الفصل الثاني

مسار التفضيل في المصنفات الأشعرية

أولًا: وصف المسار

يتدرَّج مسار «التفضيل» في المصنَّفات الأشعرية، ابتداءً من ظهوره مختلطًا بالإمامة غير متميِّز عنها في المصنَّفات المتقدِّمة (للأشعري والباقلاني والجويني)، ثم يبدأ الموضوع في الاستقلال والتميُّز عن الإمامة، والتضخُّم والاتساع، حتى ليستحيل إلى نمطٍ يستوعب معظم مظاهر النشاط الإنساني (البغدادي والإسفرائيني وابن حزم)، ثم يعود الموضوع في المصنَّفات اللاحقة لا للانكماش فقط، بل وللتهميش أيضًا؛ حيث يتحوَّل إلى مجرد ملحقٍ للإمامة يأتي في نهاية مباحثها (الغزالي والنسفي والرازي والآمدي والإيجي والبيضاوي). وفي المؤلفات المتأخرة؛ حيث تسقط الإمامة بالكلية كجزء من السعي إلى تغييب أي تفكيرٍ في السياسة، فإن التفضيل يتحوَّل إلى هامشٍ ولاحقةٍ للنبوة التي باتت تشكِّل أحد قطبَي علم العقائد الذي استحال بأَسْره إلى جملة عقائد في الله والرسول فقط. وإذن فإنه يُمكِن التمييز في مسار التفضيل — في المصنَّفات الأشعرية بالطبع — بين أربعِ مراحلَ للتطور.

والمُلاحَظ أن التفضيل عند الأشعري نفسه يتدرج ابتداءً من عدم الظهور على الإطلاق في اللمع؛ حيث «الكلام في الإمامة» ينحصر في إثبات إمامة أبي بكر بالدلائل من الإجماع والقرآن، ومن دون أن يتطرَّق إلى مسألة أفضليته على غيره.١
وفي الإبانة فإنه يظل منشغلًا بإمامة أبي بكر الصديق التي يلجأ إلى إقامة الدليل عليها من القرآن (ثلاثة أدلة)، لكنه لا يقف عند ذلك، بل ينطلق إلى تقرير أنه أفضلُ المسلمين بعد النبي؛٢ وبما يعني أن أفضلية أبي بكر، هنا، تُستفاد من كونه موضوعًا لخطاب قرآني. «وإذا ثبتَت إمامة الصديق [وأنه الأفضل بعد النبي] ثبتَت إمامة الفاروق؛ لأن الصديق نصَّ عليه، وعقَد له الإمامة واختاره لها. وكان أفضلَهم بعد أبي بكر رضي الله عنه.»٣ وبنفس المنطق يُثبِت الأشعري الإمامة والفضل لعثمان ثم لعليٍّ من بعده.
وهكذا فإنه يرتِّب الخلفاء الأربعة في الإمامة والفضل، ويُحصي مدة خلافتهم بثلاثين عامًا، ويتخذ من ذلك دليلًا على إمامتهم جميعًا، وذلك استنادًا إلى الحديث: «قال رسول الله : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلك بعد ذلك. ثم قال لي سُفينة: أمسِك خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان. ثم قال: أمسِك خلافة عليِّ بن أبي طالب؛ قال فوجدتهُا ثلاثين سنة» فدَل ذلك على إمامة الأئمة الأربعة رضي الله عنهم.٤ وأخيرًا فإنه يُنهي بتفسير ما جرى من الاختلافات والمنازعة بين الصحابة، على أنه ضربٌ من الاجتهاد، وكانوا كلهم على الحق فيه.٥
وبدوره فإن الأمر لا يختلف عند الباقلاني عنه عند الأشعري، وذلك من حيث لا يستقلُّ مبحثُ التفضيل عنده ولا يتميَّز عن الإمامة، بل يتبلور في سياق السعي إلى إثبات الإمامة الخاصة بكل واحدٍ من الخلفاء الأربعة باعتباره الأفضلَ من غيره وقتَ توليه؛ وذلك على نحوٍ تفصيلي في التمهيد،٦ وعلى نحوٍ موجزٍ في الإنصاف.٧ لكنه في الإنصاف يتوسَّع في معالجة بعض مسائل التفضيل الأخرى، فيُفرِد مسألةً لإقامة «الدليل على إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة على الترتيب الذي بينَّاه». فيرى الدليل أيضًا في حديث نبوي، لكن لا في حديث: «الخلافةُ في أُمتي ثلاثون سنة كما يفعل الأشعري»، بل في حديث: «خيرُ القرونِ قرني»؛ إذ الصحابة هم خير القرون، فلما قدَّموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتَّبوهم على الترتيب المذكور علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدِّموا أحدًا تشهِّيًا منهم، وإنما قدَّموا من قدَّموه لاعتقادهم كونَه أفضلَ وأصلحَ للإمامة من غيره في وقت تولِّيه.٨ وهكذا يظهر التفضيل — ولأول مرة — استنادًا إلى حديث «خير القرون»، ولكن في سياق إثبات الأفضلية للصحابة، وليس في سياق إثبات التدهور في الزمان كما سيظهر في المصنَّفات اللاحقة.
ويبدو أن الباقلاني قد عاصَر حقبةً تزايَد فيها الطعنُ على الصحابة، فاضطُر إلى أن يُفرِد للموضوع مسألتَين من مسائل التفضيل، أوجب — في إحداهما — «الكف عن ذكر ما شجَر بينهم والسكوت عنه، لقوله : «إياكم وما شَجَر بين أصحابي».»٩ وأكد — في الأخرى — على «أن الصحابة رضي الله عنهم إنما صدَر منهم ما كان باجتهاد، فلهم الأجر، ولا يُفسَّقون ولا يُبدَّعون»،١٠ ولعله كان في تلك المسألة الأخيرة متابعًا للأشعري على نحوٍ خاص. وأخيرًا فإن الباقلاني ينتقل في تناول مسألة التفضيل من الصحابة إلى غيرهم، فيُقرُّ بفضل أهل بيت رسول الله.١١
وامتدادًا لنفس النهج في ربط التفضيل بالإمامة بحيث لا يتميَّز أو يستقل عنها، فإنه قد يرتبطُ بموضوع إمامة المفضول؛ حيث الغرضُ منه (أي التفضيل) ينبني على منع إمامة المفضول،١٢ لأن الإمامة لا تثبُت إلا للأفضل من أهل العصر، ومن هنا منع إمامة المفضول. وإذن فإنه الربط بين إثبات كلٍّ من الإمامة والفضل معًا كالحال في المصنَّفات السابقة. لكنه يظهر، هنا — ولأول مرة — الشك في موضوع التفضيل كله؛ حيث «لم يقم عندنا دليلٌ قاطع على تفضيل بعض الأئمة على بعض؛ إذ العقل لا يشهد على ذلك، والأخبار الواردة في فضائلهم متعارضة.»١٣ وقد يتراجع الشك بعض الشيء حيث يبقى «الغالب على الظن أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الخلائق بعد الرسول ، ثم عمر بعده أفضلهم، وتتعارض الظنون في عثمان وعليٍّ … [وتأكيدًا لهذا الظن يتم إسناده إلى رواية للإمام علي قال فيها]: خير الناس بعد نبيِّهم أبو بكر، ثم عمر، ثم الله أعلم بخيرهم بعدهما … [ويكون] هذا قوله [أي علي] أبديناه مجانبًا للتقليد، جاريًا على الحق الواضح.»١٤ ثم يتراجع الشك كليًّا حيث «الخلفاء الراشدون لما ترتَّبوا في الإمامة، فالظاهر ترتيبُهم في الفضيلة؛ فخيرُ الناس بعد رسول الله : أبو بكر ثم عمرُ ثم عثمانُ ثم عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين؛ إذ المسلمون كانوا لا يقدِّمون للإمامة أحدًا تشهيًا منهم، وإنما قدَّموا من قدَّموه لاعتقادهم كونَه أفضلَ وأصلحَ للإمامة من غيره.»١٥

وإذا كان التفضيل في مصنَّفات هذه المرحلة قد اختلط بالإمامة لا يتميَّز عنها، سعيًا إلى إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة على الترتيب باعتبار كل واحدٍ منهم هو الأفضل وقتَ توليه، فإنه قد راح في مرحلةٍ لاحقة، يتميَّز ويستقل بوضعٍ خاصٍّ عن مباحث الإمامة. والمُلاحَظ أن التفضيل قد راح، في مصنَّفات هذه المرحلة، يتضخَّم على نحوٍ لافت، وكان ذلك نتاج تجاوزه مجرد الارتباط بالإمامة، إلى تنظيم وتوجيه العديد من ضروب النشاط والممارسة الإنسانية؛ حيث راح التفضيل يتطرق إلى مجالاتٍ شتى لم يكن يتطرق إليها قبلًا.

وهكذا يُفرِد البغدادي للتفضيل أصلًا كاملًا من كتابه أصول الدين، يأتي لاحقًا لأصل الإمامة مباشرة.١٦ وإذا كان البغدادي لم يلتفت إلى بعض العلوم كالتفسير وعلوم المغازي والسير والتواريخ، فلم يُخضِعها للتفضيل، فإن ثمَّة من سيتولى الأمر من بعده.١٧ والمُلاحَظ فيما يتعلق بهذا التضخم في التفضيل، والانتقال به إلى حقل العلم خاصةً أنه قد ذاع في مصنَّفات القرن الخامس الهجري على نحوٍ خاص. ولعل ذلك يرتبط بأن اكتمال دورة الإبداع في حقل العلم، في القرن الرابع الهجري، لم تترك أمام البعض إلا مجرَّد التنظيم والتوجيه لهذا النشاط الإبداعي، واستثماره في الصراع بين الفِرَق.
ورغم أن ابن حزم في نفس القرن (٤٥٦ﻫ) يُنهي حديثه عن الإمامة بحديثٍ مستفيض «في وجوه الفضل والمفاضلة بين الصحابة»،١٨ إلا أنه يُلاحَظ أن التفضيل عنده — ورغم تضخُّمه — لم يزل مشغولًا بالتفكير في الإمامة، انطلاقًا — فيما يبدو — من تأييده ودعمه المعلَن للدولة الأموية في الأندلس، وهو تأييد كان يستلزم إعادة بناء السياسة في «الماضي» — من خلال التفضيل — لتكريس السياسة في «الحاضر»؛ ولهذا فإنه إذ ينفرد بتقديم نساء النبي على صحابته في الفضل، فإنه يقول بأفضلية عائشة على فاطمة، ثم يؤكد — فيما يتعلق بالصحابة — أفضلية أبي بكر على الإمام عليٍّ خاصة؛ وبما يعني تحامُلَه على الطالبيين لحساب خصومهم. ومن جهةٍ أخرى، فإن ابنَ حزم يتعرض للتفضيل كمفهومٍ نظري، فيحدِّد الوجوه التي يتعيَّن بها الفضل، كما يحدِّد مصدر التفضيل ومستنده. وهنا فإنه — واستنادًا إلى انتمائه للمذهب الظاهري فيما يبدو — يرى «الفضل لا يُعرَف إلا ببرهانٍ مسموع من الله تعالى في القرآن، أو من كلام الرسول »،١٩ متجاوزًا إسناده إلى الاجتهاد أو الإجماع أو حتى الميل من الأمة كما يفعل معظم الأشاعرة؛ لأنها لا تتفِق مع ظاهريته. والمُلاحَظ أن البزدوي — في نفس الفترة — قد رأى أيضًا الفضل لا يكون إلا «بالوضع من الله تعالى»؛٢٠ وبما يعني تركيزًا من هذا القرن (الخامس) على تكريس التفضيل بإسناده إلى النص من الله أو الرسول، متجاوزًا ما كان من الشك في مصدره، في المرحلة السابقة، وعند الجويني خاصة.
