الفصل الرابع

(بهو في شقة «حامد» الفاخرة بجاردن سيتي. أثاث يدل على ذوق ورخاء. الوقت ليل والضوء ينبعث ورديًّا باهتًا من أباجور كبير في أحد الأركان. البهو خالٍ والساعة تدق تسع دقات، وعندئذٍ يرن جرس باب الشقة. ثم تُسمع حركة فتحه وإغلاقه. ويظهر الباشا في أتم أناقة، وخلفه الخادم.)

الباشا (للخادم) : حامد بك ليس هنا بالطبع؟!
الخادم : البيك سافر.
الباشا (بلهجة العارف الواثق) : مؤكد … والست؟ …
الخادم : الست في حجرتها … وهي الآن …
الباشا (مقاطعًا) : عظيم … عظيم … اذهب أنت لعملك … لا حاجة بي الآن إليك.
الخادم : نحضر القهوة لسعادة الباشا؟ …
الباشا : لا تحضر شيئًا … سنخرج بعد قليل (ينظر في ساعته ويضعها على أذنه) كم الساعة الآن؟
الخادم : دقت التاسعة منذ لحظة.
الباشا (كالمخاطب لنفسه) : في موعدي بالضبط … (يلتفت إلى الخادم) اذهب أنت إلى عملك! …
الخادم (متحركًا) : أخبر الست؟
الباشا (يمنعه بإشارة) : لا … لا … أنا أخبرها بنفسي … اذهب أنت …

(الخادم يدير زر الكهرباء في النجفة الكبرى فيضيء البهو ضوءًا ساطعًا ثم يخرج.)

الباشا (وكان قد تهيأ للتحرك نحو باب الحجرة الثانية) : يا لك من أحمق! أضعت النور الوردي الشاعري! (يلقي نظرة أخيرة على هندامه في مرآة البهو … ثم يقترب من باب الحجرة وينقر عليه بلطف ويهمس برقة) خيرية … خيرية.

(يفتح الباب فيتراجع الباشا من المفاجأة … فقد ظهرت الأم تنظر إليه نظرات قاسية.)

