الخاتمة

بعد مسيرة البحث الشاقة، وجهد القراءة المُرهِق، ينتظر القارئ — ولعل له الحق في ذلك — كلمةً أخيرة تكون بمثابة «فصل المقال» في الموضوع المدروس. لكنه يبدو، وعلى فرض إمكان «الكلمة الأخيرة» في أي موضوع، أنها تبدو مستحيلة، على وجه الخصوص، في هذا الموضوع (المتعلق بالتاريخ وخطابه في علم العقائد)، والذي لم يحدث للآن إلا مجرد ابتداء القول فيه؛ وبما يعني أنه في حاجةٍ إلى المزيد من الإكمال والتطوير. وعلى أي الأحوال فإن الكلمة الأخيرة تبدو مستحيلة، على العموم، إلا أن يكون المقصود أنها الأخيرة بالنسبة لتلك اللحظة التي يعيشُها الباحث بكل ما تنطوي عليه من سياقاتٍ معرفية وتاريخية تؤطِّر وعيه وتؤكِّد نسبية كلمته.

•••

كانت هذه مقدمةً ضرورية يمكن الانتقال منها إلى أنه إذا كان السير، في هذه الأطروحة، قد ابتدأ من أن ثمَّة رؤيةً تاريخية ينطوي عليها الخطاب العربي المعاصر، وهي المُنتِجة لكل ضروب الممارسة فيه، فإنه قد انتهى إلى أن الخطاب المؤسس لهذه الرؤية (وأعني به الخطاب التاريخي الأشعري) قد كان، هو نفسه، نتاج ضروب الممارسة السياسية تحديدًا، فبدا وكأن ثمَّة خطابًا عن التاريخ انبثَق، في أصوله الأولى، من السياسة، ثم راح ينفصل عنها طوال مسيرة تطوُّره اللاحق، حتى لقد استحال، في الخطاب العربي المعاصر، إلى بنيةٍ متعاليةٍ تمارس في انفصالٍ تام عن قواعد إنتاجها، ومُهيمِنة، بفضل هذا الانفصال، على كل ضروب الممارسة فيه. وإذن فإنها مفارقة التحوُّل من السياسة تنتج الخطاب التاريخي، إلى الخطاب التاريخي ينتج السياسة وغيرها.

وما بين البداية والنهاية، وعَبْر مسيرة البحث في الأسس والأصول، فإن الوعي قد تحقَّق بجملة مسائل منها؛ أولًا الوعي بالخطاب التاريخي الأشعري، تكوينًا وبنية، وكذلك الوعي بما يؤسِّسه معرفيًّا داخل نسَق العقائد الذي يتضمَّنه، وثانيًا الوعي بالخطابات التاريخية المغايرة، وبما يؤسِّسها معرفيًّا داخل أنساقها العقائدية الخاصة، والمناوئة للنسَق الأشعري السائد، وثالثًا الوعي بالكيفية التي راح بها النسَق الأشعري يُزيح هذه الأنساق المناوئة ويُقصيها من مجال التداول، محققًا لنفسه (وللخطاب التاريخي المُلحَق به بالطبع) هيمنةً لا مجال لمنازعتها، وحضورًا فعالًا للآن، رغم أنه يكون خفيًّا غير صريح.

وهنا فإنه بقَدْر ما يكون الوعي بكل هذه المسائل ضروريًّا لتفسير ما ينطوي عليه الخطاب العربي المعاصر من «اللاتاريخية»، فإنه يكون ضروريًّا بالقَدْر نفسه لخلخلتها وزحزحتها … فكيف يكون ذلك؟

إنه يكون من خلال التمييز في الخطاب التاريخي الأشعري، بين نظام بنيته الباطن من جهة، وبين شروط تكوينه في الخارج من جهةٍ أخرى.١ إذ فيما يتحقق تفسير «اللاتاريخية» من خلال الوعي بالبنية العميقة لهذا الخطاب، وبنظامه الباطن في ترتيب العلاقة بين لحظاته، وتصوُّره لمضمون هذه العلاقة، فإن عمليات خلخلة هذه اللاتاريخية وزحزحتها تتبلور من خلال الوعي بشروط تكوُّن هذا الخطاب، وبالدور الوظيفي الذي كان يقصد إلى أدائه في العالم، وكذا بالكيفية التي أقام بها علاقته مع خطابات الأنساق المناوئة ساعيًا إلى إزاحتها وإقصائها، لتكريس هيمنته وتأبيدها.

