما كنت أعتقده يوم أخذني الباشا من وظيفتي الصغيرة: كاتب قيودات في شركته. وأجلسني مديرًا للشركة … تذكرت عندئذٍ نبوغي يوم كنت طالبًا في كلية التجارة، وقلت في نفسي مزهوًّا وأنا أتربع في هذا المقعد الكبير: هذا مكاني الطبيعي … لقد وصلت حقًّا بسرعة تحير اللب وتصدم العقل … ولكن هذه معجزة الكفاءة … وظل حضرة الباشكاتب يدخل عليَّ كل يوم يسبِّح بخبرتي وكفاءتي. حتى أعماني البخور وأسكرني الغرور، فلم أبصر أي وحل أسير فيه، ولا أي هوة تحت قدمي … إلى أن انتهى بي الأمر إلى ما ترى من ضياع الشرف والعرض.
حامد (بدهشة ورعشة) : العرض؟!
شاكر : نعم … العرض … وتلك قصة أخرى لا شأن لك بها … فإن ظروفي فيها تختلف عن ظروفك … إنما أردت مقابلتك اليوم لأنبهك إلى تزوير الأسهم … لعلك تتمكن من ضبط الجريمة في حينها … فأستفيد أنا من ذلك في دفاعي … إذا قدمني الباشا إلى النيابة؟
حامد : وما مصلحة الباشا في أن يقدمك إلى النيابة؟
شاكر : ليتخلص مني!
حامد : ولماذا يتخلص منك؟
شاكر : لأني أطالبه بغسل العار عن فتاة غرر بها واعتدى عليها.
حامد : فتاة اعتدى عليها؟ وما شأنك أنت بها؟
شاكر : أختي …
حامد : ماذا تقول؟
شاكر : ما دمت تريد أن تعرف ظروفي الخاصة … فلا بأس من أن أذكرها لك … القصة باختصار أن أختي، وهي فتاة في العشرين، مرت بي ذات يوم هنا وأنا كاتب قيودات، في بعض شأنها، فلمحها الباشا وتلطف معها ومعي، وأبدى لها استعداده لمعاونتها في الحياة … وكان كل أمنيتها بعد أن أتمت دراستها أن تتوظف مدرسة في إحدى مدارس البنات … ولكن الواسطة كانت تنقصها … فلما عاونها الباشا بنفوذه وعينت بالفعل … أسرها الجميل فلم تفطن إلى حقيقة نواياه … وازداد تقربه منا … وكثرت هداياه وعظُم اهتمامه بي، واكتشف مواهبي وكفاءتي … فلم يجد لهما أنسب من منصب المدير لشركة تحمل اسمي، وضخَّم مرتبي … فاتخذنا مسكنًا لائقًا … وأصبح الباشا يزورنا في هذا البيت الفخم زيارة الصديق للصديق … ولكن أعمالي في الشركة كانت تستوجب تغيبي من حين إلى حين … وليس في البيت غير أمي العجوز … تصلي دائمًا في حجرتها وقد ضعف بصرها … وأخيرًا تبين لي السر …
حامد (كالمخاطب نفسه) : نعم … فهمت … فهمت …
شاكر : نعم … أين نحن الضعاف من هؤلاء؟! نحن الجيل الجديد الذي تخرج من الجامعات مؤمنًا بالمثل العليا! …
حامد (من بين أسنانه ساخرًا) : المثل العليا! …
شاكر : خطؤنا الأكبر أننا لم نستطع الاحتفاظ بها طويلًا في قلوبنا … لكن هل كان في الإمكان أن تبقى أو تصمد بعد أن رأينا ما يجري في الحياة؟ … وبعد أن كشف لنا المجتمع، بما فيه من أمثال هؤلاء القادة والكبراء، عن طرق الوصول ومُثل النجاح؟! …
حامد (كمن يخاطب نفسه) : الويل للباشا إذا كان ما تقول صحيحًا.
شاكر : نعم … الويل له … إني أعرف الآن ما أنا صانع. لقد دفعوا بنا إلى الجريمة.

(ينهض متأهبًا للانصراف.)

حامد (وهو ينهض) : ماذا تنوي أن تفعل؟
شاكر : ما أفعل سوف تعرفه في وقته.

(يسلم على حامد ويتركه ويخرج من يحث جاء، بينما يقف حامد بلا حراك وكأنه من الشرود غائب الوعي، وفجأة يفيق وينقضُّ على آلة التليفون كالمجنون ويدير رقمًا.)