وفيما بعد القرن الخامس الهجري، فإن التفضيل يعود، لا للانكماش فقط، بل وللتهميش أيضًا، حيث يتحوَّل إلى مجرد ملحقٍ للإمامة يأتي بعد مباحثها، ومع ذلك فإنه يُلاحَظ على مصنفات هذه المرحلة أنها قد احتفظَت بمعظم أفكار المرحلة الأولى خاصة (كترتيب الخلفاء في الفضل بنفس ترتيبهم في الإمامة، ووجوب تعظيم الصحابة، والكفِّ عن الطعن فيهم)، وأضافت إلى ذلك التركيز على جُملةِ مسائلَ استأثرَت باهتمامها على نحوٍ لافتٍ. ولقد كان من أهمِّ ما استأثر باهتمام هذه المصنَّفات،٢١ مسألة الأخبار الواردة فيما جرى بين الصحابة من الاختلاف والمنازعة؛ إذ الأمرُ في هذه المصنَّفات لا يقفُ عند حدِّ اعتبار ما جرى بين الصحابة من الاختلاف والمنازعة ضربًا من الاجتهاد كانوا جميعًا على الحق فيه (كما هو الحال في مصنَّفات المرحلة الأولى)، بل يتمُّ تحليلُ الأخبار الواردة عن هذه المنازعات، والتمييز فيها بين أخبارٍ موضوعة ينبغي إنكارُها، وأخبارِ آحادٍ يُمكِن تضعيفها، وأخبارٍ متواترة إذا كان لا يُمكِن إنكارُها أو تضعيفُها، فإنه لا بد من تأويلها على أحسن التأويلات.٢٢
لكن تحليل الأخبار والنصوص قد آل أيضًا إلى أنه «لا يمكن أن يُدَّعى نصوصٌ قاطعةٌ من صاحب الشرع متواترةٌ مقتضيةٌ للفضيلة على هذا الترتيب»،٢٣ وأن «النصوص المذكورة لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف»،٢٤ وأن «دلائل الجانبَين [في التفضيل] متعارضة.»٢٥ الأمر الذي اقتضى التفكير في مستنَد التفضيل، فصار الإجماع عند البعض،٢٦ وصار «الظن وما ورَد في ذلك الآثار، وأخبار الآحاد، أو الميل من الأمة إلى ذلك بطريق الاجتهاد.»٢٧ ولعله بدا — تبعًا لذلك — أن هذه المرحلة تأخذ موقفًا مضادًّا من المرحلة السابقة عليها، والتي ساد فيها إسناد التفضيل إلى «النص» من الله أو الرسول. ولعله يُلاحَظ أن التفضيل، في هذه المرحلة، قد راح يتبلوَر بوصفه انهيارًا في الزمان من عصرٍ إلى آخر.٢٨
وأخيرًا، فإن التفضيل قد تحوَّل في المصنَّفات المتأخرة إلى مجرد لاحقة للنبوة، بعد أن غابت الإمامة وسقطَت نهائيًّا من هذه المصنَّفات٢٩ التي اختزلَت العلم في جملة عقائد عن الله والرسول فقط؛ ولهذا فإن التفضيل يتبلور في هذه المصنَّفات، بوصفه عقيدةً في النبي ينبغي الإيمان بها؛ حيث صار «مما يجب اعتقاده [في النبي] أن قَرْنَه أفضل القرون، ثم الذي بعدَه، ثم القَرْن الذي بعده.»٣٠ وقد يُصار إلى تفصيل القول في هذه القرون، فيقال: وصُحبة خيرُ القرون فاستمع. فتابعي فتابع لمن تبع، وخيرهم من وُلي الخلافة، وأمرهم في الفضل كالخلافة، يليهم قومٌ كرامٌ برَرة، عدَّتُهم ستٌّ تمام العشرة، فأهل بدرٍ العظيمِ الشان، فأهل أُحد فبيعة الرضوان، ومالكٌ وسائر الأئمة … كذا أبو القاسم هداةُ الأمة.٣١ ورغم أن البعض قد صار إلى «أن ما بعد القرون الثلاثة [الأولى] سواءٌ في الفضيلة، [فإن جماعةً ذهبَت] إلى تفاوُت بقية القرون بالسَّبْقية، فكل قرنٍ أفضل من الذي بعدَه إلى يوم القيامة، لحديث: «ما من يوم إلا والذي بعدَه شرٌّ منه، وإنما يُسرَع بخياركم».»٣٢ لقد استحال التفضيل، إذن، إلى نظريةٍ في تدهوُر الزمان وانهياره، والمهم أنه أصبح عقيدةً ينبغي الإيمان بها؛ الأمر الذي يعني أنه انفصل عن أصله السياسي الذي ارتبط به الذي هو الإمامة. وهكذا فإنه، وكما انفصل العِلم بأَسْره (أعني علم أصول الدين) عن أصله السياسي، فإن التفضيل، بدوره، قد انفصل عن أصله السياسي. وقد ظل الواحد منهما — ورغم انفصاله عن أصله السياسي (أي الإمامة) — فاعلًا؛ وبما يعني أنه أصبح بنيةً متعاليةً لا سيطرة عليها. ولعله يمكن التمييز في التفضيل هكذا، بين أربعِ مراحل. وبالرغم مما يبدو عليها من كونها مراحلَ بالمعنى المعرفي أساسًا، فإنها قد تصِح بالمعنى التاريخي كذلك.

ثانيًا: تحليل المسار

يبدو أن التفكير في الإمامة عمومًا، قد انبثق — داخل نسَق العقائد الأشعري — في سياق السعي إلى إثبات الإمامة الخاصة بأبي بكر. ولعل ذلك ما يؤكِّده النص المؤسِّس في النسَق بأَسْره؛ وأعني به نص الإبانة للأشعري،٣٣ الذي جعل من «الكلام في إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه» عنوانًا للكلام في مسألة الإمامة عمومًا. ومن هنا فإنه إذا كان يمكن التمييز — فيما يتعلق بالإمامة — بين إطارٍ نظري (يستوعب مسائلها النظرية كالإمكان والوجوب وكيفية الوقوع وشروط الإمام وصفاته … إلخ)، وبين إطارٍ تاريخي (يستوعب وقائعَ ما جرى حولها بالفعل)، فإنه يبدو وكأن «النظري» في الإمامة قد انبثق من «التاريخي» فيها، وذلك باعتبار أن الأشعري قد وقف بتفكيره في الإمامة عند وقائعِ ما جرى حولها بالفعل، دون أن يتطرَّق إلى مسائلها النظرية. وكالعادة المستقرة في النسَق الأشعري، فإن «النظري» سرعان ما راح يُمارِس إقصاء وتهميشًا للتاريخي على النحو الذي أصبح معه هذا «التاريخي» من لواحق الإمامة التي تقبل الاستبعاد أحيانًا.٣٤
والمُلاحَظ أن القولَ بالتفضيلِ قد انبثَق، للوهلة الأولى في سياق السعي إلى إثبات إمامة أبي بكر، وخلفائه الثلاثة على الترتيب؛ حيث إنه «إذا وجبَت إمامة أبي بكر، وجب أنه أفضلُ المسلمين رضي الله عنه … [وكذا فإنه] إذا ثبتَت إمامة الصديق، ثبتَت إمامة الفاروق … وكان أفضلَهم بعد أبي بكر رضي الله عنهما، وثبتَت إمامة عثمان رضي الله عنه.»٣٥ وهكذا ينتقل النص من وجوب الإمامة إلى وجوب الفضل من جهة، ومن التراتُب في الإمامة إلى التراتُب في الفضل من جهةٍ أخرى، والحق أن النسَق الأشعري قد صار بعد ذلك (وكان ذلك جزءًا من الرد على الشيعة فيما يبدو) إلى أن التراتُب في الفضل هو ما يؤسِّس للتراتُب في الإمامة.٣٦ وبالرغم من ذلك فإنه يبقى أن القولَ بالتفضيلِ قد انبثَق من الجانب التاريخي في الإمامة (وأعني من تبرير ما جرى من حصول الإمامة لأبي بكر وخلفائه على الترتيب)، وليس من الجوانب النظرية فيها؛ ولهذا فإنه يبدو أن تهميش التاريخي في الإمامة لم يكن يعني إلا تهميش التفضيل وتحويله إلى مجرد هامشٍ للإمامة. وهكذا يئول الأمر إلى التحول من الإمامة بأَسْرها كدرس في التفضيل (حسبما يظهر من نص الأشعري الإبانة)، إلى التفضيل كمجرد لاحقةٍ هامشيةٍ للإمامة. والملاحظ أن هذا التحول إنما يتسقُ مع سعي النسَق الأشعري الدائم إلى نسيان «التاريخي والمتعيَّن» والاستغراق في «النظري والمجرَّد».
وبالرغم من أن التفضيل يكون، هكذا، قد تبلوَر ضمن سياق ما هو تاريخي في الإمامة، فإنه — وللمفارقة — كان يقصد إلى صياغة هذا الجانب التاريخي على نحوٍ يسلبُه تاريخيتُه الحقة، فإنه لا شك في أن التفضيل — وليس سواه — هو ما جَعَل الأشعري يرى في وقائعِ ما جرى بين الصحابة من المنازعة والاختلاف، لا «تاريخًا» أنتجه تبايُن المصالح والأهواء بينهم، بل تأويلًا واجتهادًا، كلهم كانوا على الحق فيه. وهكذا فإن «ما جرى بين عليٍّ والزبير وعائشة رضي الله عنهم، فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعلي الإمام وكلهم من أهل الاجتهاد، وقد شهد لهم النبي بالجنة والشهادة، فدَل على أنهم كانوا على حقٍّ في اجتهادهم. وكذلك ما جرى بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد.»٣٧ والمُلاحَظ أن الأمر في النصوص اللاحقة قد تجاوز حدَّ تصوُّر ما جرى بين الصحابة بوصفه اجتهادًا كانوا كلهم على الحق فيه، إلى القطع بوجوب الكَف عن ذكرِ ما شجَر بينهم والسكوت عنه، لقوله : «إياكم وما شجَر بين أصحابي.»٣٨ ذلك «أن أكثَر ما ورَد في حقهم من الأفعال الشنيعة، والأمور الخارجة عن حكم الشريعة، فلا أصل لها إلا تخرُّصات أهل الأهواء، وتصنُّعات الأعداء، كالروافض والخوارج وغيرهم من السَّفساف، ومَن لا خَلاقَ له من الأطراف.»٣٩ وأما فيما يتعلق بما «ثبت نقلُه [من هذه الأخبار] ولا سبيل إلى الطعن فيه، فما كان يسُوغ فيه الاحتمال، والتأويل فيه بحالٍ، فالواجب أن يُحمل على أحسن الاحتمالات، وأن يُنزَّل على أشرف التنزيلات، وإلا فالواجب [أيضًا] الكفُّ عنه، والانقباضُ منه، وأن يُعتقد أن له تأويلًا لم يُوصل إليه ولم يُوقَف عليه؛ إذ هو الأليق بأرباب الديانات، وأصحاب المروءات، وأسلم من الوقوع في الزلَّات، ولكون سكوت الإنسان عما لا يلزمه الكلام فيه أرجى له من أن يخوض فيما لا يعنيه، لا سيما إذا احتمل ذلك الزلَل والوقوع بالظن والرَّجم بالغيب في الخَطَل.»٤٠ ولعله يبدو، هكذا، أن الأشاعرة قد طوَّروا أربعَ آلياتٍ لتناول ما جرى بين الصحابة من التنازُع والاختلاف وتكريس التفضيل بينهم؛ إذ ثمَّة أولًا آلية التأويل والاجتهاد التي ترى فيما جرى بينهم (أي الصحابة)، لا تنازعًا واختلافًا، بل اجتهادًا كانوا جميعًا على الحق فيه.٤١ وثمَّة … ثانيًا آلية الإسكات أو القطعِ بوجوبِ الكَف والسكوت عما جرى بينهم،٤٢ وثمَّة … ثالثًا آلية التضعيف لما ورَد في حقِّهم من الأفعال الشنيعة،٤٣ وثمَّة … أخيرًا آلية الإنكار الكلي لما ورَد من أخبار التنازُع بينهم.٤٤ والمُلاحَظ أن هذه الآليات الأربع إنما تتضافر جميعًا في استبدال مبدأ التفضيل بالتاريخ كإطارٍ لقراءة ما جرى في حقبة الصحابة، والسعي إلى تحويل هذه الحِقبة من حقبةٍ تاريخيةٍ إلى حقبةٍ مثاليةٍ لا تنتظمها قوانينُ التاريخ؛ وهو ما سيتجلى عند ابن خلدون على نحوٍ حاسم.
وإذا كان الغرض من التفضيل قد انبنى عند الأشعري على إثبات الإمامة الخاصة بأبي بكر (وما ترتَّب عليها)، فإن ثمَّة من الأشاعرة من صار إلى أن «الغرض منه [أي التفضيل] ينبني على منع إمامة المفضول.»٤٥ فبدا بذلك وكأنه يرى للتفضيل غرضًا يتجاوز الواقعة الجزئية الخاصة بإثبات إمامة أبي بكر إلى مبدأ أكثر عمومًا يتمثل في الرد على ما صار إليه الزيدية من تجويز إمامة المفضول، وذلك انطلاقًا من المبدأ «الذي صار إليه معظم أهل السنَّة [من] أنه يتعين للإمامة أفضل أهل العصر»،٤٦ وهو المبدأ الذي يئول إلى تكريس ضربٍ من التماهي الكامل بين ترتيب الخلفاء الأربعة في الإمامة وترتيبهم في الفضل؛ لأنه يستحيل — حسب هذا المبدأ — أن يكون الإمام «مفضولًا» وأن يكون هناك من أهل العصر من هو أفضل منه؛ الأمر الذي يعني أن الرتبة في الفضل توازي الرتبة في الإمامة.٤٧ وبالرغم من أن مسألة أفضلية عثمان على الإمام عليٍّ تحديدًا كانت مصدر خلافٍ،٤٨ فإنه يبقى أن أمر التفضيل بأَسْره قد انبثق من مسألة التفاضُل بين أشخاص الخلفاء الأربعة تثبيتًا لخلافة الواحد منهم على ترتيب وقوعها وتحقُّقها.