الباشا (من بين شفتيه) : أنت … هنا؟ … ما معنى وجودك هنا الساعة؟!
الأم : عليك أن تفسر معنى وجودك أنت أولًا …
الباشا : ليس لأحد أن يطالبني بحساب أو تفسير لتصرفاتي.
الأم : تصرفاتك لا تحتاج إلى تفسير! … لقد أطلعتني هي اليوم على كل شيء … هلم معي بلا ضوضاء إلى منزلنا … أرجوك … هلم بنا … اترك ابنتي.
الباشا : أترك ابنتك؟
الأم : نعم … أتوسل إليك أن تترك ابنتي … لأنك لن تصل إليها إلا على جثتي، أفهمت؟ … خير لنا يا محمود أن نغادر هذا المكان … ونمضي إلى بيتنا بكل هدوء … قبل أن تقع الكارثة … قلبي يحدثني أن كارثة ستقع …
الباشا : ما هذا الذي تقولين؟
الأم : لقد صممت أن أقف الليلة على باب ابنتي … أذود عنها وأحميها … ما عدت أطيق عذابي الصامت الذي عشت فيه زمنًا … إني ما كنت عمياء ولا بلهاء … بل زوجة محبة مخلصة … ترى وتلمح وتلاحظ تلك الأشياء الغريبة المريبة التي تجري حولها.
الباشا : ماذا يجري حولك؟
الأم : محمود! … لا تحاول الآن أن تنكر … لطالما توليت أنا عنك الدفاع أمام قلبي … إنك تعلم أني ما لفظت يومًا كلمة نمَّت على ارتيابي فيك … كنت أحرص دائمًا على إخفاء ما خامرني منك … احترامًا لنفسي ولك … كان ذلك مبدئي معك منذ زواجنا … أسمعت مني ذات مرة كلمة لوم أو تأنيب أو شك أو ارتياب؟ … لم يحدث قط … ولكن الأمر يتعلق الآن بابنتي! …
الباشا : ماذا قالت لك ابنتك؟
الأم : لم تقل لي شيئًا قبل اليوم … اليوم فقط استدعتني لتفضي إليَّ بالحقيقة … بعد أن كتمتها عني طويلًا هي الأخرى … وجعلتني أتساءل في خلوتي عن سر كتمانها … وأتقلب على لهب العذاب بين الشك واليقين … آلام مروعة … ما ذاقها زوجة قط ولا أم … لقد أيقظت في قلبي أيها الزوج الظالم الآثم من المشاعر الفظيعة والغرائز البشعة ما ندر أن يعرفه بشر! … تلك النظرات من عينيك لخيرية … كانت أحيانًا تلفح قلبي كأنها جمرات … ولكني كنت أقول … محاولةً إقناع نفسي … إنها نظرات حنان من أب عطوف لم يرزق الخلف … كنت أسأل الله في أعماق الليل وأنا أكتم زفراتي بمنديلي … وأبلل وسائدي بالدموع أن لا يكون الأمر غير ذلك … محمود، لماذا عذبتني هكذا؟ … أي شيطان دخل بدنك، فجعلك تفرق بين الزوجة وزوجها والأم وابنتها؟ أرجوك يا محمود … أتوسل إليك … أقبل قدمك … عد إنسانًا … إنسانًا ذا قلب رحيم ونفس كريمة … أنقذ ما بقي مني … وكافئني على صبري … لقد برتني الآلام وبرحت بي الهواجس … فبدا عليَّ الكبر قبل الأوان … ارحمني وضمد جراحي … إن قليلًا من حنانك يعيد إليَّ بعض شبابي … هلم بنا إلى منزلنا … إلى بيتنا نحن (تتناول يده وتجذبه برفق).
الباشا (يسحب يده منها) : أنت ولا شك جننت … ذهبت بعقلك الغيرة من ابنتك الشابة … هذا كل ما في الأمر … يحسن بك أن تعودي الآن إلى منزلك وتلزمي فراشك، وتتناولي شرابًا دافئًا مهدئًا للأعصاب.
الأم : وأنت؟ … ألا تعود معي؟
الباشا : إني جئت لمقابلة خيرية في مسألة خاصة بها، وإن شئت إيضاحًا فهي مسألة خاصة بزوجها، وليس من المناسب أن تطلعي على ذلك.
الأم : لا أظنها تخفي عني شيئًا، حتى وإن كان خاصًّا بزوجها.
الباشا : أنت مغفلة! … لقد اعترفتِ الساعة أنها كانت تكتم عنك أشياء كثيرة.
الأم : فعلت ذلك حقًّا، حتى لا تؤذي شعوري.
الباشا : لهذا السبب نفسه، أخفت عنك كل شيء يتعلق بزوجها.
الأم : أتكتم عني أنا أمها، ما لا تكتمه عنك أنت … أهذا معقول!