حامد (السماعة على أذنه) : آلو … آلو … من أنت؟ إدريس؟ … من إدريس؟ آه … إدريس السفرجي … اسمع يا إدريس … أين الست؟ … الست؟ … أين الست؟ … خرجت؟ … خرجت أين؟ … ألا تعرف أين ذهبت؟ … لا تعرف؟ … ومن طلبها في التليفون؟ … الباشا؟ … الباشا طلبها في التليفون.

(وعندئذٍ يدخل السكرتير حاملًا برقية يقدمها إلى حامد بأدب واحترام.)

السكرتير : هذه برقية من وكيلنا بالإسكندرية … أشر عليها سعادة الباشا.
حامد (يخطفها من يده ويقرؤها) : «عزيزي حامد بك … يجب أن تسافر الليلة إلى الإسكندرية لتشرف بنفسك على حركة بيع الأسهم في البوصة.»
حامد (يدس البرقية في جيبه ويلبس طربوشه ويندفع خارجًا وهو يقول) : أسافر الليلة! … مفهوم … مفهوم … مفهوم جدًّا!

(يخرج على نحو يدهش له السكرتير الذي يقف ناظرًا إليه كالمأخوذ، ويقلب كفه كمن لم يفهم شيئًا مما يرى، ويدخل عندئذٍ الباشكاتب من باب آخر يحمل أوراقه وينظر إلى المكتب الخالي.)

الباشكاتب (يلتفت حوله) : أين المدير؟
السكرتير : خرج مسرعًا.
الباشكاتب : خرج؟ … وكيف يخرج قبل أن يمضي بقية الأوراق؟
السكرتير : لست أدري يا حضرة الباشكاتب.
الباشكاتب (بنظرة نارية) : يا حضرة؟
السكرتير (متداركًا) : البك … يا حضرة البك … لست أدري والله أين ذهب المدير … كل ما أعلم هو أني دخلت أعرض عليه برقية مؤشرًا عليها من الباشا … فخطفها من يدي ودسها في جيبه وانطلق خارجًا على نحو غريب.
الباشكاتب : ما شاء الله! … ما شاء الله! …
السكرتير : لو كنت أعلم أن سعادتك تريد أن يبقى في المكتب قليلًا كنت اتخذت اللازم.

(صوت الباشا من الخارج يتنحنح.)

الباشكاتب : صه … سعادة الباشا.

(يقف بأدب متأهبًا للمقابلة. وكذلك السكرتير. ويدخل الباشا يعبث بسبحة من الكهرمان.)

الباشا (ينظر إلى المكتب الخالي) : أين حامد بك؟
الباشكاتب : خرج الآن يا باشا!
الباشا : أين ذهب؟
الباشكاتب : لا أعرف … لم يخطرني بذهابه! … ولكن السكرتير يقول إنه أعطاه برقية.
السكرتير : البرقية المؤشر عليها من سعادة الباشا.
الباشا : آه … عظيم … عظيم … عظيم … لقد ذهب ولا شك يعد حقيبة السفر؛ فهو لا بد أن يكون الليلة في الإسكندرية … مدير نشيط.
الباشكاتب : بماذا يأمر سعادة الباشا؟
الباشا : لا شيء … كيف حال العمل عندك يا حضرة الباشكاتب؟

(الباشكاتب يومئ بإشارة إلى السكرتير لينصرف. فيخرج السكرتير في الحال.)

الباشكاتب (في ابتسامةٍ ذات معنًى) : على ما يرام يا باشا.
الباشا (بنبرةٍ ذات معنًى) : عملية إمضاء الأسهم؟
الباشكاتب : كدنا ننتهي منها اليوم.
الباشا : كدتم؟ … وما الذي منعكم؟
الباشكاتب : فكرة قامت في رأس حامد بك أن يناقشني في موضوع «الشاكرية».
الباشا : عرفت بالطبع كيف تجيب؟
الباشكاتب : طبعًا …
الباشا : أعرف براعتك … إني مطمئن إليك … وثقتي بك لا حد لها … لا لأني رجل عاطفي فقط، بل لأني رجل يراك تدافع عن مصلحتك … أو بعبارة أخرى عن عمارتك التي تُبنى الآن في الدرب الأحمر …
الباشكاتب (مطرقًا) : كله من خير سعادة الباشا.
الباشا (بلهجةٍ ذات معنًى) : ومن خير الأسهم المكررة! … إذا صدقت معلوماتي؛ فإن كل رقم مكرر يختفي منه سهم … وهذا وضع يمكن أن يحتمل … وإذا صدقت معلوماتي أيضًا فإن العمارة قد وصلت إلى الطابق الخامس … وهذا أيضًا يمكن أن يحتمل … ولكن نصيحتي أن يقف البناء عند هذا الحد؛ محافظةً على الأساس!
الباشكاتب : هذا أيضًا من رأيي يا سعادة الباشا.
الباشا : اتفقنا! …