وبالرغم من أن التفاضل بين الخلفاء الأربعة يتكشَّف، هكذا، عن السعي إلى تكريس إمامة كل واحدٍ منهم بترتيب وقوعها، فإنه يتكشَّف أيضًا عن ضربٍ من الهبوط من الأفضل إلى الأقل فضلًا. ولعل هذا التدهوُر من الأفضل إلى الأقل فضلًا يتجلى، على نحوٍ أظهر، مع الانتقال إلى التفاضُل بين الصحابة. وهنا فإن التفضيل يكتسي طابعًا لا شخصيًّا،٤٩ حيث الأمر يتطور من المفاضَلة بين أشخاص إلى المفاضَلة بين أصناف أو طبقات تكون كلُّ واحدةٍ منها أقل فضلًا من تلك السابقة عليها.٥٠ ورغم أنه يبدو، على العموم، أن التفاوت في مدة الصحبة للنبي ودرجة القرب منه، هو ما يؤسِّس للتفاوت في الفضل بين مراتب الصحابة،٥١ إلا أن الأمر قد اقتضى ضرورة تعيين الوجوه التي يكون بها استحقاقُ الفضل وتفاوتُه.٥٢ ومِن المفارقات أن تعيينَ هذه الوجوه قد آل إلى وضعِ نساء النبي في درجة من الفضل أعلى من درجة الصحابة.٥٣ وهنا أيضًا، أعني فيما يتعلق بالتفاضُل بين النساء، فإن الأمر كان مثار اختلافٍ كبير،٥٤ وهو اختلافٌ يجد أيضًا تفسيره بين الطالبيين (آل البيت) وغيرهم؛ حيث الأمر يكاد ينحصر في مجرد المفاضلة بين كلٍّ من السيدة عائشة وفاطمة، والحق أن ذلك يُحيل إلى أن حضور السياسة في أمر التفضيل يتجاوز مجرد النشأة إلى تطوُّره اللاحق أيضًا.
وإذا كان الأمر، فيما يتعلق بالصحابة، يقف عند مجرد القول: إن كل طبقة من الصحابة تكونُ أفضلَ من تلك التي تليها (بسبب السابقة وطول الصحبة)، فإن ذلك لا يحيل إلى أن اللحظة التي تخص طبقةً ما تكون أفضلَ من تلك التي تخص طبقةً تالية؛ لأن حضور النبي (وهو معيار الفضل)٥٥ قائم في كل اللحظات بالطبع؛ ولهذا فإن الهبوط في الفضل بين الصحابة يكون فقط من طبقةٍ إلى أخرى، وليس من زمانٍ إلى آخر؛ لأن حضور النبي في الزمان واحد. ولعل التدهور في الزمان يتبدَّى على نحوٍ حاسمٍ في الانتقال من الصحابة إلى التابعين ثم إلى تابعي التابعين؛ لأن تدهوُر الفضل هنا لا يكون من طبقةٍ إلى أخرى فقط، بل ومن لحظةٍ إلى أخرى، وهو الأهم. يبدو إذن أن التفضيل قد راح ينتقل من مجرد التفاضُل بين الأشخاص (أفرادًا وطبقات) إلى ضربٍ من التفاضُل بين الأزمنة والقرون.٥٦ ولقد كان ذلك مرتبطًا بالانتقال من الصحابة إلى التابعين،٥٧ لأنه يكون انتقالًا إلى زمانٍ مغاير غاب عنه الحضور المباشر للنبي، وحل محلَّه ضربٌ من الحضور غير المباشر له (وذلك من خلال التعاصُر معه دون رؤيته، أو الميلاد في زمانه دون سماعٍ منه، أو حتى من خلال مجرد اللقاء مع الصحابة والاجتماع بهم).٥٨ ومن غير شك فإنه إذا كان زمانُ الحضور غير المباشر للنبي يمثِّل انهيارًا بالنسبة لزمان حضوره المباشر، فإن هذا الانهيار سيتزايد بالطبع بعد غياب هذا الحضور غير المباشر.٥٩
والمُلاحَظ أن هذا الحضور للنبي (مباشرًا أو غير مباشرٍ) لم يحدِّد فقط تفاوُت القرون والأزمنة في الفضل والقيمة، بل وحدَّد أيضًا تفاوتها في الطول والمدة؛ «فقرنه [هو] مدة أصحابه من البعث إلى آخر من مات منهم، وهي مائة وعشرون سنة أو نفس أصحابه عليه السلام، وقرن التابعين من سنة مائة إلى نحو سبعين [أي سبعين سنة فقط]، وقرن أتباع التابعين من ثَم إلى حدود العشرين ومائتَين [أي نحو خمسين سنةً فقط].»٦٠ وبالرغم من أن ذلك يعني أن خير القرون (قرن النبي وصحابته) ليس الأفضل فقط، بل والأطول أيضًا، فإن ذلك يتعارض مع ما يُستفاد من الحديث المنسوب للنبي: «الخلافة بعدي ثلاثون عامًا، بعدها مُلك عَضوض»؛ حيث يجعل ذلك الحديث من الخلافة (وهي النيابة عن النبي في عموم مصالح المسلمين) مدةً قصيرة لا تتجاوز ثلاثين سنة، تصير بعدها ملكًا عَضوضًا «أي ذا عضٍّ وتضييق؛ لأن الملوك يضرُّون بالرعية حتى كأنهم يعَضُّون عضًّا، فالمراد أنه ذو تضييقٍ ومشقةٍ على الرعية.»٦١ وهكذا لا تتجاوز مدة الفضل ثلاثين سنة بعدها تضييقٌ ومشقة.٦٢ لكنه يبقى — وبصرف النظر عن طول المدة أو قصرها — أن الانتقال من الخلافة إلى المُلك هو انتقال من الأفضل إلى الأقل فضلًا، الأمر الذي يتفق مع مسار الفضلِ من قرنٍ إلى آخر. والملاحظ أن هذا الانتقال من الخلافة إلى الملك (بوصفه انتقالًا من الأفضل إلى الأقل فضلًا) سيستحيل عند ابن خلدون إلى قانونٍ نمطي يقرأ من خلاله أحداث التاريخ الفعلي.٦٣ والحق أن التفضيل قد راح، ضمن هذا السياق من التفاضل بين الأزمنة والعصور، يستحيل إلى نمطٍ كليٍّ شاملٍ ينتظم كل مظاهر النشاط الإنساني في العالم؛ صناعة٦٤ وعلمًا؛ حيث «المتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علمٍ ما، ما بلغه المتقدم، وحسبُك من ذلك أهل كل علمٍ نظري أو عملي، فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين.»٦٥ وهكذا فإنه رغم أن الأمر في العلم لا بد أن ينبني على قانون التراكُم والتطوُّر والإضافة من السابق إلى اللاحق، فإن النظرة إليه، بدوره، لم تتجاوز إطارَ الانهيارِ والتدهور. ولعل ذلك يرتبط بأن المتقدِّمين لم يتركوا للمتأخرين شيئًا إلا مجرد التكرار والتقليد.٦٦ فبدا هكذا، وكأن صيرورة العلم لا تتكشَّف عن جديد يضيفه المتأخر إلى المتقدم، أو أن كل ما يصل إليه المتأخر في علمٍ ما لا يفارق أبدًا آفاق تفكير المتقدم.٦٧
وإذ اقتضى ذلك ضرورة تعيين مراتب العلماء في كل علم، فإن ذلك التعيين لم يكن يستهدف تكريسَ أفضليةِ السابقِ على اللاحقِ فقط، بل — والأهم — حصر الفضل فيهم دون غيرهم، باعتبارهم علماء الفرقة الناجية (فرقة السلطة) في مواجهة علماء الفِرق الأخرى الهالكة (فِرق المعارضة)، وهكذا فإن القصد من تعيين مراتب العلماء ليس الأفضلية فقط، بل وإقامة «الدليل على أن جميع أئمة الدين في جميع العلوم من أهل السنة.»٦٨ وتبعًا لذلك فإنه إذا كان «جماعة من المتأخرين من أهل الأدب [قد] تدنَّسوا بشيء من الرفض والاعتزال، تقربًا إلى [ابن عباد] طمعًا في شيء من الدنيا والرياسة، وأظهروا شيئًا من الرفض والاعتزال. فمن كان متدنسًا بشيء من ذلك لم يجُز الاعتماد عليه في رواية أصول اللغة، وفي نقل معاني النحو، ولا في تأويل شيء من الأخبار، ولا في تفسير آية من كتاب الله تعالى.»٦٩ وإذن فإنها السلطة تُمارِس سطوتها في حقل العلم بتهميش كل اجتهاد للخصوم وإخراجه من موضوعية العلم إلى تحيُّزات الهوى والغرَض؛ إذ الغرض يعني أنه لا تُوجد أصول أو تقاليد تنتظم أقوال الخصوم وتؤسسها علميًّا؛ ولهذا فإن التأسيس العلمي لأقوال فرقة السلطة إنما يأتيها، في المقابل، من مجموعة التقاليد والمحددات والأصول التي تنتظمها وتؤسِّسها. وهكذا فإنه إذا كانت فرقة السلطة قد راحت تؤسِّس «سطوتها العلمية» عَبْر ضم وإلحاق الأعلام والمشاهير في كل علم إلى صفِّها وتجنيدهم في حربها ضد الفرق المناوئة، وعَبْر تأصيل اجتهادات هؤلاء الأعلام بردِّها إلى ما تقولُ إنه أصولها عند كبار الصحابة المتقدِّمين،٧٠ فإنها راحت تُمركِز هذه السطوة العلمية حول مجموعة من التقاليد والأصول التي يُعتبر الخروج عليها انحرافًا، لا اجتهادًا. وعَبْر هذه القواعد والأصول التي تتضمَّنها مصنَّفات الأعلام في كل علم، فإن فرقة السلطة قد راحت تحدِّد للناس ما ينبغي الالتزام به في كل مناحي الحياة ابتداء من «قواعد العقائد» التي «لأهل السنة والجماعة التفرُّد بأكثر من ألف تصنيفٍ فيها؛ فيها ما هو مبسوط يكثر علمه، ومنها ما هو لطيفٌ يصغر حجمه في عصورٍ مختلفة، من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، في نصرة الدين، والرد على الملحدين، والكشف عن أسرار بدع المبتدعين. ولم يكن لواحدٍ من متقدمي القدرية والروافض والخوارج تصنيف في هذا النوع يظهر ويُتداول. وهل كان لهم علمٌ حتى يكون لهم فيه تصنيف؟ بلى قومٌ من متأخريهم تكلَّفوا جمع شُبه يخادعون بها القوم عن أديانهم، وصنَّفوا فيها تصانيف أكثرها لا يُوجَد إلا بخط المصنَّف.»٧١ وهكذا فإنه فيما لم يكن لواحدٍ من متقدمي الخصوم تصنيف في أصول الدين، وفقط كان لمتأخريهم جملة شُبه يُخادعون بها القوم عن أديانهم؛ وبما يعني تشوُّشهم على نحوٍ يستحيل معه ترتيبُهم في سلسلةٍ متصلةٍ تحفظ وجودهم وتؤكِّد تأثيرهم، فإنه يمكن فيما يتعلق بفرقة السلطة «ترتيب أئمة الدين في علم الكلام.»٧٢
والملاحظ أن أمر الترتيب هذا — الذي أشعل بين الفرق ما يمكن تسميته ﺑ «حرب الطبقات» — لم يكن عارضًا، بل كان غاية في الجوهرية، لأنه يكشف اتصال الوجود ودوام التأثير. ومن هنا الحرص من جانب فرقة السلطة على بيان تشوُّش الخصوم وعدم انتظامهم في ترتيبٍ ما (وانتفاء فاعليتهم وتأثيرهم بالتالي) في مقابل بيان انتظام علمائها، في كل حقل، في ترتيبٍ ونظامٍ يؤكِّد الفاعلية والتأثير. هكذا كان الأمر — مثلًا — في علم الفقه الذي «لم يكن قَط للروافض، والخوارج، والقدَرية تصنيفٌ معروفٌ يُرجَع إليه في تعرُّف شيء من الشريعة، ولا كان لهم إمامٌ يُقتدى به في فروع الديانة»،٧٣ وذلك فيما يمكن — في المقابل — «ترتيب أئمة الفقه من أهل السنة والجماعة.»٧٤ وهكذا الأمر أيضًا في «العلوم المتعلقة بأحاديث المصطفى ، والتمييز بين الصحيح والسقيم من الروايات، ومعرفة السلف الصالح، ولا يدخل في تلك الصنعة إلا أهل السنة والجماعة»٧٥ الذين يمكن لذلك «ترتيب أئمتهم في الحديث والإسناد.»٧٦ وكذلك الأمر في «علم التصوف والإشارات، وما لهم فيها من الدقائق والحقائق، لم يكن قط لأحد من أهل البدعة فيه حظٌّ، بل كانوا محرومين مما فيه من الراحة والحلاوة والسكينة والطمأنينة. وقد ذكر أبو عبد الرحمن السلمي من مشايخهم قريبًا من ألف،٧٧ يقتضي الأمر ضرورة ترتيبهم.٧٨ وأخيرًا فإن الأمر يتسع لذات الترتيب حتى في علوم اللغة والأدب،٧٩ وهكذا تحدِّد فرقة السلطة للناس، عَبْر هذا الترتيب في كل العلوم المعروفة آنذاك؛ ليس فقط «قواعد العقائد»، بل «مبادئ السلوك والعمل» و«طرق الرواية»، و«كيفية الرياضة والمجاهدة»، وحتى «قواعد التذوق الأدبي والضبط اللغوي»؛ وبكيفية يصبح معها الخروج عن هذا التحديد ضربًا من الانحراف والهرطقة؛ ولهذا فإن الأمر، هنا، لا يخرج عن إطار التفضيل؛ لأنه يبقى لازمًا ضرورة الخضوع لأصولٍ ومحدداتٍ سابقة في الماضي هي الأفضل لا محالة.