فإذ الخطاب التاريخي الأشعري ينبني على تصور التاريخ انهيارًا وسقوطًا دائمًا من الأفضل إلى الأقل فضلًا، وعلى نحوٍ لا يرتفع معه الانهيار إلا من خلال السعي المستحيل إلى تكرار لحظة الفضل-النموذج التي تقوم خارجه، فإن في ذلك تفسيرًا يكاد أن يكون كاملًا لما تتكشَّف عنه اللاتاريخية في الخطاب العربي المعاصر من تصوُّر التاريخ صيرورة انهيارٍ وسقوطٍ دائم، ولا فكاك منها إلا عَبْر القفز (المستحيل أيضًا) إلى نماذج (سلفية أو حداثية) لم تتبلوَر في واقع هذا التاريخ، بل تبلورَت واكتملَت خارجه، وجاءت تفرض نفسها عليه كنماذجَ جاهزةٍ معطاة. والحق أن الأمر يتجاوز هذا الانْبِناء طبقًا لنظامٍ واحد، إلى بنائهما لعناصرهما على نحوٍ متماثل؛ الأمر الذي يؤكِّد لا على كفاءة التفسير من الواحد للآخر فقط، بل وعلى شموله أيضًا؛ إذ ليس من شك في أن بناء الواقع، في الخطاب التاريخي الأشعري، كمجرد موضوعٍ للانحطاط والسقوط، ولا يستحق لذلك إلا مجرد النبذ من النموذج الأفضل خارجه، وعلى نحوٍ لا يكون فيه له أي معنًى إلا عَبْر نفي نفسه سعيًا إلى التوحد مع هذا الأفضل خارجه، إنما يؤسِّس لما تنطوي عليه «اللاتاريخية»، في الخطاب العربي المعاصر، من تصوُّر «الواقع» — بسبب ما ينطوي عليه من تخلف وانحطاط — مجرد موضوعٍ خاملٍ غفلٍ لا يملك إلا الانقياد لمقتضيات نموذج يحوز بطبيعته سمات الكمال. وإذن ففي الحالَين ثمَّة «الواقع-التكفير» بكل ما ينطوي عليه من نقص ودونية، خاضع لتسلط «النموذج-التفضيل» بكل ما ينطوي عليه من تعالٍ وسمُو.

