الدجال

المقالة المعنونة «الدجَّال» في «القاموس الموسوعي» مليئة بحقائق مفيدة، ومعروضة على نحو جيد. عرض فيها شوفالييه دي جوكور الدجل في الطب.

سننعم هنا ببعض الحرية لنضيف بعض التأملات. يسكن الأطباء في المدن الكبيرة، فما من أطباء تقريبًا في الريف؛ فالمدن الكبيرة هي التي يكون فيها المرضى الأغنياء، وتكون أسباب أمراضهم هي: العهر، والإفراط في الطعام، والعواطف. قال ديمولان — ليس المحامي، ولكن الطبيب الذي كان ممارسًا عامًّا جيدًا كالآخر — وهو يموت، إنه ترك من ورائه طبيبَين عظيمين: الحمية وماء النهر.

في عام ١٧٢٨م، وفي زمن القانون، أفضى الدجال الشهير، من الطراز الأول هو الآخر، المُسمى فيلار إلى بعض الأصدقاء، بأن عمه الذي عاش حوالي مِائة عام ولم يَمُت إلا بحادث، قد ترك له سرَّ ماء يُمكنه بسهولة أن يطيل العمر إلى مائة وخمسين عامًا، بشرط أن يكون الإنسان معتدلًا. حينما شاهد جنازة تمر، هزَّ كتفَيه في شفقة، وعلَّق بقوله: لو أن المُتوفى شرب من مائي لما كان في هذا الموضع. وأكد أصدقاؤه — الذين أعطاهم من ذلك الماء بسخاء واتبعوا الحمية الموصوفة بقدرٍ ما — هذا وأثنَوْا عليه. باع حينئذ زجاجة الماء بستة فرنكات، وكانت المبيعات مُذهلة. كان ماءً من نهر السين مضافًا إليه قليل من النترات. أولئك الذين تناوَلوه، وأخضعوا أنفسهم لنظامٍ غذائي معيَّن، وفي مقدمتهم أولئك الذين ولدوا بصحة جيدة، تمتعوا بصحة ممتازة في غضون أيام قليلة. قال للآخرين: «إنه خطؤكم إن لم تُشفوا تمامًا؛ صحِّحوا هاتين الرذيلتين وستحيَوْن مِائة وخمسين عامًا على الأقل.» انصلح حال بعضهم، وزادت ثروة هذا الدجال الطيب مثل سُمعته. وضعه الأب دي بونس المتحمِّس في مكانة أعلى من المارشال دي فيلار، قائلًا له: «إن المارشال يقتل الرجال؛ لكنك تُحييهم.»

علم الناس أخيرًا أن مياه فيلار مجرد مياه نهر عادية، فلم يطلبوا المزيد منها، وانصرفوا إلى دجالين آخرين.

أكيد أنه أحسن صنعًا، وأن اللوم الوحيد الذي يمكن أن يوجِّهه المرء ضده هو أنه باع ماء السين بأثمان غالية جدًّا. قاد الرجال إلى الاعتدال، وكان سابقًا على أرنو الصيدلي الذي أتخم أوروبا بوصفاته ضد السكتة الدماغية دون أن يوصي بأي فضيلة.

عرفتُ طبيبًا في لندن يُدعى براون، مارس الطب في باربادوس، كان يمتلك معملًا لتكرير السكر وزنوجًا، سُرق منه مبلغ كبير. كان يُطلق على زنوجه «فتياني»، وكان يقول لهم: «لقد ظهَرت الأفعى الكبرى لي أثناء الليل، وقالت إن السارق سيكون لديه في تلك اللحظة ريشة ببغاء على طرف أنفه.» وضع المذنب يده على أنفه بلا إرادة؛ فقال السيد: «أنت الذي سرقتني. لقد أخبرَتْني الأفعى العظيمة بذلك حالًا.» واستردَّ نقوده. بالكاد يستطيع المرء أن يُدين ذلك الدجل؛ إذ يجب على المرء أن يجد طريقة ليتعامل بها مع الزنوج.

أما سكيبيو الإفريقي — هذا السكيبيو العظيم، الذي يختلف عن الدكتور براون — فجعل جنوده يؤمنون طواعية بأنه مُلْهَم من الآلهة. كان ذلك الدجل عرفًا سائدًا لفترة طويلة؛ فهل يستطيع أحد أن يلوم سكيبيو على انتفاعه منه؟ ربما كان هو الرجل الأكثر تشريفًا للجمهورية الرومانية، لكن لماذا لم تُلهمه الآلهة بتقديم بيانٍ عن ثرواته؟

فعل نيوما ما هو أفضل، وكان ذلك ضروريًّا لضبط بعض قُطاع الطرق، ومجلسِ شيوخ كان هو أشد قسم من قُطاع الطرق هؤلاء استعصاءً على الحكم. لو عرض قوانينه على القبائل المجتمعة لخلَق سفاحو سلفِه آلاف المصاعب. انتسب نيوما إلى الإلهة إيجريا التي منحتْه بعض القوانين من الإله جوبيتر، وكان مطاعًا بلا اعتراض، وحكم بسلاسة. كانت تعليماته جيدة، ونجح دجله، ومع ذلك فلو أن عدوًّا سريًّا اكتشف الحيلة، وقال: «أعدموا مُنتحِلًا يدنِّس اسم الآلهة من أجل أن يخدع الناس.» لتحمَّل نوما خطر إرساله إلى السماء مع رومولوس.

محتمل أن يكون نيوما اتخذ تدابيره بعناية شديدة، وخدع الرومانيِّين لصالحهم ببراعة مناسبة للوقت والمكان وذكاء الرومانيين الأوائل.