وإذا كان الخروج عن هذه الأصول والمحددات لا يُعَد — حسب فرقة السلطة — اجتهادًا، بل كفرًا وبدعة، فإنه يبدو، هكذا، وكأن التفضيل يُحيل إلى صِنوه الذي يرتبط به؛ وأعني به التكفير؛ فإذ التفضيل يُحيل إلى تكريس الفاعلية وتأكيد الوجود واتصاله (لا بالمعنى التاريخي فقط، بل الجغرافي كذلك)،٨٠ فإن التكفير يُحيل — في المقابل — إلى دلالةٍ هامشية الوجود وانعدام التأثير.٨١ والحقُّ أن اقتران التفضيل والتكفير،٨٢ على هذا النحو، إنما يكشف عن الاقتران بين فعلَي التمييز والإزاحة؛ وبمعنى أن فعل التفضيل ليس فقط فعل تمييز، بل — والأخطر — أنه فعل إزاحة. ولعل ذلك يُحيل إلى الأساس الأيديولوجي للتفضيل، لا عَبْر تكريس اختيار سياسي ما (مثلما كان الأمر فيما يتعلق بالتفاضُل بين الخلفاء)، بل عَبْر تكريس خطابٍ محدَّد (ينتظم كل مظاهر النظر والعمل) وإزاحة وإقصاء سائر الخطابات المناوئة؛ إذ التكفير ينطوي على دلالة السعي من الخطاب الأشعري (خطاب السلطة) إلى فرض هيمنته في محيط الثقافة، وذلك بإقصاء ونفي كافَّة الخطابات المناوئة عَبْر وصمها بالضلال والهرطقة.
ومن هنا إلحاح الخطاب الأشعري — وخاصة مع البغدادي الذي ابتدأ معه التفكير في التكفير٨٣ — على أن يضع نفسه في هُويةٍ واحدة مع «الدين القويم والصراط المستقيم» تمييزًا لنفسه عن الخطاباتِ المناوئةِ التي لا تُعبِّر، في المقابل، إلا عن «الأهواء المنكوسة والآراء المعكوسة.»٨٤ إنه إذن خطاب القوامة والاستقامة في مقابل خطاب الرأي والهوى، خطاب الفرقة الناجية في مقابل خطابات الأخرى الهالكة. وهكذا يتوازى الخطابان ولا يلتقيان في سلسلة من الثنائيات المتضادة التي تئول دومًا إلى استبقاء واحدٍ منها ونفي وإقصاء ما عداه؛ إذ كيف لخطاب الرأي والهوى أن يُوجَد وهناك القوامة والاستقامة؟ إن مآله — لا شك — هو النفي والإقصاء من حقل الملة والأمة معًا. بل إن النفي والإقصاء يلحقانه أيضًا خارج العالم؛ حيث لا شيء هناك إلا المصير إلى الهاوية والنار الحامية. وهكذا الإقصاء في العالم يتبعه الإقصاء خارجه لا مفرَّ؛ حيث الخطاب المسيطر لا يكتفي بضمان النعيم لحامليه في الدارَين، بل ويصر على النبذ لمخالفيه فيهما أيضًا. وهكذا يتكشَّف التكفير — مثلما التفضيل قبلًا — عن أيديولوجيا للهيمنة لا يُفلِح شيء في التغطية عليها.

والحق أن اقتران التفضيل والتكفير، هكذا، إنما يئول إلى تصوير التاريخ حقل صراع بين الإيمان والكفر أو حتى بين الله والشيطان، أعني بين طرفَين لا يمكن الالتقاء بينهما أبدًا، بل لا بد من النفي لأحدهما والإبقاء للآخر. وبقَدر ما يبدو التاريخ، لذلك، تاريخًا صوريًّا لا مجال فيه للإنسان كما سيظهر فيما بعدُ، فإنه يبدو أيضًا تاريخًا لاهوتيًّا ساذجًا لا مجال فيه إلا للانقسام والإزاحة، وليس الاستيعاب والإضافة اللذين ينبني عليهما تاريخ الإنسان بالفعل.

ولعله يلزم التنويه بأنه إذا كان التفضيل قد انبثق من السعي إلى تكريس الاختيار السياسي لجماعةٍ ما بوصفه الأفضل من كل ما عداه، ثم تطوَّر إلى تكريس نوع من السلطة الثابتة التي لا تتزعزع لهذه الجماعة، في كافة مناحي النشاط الإنساني (وفي الحالَين فإن ثمَّة الخضوع لأصلٍ ثابتٍ في الماضي لا يمكن الخروجُ عليه بوصفه الأفضل)، فإن ذلك يعني أن التفضيل قد انبثَق وتطوَّر قاصدًا إلى تكريس وضعٍ ما. ولعل ذلك يئول إلى أن التفضيل إنما يجد ما يؤسِّسه في ذلك القصد فقط، وبما يعني أن هذا «القصد» وليس «النص (القرآني أو النبوي)» هو ما يؤسِّس القول في التفضيل. ومن هنا ما صار إليه البعض من أن «النصوص المذكورة [فيه] لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف.»٨٥ ولذلك فإن «مُستنده ليس إلا الظن، وما ورد في ذلك من الآثار، وأخبار الآحاد، والميل من الأمة إلى ذلك بطريق الاجتهاد»،٨٦ أو بدلالة الإجماع.٨٧
ومن غير شك فإن هذا «الميل من الأمة» — الذي يسند النص التفضيل إليه — ليس إلَّا «قصدها» إلى تبرير وتكريس ما حدث في مسألة الخلافة — وكل ما ترتَّب عليه — من خلال مفهوم التفضيل. لكنه بدا أن هذا الإسناد للتفضيل (بطريق الاجتهاد أو بدلالة الإجماع) إلى القصد أو الميل وليس النص، لا يئول فقط إلى مجرد زعزعة أسسه، بل — والأهم — أنه يفضَح أصله الأيديولوجي. ومن هنا ما صار إليه البعض، تغطيةً لذلك، من أن التفضيل إنما يكون «بالوضع من الله تعالى»،٨٨ وأنه لذلك «لا يُعرف إلا ببرهانٍ مسموع من الله تعالى في القرآن أو من كلام رسول الله.»٨٩ إنه السعي — لا شك — إلى التغطية بالنص على الأساس الأيديولوجي للتفضيل. وأخيرًا، فإنه إذا كان التفضيل قد اتسع لبعض ضروب المفاضلة الأخرى، كالتفاضُل بين الأنبياء بعضهم وبعض،٩٠ وبينهم وبين الأولياء،٩١ فإن الأمر هنا أيضًا ينطوي على ذات فعلَي التمييز والإزاحة، لكنه التمييز فيما يتعلق بالتفاضُل بين الأنبياء للأمة التي ينتمي إليها النبي في مقابل إزاحة غيرها من الأمم الخاصة بالأنبياء الآخرين؛ وبما يعني أن أفضلية النبي محمد في هذا السياق لا تعني إلا أن أمته هي أفضل من باقي الأمم جميعًا.٩٢

وبالرغم من أن الأمر ذاته يتبدَّى فيما يتعلق بالتفاضل بين الأنبياء والأولياء، فإن أثَر الانفتاح على التصوُّف يبدو حاضرًا في هذا السياق؛ إذ يبدو أن هذه الضروب من المفاضلة كانت صدًى لما انطوت عليه بعض نصوص التصوُّف من إعلاء شأن الأولياء على الأنبياء. والحق أن تأثير التصوف الإشراقي، بتصوُّره الهرمي للعالم، يبدو قويًّا على مبحث التفضيل بأَسْره.

١  الأشعري: اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، طبعة حمودة غرابة، بيروت، ١٩٥٢م، ص٨١–٨٣.
٢  «فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضوان الله عليهما، وإذا وجبَت إمامةُ أبي بكر بعد رسول الله ، وجَب أنه أفضلُ المسلمين». الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، نشرة قصي الخطيب، (المطبعة السلفية)، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٣٩٧ﻫ، ص٧٧.
٣  الأشعري: الإبانة، سبق ذكره، ص٧٨.
٤  المصدر السابق، ص٧٨.
٥  المصدر السابق، ص٧٨.
٦  الباقلاني، التمهيد، نشرة محمود الخضيري، محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة، ١٩٤٧م، ص١٨٠–٢٣٩.
٧  الباقلاني، الإنصاف، نشرة الكوثري، (المكتبة الأزهرية للتراث)، القاهرة، ١٣٦٩ﻫ، ص٥٦–٥٨.
٨  المصدر السابق، ص٥٨.
٩  الباقلاني: الإنصاف، ص٦٠.
١٠  المصدر السابق، ص٥٩.
١١  المصدر السابق، ص٥٩.
١٢  الجويني: الإرشاد إلى قواطع الأدلة، تحقيق محمد يوسف موسى وآخر، (مكتبة الخانجي)، القاهرة، ١٩٥٠م، ص٤٣٠.
١٣  المصدر السابق، ص٤٣١.
١٤  المصدر السابق، ص٤٣١.
١٥  الجويني: لمع الأدلة، تحقيق فوقية حسين محمود، (المؤسسة المصرية للتأليف والأنباء والنشر)، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٩٦٥م، ص١١٥.
١٦  يقع في هذا الأصل خمسَ عشرةَ مسألة، هذه ترجمتها: مسألة في تفضيل الأنبياء على الملائكة. مسألة في إبليس: هل كان من الملائكة أم من غيرهم؟ مسألة في تفضيل بعض الأنبياء على بعض، مسألة في تفضيل الأنبياء على الأولياء، مسألة في معرفة مراتب الصحابة، مسألة في بيان الأفضل من الصحابة، مسألة في مراتب التابعين وأتباعهم، مسألة في تفضيل مراتب النساء، مسألة في بيان أفضلهم في الرتبة، مسألة في ترتيب أئمة الدين في علم الكلام، مسألة في ترتيب أئمة الفقه من أهل السنَّة، مسألة في ترتيب الأئمة في علم الحديث، مسألة في معرفة أئمة التصوف والزهد، مسألة في ترتيب أئمة اللغة والنحو، مسألة في تحقيق السنَّة في أهل الجهاد والثغور. البغدادي، أصول الدين، (مدرسة الإلهيات بدار الفنون التركية)، إستانبول، مطبعة الدولة، ١٩٢٨م، ص٢٩٥–٣١٧.
١٧  «لم يكن في جميع من نُسب إليه شيءٌ من أصول تفسير القرآن من وقت الصحابة إلى يومنا هذا مَن تلوَّث بشيءٍ من مذهب القدرية، والروافض، والخوارج، مثل الخلفاء الراشدين الذين تكلَّموا في التفسير، ومثل عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، ومثل المشاهير من التابعين، وأتباع التابعين الذين تكلَّموا في التفسير كسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء، وعكرمة، ومكحول، وعطية ومن كان بعدهم؛ كالواقدي، ومحمد بن إسحاق بن يسار، والسدي، وغيرهم ممن كان بعدَهم إلى أن انتهت النوبة إلى محمد بن جرير الطبري وأقرانه … وفي علوم المغازي والسير والتواريخ، والتفرقة بين السقيم والمستقيم، فليس لأهل البدعة من هو رأسٌ في شيءٍ من هذه العلوم، فهي مختصة بأهل السنَّة والجماعة». الإسفرائيني، التبصير في الدين، نشرة السيد عزت العطار الحسيني، (مطبعة الأنوار)، القاهرة، الطبعة الأولى، ١٩٤٠م، ص١١٧-١١٨.