ومن جهةٍ أخرى، فإن ما تنطوي عليه «اللاتاريخية» من تصوُّر النموذج (المُستعار من السلف أو الغرب) لإخراج الواقع العربي من أزمته، باعتباره مجرد معطًى جاهز ومكتمل، يحوز في اكتماله كل سمات التعالي والمفارقة، وليس باعتباره تكوينًا معرفيًّا يتخذ من واقعه الخاص حقلًا يتبلور منه وفيه؛ وبمعنى أنه يتبلور في عمليةٍ معرفية يتحقق فيها الصعود من الواقع إلى النموذج، ثم منه إلى الواقع، في ضروب من التحليل والفهم يسع فيها الواقع نموذجه، ويتسع به في آنٍ معًا. لكن «اللاتاريخية» تُهدِر كل ذلك، فتتعامى عن هذا التبلور للنموذج الذي تستعيره في علاقته مع واقعه الخاص، وتسعى إلى انتزاعه من سياق هذا الواقع الخاص، توطئة لغرسه في واقعها المغاير، فتُحيله بذلك من تكوينٍ تاريخي إلى معطًی مطلق، قابل للاستنساخ، لا في واقعها الخاص فقط، بل وفي كل زمان ومكان. ولعلها بذلك تُحيل «النموذج» من موضوع للمعرفة الحقة التي لا بد أن تملك موضوعها وتسيطر عليه، إلى موضوع لضرب من المعرفة الاجترارية التي يتملَّكها الموضوع ويسيطر عليها … فكل ذلك وغيره، إنما يجد تفسيره كاملًا ومعناه، فيما صار إليه الخطاب التاريخي الأشعري من نمذجة لحظة الفضل فيه، وذلك بالسعي إلى انتزاعها من تاريخها، عَبْر السكوت عنه أو التنكُّر له وإخفائه، توطئة لتحويلها إلى بنيةٍ مثاليةٍ متعالية تحوز — في تعاليها — على كل سمات الإطلاق والقداسة؛ لأنها حين تفكُّ روابطها مع التاريخ، على هذا النحو، تتحول من مجرد «لحظة» يبدأ منها الوعي مسيرته، متمثلًا ومستوعبًا ومتجاوزًا لها — رغم تميُّزها — إلى «نموذج» لا يمكن أن يكون، بسبب مفارقته وتعاليه، لحظة ابتداء، بل كيانًا نهائيًّا، لا يملك الوعي إلا العودة إليه تقليدًا واجترارًا، والاحتفاظ به، في اكتماله المطلق، عصيًّا على التجاوز والاستدماج في أشكال وجود أرقى؛ ذلك أن النموذج، أي نموذج، لا يمكن أن يكون — وخصوصًا حين يحقق مفارقتَه وتعاليَه بالانفكاك عن التاريخ — موضوعًا لموقفٍ «معرفي»، بل لموقف «نفسي» بالأحرى، وذلك لأنه يفرض على الوعي ضربًا من «التثبيت»، يجعل النموذج لا يفلت من هيمنة الوعي فقط، بل ويفرض عليه سطوةً لا مهرب منها؛ إذ المعرفة الحقة هي، في جوهرها، فعلٌ جدلي؛ بمعنى أنها فعلٌ يستوعب موضوعه ويتخطاه ويتجاوزه في آنٍ معًا، وهو ما يكشف عن كونها في العمق فعل احتواء. وإذ يبدو ذلك غير ممكن فيما يتعلق بالنموذج من حيث يسعى بدوره للهيمنة، فإنه لا يمكن، بالطبع، أن يكون موضوعًا لمثل هذا الضرب من المعرفة الحقة، بل لضرب من المعرفة الاجترارية التي تقصد، لا إلى احتواء موضوعها وتجاوزه، بل إلى ضربٍ من التماهي معه، تُلغي فيه ذاتها كفعلٍ خلَّاق، ولا تكشف إلا عن الحضور الأبوي الطاغي لموضوعها؛ بما يعني هيمنته عليها بالطبع. وإذن، ففي الحالَين، ثمَّة «النموذج» مطلقًا خارج تاريخه، وثمَّة كونه موضوعًا لضرب من المعرفة التكرارية والاجترارية.

والحق أن القدرة التفسيرية، التي تبلورَت مع الوعي بالخطاب التاريخي الأشعري، وبما يؤسِّسه — أو حتى يستهدفه — معرفيًّا، لا تقف عند مجرد تفسير «اللاتاريخية» في الخطاب العربي المعاصر، بل إنه بدا أنها تتجاوز ذلك، إلى تفسير ضروب الممارسة التاريخية عند المؤرخين المسلمين من جهة، وإلى تفسير العلاقة بين بنية هذا الخطاب التاريخي (الأشعري)، وبين بنية الثقافة السائدة التي تبلور في محيطها من جهةٍ أخرى.

