الفصل الثالث

«من التفضيل إلى التكفير»

التاريخ الأشعري أو خطاب التدهور

أولًا: من الإمامة إلى التاريخ

١

إذا كان لا بد للحضارة، أي حضارة، من فكرة تقوم عليها،١ فإن الوحي، بلا شك، هو الفكرة التي قامت عليها الحضارة الإسلامية، وإلى حد أنه «لو لم يكن هناك قرآن [أو وحي] لما قام التراث القديم، ولما نشأَت الحضارة الإسلامية.»٢ وإذ يستحيل البتة أن تحتفظ الفكرة كأساس للحضارة بنفسها كمجرد هويةٍ باطنية، وتبقى مع ذلك حية — لأنها تغدو آنئذٍ وجودًا صوريًّا مجردًا لا ينطوي على أي حياة — فإنها تخضَع لضروب من التعيُّن التي تعرض فيها الفكرة كل مظاهر نشاطها الحضاري الخاص. وبدوره يتكشَّف الوحي عن ضروب من التعيُّن يتخارج فيها من ذاته ليُحقِّقها في العالم في شكل إبداعاتٍ نظرية وممارساتٍ تاريخية، لا يمكن أن تكون تكرارًا، بل استيعابًا لماهيته الخاصة وارتفاعًا بها إلى آفاقٍ أكثر رحابةً يجد فيها الوحي ثراء حياته الحقَّة.٣
ولعل التعيُّن الأول للوحي في إبداعات نظرية (من تفسير وكلام وحكمة وتصوف … إلخ) يبقى محضَ تجريدٍ خالص ما لم تتعيَّن هذه الإبداعات في ضروب من الممارسة التاريخية (الاجتماعية والسياسية)؛ وأعني ما لم تتعيَّن في دولةٍ تحقِّقها وتتحقَّق بها في آنٍ معًا. وهنا يلزم التأكيد على أن الدولة، ضمن هذا السياق، تتبدَّى لا كمجرد شكلٍ سياسيٍّ لتنظيم المجتمع قد يكون مفروضًا عليه من خارجه، بل تجليًا لفكرته الحضارية الخاصة،٤ وبما يجعلها «أساس ومركز العناصر العينية الأخرى في [حياته]؛ أعني أساس ومركز الفن والقانون والأخلاق والدين والعلم.»٥ وهذه الدولة تستحق لذلك أن تكون جوهر التاريخ وروحه، وإلى حدٍّ يستحيل معه التاريخ دونها؛ إذ دونها يفتقد التاريخ، لا معناه وغايته فقط، بل والسياق الذي يجعل التدوين (وهو أساس التاريخ كتقنية) ممكنًا.٦
ومن هنا فلعله يمكن القول إنه بمثل ما كانت الدولة، بما هي كذلك، هي التحقُّق الواقعي للفكرة الأخلاقية عند هيجل، فإن الإمامة، لا بما هي حقل التفكير في السياسة فقط، بل وبوصفها الأساس الذي انطلقَت منه كافة ضروب الإبداع والممارسة عند المسلمين،٧ هي التحقُّق الواقعي للوحي، أو أنها أداة تحقُّقه على الأقل،٨ أو أنها الكيفية التي يحكُم عَبْرها الوحي العالم. وهنا يلزم التمييز بين حكم الوحي للعالم، عَبْر الإمامة، وبين مفهوم الحاكمية، المتداول بقوة في الأدبيات السلفية/الإسلاموية الراهنة. فإن مفهوم الحاكمية (الراهن) إنما يتكشَّف فقط عن الحضور المطلَق لنص الوحي بمجرده، ومن دون أي فاعليةٍ للبشر (فهمًا وتأويلًا)، الأمر الذي يئول، لا شك، إلى الإهدار الكامل لقدرته على أن يكون فاعلًا في العالم،٩ وذلك من حيث يبدو المعنى في الوحي، ضمن هذا السياق، هو معطًى مطلَق غير مشروطٍ بأي فاعليةٍ إنسانية أو تاريخية، بينما العالم في جوهره هو تكوينٌ تاريخي لا يقبل الانحصار ضمن حدود أي معطًى مطلَق.

وأما الحضور الفاعل للوحي في العالم، عَبْر الإمامة، فإنه يستحيل إلا مع الحضور الخلَّاق للبشر فهمًا وتأويلًا؛ إذ التأويل — كفاعليةٍ خلَّاقة — يفترض كون المعنى في الوحي هو تكوين تاريخي، لا معطًى مطلَق، الأمر الذي يسمح له بالحضور الفاعل في عالم هو بدوره تكوينٌ تاريخي. وبالطبع فإنها الإمامة حين تتجاوز كونَها مجردَ ممارسةٍ سياسيةٍ جدباء، أو حتى تنظيرًا فقيرًا لها يتمثَّل بجلاء في نصوص الآداب السلطانية المتأخرة، لتصبح نشاطًا فاعلًا للذات بإزاء الوحي فهمًا وتأويلًا وتحقيقًا له في هياكلَ سياسيةٍ واجتماعية.