١٨  ابن حزم، الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل، (مكتبة السلام العالمية)، القاهرة، ١٣٤٨ﻫ، ج٤، ص٩٠–١١٩.
١٩  المصدر السابق، ص١٠٢.
٢٠  البزدوي، أصول الدين، تحقيق: هانز بيتر لنس، (دار إحياء الكتب العربية)، القاهرة، ١٩٦٣م، ص٢٠٢.
٢١  وأعني خاصةً مصنفات الغزالي (٥٠٥ﻫ)، والنسفي (٥٠٨ﻫ)، والرازي (٦٠٦ﻫ)، والآمدي (٦٣١ﻫ)، والإيجي (٧٥٦ﻫ)، والتفتازاني (٧٩١ﻫ).
٢٢  انظر: الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، (مكتبة الحلبي)، القاهرة، دون تاريخ، ص١١٨. والآمدي، غاية المرام في علم الكلام، تحقيق: حسن محمود عبد اللطيف، (المجلس الأعلى للشئون الإسلامية)، القاهرة، ١٩٧١م، ص٣٩٠. والإيجي: المواقف، (مكتبة المتنبي)، القاهرة، بلا تاريخ، ص٤١٣.
٢٣  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، سبق ذكره، ص١١٨.
٢٤  الإيجي، المواقف، سبق ذكره، ص١١٨.
٢٥  التفتازاني، شرح العقائد النسفية، تحقيق أحمد حجازي السقا، (مكتبة الكليات الأزهرية)، القاهرة، ١٩٨٨م، ص٩٥.
٢٦  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، سبق ذكره، ص١١٨؛ والإيجي، المواقف، سبق ذكره، ص٤١٢.
٢٧  الآمدي، غاية المرام، سبق ذكره، ص٣٩١.
٢٨  الآمدي، غاية المرام، سبق ذكره، ص٣٩١.
٢٩  ولعل اختفاء الإمامة من المصنفات المتأخرة يرتبط بالخضوع للدولة العثمانية، التي لم يكن ممكنًا في ظل سيطرتها معالجة بعض مسائل الإمامة التقليدية؛ من قبيل قرشية الإمام (وبالتالي عروبته) … إلخ، فجاء إسقاط المبحث بأَسْره، وذلك رغم أن الإمامة كانت قد بلغَت مع المتأخرين حدَّ الإقرار بإمامة الغاصب لأن «من اشتدَّت وطأتُه وجبَت طاعتُه».
٣٠  محمد نووي الجاوي، شرح تيجان الدراري، (مكتبة الحلبي)، القاهرة، ١٣٤٢ﻫ، ص١٤.
٣١  البيجوري، تحفة المريد على جوهرة التوحيد، (مكتبة الحلبي)، القاهرة، ١٩٣٩م، ص٨٩–٩٤.
٣٢  عبد السلام المالكي، شرح جوهرة التوحيد، (مكتبة الحلبي)، القاهرة، ١٩٤٨م، ص١٢٥، وأيضًا البيجوري، حاشية تحقيق المقام، (مكتبة الحلبي)، القاهرة، ص٧٤.
٣٣  والحق أن الدور التأسيسي لهذا النص — داخل النسَق الأشعري — يتأتَّى من أن طرائقه في إنتاج الدلالة قد ظلت عصيَّة على التجاوز في كافة النصوص اللاحقة التي أنتجها النسَق؛ فإذ مضى النص — مثلًا — إلى إثبات إمامة أبي بكر بالدلائل من القرآن، إضافةً إلى دليل الإجماع، فإن هذه الدلائل — وبمفرداتها أحيانًا — قد ظلَّت متداولةً في معظم النصوص اللاحقة. انظر: الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، سبق ذكره، ص٧٧ وما بعدها.
٣٤  ولعل ذلك يتكشَّف عن صيرورة التهميش والإزاحة لكل ما هو تاريخي داخل النسق، فإذا النسَق يمضي إلى إزاحة «التاريخي» فيه، عَبْر إزاحة الإمامة وتحويلها من أصلٍ أساسيٍّ له إلى زائدة لم تجد فها المصنَّفات المتأخرة ما يستحق الإبقاء، فإن ثمَّة التهميش أيضًا للتاريخي داخل الإمامة ذاتها؛ الأمر الذي يكشف عن استحالة هذا التهميش للتاريخي إلى ثابتٍ ينتظم النسَق بأَسْره.
٣٥  الأشعري، الإبانة، سبق ذكره، ص٧٨.
٣٦  وهذا ما سيحدُث مع الجويني لاحقًا.
٣٧  الأشعري، الإبانة، سبق ذكره، ص٧٨.
٣٨  الباقلاني، الإنصاف، سبق ذكره، ص٦٠.
٣٩  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، سبق ذكره، ص٣٩٠.
٤٠  المصدر السابق، ص٣٩١.
٤١  فإن «ما جرى بين عليٍّ والزبير وعائشة رضي الله عنهم، فإنما كان على تأويلٍ واجتهاد»، الأشعري، الإبانة، ص٧٨؛ «وإن الصحابة رضي الله عنهم إنما صدَر منهم ما كان باجتهاد، فلَهم الأجر، ولا يُفسَّقون ولا يُبدَّعون». الباقلاني، الإنصاف، ص٥٩. «وما ثبَت نقله فالتأويل متطرِّق إليه، ولم يجز ما لا يتسع العقل لتجويز الخطأ والسهو فيه، وحمل أفعالهم على قصد الخير وإن لم يصيبوه، والمشهور من قتال معاوية مع عليٍّ، ومسير عائشة رضي الله عنهم إلى البصرة، والظن بعائشة أنها كانت تطلب تطفئة الفتنة، ولكن خرج الأمر من الضبط، فأواخرُ الأمور لا تبقى على وفق طلب أوائلها، بل تنسَلُّ عن الضبط، والظن بمعاويةَ أنه كان على تأويلٍ وظنٍّ فيما كان يتعاطاه … فينبغي أن تُلازِم الإنكار في كل ما لم يثبُت، وما ثبَتَ فتستنبطُ له تأويلًا، فما تعذَّر عليك فقل لعل له تأويلًا وعذرًا لم أطَّلع عليه». الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص١١٨. «اعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة»، ابن خلدون: المقدمة، نشرة علي عبد الواحد وافي، (دار نهضة مصر)، القاهرة، ج٢، ص٦١٧.
٤٢  ويجب أن يُعلم أن ما جرى بين أصحاب النبي ورضي عنهم من المشاجرة نكُف عنه، ونترحَّم على الجميع، ونُثني عليهم، ونسأل الله تعالى لهم الرضوان والأمان والفوز بالجنان». الباقلاني، الإنصاف، ص٥٩. «فمن يلاحظ هذه الفصول ولم يكن في طبعه ميل إلى الفضول آثر ملازمته السكوت، وحسن الظن بكافة المسلمين، وإطلاق اللسان بالثناء على جميع السلف الصالحين». الغزالي، الاقتصاد، ص١١٨. «وقد عصمَهم الله [يقصد أهل السنَّة] أن يقولوا في أسلاف هذه الأمة منكرًا، أو يطعنوا فيهم طعنًا، فلا يقولون في المهاجرين والأنصار وأعلام الدين، ولا في أهل بدر وأحد، وأهل بيعة الرضوان، إلا أحسن المقال». الإسفرائيني، التبصير في الدين، ص١٢١. «ومع هذا كله فالواجب أن يُحسَن الظن بأصحاب الرسول، وأن يُكَف عما يجري بينهم، وألا يُحمَل شيءٌ مما فعلوه أو قالوه إلا على وجه الخير وحسن القصد، وسلامة الاعتقاد». الآمدي، غاية المرام، ص٣٩٠. «إنه يجبُ إمساكُ اللسانِ عن الطعنِ فيهم لأن عموماتِ القرآن والأخبار دالةٌ على وجوب تعظيم الصحابة رضي الله عنهم». الرازي، معالم أصول الدين، نشرة طه عبد الرءوف سعد، (مكتبة الكليات الأزهرية)، القاهرة، دون تاريخ، ص١٤٧. «إنه يجب تعظيمُ الصحابة كلهم والكفُّ عن القدح فيهم». الإيجي، المواقف، سبق ذكره، ص٤١٣.
٤٣  «فإن نُقلَت هَنَاة، فليتدبَّر النقل وطريقه، فإن ضعُف ردَّه [أي قام بردِّه]، وإن ظهَر وكان آحادًا، لم يقدَح فيما علم تواترًا منه وشهدَت له النصوص. الجويني، الإرشاد، ص٤٣٣. «وما يُحكي سوى هذا من روايات الآحاد، فالصحيح منه مُختلطٌ بالباطل، والاختلاف أكثره اختراعات الروافض والخوارج وأرباب الفضول الخائضون في هذه الفنون». الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص١١٧. «إن أكثر ما ورَد في حقهم من الأفعال الشنيعة والأمور الخارجة عن حكم الشريعة، فلا أصل لها إلا تخرُّصات أهل الأهواء، وتصنُّعات الأعداء كالروافض والخوارج». الآمدي، غاية المرام، ص٣٩٠.
٤٤  فأكثر ما يُنقَل مُخَتَرع بالتعصُّب في حقهم ولا أصل له». الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص١١٧. «وأما الفتن والحروب الواقعة بين الصحابة، فالهشامية أنكروا وقوعها». الإيجي، المواقف، ص٤١٣.
٤٥  الجويني: الإرشاد، سبق ذكره، ص٤٣٠.
٤٦  المصدر السابق، ص٤٣٠. ويُكمِل الأشعري هذا المبدأ بقوله: «ولا تنعقد الإمامة لأحد مع وجود من هو أفضل منه فيها، فإن عقَدَها قومٌ للمفضول كان المعقودُ له من الملوك دون الأئمة. لهذا قال في الخلفاء الأربعة: أفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليٌّ». البغدادي، أصول الدين، ص٢٩٣.
٤٧  «فلما قدَّموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتبوهم على الترتيب المذكور علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدموا أحدًا تشهيًا منهم، وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره في وقت توليه». الباقلاني، الإنصاف، ص٥٨. «فالخلفاء الراشدون لما ترتَّبوا في الإمامة، فالظاهر ترتيبهم في الفضيلة: فخيرُ الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين». الجويني، لمع الأدلة، ص١١٥. «فأما الخلفاء الراشدون فهم أفضلُ من غيرهم، وترتيبُهم في الفضل عند أهل السنَّة كترتيبهم في الإمامة». الغزالي، الاقتصاد، ص١١٨. «أفضل الأمة بعد نبينا محمد أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليٌّ رضوان الله عليهم أجمعين». أبو المعين النسفي، التمهيد لقواعد التوحيد، تحقيق حبيب الله حسن أحمد، (دار الطباعة المحمدية)، القاهرة، ١٩٨٦م، ص٤٧. «ويجب مع ذلك أن يُعتقد أن أبا بكر أفضل من عمر، وأن عمر أفضل من عثمان، وأن عثمان أفضل من عليٍّ». الآمدي، غاية المرام، ص٣٩١. «وهم مترتبون في الفضل ترتيبهم في الإمامة». الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق العبد العزيز الوكيل، (مؤسسة الحلبي)، القاهرة ج١، ص١٠٣. «وأفضل الناس بعد رسول الله : أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليٌّ رضي الله عنهم أجمعين». الملطي، التنبيه والرد، نشرة الكوثري، (مكتبة المتنبي)، بغداد، ١٩٦٨م، ص١٥. وإذ بدا أن الأساس في هذا الترتيب هو مجرد التحقق؛ فإن الباقلاني قد راح يلتمس دليلًا من القرآن عليه؛ يقول: «ووقع لي أنا دليلٌ من نص الكتاب في ترتيبهم على هذه الرتبة أنه لا يجوز أن يكون غير ذلك [هو] قوله تعالى: وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، ووعده حق وخبره صدق لا يقع بخلاف مُخبره، فلا بد من أن يتم ما وعدهم به وأخبر أن يكون لهم ولا يصح إلا أن يكونَ على هذا الترتيب؛ لأنه لو قُدِّم عليٌّ عليه السلام لم تَصِر الخلافة منها إلى أحد من الثلاثة؛ لأن عليًّا عليه السلام مات بعد الثلاثة. وكذلك لو قُدِّم عثمانُ رضي الله عنه لم تَصِر الخلافة إلى أبي بكر وعمر؛ لأن عثمان مات بعد موتهِما، ولو قُدِّم عمر لم تَصِر الخلافة إلى أبي بكر؛ لأن عمر مات بعده، والله تعالى أخبر ووعد أنها تصير إليهم، فلم يَصحَّ أن تقع إلا على الوجه الذي وقعَت». الباقلاني، الإنصاف، ص٥٨.