الباشا : معقول جدًّا، وإذا أردت الدليل، فارجعي بذاكرتك الضعيفة إلى ثلاثة أشهر فقط، إلى تلك الليلة التي أعلنت فيها أنا خطبة ابنتك إلى حامد، أكنت تعرفين هذا الشخص من قبل! … ألست أنا الذي قدمته إليك! ألست أنا وحدي الذي كنت أعرف ما بينه وبين ابنتك! … ألست أنا الذي توليت إنقاذ الموقف، منعًا للفضيحة، وحفظًا لسمعة خيرية وسمعتك!
الأم : لقد كانت لك مآرب أخرى من وراء ذلك، مآرب أنت تعرفها، ولا حاجة بي إلى ذكرها الآن.
الباشا : بل اذكريها الآن من فضلك.
الأم : لقد سهلت لها الزواج من هذا الشاب … ليسهل عليك الوصول إليها.
الباشا : أهي التي قالت لك ذلك! … يا لها إذن من ناكرة للجميل … أرادت أن تظهر أمام عينيك في صورة الحمَل … وأن تظهرني في صورة الذئب.
الأم : لا أصدق ما تقول في خيرية.
الباشا : وتصدقين ما تقول فيَّ أنا؟ … أقدم إليك نصيحة خالصة، عودي إلى البيت … اذهبي الآن إلى بيتك … وضعي كل ثقتك في زوجك.
الأم : لن أتركك هنا … وحدك.
الباشا : عدت إلى الغيرة … الغيرة العمياء التي تنهش قلبك في ظلام الأوهام.
الأم : مهما يكن من أمر … فإن واجبي الآن أن أبقى هنا معك، وأن أذهب معك.
الباشا : سأقابل خيرية بمفردي … وستذهبين إلى البيت وحدك.
الأم : لن أذهب وحدي … لن أتركك هنا … لقد توسلت إليَّ خيرية أن أحميها الليلة منك! …
الباشا : تحمينها مني؟ … وحش مفترس له مخالب سينشبها في عنقها (يريها أصابعه) ها هي أصابعي قد انقلبت مخالب! … ماذا يصور لك وهمك أيضًا؟ … سامحك الله أيتها الزوجة الوفية … أهذا رأيك في زوجك … زوجك الذي أجمع الناس على أنه سند للأخلاق، ونصير للفضيلة … ألا تقرئين الصحف؟
الأم : نعم … قرأت فيها كثيرًا أنك قطب من أقطاب الفضيلة والأخلاق …
الباشا : قرأت ذلك بحروف مطبوعة ولم تصدقي أيتها الغارقة في الوساوس، ماذا بعد شهادة الصحف والمجتمع والرأي العام! …
الأم : ابنتي لو سمعتها الليلة، وهي ترتجف خوفًا منك، وترجو مني أن أبقى بجانبها، كي أحميها وأدرأ عنها.
الباشا : معذورة، إنها تلتمس الحماية حقًّا، لا لنفسها، ولكن لشخص آخر، هو وحده الذي يتعرض الآن للخطر، أتدرين من هو؟
الأم : من هو!
الباشا : زوجها حامد؛ إنها لا تريد مقابلتي الليلة، حتى لا تسمع من فمي ما أنا قائل فيه، قول لا يسر، ولكنه مدموغ بالإثبات والدليل، وإن رقة حاشيتي وعلو تربيتي، يأبيان عليَّ أن أزيد في أوجاعك، وأخوض في سمعة شخص، إلا أمام من هي ألصق الناس به، ولعلها تنصحه أو تنقذه من ورطته.
الأم : ورطته؟
الباشا : نعم ورطة تتعلق بذمته ونزاهته في الشركة التي استؤمن على إدارتها … أنت لا تجهلين البيئة التي انتشلناه منها … ولكن العرق دساس … والطبع غلاب … أستغفر الله … لا تحرجيني … لا تحرجيني … ولا تدفعيني إلى الكلام في غيبته … المسألة كما ترين … لا تتصل بك … وليس في يدك حلها … اتركيني أتدبر مع خيرية الأمر وأنقذ ما يمكن إنقاذه.
الأم : إذا صح ما تقول … فما الضرر أن أكون معكما … سأبقى هنا ولن أذهب إلا معك.
الباشا (بعنف) : ستذهبين وحدك … الآن … وبأسرع ما تستطيعين؛ لأن صدري قد ضاق، وصبري قد نفد.
الأم : إني أرفض الانصراف.
الباشا (بقوة) : آمرك أن تنصرفي إلى بيتك الآن …
الأم : تأمرني! … بأي حق.
الباشا : بما لي من حق الأمر، وما عليك من واجب الطاعة.
الأم : سأبقى لأرى ما يكون منك.
الباشا : تتحدَّين؟! … لم أخطئ ساعة قرأت في وجهك نية التحدي، اذهبي إلى بيتك بالحسنى.
الأم : وإذا لم أذهب.
الباشا : إذا لم تذهبي إلى بيتك في الحال؛ فأنت طالق.
الأم (في صيحة مكتومة) : طالق! …