(الباب يفتح فجأة، وتدخل خيرية …)

خيرية (باندفاع) : حامد! … أين حامد؟ …
الباشا (يلتفت باسمًا) : مرحبًا! … مرحبًا! …

(الباشكاتب ينسل خارجًا بسرعة.)

خيرية (مسمَّرة في الأرض كالمأخوذة) : أنت؟ هنا؟
الباشا : نعم أنا … ما كنت تتوقعين أن تجديني هنا؟! …
خيرية : لا …
الباشا : أما أنا فكنت أتوقع أن أجدك ذات مرة هنا.
خيرية : طبيعي أن أزور زوجي في مكتبه.
الباشا : وليس من الطبيعي أن تزوريني في مكتبي.
خيرية : لا أرى لذلك ضرورة.
الباشا : أحب هذه الصراحة! …
خيرية : ألسنا نحظى بزيارتك لنا في منزلنا من حين إلى حين؟
الباشا : حقًّا! … زيارة تحاولين دائمًا بمهارة أن تكون في جو عام! … ما من مرة أردت زيارتك إلا وجدت زوجك معك أو أمك أو جارتك … لكأنك تبادرين إلى استدعاء من يقطع خلوتنا … لا ينقصك إلا جرس، تدقينه في النافذة ليصعد إلينا المارة والجماهير.
خيرية : ولم لا؟ … زيادة في الترحيب بك! …
الباشا : أهذا ما وعدتِني به؟ وعاهدتني عليه.
خيرية : بماذا وعدتك؟
الباشا : الذاكرة لا تضعف في مثل عمرك الغض … لم تمضِ بعدُ ثلاثة شهور على تلك الليلة التي عقدنا فيها الاتفاق الذي تعرفين! … أما أنا فقد قمت بوعدي، وها هو ذا زوجك قد أصبح مدير شركة كبرى تحمل اسمه … وها أنا ذا قد تحليت بالكياسة واللباقة فأعددت العش الجميل الذي لم تطأه بعدُ قدماك! …
خيرية : الظروف قضت بذلك … مرضي كما تعلم، واعتلال صحتي طول هذه المدة اضطرني إلى ملازمة الفراش في أغلب الأيام.
الباشا : قصة مرضك هذه، اسمحي لي أن أقابلها بالتحفظ الشديد … وإني أعلم الآن لماذا يضع بعض النساء حول نحورهن فراء الثعالب. ويقربن من ثغورهن رءوسها الصغيرة مفتوحة الآذان … أتدرين لماذا؟ لأن هذا الصنف من النساء يلقن الثعالب دروسًا في المراوغة! …
خيرية : ليتني أستطيع أن أروغ منك!
الباشا : بئس هذا التمني الذي ينطوي على الغدر ونكث العهود … كان يجمل بك أن تتخذي مني أسوة ومثلًا … وأن تحافظي على تعهداتك نحوي. كما حافظت على تعهداتي نحوك … أنا الذي وفيت بكلمتي لك مغمض العينين، حرفًا حرفًا، وشرطًا شرطًا، كما يقضي بذلك واجب الشرف.
خيرية : الشرف! …
الباشا : اهزئي ما شئت … وأنكري قيمة المبادئ … فأنت حرة في أن تكوني امرأة ليس لها وعد ولا عهد … ولكن ما ذنبي أنا أقع فريسة لك. تستغلين نيتي الطيبة وتلعبين بي، وتعبثين بأناملك الناعمة المصبوغة بالأحمر كأنها مخالب انغمست في دمي البريء.
خيرية : يا للضحية! … يا للضحية! …
الباشا : تلفظينها بلذة ونهم! … كل امرأة بالغريزة تحب أن يكون لها ضحية؛ لأنكن من فصيلة القطط والنمور! …
خيرية : تريد الآن أن تقنعني بأنك ضحيتي.
الباشا : فأر صغير … يحلو لك أن تمسكي به من ذيله … وأن تفعلي به ما تشائين، وتنالي منه ما تريدين، دون أن تعطيه فرصة ليأخذ منك شيئًا! …
خيرية : إنه يريد أن يأخذ مني كل شيء.
الباشا : إنك تبالغين.
خيرية : هذا الفأر الصغير يريد أن يقرض حبل حياتي.
الباشا : حياتك؟ … ومن الذي صنع لك هذه الحياة، وفق ما طلبت وتمنيت وتخيلت؟
خيرية : لقد صنعت ذلك حقًّا … ولكنك اليوم تقتضيني الثمن غاليًا! …