فقد دام التاريخ، عند المسلمين، مجرد ممارسة يُعوِزها الخطاب، الذي يعيِّن حدودها، ويجعل من أدوات وطرائق إنتاجها، وموجِّهاتها النظرية وأسسها المعرفية، موضوعًا لتفكيره. وحتى حين أنتَج البعض خطاباتٍ عن التاريخ (وأعني الكافيجي والسخاوي)، فإن الأمر لم يتجاوز كونها مجرد خطاباتٍ تقريرية وتبريرية، انشغلَت بالوصف التقريري لما ينطوي عليه، وانشغلَت كذلك بمجرد تبرير الاشتغال به، ومن دون أن تجعله موضوعًا لتفكيرها. وإذا كان ابن خلدون، بعد ذلك، قد جعل من التاريخ موضوعًا لتفكيره، فانتقل به من حقل «الممارسة» إلى نظام «الخطاب»، فإنه، ورغم وعيه بحدود الآلية المهيمنة على الإنتاج التاريخي السابق عليه كله (وأعني بها الإسناد)، لم يرتقِ إلى التفكير فيما يؤسِّسها معرفيًّا؛ ولهذا فإن الإسناد، عنده، قد ظل بلا تفسير يمنحه المعقولية والتأسيس. ولأنه قد يُقال إن فيما صار إليه ابن خلدون من انتقال آلية الإسناد إلى التاريخ من علم الحديث النبوي، ما يفسِّرها، فإنه يمكن الردُّ بأنها تبقى في علم الحديث النبوي مجرد ممارسة في حاجة إلى تفسير. والحق أن الإسناد وتأسيسه معرفيًّا قد بدا غير ممكنٍ إلا من خلال الوعي بالخطاب التاريخي الأشعري، والوعي بما يؤسسه معرفيًّا على نحوٍ أخص؛ ذلك أن تحليلًا معرفيًّا للإسناد، يكشف عن أنه يقوم على تصورٍ للخبر، لا ينطوي في ذاته على ما يتقوَّم به صدقه أو كذبه؛ الأمر الذي يعني أن التقوُّم يأتيه من الخارج (أعني من رواته وناقليه).

وليس من شك في أن ذلك إنما يجد تفسيره كاملًا، فيما انطوى عليه النسَق الأشعري من تصوُّر الفعل (وهو مادة الخبر) لا ينطوي في ذاته على ما يتقوَّم به، بل يأتيه التقوُّم من الخارج أيضًا. ولعل فعلًا كهذا لا يمكن، حين يصبح مادة لخبر، إلا موضوعًا لإسنادٍ خارجي. وهكذا فإن الإسناد لم يعُد مجرد ممارسةٍ فقيرة ليس هناك ما يؤسِّسها، بل هو أحد تجليات نظامٍ أشمل. ولعل ذلك يعني أن التاريخ بأَسْره قد انتقل من مجرد كونه «ممارسة» بلا أي توجيهٍ معرفي، إلى كونه «خطابًا» يوجِّه هذه الممارسة، رغم أنه يتجاوزها ويقع فيما وراءها.

ومن جهة أخرى فإن في تبلور الخطاب التاريخي الأشعري ابتداءً من قاعدة السعي إلى تكريس سلطة الأصل المتحقق في الماضي، تفسيرًا لعلاقته بمجمل الثقافة التي تبلوَر فيها؛ حيث بدا أن تحليلًا لبنية هذه الثقافة يكشف عن أن كافة حقول المعرفة المتداولة في محيطها، تنبني — كل حقل على طريقته الخاصة بالطبع — طبقًا لنفس قاعدة السعي إلى تكريس سلطة الأصل المتحقق في الماضي؛ وذلك ابتداءً من علوم اللغة والبلاغة والتفسير والنقد والشعر والفقه والسياسة وغيرها … ومن غير شك فإن ذلك لا ينفصل عن قول «الشاطبي» — المشار إليه آنفًا — من «أن المتأخر في علمٍ ما لا يبلغ من الرسوخ في هذا العلم جملة ما بلغه المتقدم»؛ حيث المتقدم قريبٌ من الأصل الأنقى الذي يستهدفه العلم.