(تظهر عندئذٍ خيرية خارجةً من الحجرة الجانبية، وتهرع إلى أمها.)

خيرية : أماه! … انصرفي إلى بيتك … أرجوك … أرجوك … انصرفي في الحال إلى بيتك.
الأم : أسمعت اليمين!
خيرية : اعذريه … انصرفي في الحال … الذنب ذنبي أنا يا أمي … لقد كذبت عليك، وافتريت عليه.
الأم : كذبت عليَّ؟!
خيرية : كل ما قلت لك اليوم زور وبهتان.
الأم : ما هذا الكلام يا خيرية! … وما رأيت أنا بعيني زور وبهتان؟!
خيرية : نعم … نعم … اذهبي إلى بيتك.
الأم (تنظر إلى ابنتها مفكرة مترددة … ثم تتحرك بعزم) : وهو كذلك. لقد فهمت الآن ما ينبغي أن أفعل.

(وتخرج سريعًا؛ ويسمع صوت باب الشقة يفتح ثم يغلق وخيرية في مكانها مطرقة.)

الباشا (لخيرية) : مناورة بارعة وتمثيل متقن.
خيرية : كان يجب أن أفعل ذلك لأنقذ أمي.
الباشا : أتراها اقتنعت بكلامك حقًّا … أم خافت يمين الطلاق … كما خفت عليها منه … ومثلت هي الأخرى بإتقان … لتنسحب بلباقة.
خيرية : أرجو أن تكون اقتنعت … ففي ذلك راحة لها … ما كان ينبغي أن أقحمها في مشكلاتي … إني لست طفلة … إني أستطيع أن أدافع عن نفسي، وأن أواجه كل خطر بمفردي … حتى وإن كان الخطر هو دناءة رجل مثلك … والآن اخرج من هنا.
الباشا : لن أخرج قبل أن أحدثك عن زوجك؟ … زوجك هذا الذي يحرص على مركزه قبل أن يحرص عليك أنت … أين هو الليلة؟ … سافر كما أمرته أنا وكما أكدت لك … لقد عارضتني وكذَّبتني في مكتبه اليوم بالشركة وما صدقت قط أنه سيسافر ويدعك لي … تمضين الليلة معي … أين هو؟ … أين هو هذا الزوج المحب المخلص الغيور؟ … أين هو … أجيبي.
خيرية (مطرقة) : سافر …
الباشا : نعم … سافر حقًّا … هل عندك تعليل لسفره غير ما ذكرت لك؟
خيرية (ترفع رأسها بقوة) : لا … ولا أريد أن أدافع عنه هو الآخر.
الباشا : أرأيته قبل السفر؟
خيرية : رأيته ولم أحادثه كما وعدت … ولم يحادثني وأخذ حقيبته وانصرف.
الباشا : نعم … انصرف إلى ما يهمه من هذه الحياة.
خيرية : هو حر ينصرف إلى ما يشاء …
الباشا : وأنت حرة تنصرفين إلى ما تشائين.
خيرية : إن لي مبادئي ونظراتي في الحياة …
الباشا : نظراتك الصائبة تستطيع على كل حال، أن تميز بين شخص يأخذ منك ويرتفع على كتفيك … وشخص يعطيك ويجثو عند قدميك.
خيرية : لا أريد أن أدخل الآن في مجال المفاضلة والتمييز.
الباشا : أفهم ظرفك المؤلم … لقد صدمت … ليس أقسى على الزوجة من تلك اللحظة التي يتضح لها فيها أن زوجها يهجرها ويهملها، سواء أكانت تحب هذا الزوج أم تكرهه، فإن كرامة الزوجة تثور لمجرد الإهمال، إني أرثي لك يا خيرية.