الباشا : الثمن غاليًا! إنك تتكلمين بلغة السوق.
خيرية : اللغة التي تفهمها أنت!
الباشا : نعم … في غير هذا المقام … ولكن كياستي ولباقتي تحتمان عليَّ استعمال لغة أخرى للتعبير عن مشاعري السامية وعواطفي الحارة …
خيرية : مشاعرك السامية لا يناسبها غير الصراحة المجردة … اكشف عن مطالبك … ألا تعترف أنها باهظة؟!
الباشا : لقد قبلت الصفقة … وعرفت الثمن مقدمًا.
خيرية : ها أنت ذا ترجع بسهولة إلى لغتك الحقيقية … نعم … لقد قبلت وعرفت … ولو كان الأمر يتعلق بشرفي وحده لهان … ولكنه الآن يتعلق بشرف زوجي! …
الباشا : شرف زوجك!
خيرية : قد أستطيع التصرف فيما أملك … ولكني لا أستطيع التصرف فيما لا أملك! …
الباشا : شرف زوجك؟!
خيرية : نعم … بأي حق ألوثه أنا وأدنسه؟!
الباشا : يا له من احتيال! … يوم كان الأمر يتعلق بك وحدك، قلت لا بد من تصحيح الوضع … ولا بد من زوج … فلما جاء الزوج، قلت لا بد من المحافظة على شرف الزوج … ولكني أسارع فأدخل على قلبك الأمان … وعلى ضميرك الاطمئنان … وأخبرك أن زوجك لا شرف له، حتى تحافظي عليه.
خيرية : ماذا تقول؟
الباشا : إنه مزور محتال! … وتحت يدي البراهين والمستندات … ولم يمنعني من فضح جرائمه وتقديمه إلى النيابة … إلا حرصي عليك وعلى سمعتك … وإبقائي على ما بيننا من صلات وعهود.
خيرية : أنت كاذب! … لا أصدق أن حامد …
الباشا : لقد تزوجت لصًّا يا سيدتي! … لا أعني فقط ذلك اللص الذي ضُبط في البيت ليلًا … ولكن هذا اللص الجالس على هذا المكتب يسرق أموال الشركة.
خيرية : خسئت! …
الباشا (يُخرج من جيبه سهمًا) : إليك البرهان. انظري! … هذا سهم من أسهم الشركة … إمضاء من هذا؟ … أليس إمضاء حامد بخطه؟ … إذن فاعلمي أن هذا السهم مزور مكرر، مع ألوف غيره من الأسهم، لقد زورها، وعليها إمضاؤه بخط يده وباعها وقبض ثمنها، معرِّضًا مصالح المساهمين للخطر … ولولا سلوكي النبيل نحوك … وأخلاقي الكريمة التي لا تقدرينها، لجعلتك تبصرين بعينك هذا الزوج العزيز، والمدير المحترم مكبلًا أمام الناس في الحديد.
خيرية (كالمخاطبة لنفسها) : حامد يفعل ذلك؟! … مرتبه يكفينا … لماذا يفعل ذلك؟
الباشا : يفعل ذلك لأنه يريد أن يثري سريعًا … هذا الشاب الذي دخل بيتك للحصول على نقود … قد وضع في رأسه الوصول إلى المال من أي طريق … ولو من طريق الجريمة … وما أنت في حياته دائمًا إلا سلم معلق على نافذة. إن روميو هذا العصر شاب يريد أن يقفز إلى نوافذ المال والجاه. ولو فتل من شعر جولييت سلمًا. وجعل من جسدها درجًا …
خيرية : حامد لا يفكر هكذا الآن.
الباشا : الآن وفي كل وقت … ولكنك بلهاء … لم تستطيعي أن تكشفي حقيقته. أتظنين أن قلبك شيء يهمه أو يعنيه؟ … أتحسبين أنه يجهل ما يفعل؟ … إنه يفهم جيدًا حقيقة وضعه منذ الساعة الأولى، وإن كان فاته أن يفهم ذلك من قبل … فلا يمكن أن يبقى جاهلًا حتى الآن … هذا الشاب ليس ساذجًا، حتى يعتقد أن نبوغه وحده هو الذي يؤهله لمنصب المدير. إنه لا شك قد ساءل نفسه، من أين له هذا. وهو اليوم يدرك أن هذه القفزة الكبرى لشاب مثله لا بد أن يكون لها ثمن … وهو يعرف هذا الثمن.