أوشك محمد على الفشل عشرين مرة، لكنه نجح في النهاية مع عرب المدينة، وصدَّق الناس أنه كان صديقًا حميمًا للملاك الرئيس جبريل. إن ذهَب امرؤ اليوم إلى القسطنطينية ليُعلن أنه المفضَّل لدى الملاك الرئيس رفائيل، الأعلى مكانة من جبريل، وأنه هو وحده من يجب أن يؤمنوا به؛ فسيعدمونه على الخازوق في مكانٍ عام. على الدجَّالين، إذًا، أن يختاروا وقتهم بعناية شديدة.

ألم يكن ثمة بعض الدجل عند سقراط مع شيطانه المحبَّب، وإعلان أبولو الدقيق الذي ادعى أنه أحكم الرجال جميعًا؟ كيف يستطيع رولان، في تاريخه، أن يسوق الحُجج من هذه الكهانة؟ كيف يتأتى أنه لا يكشف أن هذ الفكرة الفجة دجل صافٍ؟ أساء سقراط اختيار وقته. ولو أنه أتى قبل ذلك بمائة عام لحكم أثينا.

كان جميع قادة الطوائف في الفلسفة دجالين نوعًا ما، ولكن أعظمهم جميعًا كانوا أولئك الذين تاقوا إلى السيطرة. يُعَد كرومويل أبشع دجالينا. لقد ظهر في الوقت الذي يمكن أن ينجح فيه تمامًا: لو أنه ظهَر إبان حكم إليزابيث لشُنِق، ولو أنه ظهر إبان حكم تشارلز الثاني لبدا سخيفًا تمامًا. ظهر في وقته، حينما كان الناس مُشمئزِّين من الملوك؛ وظهر ابنه في وقت كان الناس فيه ضَجِرين من حامٍ.

(١) عن الدجل في العلم والأدب

من النادر أن تخلو العلوم من دجل. يود الناس أن تُقبَل آراؤهم؛ يود العالِم المُولع بالنقد أن يحجب العالِم الوديع، ويرغب العالم المتعمِّق أن يسود بمفرده. يبني الجميع نظرياتهم الخاصة في الفيزياء والميتافيزيقا ولاهوت العصور الوسطى. إنها مُنافسة في استفادة كل واحدٍ من بضاعته. لديك عملاء يُطرونها، وحمقى يصدقونك، وحماة يَدعمونك.

أثمَّة دجل أعظم من الاستعاضة بالكلمات عن الأشياء، ومن الرغبة في جعل الآخرين يؤمنون بما لا تؤمن به أنت نفسك؟

يُثير واحدٌ الزوابعَ حول مادة دقيقة، متشعِّبة، كونية، محززة، غائرة؛ والعناصر الأخرى من المادة التي ليست مادة على الإطلاق، وتناغُم مسبق، يجعل ساعة الجسد تدقُّ معلنة الساعة، حينما تشير إليه ساعة الروح بعقربها. تجد هذه الأوهام مناصرين لأعوام قليلة. وحينما تصبح تلك النُّفايات بالية، يظهر مُتعصِّبون جدد على المسرح الجوال: إنهم يَطردون الجراثيم من العالم، يقولون إن البحر أنتج الجبال، وإن الرجال كانوا يومًا ما أسماكًا.

كم من الدجل قد زُجَّ به في التاريخ، سواء بإدهاش القارئ بالعجائب، أم بدغدغة الخبث البشري بالهجاء، أم بتملُّق أُسَر الطغاة بالمديح الشائن؟

الصنف الحقير الذي يكتب من أجل كسب العيش دجال بطريقة أخرى. رجلٌ ما فقير لا عمل له، يُبْتلى بدخول الجامعة، ويعتقد أنه يعرف كيف يكتب، يتودَّد إلى أحد باعة الكتب ويسأله العمل عنده. يعلم بائع الكتب أن غالبية الناس الذين يعيشون في منازل ترغب في أن تكون لديها مكتبات صغيرة؛ ومن ثم فإنها تحتاج إلى مختصرات وعناوين جديدة. يُكلِّف الكاتبَ بإعداد مختصرات لكتب «التاريخ لرافين ثويراس»، و«تاريخ الكنيسة»، و«مجموعة الأمثال الطريفة» المستخلَصة من «الميناجيانا»، و«قاموس الرجال العظماء»، حيث يوضع متحذلق مغمور إلى جانب شيشرون، ويُوضع قزم من إيطاليا بالقرب من فيرجيل.

ويأمر بائع كتب آخر بروايات أو ترجمات لروايات، ويقول للعامل: «إن لم تكن لديك مخيِّلة فيمكنك أن تقتبس بعض المغامرات الموجودة في «كورش»، أو في «جوثمان دالفراتشيه»، أو في «أسرار رجل رفيع»، أو «أسرار امرأة رفيعة»، ومن المجموع ستُعِد مجلدًا من أربعمائة صفحة، مقابل عشرين فلسًا للصفحة.»

يُعطي بائع آخر مجلات عشرة أعوام ماضية وحولياتها لرجل عبقري، ويقول له: «ستُعِد لي خلاصةً من كل ذلك، وتُسلمها لي في غضون ثلاثة أشهر تحت عنوان «التاريخ الأمين للأزمنة»، بقلم شوفالييه دي تروا إيتوال، ملازم البحرية العامل بوزارة الخارجية.»

يمكنك أن تجد من هذه الأنواع من الكتب ما يقرب من خمسين ألف كتاب في أوروبا، وتَرُوج جميعها مثل سرِّ تبييض الجلد، وصبغة الشعر، والدواء لكل داء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