خيرية : أرجو أن ترثي أيضًا لأمي … فإن حظها ليس أسعد من حظي.
الباشا : حظك أنت هو العاثر المنكود؛ هذا الشاب العامل في المكتبة الأحمدية كان يجب أن يعبدك عبادة … أنت التي علمته كيف يسكن شقة فاخرة في «جاردن سيتي» … أما أمك فقد أخذتها أنا من بيتها القديم في حي متواضع لأضعها في «فيلا» باذخة في حي الزمالك.
خيرية : أنت دائمًا هكذا … تجعل للثراء كل القيمة في الحياة.
الباشا : وزوجك؟ … هذا الشاب الذي كفر بك وبقلبك … أخبريني ما هي أهدافه العليا في الحياة؟! …
خيرية : هي الأهداف التي تعلمها منك!
الباشا : مني أنا؟! … نعم … كل كارثة تحيق بك أنا علتها … وكل مصيبة تنزل بك أنا سببها … وكل شخص يسرقك أنا ضامنه … وكل إنسان يطعنك أنا ديته … أنت في سَورة غضبك وأزمة غيظك … في حاجة إلى إناء تضربين به الأرض … وحائط تقذفينه بأمتعتك … وبريء تُلقين بتهمك في وجهه. إنه ليسرني يا خيرية أن أكون في يدك كل هذه الأشياء التي نصيبها التحطيم ما دام في ذلك تهدئة لروعك … لقد جئت الليلة … وأنا متأكد أن نقمتك على زوجك الوغد … لن تنفجر إلا في صدري أنا.
خيرية : لا تقل عن زوجي إنه وغد.
الباشا : تحبينه! … بعد كل ذلك.
خيرية : ليس الحب … بل كرامتي …
الباشا : كرامتك التي داسها هذا الزوج الذي لم يقدرك قدرك.
خيرية : إنه حقًّا لم يقدرني قدري … ولكن …
الباشا : ولكنك امرأة من ذلك الصنف الذي لا يحب من الرجال إلا ذلك الذي يصفع وجهها، ويأكل من جيبها، ويأخذ من جعبتها ولا يعطيها غير الأجوف من الكلام (يلاحظ أن خيرية قد أطرقت وبدا عليها الألم) … عفوًا يا خيرية … أنت تعلمين أني ما قصدت إيلامك أو إهانتك … إنما أقصد مصلحتك … وجهك شاحب … وعيناك غائرتان … قد رسم الهم تحت جفنيك خطًّا أسود … أتستطيع ساعات قليلة من الغيظ والكمد أن تُحدث في نضارتك كل هذا الأثر! … قومي انظري إلى وجهك في المرآة … أيسرُّك أن تذبلي كل هذا الذبول! …
خيرية : لا شأن لك بوجهي.
الباشا : تقولينها بتحدٍّ … ولكنك ككل امرأة … لا تبصرين وجهك الحقيقي بل الوجه الذي تريدينه لنفسك.
خيرية : وهل تبصر أنت وجهك الحقيقي! …
الباشا : بالطبع.
خيرية : أوَلم تخَف منه وتخجل؛ ويستولي عليك الذعر والاشمئزاز؟
الباشا (ناظرًا إلى المرآة) : يا للهول! … أهو إلى هذا الحد قبيح؟
خيرية (تشير إلى وجهه) : لست أقصد وجهك هذا.