خيرية : هذا كذب وبهتان. إنه لا علم له بشيء على الإطلاق.
الباشا : أقسم لك أنه على تمام العلم. وعلى تمام الاستعداد أن يدفع الثمن. أو تدفعيه أنت عنه … على شرط أن يحتفظ بمركزه الاجتماعي الذي وصل إليه، وأن يبقى في هذا المستوى من الرفاهية والترف الذي اعتاد عليه … إن زوجك هذا ليس أول شاب أعرفه من هذا الطراز!
خيرية : أنت واهم … حامد ليس مثل غيره من الشباب الوصولي … إنه لا يبيع مبادئه.
الباشا : أيتها الحمقاء! … إنه يبيعها بأبخس مما تتصورين. أتظنين أنه يرضى الآن بالعودة إلى حي الأزهر! … يكدح فيه بقروش معدودة. من أجل سواد عينيك؟! …أحسبت أني صبرت عليك هذه الشهور الثلاثة لأني صدقت حكاية مرضك؟! … لا يا سيدتي الصغيرة، بل لأني أردت أن أصبر على هذا الشاب حتى يعتاد هذا المستوى المرتفع من الحياة الرضية الهنية، فيعز بعدئذٍ على هذا المدير أن يهبط من حالق إلى أرض الأزقة، فيتحطم كإناء من الفخار! …
خيرية : شيطان …
الباشا : لقد كانت روحه مستعدة للفساد. وإني ما فعلت أكثر من أن أنلته ما أراد … لقد نال مني بغيته … بمنتهى السهولة، ولكنه أصبح في قبضتي كهذه الورقة (ينتزع ورقة من فوق المكتب ويطبقها في كفه) أستطيع أن ألقي به أي وقت في هذه السلة! … (يلقي بالورقة في سلة المهملات تحت المكتب) هكذا! …
خيرية : وأخيرًا؟!
الباشا : وأخيرًا … أرجو أن تكوني مثله في الحكمة والتعقل، إنه يعرف قدرتي، ويدرك ما أريد منه ومنك … وله رغبة في الطاعة … ويميل إلى أن يمهد لي طريقي … كما مهدت له طريقه.
خيرية : لن أصدق ذلك أبدًا … أبدًا … أبدًا …
الباشا : معي البرهان.
خيرية : أرني البرهان.
الباشا : أصدرت إليه أمري بالسفر … الليلة إلى الإسكندرية، في مهمة صورية لا تستدعي عادةً ذهاب المدير … وهو أذكى من أن يعمى عن المقصود من هذا الإبعاد.
خيرية : لن يسافر …
الباشا : سيسافر … ولن يعترض، ولن يرفض، وسيتركك الليلة وحدك، وسأزورك أنا في بيتك، في تمام التاسعة وأصحبك إلى السينما، ثم نخرج منها إلى العش الجميل حيث تتناولين معي عشاءً خفيفًا لطيفًا.
خيرية : لن يتركني الليلة.
الباشا : سيتركك الليلة … لي … لي …
خيرية : أأنت واثق من نذالته؟ …
الباشا : واثق من حكمته! …
خيرية : حكمته؟
الباشا : على شرط أن تدعيه يتصرف بمحض اختياره … لا تحاولي التأثير على إرادته بأفكارك … ولا تركعي عند قدميه، تتوسلين إليه أن يبقى.
خيرية : لن أركع أبدًا عند قدمَي زوج من هذا الطراز! … كرامتي تأبى ذلك.
الباشا : مرحى … مرحى … إنك دائمًا خيرية التي أعرفها … ذكية … فطنة … تتفتح عيناك على الحقائق، في الوقت المناسب.
خيرية (تتحرك للانصراف) : أرى أن الوقت الآن غير مناسب لبقائي هنا.
الباشا (وهو يشيعها إلى الباب) : أتعودين إلى بيتك؟
خيرية (كالشاردة) : لا أدري …
الباشا : أغلب ظني أن زوجك الآن في البيت يعد حقيبة السفر، كوني عند كلمتك هذه المرة.
خيرية (كالمخاطبة لنفسها) : سأتركه يتصرف بمطلق حريته!
الباشا : إلى اللقاء … خيرية … الليلة … لا تنسي … في تمام التاسعة.