والحق أن ذلك لا يكشف فقط عن انتماء الخطاب التاريخي الأشعري إلى بنية هذه الثقافة، بل ويؤكد على مركزية حضوره فيها كذلك. ولعل ذلك يتآتى من أنه يقدم تسويغًا لهذه القاعدة يتجاوز كل ضروب التسويغ المتداولة في حقول المعرفة الأخرى داخل الثقافة؛ فقد وقف الشاطبي في تسويغه لهذه القاعدة وتبريرها، عند حدود القول إن التجربة هي ما يؤكدها؛ حيث إنها «أمر مُشاهَد بالتجربة في أي علم». والمُلاحظ أن الأمر في العلوم الأخرى لم يتجاوز حدود هذا التسويغ التجريبي أو العملي لتلك القاعدة؛ حيث اقتصر في علوم اللغة مثلًا على «أن علة ذلك ما عرَض للغات الحاضرة وأهل المدَر (يعني أهل الحواضر) من الاختلال والفساد والخلل.» وإذ بدا أنه لا حل لهذه المشكلة إلا عند أهل البوادي، من حيث هم الأصل الأنقى للغة الذي لم يفسد أو يختل بعدُ، فإن تسويغ القاعدة هنا، يأخذ شكلًا عمليًّا محضًا … ولهذا يُكمل النص «ولو عُلم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم لم يعرض شيءٌ من الفساد للغتهم، لوجب الأخذ منهم كما يؤخذ من أهل الوبر، وكذلك لو نشأ في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المَدَر من اضطراب الألسنة وخَبالها، وانتقاص عادة الفصاحة وانتشارها، لوجب رفض لغتها، وترك تلقِّي ما يرد عنها.»٢ وهكذا فإنه لا شيء أيضًا إلا مجرد التبرير العملي لهذه القاعدة؛ الأمر الذي يعني أن حضورها، في هذه الحقول، يقف عند حدود الممارسة التي يُعوِزها التأسيس النظري والمعرفي. ولقد كان ذلك ما حقَّقه الخطاب التاريخي الأشعري الذي قدَّم لهذه القاعدة — فيما لاح آنفًا — كل ضروب التسويغ النظري والمعرفي، حتى لقد أحالها من مجرد قاعدة (تبرِّرها التجربة وتفرضها الممارسة) إلى عقيدة أو بنيةٍ متعالية راحت تفعل في انفصالٍ كامل عن أصولها في الواقع. ومن هنا لا شك مركزية الخطاب التاريخي الأشعري في محيط الثقافة التي يبدو أنها لم تشكِّله فقط، بل إنها تشكَّلَت به أيضًا.

•••

وإذا كان يبدو، هكذا، أن الوعي بالخطاب التاريخي الأشعري ونظام بنيته، قد أعان على إنجاز جملة أمور؛ منها تفسير الإنتاج التاريخي للمؤرخين المسلمين من خلال الوعي بالخطاب المؤسِّس له معرفيًّا، وبيان مدى انتماء هذا الخطاب التاريخي ذاته إلى بنية الثقافة السائدة، وتفسير حضوره المركزي فيها، وأخيرًا — وهو الأهم — تفسير لاتاريخية الخطاب العربي المعاصر، فإنه يبقى — وفيما يتعلق بهذه اللاتاريخية بالذات — أن التفسير هو مدخلٌ إلى التقويم والتغيير … فكيف ذلك؟ أعني كيف يمكن خلخلة هذه اللاتاريخية وزحزحتها؟

والحق أن في مجرد الوعي مدخلًا إلى الخلخلة والزحزحة … لكن لا الوعي بمجرد الخطاب ونظام بنيته، بل الوعي أساسًا بسياقات تشكله، وشروط تبلور بنيته واكتمالها؛ فالوعي بما يضمره الخطاب، ويجهد في إخفائه، من تاريخٍ تكوَّن فيه، مليءٍ بالصراعات التي خاضتها على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري، من أجل فرض هيمنته وتكريسها، ومن دورٍ «أيديولوجي» يتكشَّف عن سعي لا هوادة فيه لتكريس كافة ضروب الإطلاق والهيمنة، نحسب أن في الوعي بذلك سبيلًا إلى زحزحة الخطاب وكسر هيمنته، وذلك من حيث يحوله الوعي (بالتاريخي والأيديولوجي فيه) من «معطًى مطلَق» أشبه بالمقدَّس الذي لا سبيل لمحاورته، ناهيك بالطبع عن نقده أو حتى نقضه، إلى «تكوين تاريخي» يخضع — بحسب طبيعته — لكل ضروب التجاوز والتخطي .