الباشا : أعرف ما تقصدين، وإني لأسأل نفسي كثيرًا … ما جريمتي عندك؟ … ما ذنبي الذي استحققت عليه كل هذا الازدراء منك وكل هذه البغضاء؟ … هل حرمتك من نعمة؟ … هل ضننت عليك بخير؟ … هل بددت لك ميراثًا؟ … هل أكلت لك مالًا؟ … هل سحقت لك قلبًا؟ … هل اتخذتك وسيلة للثراء أو سلمًا للوصول؟ … ما جنايتي التي جعلتني في نظرك شريرًا مخيفًا … إني أبحث فلا أجد لي غير جريمة واحدة هي … أني أحببتك … هل حبي لك جريمة؟ …
خيرية : نعم … جريمة … أتجهل ذلك؟ … جريمة منكرة … جريمة يجب أن يحمر لها وجهك خجلًا.
الباشا : لماذا! … أريد أن أفهم …
خيرية : لا حاجة بي إلى إفهامك … لأنك فاهم؛ وفاهم؛ وفاهم.
الباشا : إذن قلبي لا يفهم … ولا أستطيع أن أرغمه على الفهم؛ لأنه ليس ملكي. إنه طائر حر، إذا طار يومًا وحط على يدك … فلا ذنب لك ولا ذنب لي … إن رحمتك تحتم عليك عندئذٍ أن لا تذبحيه ولا تخنقيه … ولا تؤاخذيه بجرم؛ بل تمسحي على جناحه برفق، وتبقيه، وتقدمي إليه الحب … خيرية، إن كل ما أطلب إليك الآن من زاد شيء زهيد … ابتسامة! ابتسامة منك الساعة … هي لي أكثر من غذاء … إنها دواء … ابتسمي … هذه الابتسامة خير لي من البرشامة …
خيرية : لا أريد أن أبتسم … أريد أن تنصرف …
الباشا : وحدي؟ … أنصرف وحدي؟ … لن أنصرف وحدي … اذهبي الآن وارتدي ثياب الخروج … ولنمضِ معًا إلى السينما … ولترفهي عن نفسك الكئيبة (ينظر في ساعته) … لم يزل أمامنا في الوقت متسع … أسرعي والبسي في خمس دقائق! …
خيرية : أنت جننت؟ … إني أمام مجنون …
الباشا : أي بأس في الخروج معي؟
خيرية : لن أخرج معك … بل لن أخرج وزوجي غائب … إني لم أستأذنه.
الباشا : تستأذنين هذا الزوج؟ هذا الزوج الذي سافر وهو يعلم أني سألقاك الليلة …؟ إنه قد أذن لك وذهب وتركك لي …
خيرية : تفريط الزوج في واجباته لا يبيح للزوجة أن تفرط في واجباتها …
الباشا : أيتها الحمقاء … لقد دفع بك إلى ذراعيَّ … لقد ألقى بك في أحضاني …
خيرية : إني لست سلعة ولا دمية حتى يلقي بي حيث شاء … إني امرأة آدمية ذات كرامة … وإني عندما أرفض الدنس لا أراعي في ذلك سمعته هو بقدر ما أراعي سمعتي أنا …
الباشا : كلمات جوفاء استحوذت على عقلك … وأسدلت على عينيك ستارًا من دخان يمنعك من رؤية مباهج الدنيا … أنت مريضة، ولكن في مقدوري علاجك … علاج سهل قد ترين فيه أول الأمر شيئًا من الجرأة … الطبيب يجب أن يكون جريئًا في بعض الحالات … قد يصدم المريض في البداية ولكن الشعور بالراحة يغمره بعد قليل …