(تخرج خيرية من الباب سريعًا دون أن تجيب، ويعود الباشا وهو مرح يدندن … وعندئذٍ يُسمع نقر على الباب، ثم يطل السكرتير برفق.)

السكرتير : سعادة الباشا يأذن.
الباشا (يلتفت) : خيرًا.
السكرتير : مكتب سعادة الباشا اتصل تليفونيًّا الآن … يوجد زوار في الانتظار، هناك وفد من جمعية أنصار …
الباشا (مقاطعًا) : آه … نعم … ولكني لن أعود الآن إلى مكتبي … إني منصرف.
السكرتير (بتردد) : يظهر أنهم كانوا على موعد …
الباشا (ينظر في ساعته) : إذا استطاعوا أن يلحقوا بي هنا في مدى عشر دقائق فإني أنتظرهم … أخطر مكتبي بذلك.

(السكرتير يخرج، ويتمشى الباشا في القاعة ويتأمل الخرائط والإحصاءات على الحائط. وعندئذٍ يفتح باب جانبي آخر بهدوء وتدخل امرأة في مقتبل العمر، وتسعل قليلًا فيلتفت إليها الباشا.)

الباشا (مفاجأً) : ناهد؟! … (بخشونة) ماذا جئت تصنعين هنا؟
ناهد : علمت أنك هنا … وإني أعرف أنك لا تحب رؤيتي اليوم … وأنك تتهرب من مقابلتي … فلم أرَ من وسيلة إلا أن أدخل عليك هكذا. بغير استئذان.
الباشا (بجفاء) : ماذا تريدين مني؟
ناهد : أن تصحح وضعي.
الباشا : حقًّا! … لم يبقَ لي الآن في الحياة من شغل إلا أن أصحح الأوضاع.
ناهد : سيطردونني من المدرسة … ولن أجد عملًا في مدرسة أخرى … فقد سرت الإشاعة أني خليلتك.
الباشا : ما عدت الآن خليلتي … لقد انتهى كل شيء بيني وبينك … كما تعلمين.
ناهد : لقد كنت وعدتني بالزواج.
الباشا : أأنت مجنونة؟ … إني رجل متزوج.
ناهد : وما الذي يمنع؟ … لقد قلت لي إنك ستعقد عليَّ وأكون زوجتك الثانية، المحظية المحبوبة في الستر بلا ضجة ولا ضوضاء؟! … أتنكر هذا القول اليوم؟! …
الباشا : أجئت اليوم لتذكريني بكلام قديم … قيل منذ عامين على سبيل المجاملة؟! لا بد أنك قد أصبت بمس في عقلك!
ناهد : لقد أصبت بعار لن يمحوه إلا أن تفي بوعدك ولو لمدة يوم واحد ثم تطلقني.
الباشا : هذا إجراء متأخر … وليس عندي اليوم وقت لهذه المساخر.
ناهد : ليس الذنب ذنبي. لقد كنت تماطل وتؤجل … وتخدرنا بمعسول القول إلى أن فتر اهتمامك بنا … وقلَّت زياراتك لنا … وأخيرًا جاء اليوم الذي انقطعت فيه العلاقات بيننا دفعة واحدة … فهجرتني وطردت أخي … أليس في قلبك رحمة؟ … أين الرحمة في قلبك؟
الباشا : أنت تعلمين أني قد صفيت الموقف معك نهائيًّا … ومع أخيك … بكل كرم وسخاء.
ناهد : ماذا تعني؟ … أنا أقبل منك ثمنًا لعرضي؟! …
الباشا : لقد قبل أخوك الثمن وقبضه وانصرف … ولكنه عاد يطالب بالمزيد. وها أنت ذي تعودين لفتح موضوع التعويض … تخفينه تحت ستار تلك اللغة القديمة التي لا تأثير لها في المجتمع العصري، العِرض والعار! أنت أول من لا يقتنع بهذا الكلام العتيق، وأول من يدرك أن علاج ذلك سهل الآن … ففي شركاتي عشرات من الشبان مستعدين للزواج منك … وستر عارك المزعوم … ولكنك لا ترين ذلك … أنت إنما تريدين اللقمة الكبرى والمغنم الأكبر.
ناهد : أنت وغد …
الباشا : لو كنت رجلًا لصفعتك في الحال … وطردتك من هذا المكان كما يطرد الكلب … ولكنك سيدة … يرغمني الأدب على احتمالك.
ناهد : لك الحق أن تفعل أكثر من ذلك … لقد أخذتني لحمًا ورميتني عظمًا.
الباشا : من الذي دفعك إلى المجيء هنا اليوم؟ … هو أخوك شاكر؟
ناهد : لا … بل طمعي في مروءتك.
الباشا : ألا تعلمين أن شاكر يلاحقني منذ مدة بالخطابات والتليفونات؟ أحيانًا يتوسل ويتمسكن … وأحيانًا يتهدد ويتوعد … حتى ضاق صدري … وأعلنته أخيرًا أني سأبلغ أمره إلى النيابة.