تقتضي الزحزحة، إذن، وعيًا بأن الخطاب قد تبلور في التاريخ، وبالتاريخ، ومن أجل التاريخ. ولعل ذلك يؤكده ما لاح، آنفًا، من أن الخطاب بأَسْره قد انبثق في قلب السياسة، داعمًا لاختيارٍ سياسيٍّ ما بوصفه الأفضل، وساعيًا إلى تكريسه، ولما يترتَّب عليه بوصفه الأفضل أيضًا. ولأن السياسة سرعان ما راحت تردُّ له الدَّين دعمًا ومددًا، فإنه قد تمكَّن بفضل هذا الدعم، لا غير، من أن يحسم مع صراعه كافة الأنساق والخطابات المناوئة لصالحه؛ الأمر الذي يعني أن الخطاب قد تحقَّقَت هيمنته بالتاريخ وبفضله، لا رغمًا عنه. ولعله يلزم التنويه، هنا، بأنه إذا كان الخطاب التاريخي الأشعري، قد استهدف — في صراعه مع الخطابات المناوئة — تكريس سلطة الأصل المتحقق في الماضي باعتباره نموذجًا لا سبيل بإزائه إلا التكرار (ولأن التكرار يبتعد عن الأصل دومًا، فإنه يكون سقوطًا متلاحقًا)، فإن الأمر — فيما يتعلق بالخطابات المناوئة (والخطاب المعتزلي تحديدًا) — لا يحيل إلى أي رفضٍ للأصل أو تنكُّر له، بقَدْر ما يحيل إلى تصوره، لا نموذجًا للتكرار، بل نقطة ابتداءٍ للوعي يبدأ منها سيره، متمثلًا ومستوعبًا ومتجاوزًا، إلى آفاقٍ أرقى. وإذن فالأمر لا يتعلق بخطابٍ يقبل الأصل، وآخر يرفضه ويتنكَّر له، بقَدْر ما يعني أن ثمة علاقتَين مع الأصل؛ إحداهما تكرِّره (ساعية إلى التماهي معه)، والأخرى تُبدِعه (واعيةً بحدوده وساعيةً إلى كشف ممكناته المضمرة). وفي حين يبدو الأصل، طبقًا لهذه الأخيرة، انفتاحًا على العالم يشكله ويتشكَّل فيه وبه، في ضروب من المساءلة والحوار، فإنه يبدو، حسب الأولى، سلطةً مطلقة لا سبيل لمساءلتها والتحاور معها. ولعل ذلك يكشف عن قصدها في العالم، الذي هو السعي نفسه إلى تكريس نفسها كسلطة لا سبيل لمساءلتها أو محاسبتها أبدًا.

وإذ يبدو الخطاب، هكذا، تكوينًا في التاريخ، وبالتاريخ، ومن أجل التاريخ، فإن ذلك يحيل إلى أن تجاوزه ليس ممكنًا فقط، بل لعله واجب أيضًا. وعندئذٍ فقط تفقد «اللاتاريخية» ما يؤسِّسها في بنية الوعي؛ الأمر الذي يئول إلى إمكان خلخلتها وزحزحتها، بل وحتى إلى إقصائها كليًّا، توطئة لخطابٍ عربيٍّ آتٍ.

١  والحق أن هذه القدرة على التمييز، في الخطاب، بين نظام البنية الباطن من جهة، وبين شروط تكوُّنها في الخارج من جهةٍ أخرى، إنما يُعَد من ثمار منهجٍ يجمع بين البنيوي والتاريخي في آنٍ معًا.
٢  ابن جني، الخصائص، ج١، القاهرة، ١٩١٣م، ص٤٠٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