(يدنو من خيرية فتتراجع.)

خيرية (برعب) : ابتعد … ابتعد …
الباشا : سأسقيك أنا الدواء من شفتي …
خيرية (تصفعه) : لا تمسني … أيها الوقح … أيها الوحش …
الباشا (بوحشية وهو يدنو منها) : مريضتي … لن تفلتي مني الليلة.
خيرية (صائحة) : لا تدنُ مني … لا تدنُ مني! …

(وفجأة تظهر الأم قادمة من باب.)

الأم (بصوت أجش) : دع ابنتي …
خيرية (تتنفس) : أمي …
الأم : دع ابنتي … واخرج من هنا …
الباشا : أكنت في الشقة إذن … لم تذهبي … تظاهرت بفتح الباب وإغلاقه لتبقي وتتجسسي …
الأم : دع ابنتي … واخرج من هنا …
الباشا : ما هذا البريق المخيف في عينيك؟ … هل أصابك مس من الجنون؟
الأم (من بين شفتيها) : دع ابنتي واخرج من هنا …
الباشا : أتفهمين معنى ما تقولين؟ …
الأم : أفهم معنى ما أقول … لن تطأ قدمي أعتاب بيتك بعد الآن … لن أرى لك وجهًا … سأعيش مع ابنتي حيث تكون … اخرج من هنا …
الباشا : أخرج من هنا؟ … أخرج من البيت الذي صنعته بيدي؟! … أنسيت أن ابنتك تعيش في بيت من صنع يدي؟
الأم : لن نعيش في بيت من صنع يدك! … سنرضى بالكفاف ونعيش في حي فقير، ونبيت إذا لزم الأمر على الطوى … أنا وخيرية … أليس هذا رأيك يا ابنتي؟ …
خيرية : نعم … نعم يا أمي! …
الأم : والآن اخرج من هنا حتى ندبر لأنفسنا حياة أخرى … اخرج …
الباشا : لا تجعلي الغضب يعمي بصرك … إن هذا ليس بيتك … إنه على الأقل بيت رجل لا يعنيه من أمركما شيء، رجل مشغول بمستقبله، وهو في جيبي … مثل هذا السيجار … (يخرج سيجارًا ويشعله) أستطيع أن أحرقه وقتما أشاء! …
الأم : سنعتمد على الله! … جميعنا …
خيرية : سأعمل مدرسة يا أمي … أو عاملة في محل … ونأكل من عرق الجبين.
الأم : خذي بعض متاعك يا خيرية، ولنذهب إلى بنت خالتك في مصر الجديدة … إلى أن نعدَّ لنا سكنًا …
الباشا : يحسن بي أنا أن أنصرف … أولًا، ستندمان على هذا الموقف العدائي بلا ضرورة … وستسعيان إليَّ يومَ تواجهان حقائق الحياة وقسوتها … لتركعا عند قدمي …

(حامد يظهر من الباب الذي ظهرت منه الأم.)

خيرية (بلهفة) : حامد! …
الأم (بعتاب) : لماذا ظهرت الآن يا حامد؟ …
حامد (للأم) : لم أستطع البر بوعدي لك … والانتظار حتى يذهب هذا الرجل … يجب أن أقول له كلمتين … بكل هدوء … ورباطة جأش …
الباشا : ما هذا؟ … لم تسافر إذن؟! …
حامد (بتحدٍّ وعنف) : لم أسافر … ولم يكن في نيتي السفر …
الباشا : كان في نيتك أن تعد لنا هذه المفاجأة أيها الشاب المولع بالمفاجآت! … يظهر أنك كنت تكثر من قراءة الروايات البوليسية يوم كنت عامل مكتبة فأغراك ذلك بدخول البيوت من النوافذ، ومفاجأة الناس بمثل هذه المواقف …
خيرية (تهرع إلى ذراعي حامد) : … إني سعيدة بهذه المفاجأة … متى جئت؟ …
حامد : منذ قليل … ما كدت أخرج مفتاح الشقة، حتى انفتح الباب ورأيت أمامي (يشير إلى الأم) أمنا … فدخلت وأغلقنا الباب …
الأم (تشير إلى حيث كانا مختبئين) : نعم … كان طول الوقت معي هنا … وتفاهمنا على كل شيء …
الباشا : هي إذن مؤامرة … لضبطي في موقف مريب! …
حامد : بل لأحمل أمتعتي الخاصة من بيتك هذا الذي صنعته بيدك … القذرة … وأبصق في وجهك … وأذهب إلى غير رجعة …
خيرية (صائحة) : وأنا … يا حامد … أوَتتركني؟ …
حامد (وهو يطوقها بذراعه) : كيف أتركك؟! … ولكن، هل تستطيعين الحياة بعيدًا عن هذا الترف … (يشير إلى رياش البهو).
خيرية : إني معك … حيثما تكون … وأمي معنا …
الأم : حيثما تكون يا حامد … نحن معك … ولنكافح من أجل اللقمة الشريفة معًا.
الباشا : معًا، حيثما يكون …؟ يا للسذاجة … أنسيتما أين سيكون؟! … إنه سيكون غدًا في السجن! …
الأم (صائحة) : لا … لن تفعل ذلك … لن تسجنه … لن تقضي على مستقبل بريء … كن رحيمًا …
حامد (للأم) : لا أريد هذا الاستجداء … لن أخشى غير حكم الضمير … إني منذ زلتي الأولى ما ارتكبت قط ما يندى له الجبين … ضميري لن يدينني أبدًا وإني لحكمه مستريح …
الباشا : غدًا أمام القضاء … قدم ضميرك مستندًا، تدرأ به أدلة الاتهام، إلى اللقاء … جميعكم … (ينصرف وهو يقول للأم) عودي إلى بيتك … ولا ترتكبي حماقة …