ناهد : لقد أخبرني أنك تتهمه بالتزوير والاحتيال.
الباشا : لست أنا وحدي … بل أعضاء مجلس الإدارة وكل المساهمين.
ناهد : أنت تعلم أنه بريء …
الباشا : ومن الذي ارتكب الجريمة … ووقع بخطه؟ … عفريت من الجن، أو شبح من الأشباح؟!
ناهد : أنصحك ألا تبلغ.
الباشا (هازئًا) : تنصحينني؟
ناهد : لا تدفع به إلى اليأس … لقد لمحت معه مسدسًا.
الباشا (هازئًا) : ليطلقه على من؟ … عليَّ أو على نفسه؟
ناهد : لست أدري.
الباشا : عين أسلوبه في التهديد والوعيد! … عصابة صغيرة بارعة من الجيل الجديد.
ناهد : من خلقك أنت وصنعك.
الباشا : من صنعي أنا؟!
ناهد : ومن غرسك وزرعك. كنا في بيتنا المتواضع أنا وأخي نعيش آمنين، نسعى إلى رزقنا البسيط بفخر، ونأكل لقمتنا الطاهرة بعرق الجبين، نسير في الحياة بخطانا الطبيعية البطيئة … ولكننا نؤمن بقيمة الفضيلة ومعنى الشرف ونعتقد أن لهما نورًا قدسيًّا … هو أبقى للنفس من بريق الذهب وأضواء اللآلئ! … كنا أغنياء بالنفوس … أقوياء بالمبدأ … نرى الثروة شيئًا في قلوبنا … لا رداء على الأبدان! … فجئت أنت، ودخلت بيتنا؛ فكأنه الشيطان الرجيم جاء يقلب حياتنا رأسًا على عقب.
الباشا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يسبح بالسبحة).
ناهد : نعم … استعذ بالله من نفسك … لقد علمتنا أشياء ما كنا نعلمها. وأريتنا طريق المال سهلًا ميسورًا … وأفهمتنا أنه هو كل شيء، وبهرتنا به، وأغريتنا بهالته … فسرنا وراءك نتخذك إمامًا … ونتبع خطاك دون أن نبصر في أي طريق نسير.
الباشا : أيتها المعلمة … هذا كلام تخاطبين به تلاميذك في رياض الأطفال.
ناهد : لا تهزأ بمهنتي … إن قلبي يتمزق … كلما تذكرت أني لم أكن جديرة بتعليم الجيل الصغير! … ماذا أعلمه؟ … وقد فسدت نفسي … وزاغت عقيدتي وفقدت مُثُلي وأضعت مبادئي.
الباشا : ومن المسئول؟
ناهد : أنت.
الباشا : أما أنتم فلا ذنب لكم ولا جريرة! … أبرياء، أطهار، بررة … تبيعون مبادئكم التي تقولون إنها غالية نفيسة … وتقبضون الثمن وتضيعونه … ثم تصيحون … لقد خسرنا … إن كل صفقة أيتها المدرسة المهذبة، تحتمل الربح والخسارة، وكل من باع شيئًا يجب أن يقدِّر أنه قد يربح وقد يخسر … ولكنكم لا تقدرون دائمًا غير الربح … الربح … الربح.
ناهد : إنك تكلمني بلغة التجارة … نحن لسنا تجارًا.
الباشا : مغامرون … أنتم مغامرون … وقانون المغامرة مثل قانون التجارة.
ناهد : لا تنسَ أنَّا أطفال بالنسبة إليك … وأنَّا كنا نراك في مقام المنقذ الكريم والمرشد الرحيم … وكان عليك أنت أن تقودنا إلى الخير والفضل والغنيمة؛ لا إلى الضياع والفساد والجريمة …
الباشا : أعترف أني ما فكرت في أن أقودكم إلى شيء.
ناهد : هذا صحيح … إنك ما كنت تفكر قط إلا في نفسك … وفي أن تتخذ منا أدوات لأغراضك.
الباشا : حذارِ أن تنكري أني بسطت لكم يدي … وأني ما ضننت عليكم بشيء. وما رفضت لكم مطلبًا …
ناهد : حقًّا … يوم كنت ترجو شيئًا مني …
الباشا (مستمرًّا) : وأني أغرقتكم في بحار نعمتي.
ناهد : نعم … أغرقتنا … أغرقتنا … أغرقتنا وتركتنا.
الباشا : لن تغرقوا … إني أعرف أنكم تحسنون السباحة.
ناهد (في استعطاف) : ألن تمد إلينا يدك؟
الباشا (ينظر في ساعته) : ليس الآن … الآن أنا مشغول … مشغول جدًّا.
ناهد (في توسل) : ألقِ إليَّ ببعض الأمل.
الباشا : ومن يمنعك أن تعيشي بالأمل.
ناهد : أتوسل إليك … أستحلفك بحبك لي … حبك الذي مات.
الباشا (يلتفت إلى الباب الذي يفتح) : صه.