٤٨  «وفي فضل الترتيب في الفضيلة اختلافٌ بين الناس، وفيه كلامٌ كثير ودلائلُ جَمَّة». النسفي، التمهيد، ص٤٠٩. «لم يقم عندنا دليلٌ قاطع على تفضيل بعض الأئمة على بعض؛ إذا العقل لا يشهد على ذلك، والأخبار الواردة في فضائلهم متعارضة، ولكن الغالب على الظن أن أبا بكر رضي الله عنه أفضلُ الخلائق بعد الرسول ، ثم عمر بعده أفضلهم، وتتعارض الظنون في عثمان وعلي». الجويني، الإرشاد، ص٤٣١. «اختلف أصحابنا في تفضيل عليٍّ وعثمان، فقدَّم الأشعري عثمان وبناه على أصله في منع إمامة المفضول. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة والحسين بن الفضل البجلي بتفضيل عليٍّ رضي الله عنه. وقال القلانسي: لا أدري أيهما أفضل، وأجاز إمامة المفضول». البغدادي، أصول الدين، ص٣٠٤. «والذي يقع في نفوسنا دون أن نقطع به ولا نُخطِّئ من خالفنا في ذلك فهو أن عثمان أفضل من عليٍّ والله أعلم؛ لأن فضائلهما تتقاوم في الأكثر، فكان عثمان أقْرَأَ، وكان عليٌّ أكثر فُتيا ورواية، ولعليٍّ أيضًا حظٌّ قوي في القراءة، ولعثمان أيضًا حظٌّ قوي في الفُتْيا والرواية، ثم انفرد عثمان بفضائلَ دونها فضائل عليٍّ». ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ص١١٥، والملاحظ على ابن حزم أنه يتحامل دائمًا على الطالبيين بسبب ولائه المُفرِط للأمويين في الأندلس. وهكذا فإنه إذ يحصر بحثَه في التفضيل في مجرد المفاضلة بين نساء النبي وصحابته، فإنه ينشغل أساسًا بتقديم السيدة عائشة على فاطمة (فيما يتعلق بالنساء) من جهة، وبتأخير رتبة الإمام عليٍّ في الفضل بالنسبة لأبي بكر وعثمان خاصة، فيما يتعلق بالصحابة، من جهةٍ أخرى.
٤٩  «وأفضل الصحابة الأولون من المهاجرين، ثم الأولون من الأنصار، ثم مَن بعدَهم منهم، ولا نقطع على إنسانٍ منهم بعينه أنه أفضلُ من آخرَ في طبقته». ابن حزم، الفصل، ج٤، ص٩١. «التفضيل تارةً باعتبار الأفراد مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعليٍّ، وتارةً باعتبار الأصناف مثل تفضيل الخلفاء الأربعة ثم الستة الباقية من العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل بيعة الرضوان». الشيخ عبد السلام المالكي، شرح جوهرة التوحيد، ص١٣٢.
٥٠  «الصحابة رضي الله عنهم على مراتب؛ أعلاهم رتبةً السابقون منهم إلى الإسلام، والطبقة الثانية من الصحابة هم الذين أسلموا عند إسلام عمر، والطبقة الثالثة منهم أصحاب الهجرة الأولى إلى الحبشة، والطبقة الرابعة منهم أصحاب العقبة الأولى، والطبقة الخامسة أصحاب العقبة الثانية، والطبقة السادسة منهم المهاجرون مع رسول الله إلى المدينة، ومن أدركه منهم بقباء قبل دخول المدينة، والطبقة السابعة المهاجرون بين دخول رسول الله المدينة وبين بدر، والطبقة الثامنة منهم البدريون، والطبقة التاسعة منهم أصحاب أحدٍ غير رجلٍ منهم اسمه قزمان؛ فإنه كان منافقًا، والطبقة العاشرة أصحاب الخندق وعبد الله بن عُمر معدودٌ فيهم، والطبقة الحاديةَ عشرةَ هم المهاجرون بين الخندق والحديبية، والطبقة الثانيةَ عشرةَ أصحاب بيعة الرضوان بالحديبية عند الشجرة، والطبقة الثالثةَ عشرةَ المهاجرون بين الحديبية وبين فتح مكة، والطبقة الرابعةَ عشرةَ الذين أسلموا يوم فتح مكة وفي ليلته، والطبقة الخامسةَ عشرةَ الذين دخلوا في دين الله أفواجًا بعد ذلك ونزل فيهم: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، والطبقة السادسة عشرة صبيانٌ أدركوا رسول الله ، وقلَّت روايتهم عنه کسِبْطَيْه الحسن والحسين رضي الله عنهما وكعبد الله بن الزبير، والطبقة السابعة عشرة صبيانٌ حُملوا إليه عام حجة الوداع وقبيل ذلك، ليست لهم رواياتٌ صحيحةٌ كمحمد بن أبي بكر، ومن هذه الطبقة قوم رأوَا رسول الله فحسب، كأبي الطُّفيل وابن جُحيفة فإنهما رأَياه في الطواف وعند زمزم». البغدادي، أصول الدين، ص٢٩٨–٣٠٣.
٥١  «ولا يخفى ترجيح رتبة من لازمه وقاتل معه أو قُتل تحت رايته على من لم يلازمه أو لم يحضُر معه مشهدًا أو على مَن كلَّمه يسيرًا أو ماشاه قليلًا، أو رآه على بُعد أو في حال الطفولية، وإن كان شرفُ الصحبة حاصلًا للجميع». انظر: عبد السلام المالكي، شرح جوهرة التوحيد، ص١٢٥.
٥٢  «إن الفضل ينقسم إلى قسمَين لا ثالث لهما؛ فضل اختصاصٍ من الله عز وجل بلا عملٍ، وفضل مجازاةٍ من الله تعالى بعمل؛ فأما فضل الاختصاص دون عمل، فإنه يشترك فيه جميع المخلوقين من الحيوان الناطق والحيوان غير الناطق والجمادات والأعراض كفضل الملائكة في ابتداء خلقهم على سائر الأنبياء، وكفضل مكة على سائر البلاد، وكفضل الحجر الأسود على سائر الحجارة، وكفضل شهر رمضان على سائر الشهور، أما فضل المجازاة بالعمل فلا يكون البتة إلا للحي الناطق من الملائكة والإنس والجن فقط، وهذا هو القسم الذي تنازع فيه الناس في هذا الباب الذي نتكلم فيه الآن من أحق به، فوجب أن ننظر أيضًا في أقسام هذا القسم التي بها يُستحق الفضل فيه والتقدم، فنحصُرها ونذكُرها بحول الله وقوَّته، ثم ننظر حينئذٍ من هو أحقُّ به وأسعد بالنسوق فيه، فيكون بلا شكٍّ أفضلَ ممن هو أقل حظًّا منها، فنقول: إن العامل يفضُل العامل في عمله بسبعة أوجه لا ثامنَ لها وهي [الماهية] وهي أن تكون الفروض من أعمال أحدهما موافاة كلها، ويكون الآخر يضيع بعض فروضه وله نوافل، أو يكون كلاهما وفَّى جميع فرضه ويعملان نوافل زائدة، إلا أن نوافل أحدهما أفضل من نوافل الآخر، و[الكمية] وهي العرض فأن يكون أحدهما يقصد بعمله وجهَ الله تعالى وحدهَ لا يمزج به شيئًا البتة ويكون الآخر يساويه في جميع عمله، إلا أنه ربما مزج بعمله شيئًا من حُب البر في الدنيا، و[الكيفية] فأن يكون أحدهما يُوفي عملَه جميعَ حقوقه ورتبه، لا منتقصًا ولا متزايدًا، ويكون الآخر ربما انتقص بعض رُتَب ذلك العمل وسننه وإن لم يعطِّل منه فرضًا، و«الكم» فأن يستويا في أداء الفرض ويكون أحدهما أكثر [منه] نوافل ففَضَله، و[الزمان] فكمن عمل في صدر الإسلام أو في عام المجاعة أو في وقت نازلة بالمسلمين، وعمل غيره بعد قوة الإسلام، وفي زمن رخاء وأمن، فإن الكلمة في أول الإسلام والتمرة والصبر حينئذٍ وركعة في ذلك الوقت تعدل اجتهاد الأزمان الطوال وجهادها وبذل الأموال الجسام بعد ذلك، و[المكان] فصلاة في المسجد الحرام أو مسجد المدينة، فهما أفضل من ألف صلاة فيما عداهما، ففضَل من عمل في المكان الفاضل غيرَه ممن عمل في غير ذلك المكان بمكان عمله، وإن تساوى العملان، و«الإضافة» فركعة من نبي أو ركعة مع نبي، أو صدقة من نبي أو صدقة معه، أو ذكرٌ منه أو ذكرٌ معه، سائر أعمال البر منه أو معه، فقليل ذلك أفضل من كثير الأعمال بعده، ويُبيِّن ذلك ما قد ذكرناه آنفًا من قول الله عز وجل: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وبهذا قطعنا على أن كل عملٍ عملوه بأنفسهم بعد موت النبي لا يوازي شيئًا من البِر عمله ذلك الصاحب بنفسه مع النبي ، ولا ما عمله غير ذلك الصاحب بعد النبي ، وبهذا قطعنا على أن مَن كان من الصحابة حين موت رسول الله أفضل ممن آخر منهم، فإن ذلك المفضول لا يلحق درجة الفاضل له حينئذٍ أبدًا وإن طال عمر المفضول وتعجَّل موت الفاضل.» ابن حزم، الفصل، ج٤، ص٩١–٩٣.
٥٣  «ثم نتيجة هذه الوجوه كلها وثمرتها ونتيجة فضل الاختصاص المجرد دون عمل أيضًا لا ثالث لهما البتة، أحدهما إيجابُ الله تعالى تعظيمَ الفاضل في الدنيا على المفضول، والوجه الثاني هو إيجابُ الله تعالى للفاضل درجةً في الجنة أعلى من درجة المفضول، فإذا قد صحَّ ما ذكَرنا قبلُ يقينًا بلا خلافٍ من أحدٍ في شيء منه، فبيقينٍ ندري أنه لا تعظيمَ يستحقُّه أحدٌ من الناس في الدنيا بإيجاب الله تعالى ذلك علينا بعد التعظيم الواجب علينا للأنبياء عليهم السلام أوجب ولا أوْكَد مما ألزمناه الله تعالى من التعظيم الواجب علينا لنساء النبي ، بقول الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، فأوجب الله لهن حكم الأمومة على هذا سوى حق إعظامهم بالصحبة مع رسول الله ، فلهن رضي الله تعالى عنهن مع ذلك حقُّ الصحبة له كسائر الصحابة، إلا أن لهن من الاختصاص في الصحبة ووكيد الملازمة له عليه السلام، ولطيف المنزلة عنده عليه السلام والقرب منه والحظوة لديه ما ليس لأحدٍ من الصحابة رضي الله عنهم، فهن أعلى في درجة الصحبة من جميع الصحابة، ثم فضَلن سائرَ الصحابة بحقٍّ زائد، وهو حق الأمومية الواجب لهن كلهن بنص القرآن، فوجدنا الحق الذي به استحقَّ الصحابةُ الفضلَ قد شاركنَهم فيه وفضلنَهم فيه أيضًا، ثم فضَلنَهم بحقٍّ زائد وهو حق الأمومية». ابن حزم، الفِصل، ج٤، ص٩٤-٩٥.
٥٤  واختلفوا في فضل عائشة وفاطمة، فكان شيخنا أبو سهل محمد بن سليمان الصعلوكي وابنه سهل بن محمد يُفضِّلان فاطمة على عائشة. وهذا هو الأشبه بمذهب شيخنا أبي الحسن الأشعري، وبه قال الشافعي، وزعمَت البكرية أن عائشةَ أفضلُ من فاطمة. والقول الأول هو الصحيح عندنا للخبر الوارد في أن أفضل النساء وخيرهن أربع، وأفضل النساء بعد فاطمة وخديجة عائشة ثم أم سلمة ثم حفصة بنت عمر، ثم الله أعلم بالأفضل منهن بعد ذلك، وقد قيل: إن بنات كل نبي أفضل من زوجاته». البغدادي، أصول الدين، ص٣٠٦. «وأما فضلهن [أي زوجاته] على بنات النبي ، فبيِّن بنص القرآن، واستدركنا بيانًا زائدًا في قول النبي في أن فاطمةَ سيدةُ نساءِ المؤمنين أو نساءِ هذه الأمة، فنقول وبالله تعالى التوفيق: إن الواجب مراعاة ألفاظ الحديث، وإنما ذكَر عليه السلام في هذا الحديث السيادة ولم يذكر الفضل، وذكَر في حديث عائشة الفضل نصًّا بقوله عليه السلام: «وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام». ابن حزم، الفِصل، ج٤، ص٩٧–١٠٣. «وأما تفضيل الزوجات الشريفات، فأفضلهن خديجة وعائشة، وفي أفضلهما خلاف، صحَّح ابن العماد تفضيل خديجة وفاطمة فتكون أفضل من عائشة، ولمَّا سُئل السبكي عن ذلك، قال: الذي نختاره وندينُ الله به أن فاطمة بنت سيدنا محمد أفضل ثم أمها خديجة ثم عائشة». عبد السلام المالكي، شرح جوهرة التوحيد، ص١٣٢.