(يخرج وهو يسمع الأم تصيح.)

الأم : لن أعود …
خيرية (لحامد) : إني خائفة عليك مما يبيِّت لك من شر …
الأم (مقبلة على حامد) : أما من سبيل إلى إنقاذك؟ …
حامد : أمري إلى الله … هذا الرجل قد صنع الدليل قبل أن يصنع الاتهام.
الأم : إن الله لن يخزي بريئًا أبدًا …
خيرية : فكر معنا يا حامد … عن طريقة … فلنفكر معًا.
حامد (يفكر) : ماذا يمكن أن أصنع؟ … إن في السماء إلهًا.

(يسمع طلق ناري … يدوي خارج الشقة … ثم أصوات صياح وجلبة وطرق شديد على الباب … فيستولي الوجوم على الأم وخيرية وحامد … ويظهر الباشا يسنده الخدم، وهو يضع يده على الدم المتفجر من صدره، بينما صفارات البوليس تنطلق في الشارع.)

الباشا (بصوت متداعٍ) : قتلني شاكر … في السلم … كان متربصًا لي … في السلم … هل ضبطوه … اضبطوا شاكر … اضبطوه.
الأم (تهرع إلى زوجها ملهوفة) : محمود … (تجلسه مع الخدم على مقعد كبير).
الباشا (يمد يده المتساقطة نحو التليفون) : الدكتور … التليفون.
الأم : الدكتور يا حامد … بسرعة … اقفلي باب الشقة يا خيرية … واطردي الناس … عليَّ بقطن … أليس هنا قطن.

(خيرية تجري مهرولة هنا وهناك.)

حامد (الذي كان قد أسرع إلى التليفون) : ألو … ألو … الإسعاف من فضلك بسرعة …
الأم (صائحة وهي تنظر إلى يدها الملوثة بالدم) : عليَّ بمفرش … أوقف هذا الدم.

(خادمة تسرع ملبية.)

الباشا (في حشرجة) : شربة … ماء.
الأم (صائحة) : كوبة ماء … خيرية … حامد … كوبة ماء على عجل … على عجل.

(تأتي الخادمة بمفرش كبير، فتضمه الأم على صدر زوجها.)

الباشا (تخف حشرجته بالتدريج) :

(الخادم يأتي بكوبة الماء فتتسلمها منه خيرية، ويتسلمها حامد ويسرع بها …)

حامد (قرب الأم) : الماء.
الباشا (ينحدر رأسه عن صدر زوجته) :
الأم (تنظر في وجه الباشا وتجس نبضه وتصيح) : محمود … محمود … مات … مات … (تنتحب) زوجي … زوجي … زو…جي.

(يبادر حامد والأم والخدم فيسجُّون الباشا ويسدلون على وجهه المفرش.)

ستار

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