(يظهر السكرتير على العتبة.)

السكرتير : سعادة الباشا! حضر وفد جمعية …
الباشا (في ارتباك) : لحظة … لحظة … (يلتفت إلى ناهد) أرجوك يا ناهد … انصرفي الآن بسرعة (يسمع صوت وفد الجمعية بالباب؛ فيدفع ناهد إلى حجرة جانبية ويغلق عليها) اختبئي هنا لحظة (ثم يتجه إلى الباب ويستقبل أعضاء وفد الجمعية الداخلين) أهلًا وسهلًا.
الوفد : أهلًا بسعادة الباشا.
الباشا : أنا في غاية السرور بهذه الفرصة السعيدة.
الوفد (بلسان كبير الأعضاء) : بل نحن في غاية السرور … إذ شرفنا سعادة الباشا بقبول الرياسة الفخرية لجمعية أنصار الفضيلة.
الباشا (في تواضع مصطنع) : هذا شرف لي.
الوفد (بلسان كبيرهم) : بل شرف للجمعية يا سعادة الباشا … فإن ماضيك المجيد في أعمال الخير له في النفوس أثر لا يمحى … وجهادك في المجتمع من أجل الإصلاح له صفحات مشهورة … ومساعيك في صيانة الأخلاق لها مواقف مشكورة.
الباشا (يُطرق متواضعًا ويسبح بالسبحة ويتمتم) : أستغفر الله … أستغفر الله.
الوفد (مستمرًّا) : وأنت في المجتمع قطب من أقطاب البر والفضل والخلق. يلهج الناس باسمك في كل مكان، جاعلين منك المثل الذي يحتذى به في السير السليم والسلوك القويم … رافعين إليك العيون … مشيرين إليك بالبنان.
الباشا : أستغفر الله … أستغفر الله.
الوفد (مستمرًّا) : فإذا تفضلت ونزلت وقبلت رياسة هذه الجمعية … فإنما هو فضل من أفضالك … وحسنة من حسناتك … وكسب للأخلاق … ونصر للفضيلة.
الباشا (يسبح بالسبحة) : أستغفر الله (يلمح حركة بباب الحجرة التي بها ناهد).

(يرى الباب يفتح قليلًا وتحاول ناهد أن تطل برأسها لترى ماذا يحدث بحجرة المكتب … فيسرع الباشا إلى الباب بحركة خفية لا ينتبه إليها أعضاء الجمعية، ويغلق الباب بعنف وهو يقول كأنه يؤنب ناهد:)

أستغفر الله … أستغفر الله.
كبير الأعضاء (يلتفت إلى وفد الجمعية صائحًا) : اهتفوا معي … فليحيَ رئيس جمعية أنصار الفضيلة! …
الوفد (هاتفًا) : يحيَ رئيس جمعية أنصار الفضيلة.

(بينما الباشا يهز رأسه بالتحية ويضع يديه على رأسه شاكرًا.)

ستار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