٥٥  ولا شك في أن جميع الصحابة لولا رسول الله ، ما حصلوا أيضًا على الدرج (الدرجات) التي لهم (في الفضل)». ابن حزم، الفصل، ج٤، ص٩٧.
٥٦  «يجب أن يُعتقد أن أبا بكر أفضل من عمر، وأن عمر أفضل من عثمان، وأن عثمان أفضل من علي، وأن الأربعة أفضل من باقي العشرة [المبشَّرين بالجنة]، والعشرة أفضل ممن عداهم من أهل عصرهم، وأن أهل ذلك العصر أفضلُ ممن بعدهم، وكذلك من بعدَهم أفضل ممن يليهم.» الآمدي، غاية المرام، ص٣٩١. وهكذا يعكس النصُّ على نحوٍ نموذجي حولَ التفضيل من الأفراد إلى الطبقات إلى العصور والأزمنة.
٥٧  «ثم إن رتبة التابعين تلي رتبة الصحابة، والتابعيُّ مَن اجتمع بالصحابي اجتماعًا متعارفًا، ولا يُشترط فيه طول الاجتماع كما في الصحابي مع النبي ، ولا يُشترط التمييز في التابعي كما لا يُشترط في الصحابي، وأفضل التابعين أويس القَرني، كما أن أفضلَ التابعياتِ حفصةُ بنت سيرين على خلاف في المسألة، ثم إن رتبة أتباع التابعين تلي رتبة التابعين من غير تراخٍ كبير، والأصل في ذلك قوله : «خير أمتي القرن الذين يلُوني، ثم الذين يلُونهم، ثم الذين يلُونهم».» محمد نووي الجادي، شرح تيجان الدراري على رسالة الباجوري في التوحيد، ص١٤. وهنا أيضًا يرى النص أن التفاضُل بين الصحابة والتابعين وتابعي التابعين يتأسَّس على التفاوت بين القرون والأزمنة.
٥٨  «التابعون على خمسَ عشرةَ طبقة أعلاهم طبقةً من أدرك العشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة أو أدرك أكثرهم، ومن هذه الطبقة أبو الرجاء العطاردي، وآخرهم في الطبقة من لقي أنس بن مالك من أهل البصرة أو عبد الله بن أبي أوفى من أهل الكوفة، ومن المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، ولم يُرزقوا لقاء النبي ، وقد عُدَّ في التابعين قومٌ وُلِدوا في زمان النبي ولم يسمعوا منه، وبقي بعدَهم قومٌ من التابعين ولم يصحَّ سماعُ أحدٍ منهم عن أحدٍ من الصحابة وطبقة بعدَهم قوم من أتباع التابعين وقد لقُوا بعض الصحابة». البغدادي، الأصول، ص٣٠٤–٣٠٦. «والتابعي مَن لقي الصحابي الذي لقي رسول الله حيًّا مؤمنًا به لُقْيا على غير وجه خرق العادة، وقيل: لا يكفي مجرد اللقاء، بل لا بد من الصحبة لمزيد لقائه على لقاء غيره من صلحاء أمته، ولا يُشترط فيه التمييز، ولو شُرط في الصحابي لمزيد شرف الصحبة». عبد السلام المالكي، شرح جوهرة التوحيد، ص١٢٥.
٥٩  «ذهب جماعة إلى تفاوت بقية القرون بالسبقية، فكل قرن أفضل من الذي بعده إلى يوم القيامة، لحديث ما من يوم إلا والذي بعدَه شرٌّ منه، وإنما يُسرَع بخياركم». عبد السلام المالكي، شرح جوهرة التوحيد، ص١٢٥. وقد صار أحدهم إلى تفصيل الأمر، يقول: «كان أخص الناس بفهم علم الكتاب وشرح معرفة السنة وعمل الرسول، أهل القرن الأول؛ لأنهم أفضل الناس مثلًا، وأوسعهم علمًا، ثم جاء القرن الثاني فكانوا أعقل الناس وأعلمهم بعد الصحابة، بمعاني آي الكتاب والعمل بالاقتداء، وفهم ما شرحه الصحابة من البيان، غير أن الإيثار الذي خُص به الصحابة رقَّ في التابعين، وكذلك الزهد في الحلال، ثم جاء القرن الثالث فذهب أكثر أهل العلم، وكثر فيهم الخوض والجدل والخصومة والمراء، وصارت الحقيقة خصوصًا والجهالة عمومًا، ثم جاء القرن الرابع فاضطرب الأمر في الحق، واستوحشت طرق الهداية للسالكين لها، وكثُر النفاق، غير أن في الناس بقايا من أهل التصديق بالقدرة متحققين بالإيمان بالقدر، فإذا حل دخول القرن الخامس، اشتد البلاءُ بأهل الإسلام خاصة … فإذا دخل القرنُ السادس ذهب أهل التصديق وبقي أهل الإنكار … وذهب الإسلام فلم يبقَ إلا اسمُه، ثم العجب العجاب «أهل القرن السابع، وهم أشرار الناس، على شكلهم تأتي الآزفه تتبعها الرادفة».» ويبدو أنه كان القرن الذي عاش فيه المؤلف لأنه توقَّف عنده، ولو أن الأجل امتد به فرضًا إلى القرون التي بعده لكان قد تابع وصف مسار السقوط والتدهور. انظر: أبو القاسم الصقلي، كتاب الأنوار، نشرة الأب بولس نويا اليسوعي، (المطبعة الكاثوليكية)، بيروت، ص٧٥-٧٦.
٦٠  عبد السلام المالكي، شرح جوهرة التوحيد، ص١٢٥.
٦١  البيجوري، تحفة المريد على جوهرة التوحيد، ص٩٠، «فتولاها أبو بكر رضي الله عنه سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، وتولاها عمر رضي الله عنه عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وتولاها عثمان رضي الله عنه إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرًا وتسعة أيام، وتولاها عليٌّ رضي الله عنه وكرم وجهه أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام، فالمجموع تسعة وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة أيام، فلم تكمل المدة التي قدَّرها النبي إلا بأيام الحسن رضي الله عنهما؛ ولهذا قال معاوية: أنا أول الملوك». المصدر السابق، ص٩٠.
٦٢  ثمَّة من حاول أن يضيف إليها بضع سنوات من ولاية معاوية؛ ﻓ «خلافته صحيحة بعد موت عليٍّ رضي الله عنه، وبعد خلع الحسن بن عليٍّ نفسه من الخلافة وتسليمها إلى معاوية، وخلافته مذكورة في قول النبي ، وهو ما رُوي عن النبي أنه قال: تدور رحى الإسلام خمسًا وثلاثين سنة أو ستًّا وثلاثين أو سبعًا وثلاثين، المراد بالرَّحى في الحديث: القوة في الدين، والخمس سنين الفاضلة من الثلاثين، فهي من جملة خلافة معاوية». محمد نووي الجاوي، شرح تيجان الدراري، ص١٥.
٦٣  «فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيَت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان دينًا، ثم انقلب عصبية وسيفًا، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك، والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده. ثم ذهبَت معاني الخلافة، ولم يبقَ إلا اسمُها، وصار الأمر ملكًا بحتًا، وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها، واستعملَت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ. وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس، واسم الخلافة باقيًا فيهم لبقاء عصبية العرب. والخلافة والملك في الطورَين ملتبس بعضها ببعض، ثم ذهب رسمُ الخلافة وأثرُها بذهاب عصبية العرب وفَناء جيلهم وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر ملكًا بحتًا كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق، يدينون بطاعة الخليفة تبركًا، والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم، وليس للخليفة منه شيء، وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العُبَيديين، ومغراوة وبنو يفرن أيضًا، مع خلفاء بني أمية بالأندلس والعبيديين بالقيروان». انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٦٠٨.
٦٤  «وذلك لما بينَّا أن الصنائع إنما تُستجاد إذا احتيج إليها وكثُر طلبها؛ وإذا ضعف أحوال المصر وأخذ في الهرم بانتقاص عمرانه، وقلة ساكنه تناقَص فيه الترف، ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم، فتقل الصنائع التي كانت من توابع الترف؛ لأن صاحبها حينئذٍ لا يصح له بها معاشه، فيفرُّ إلى غيرها أو يموت، ولا يكون خلفٌ منه، فيذهب رسم تلك الصنائع جملة، كما يذهب النقَّاشون، والصُّواغ، والكُتاب، والنُّساخ، وأمثالهم من أهل الصنائع لحاجات الترف، ولا تزال الصناعات في التناقُص، ما زال المصر في التناقُص إلى أن تضمحل». انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٩٤٠-٩٤١.
٦٥  الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تعليق محمد الخضر حسين، (دار الفكر العربي)، القاهرة، دون تاريخ، مجلد ١، ج١، ص٦١.
٦٦  «ووقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلدون لمن سواهم، وسد الناس باب الخلاف وطرقه لمَّا كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم، ولمَّا عاق عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ولمَّا خُشي من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومَن لا يُوثق برأيه ولا بدينه، فصرَّحوا بالعجز والإعواز، وردُّوا الناس إلى تقليد هؤلاء، كلٌّ بمن اختص به من المقلدين، وحظروا أن يُتداول تقليده لما فيه من التلاعب. ولم يبقَ إلا نقل مذاهبهم، وعمل كل مقلدٍ بمذهب من قلَّده منهم بعد تصحيح الأصول واتصال سندها بالرواية، ولا محصول اليوم للفقه غير هذا ومدَّعي الاجتهاد لهذا العهد مردودٌ على عقبه، مهجورٌ تقليده، وقد صار أهل الإسلام اليوم على تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة». انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٣، ص١٠٥٠-١٠٥١.
٦٧  «ثم إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقَت أسواقُها في هذه الملة بما لا مزيد عليه، وانتهَت فيها مداركُ الناظرين إلى الغاية التي لا فوقها، وهُذبَت الاصطلاحات، ورُتبَت الفنون، فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق، وكان لكل فنٍّ رجالٌ يُرجع إليهم فيه، وأوضاع يُستفاد منها التعليم». انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٣، ص١٠٢٧.
٦٨  البغدادي، أصول الدين، سبق ذكره، ص٣١٧.
٦٩  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١١٧.
٧٠  «أول متكلمي أهل السنَّة من الصحابة علي بن أبي طالب لمناظرته الخوارج في مسائل الوعد والوعيد، ومناظرته القدَرية في القدَر والقضاء والمشيئة والاستطاعة، ثم عبد الله بن عمر في كلامه على القدَرية وبراءته منهم ومن زعيمهم المعروف بمعبد الجهني، وادَّعَت القدرية أن عليًّا كان منهم، وزعَموا أن زعيمهم واصل بن عطاء الغزَّال أخذ مذهبه من محمد وعبد الله ابني عليٍّ رضي الله عنه، وهذا من بُهتِهم، ومن العجائب أن يكون ابنا علي قد علَّما واصلًا رد شهادة عليٍّ وطلحة والشكَّ في عدالة عليٍّ، أفتراهما علَّماه إبطال شفاعة عليٍّ وشفاعة صهر المصطفى.» انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٣٠٧، والواقع أن حربًا حامية الوطيس تدور رحاها بين العديد من الفِرق حول الانتساب إلى الإمام عليٍّ خاصة.
٧١  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١١٨-١١٩.
٧٢  البغدادي، أصول الدين، سبق ذكره، ص٣٠٧–٣١٠.
٧٣  الإسفرائيني، التبصير في الدين، ص٣٠٧–٣١٠.
٧٤  «مضى فقهاء الصحابة رضي الله عنهم على مذهب أهل السنة والجماعة، والعشرة الذين شهد لهم النبي بالجنة كانوا فقهاء، وأربعةٌ من الصحابة تكلَّموا في جميع أبواب الفقه وهم: عليٌّ وزيد وابن عباس وابن مسعود [لاحظ التأصيل عند الصحابة استثمارًا لما يحوزونه من سلطةٍ عُليا]. وهؤلاء الأربعة متى أجمعوا في مسألةٍ على قول، فالأمة فيه مجمعةٌ على قولهم، غير مبتدع لا يعتبر خلافه في الفقه. وكل مسألة انفرد فيها عليٌّ بقولٍ من سائر الصحابة تبعَه فيها ابن أبي ليلى والشعبي … ثم من بعد الصحابة الفقهاء السبعة من أهل المدينة وهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد والقاسم بن محمد بن أبي بكر وسليمان بن يسار وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأبو بكر بن عبد الرحمن. وقد عَدَّ مالك قولَ هؤلاء السبعة إجماعًا إذا اجتمعوا على قولٍ واحد، ومن بعدهم أئمة الأمة في الفقه مثل الأوزاعي ومالك والثوري والشافعي وأبي ثور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وداود صاحب الظاهر، وتلامذة هؤلاء في الفقه على سمت الحديث، فأما الذين وافقوهم في أصول الكلام وخالفوهم في فروع الأحكام فأبو حنيفة وابن أبي ليلى ومن في طبقتهما من أهل الرأي، وقد ردَّ أبو حنيفة في كتابه الذي سمَّاه بالفقه الأكبر على المعتزلة ونصر فيه أهل السنة في خلق الأفعال، وفي أن الاستطاعة مع الفعل، وقال أبو يوسف في المعتزلة: إنهم زنادقة، وقال محمد بن الحسن: من صلى خلف القدَري القائل بخلق القرآن يُعيد صلاتَه. وردَّ مالك شهادة أهل الأهواء كلهم، وقد أشار الشافعي إلى ذلك في كتاب القياس (لاحظ تسفيه الخصوم)». انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٣١١-٣١٢.
٧٥  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١١٨.
٧٦  «هؤلاء على طبقات؛ في طبقة التابعين منهم أربعة، وهم الزهري وسعيد بن جبير، وهشام بن عروة، وموسى بن عقبة، وقد عُدَّ فيهم أبو الزناد أيضًا وكان قد أدرك أنس بن مالك وعبد الله بن عمر، والفقهاء السبعة من التابعين من هذه الجملة، فإنهم كانوا مع فقههم أئمةً في الحديث، وفي طبقة أتباع التابعين منهم مالك بن أنس وسفيان الثوري، ويحيى بن سعيد القطان التميمي، وفي الطبقة التي بعدَهم الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وعلي بن المديني، وهؤلاء أئمة الجرح والتعديل، وقد ذكَر الشافعي أصل هذا العلم في كتاب الرسالة، وعلي بن المديني هو الذي أكثر تصانيفه في هذا الباب … وعلى كتب يحيى بن معين معوَّل أهل الحديث في الجرح والتعديل، وإسحاق بن راهوية هو الذي أملى مسنده الكبير من حفظه فلم يخطئ في متن الحديث ولا في إسناده، ومنهم محمد بن إسماعيل البخاري صاحب المسند الصحيح والتاريخ الكبير وكتاب الضعفاء وما كان في عصره ولا بعده مثله، ومنهم أبو زرعة الرازي الذي قال فيه أحمد بن حنبل إنه يحفظ ستمائة ألف حديث بأسانيدها، وأقران هؤلاء جماعةٌ يطول الكتاب بذكرهم، وكل من ذكرناهم وجدناهم مكفِّرين لأهل القدَر وسائر أهل الأهواء والبدع». انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٣١٢–٣١٥.
٧٧  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١١٨.
٧٨  «هؤلاء منهم إبراهيم بن أدهم، وإبراهيم بن سعيد العلوي صاحب الكرامات، وإبراهيم الخوَّاص، وإبراهيم بن شيبان وأبو سليمان الداراني، وأحمد بن أبي الحواري، وأحمد بن عاصم الأنطاكي، وأبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز، والفضيل بن عياض، والجنيد، وأبو الحسين النووي، وأبو القاسم الحكيم، وبشر الحافي وإدريس بن يحيى الخولاني، وبنان الحمَّال، وذو النون المصري وسري السقطي، وأبو تراب النخشبي، وجعفر الخلدي، وحاتم الأصم، وحمدون القصار، ومعروف الكرخي، وأبو علي الروذباري، وابن عطاء والشبلي وسهل التستري وأبو يزيد البسطامي، وقبلهم الحارث بن أسد المحاسبي، وقد اشتمل كتاب تاريخ الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي على زهاء ألف شيخٍ من الصوفية ما فيهم واحدٌ من أهل الأهواء، بل كلهم من أهل السنَّة سوى ثلاثةٍ منهم، أحدهم أبو حلمان الدمشقي فإنه تستر بالصوفية وكان من الحلولية، والثاني الحلَّاج وشأنه مشكل، والثالث القناد اتهَمَته الصوفية بالاعتزال فطردوه لأن الطيب لا يقبل الخبيث». انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٣١٥-٣١٦.
٧٩  «هؤلاء فريقان في المذهب: بصرية وكوفية؛ الكوفية منهم كالمفضل الضبي وابن الأعرابي والكسائي والفرَّاء واللحياني والشيباني وإبراهيم الحرثي وابن الأنباري، وكلهم من أهل السنَّة، ولإبراهيم الحرثي كتب في الرد على القدرية وأهل الأهواء، وللفرَّاء كتاب في ذم القدرية، والبصريون منهم أولهم أبو الأسود الدؤلي، وله رسالةٌ في ذم القدرية مع انتسابه إلى الشيعة، وبعده يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر الثقفي وعبد الله بن إسحاق الحضرمي، وكانا يذُمَّان القدرية، وذمَّ عمرو بن عبيد، وبعدهما الأصمعي وهو الذي طرد الجاحظ عن مجلسه وقنَّعه بنعله وقال: نعم قناع القدَري النعل … والزجَّاج سني ومعانيه في القرآن على مذهب أهل السنَّة، وبعدهما ابن دريد ونفطويه وكانا على مذهب الشافعي، وقبلهما كان أبو حاتم السجستاني شيخ السنَّة شديدًا على القدرية، وكان سيبويه تلميذ حماد بن سلمة الذي كان سيفًا على القدرية، وإنما نُسب المبرد إلى الاعتزال لمجالسته الجاحظ وليس في كتبه شيءٌ يدل على اعتزاله. وفي هذا دليل على أن جميع أئمة الدين في جميع العلوم من أهل السنَّة». انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٣١٦-٣١٧.
٨٠  «بيانُ هذا واضحٌ في ثغور الروم والجزيرة وثغور الشام وثغور أذربيجان وباب الأبواب كلهم على مذهب أهل الحديث من أهل السنَّة. وكذلك ثغور أفريقية وأندلس، وكل ثغرٍ وراء بحر المغرب أهلُه من أصحاب الحديث، وكذلك ثغور اليمن على ساحل الزنج، وأما ثغور أهل ما وراء النهر في وجوه الترك والصين فهم فريقان؛ إما الشافعية، وإما من أصحاب أبي حنيفة وكلهم يلعنون القدرية وأهل الأهواء. وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا والجهاد بالحُجة والاستدلال من أهل السنَّة ظاهر على مخالفيهم من أهل الأهواء، والجهاد مع الكفرة في الثغور منهم، وليس لأهل الأهواء ثغرٌ، فصح أن أهل السنَّة هم المهتدون». انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٣١٢. وهكذا تتم إزاحة الخصوم من حقلي التاريخ والجغرافيا معًا.
٨١  «فحتى أنواع الاجتهادات الفعلية التي مدارها على أهل السنَّة والجماعة في بلاد الإسلام، فمشهورةٌ مذكورة، مثل المساجد والرباطات المثبتة في بلاد أهل السنَّة؛ إما في أيام بني أمية، وإما في أيام بني العباس، مثل مسجد دمشق المبني من أيام الوليد بن عبد الملك، وكان قتل في أيامه ما شاء الله من الخوارج والروافض والقدَرية [لاحظ الإزاحة حتى القتل] وبنى أخوه مسلمة بن عبد الملك المسجد بقسطنطينية، وما قام إلى هذه المدة بعمارة مسجد مكة والمدينة إلا مَن كان مِن أهل السنة والجماعة، لم يكن لواحدٍ من أهل بدع الخوارج والروافض والقدرية فيه سعي. وكان بعض المصريين [من الفاطميين] يتغلَّبون ويسعَون في عمارة شيءٍ منه، لكن لا موقعَ لما كانوا يفعلونه مع سوء اعتقادهم، كما قال الله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» انظر: الإسفرائيني، التبصير في الدين، ص١٢٠. وهكذا فإنه لا شيء من الآثار يدل على فاعلية الخصوم أيضًا.
٨٢  والملاحظ أن التكفير يرد في المصنفات الأشعرية لاحقًا مباشرةً للتفضيل حتى ليبدو مقترنًا به، انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٣١٨–٣٤٢؛ والغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص١١٩–١٢٣؛ والإيجي، المواقف، ص٤١٤–٤٣٠.
٨٣  والحق أن في مجرد ابتداء الأمر مع البغدادي دلالةً على انطواء التفكير في التكفير على معنى النفي والإقصاء؛ لأن خطاب البغدادي — بمضمونه وأسلوب كتابته — لا يتكشَّف إلا عن سعي لا هوادة فيه إلى إقصاء الآخر ونفيه، انظر: الفَرق بين الفِرق، (دار الآفاق)، بيروت، ١٩٧٣م.
٨٤  البغدادي: الفرق بين الفِرق، سبق ذكره، ص٢-٣.
٨٥  الإيجي، المواقف، سبق ذكره، ص٤١٢.
٨٦  الآمدي، غاية المرام، سبق ذكره، ص٣٩١.
٨٧  الإيجي، المواقف، سبق ذكره، ص٤١٢.
٨٨  البزدوي، أصول الدين، سبق ذكره، ص٢٠٢.
٨٩  ابن حزم، الفصل، ج٤، سبق ذكره، ص١٠٢.
٩٠  «كان ضرار بن عمرو يقول: لا يجوز تفضيلُ بعضهم على بعضٍ بعينه واسمه، وقال أصحابنا مع أكثر الأمة بتفضيل بعضِهم على بعض، وقالوا: إن نبينا أفضلهم وأولو العزم من الرسل أفضل من غيرهم وهم خمسة؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام. ومن بُعث منهم إلى الكافة أفضل ممن بُعث منهم إلى قومٍ مخصوصين، وقد قال نبينا : أنا سيد ولد آدم، وقال أيضًا: آدم ومن دونه تحت لوائي. وقال: لو كان موسى حيًّا ما وسِعه إلا اتباعي». انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٢٩٧-٢٩٨. «في أن نبينا أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام ويدُل عليه النقل والعقل. أما النقل: فهو أنه تعالى وصف الأنبياء بالأوصاف الحميدة، ثم قال لمحمد : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ، وإذا أتى بجميع ما أتَوا به من الخصال الحميدة فقد اجتمع فيه ما كان متفرقًا فيهم، فيكون أفضلَ منهم، وأما العقل: فهو أن دعوتَه بالتوحيد والعبادة وصلَت إلى أكثر بلاد العالم بخلاف سائر الأنبياء، فظهر أن انتفاع أهل الدنيا بدعوة محمد () أكملُ من انتفاع سائر الأمم بدعوة سائر الأنبياء عليهم السلام، فوجب أن يكون محمد أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام.» انظر: الرازي، معالم أصول الدين، ص١٠٣-١٠٤.
٩١  «أجمع أصحابنا مع أكثر الأمة على أن كل نبيٍّ أفضل من كل وليٍّ ليس بنبي، وزعمَت الغلاة من الروافض أن الأئمة من الأنبياء، وزعمت الخطابية منهم أن أبا الخطاب كان أفضل من جعفر الصادق مع قولهم بنبوة جعفر، وقول بعضهم بإلهيته، وزعمَت الكرامية أن في الأولياء من هو أفضلُ من بعض الأنبياء، ومنهم من ادَّعى فضل زعيمهم ابن الكرام على ابن مسعود وكثير من الصحابة، ولم يجسُر على تفضيله على الأنبياء خوفًا من السيف. وهذا قولٌ لا يستحق صاحبه الكلام». انظر: البغدادي، أصول الدين، ص٢٩٨. «في أن الأنبياء أفضل من الأولياء ويدل عليه النقل والعقل، أما النقل: فقوله عليه السلام في أبي بكر رضي الله عنه: والله ما طلعَت الشمس ولا غربَت بعد النبيين على أفضل من أبي بكر، فهذا يدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل من كل من ليس بنبي، وأنه دون من كان نبيًّا. وهذا يقتضي أن تكون الأنبياء أفضل وأرجح حالًا من غيرهم، وأما العقل: فهو أن الولي هو الكامل في ذاته، والنبي هو الذي يكون كاملًا ومكملًا، ومعلوم أن الثاني أفضل من الأول، فإن ادَّعى بعض الجهلة أني كمَّلتُ طائفة من الناقصين، فلينظر في أن أصحابه أكثر عددًا وفضيلة أما أصحاب محمد ، فإن رأى قومه بالنسبة إلى قوم محمد في العدد والفضيلة كالقطرة بالنسبة إلى البحر، علم حينئذٍ أنه عدمٌ بالنسبة إليه». انظر: الرازي، معالم أصول الدين، ص١٠٠-١٠١.
٩٢  «ولا خلاف في أن أمة محمد أفضل الأمم.» انظر: ابن حزم، الفصل، ج٤، ص٩١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