وإذن فإنها الإمامة حين تصبح قرينة التأويل وصنوه؛ وهو الاقتران الذي لمحه الصحابي الجليل «عمار بن ياسر»، من خلف غُبار المعارك في «صفين»، حين رأى في الصراع الدائر على الإمامة آنذاك، مجرد قناعٍ للصراع على التأويل،١٠ ثم أكَّد الاقترانَ نفسَه — ابن قتيبة — وهو بصدَد «تأويل مختلف الحديث»، حين ربط بين «اختلاف الناس على التأويل، [وبين] تنازُع سلطانَين كل واحدٍ منهما يطلُب الأمر ويدَّعيه لنفسه.»١١ وهكذا تتجاوز الإمامة كونها مجرد ممارسة سياسية فقط،١٢ وذلك من حيث تبدو السياسة فيها مشروطة بحضورٍ تأويلي ينتظمها ويحدِّدها. وبالطبع فإن ذلك يعني أن تجد الدولة — والحال كذلك — ما يؤسِّسها ثقافيًّا في مبدأ باطني خاص (هو الوحي وتأويله)؛ ومن هنا قوَّتُها وتمكُّنها.
ولعله يلزم التنويه بأن قوة الدولة — ضمن هذا السياق — لا تتأسس على مجرد خضوعها للوحي، وذلك من حيث إن الوحي، عندئذٍ، يمثل مبدأً قسريًّا يفرض نفسه على الدولة من الخارج؛ وأعني أنه يصبح مبدأ خارجيًّا فقط. وإذ المبدأ الخارجي لا يمكن أن يكون أساس أي وحدة أو تماسُك باطنيَّين، فإن وحدة الدولة وتماسُكها يصبحان، هكذا، خارجيَّين أيضًا، الأمر الذي يكرِّس — تبعًا لذلك — ضعف الدولة وهشاشتها، لا قوَّتها وتماسُكها.١٣
وأما أن يكون الوحي مبدأً باطنيًّا للدولة، غير مفروض عليها من الخارج، فإنه يعني أن تكون وحدتُها وتماسُكها باطنيَّين أيضًا. ومن هنا قوة الدولة؛ أعني من كونها تمثِّل تجسيدًا لمبدأ باطني خاص (هو الوحي في حالة الدولة الإسلامية التقليدية التي كان لا بد أن يتوقف انهيارها وتفكُّكها — تبعًا لذلك — على تحوُّل الوحي، بتأثير العجز عن تطويره، إلى مبدأ خارجي يُغَطي وحدتها الهشَّة)، ومن هنا اختلاف هذه الدولة — في طَوْر قوَّتها — عن الدولة العربية الراهنة التي لا تجد مبدأً ذاتيًّا خاصًّا يؤسِّسها، فتُضطَر — لذلك — إلى استعارة مبدأ خارجي (هو المبدأ العلماني)١٤ تقوم عليه. وعلى فرض إمكان ذلك، فإن هذه الاستعارة تئول إلى تكرُّس ضعفها وهشاشتها، ولاجوهرية وجودها.١٥
والحق أن كون الإمامة قرينة التأويل لا يعني أن كل تأويل لا بد أن يرتبط بسلطة، وإن كان يعني — في المقابل — أن كل سلطة لا بد أن ترتبط بتأويلٍ ما؛ إذ التأويل في الإمامة يتجاوز ما فيها من سلطة، بل لعله يحتويه ويستغرقه بلغة المناطقة؛ لأنها (أي السلطة فيها) هي مجرد التكثيف الأعلى لجملة الممارسات التأويلية للوحي، التي لا تنتمي إلى حقل السياسة على نحوٍ مباشر. وهذا الانبثاق للسياسة من خارجها هو ما يبرِّر جوهرية التأويل لكل سياسة، حتى إنها تصبح مجرد وجه له. وهكذا يمكن القول إن الإمامة هي تأويلٌ في العمق،١٦ وأن السياسة أو السلطة هي قناعه الظاهر. وتبعًا لذلك فإنها تمثِّل تخارُج الوحي من ذاته في التاريخ؛ أعني أنها تمثِّل صيرورته في الخروج من ذاته، عَبْر التأويل، إلى أن يفُضَّ سائر ممكناته الكامنة في أشكالِ وجودٍ جديدة لا تنطوي عليها، بما هي كذلك، ماهيته الخاصَّة.
ولكن ذلك لا يعني أن ماهيته لا تنطوي عليها أبدًا؛ لأن ذلك يكون تحقيقًا لأشكالِ وجودٍ غريبة عن ذاته. وإذ يستحيل البتة أن يتحقق في محيط الذات ما لا ينتمي إليها أبدًا فإن ماهية الوحي لا بد أن تنطوي على كل أشكال الوجود التي تنبثق، على مدى التاريخ، في محيط ذاته، لكن بما هي كذلك، بل بما هي مجرد ممكناتٍ ليست فقط قابلة للتحقُّق، بل إنها تقصد إليه. ولعل التاريخ هو، فقط، ما يحقِّق هذه المُمكِنات، أو بالأحرى بعضها. ويعني ذلك أن تحقُّق هذه الممكنات في الوجود دون غيره، لا يرجع إلى ذاته، بل إلى شروط تتجاوزه في السياقات التاريخية الشاملة، التي تحقِّق، من بين كل ما تنطوي عليه الذات من ممكنات، واحدًا منها فقط. ولعل ذلك يعني أن تحقُّق أحد ممكنات الوحي لا يعني تميُّزه أو جدارته دون غيره،١٧ بقَدْر ما يعني أن التداعيات التاريخية قد فرضَت تحقُّقه دون غيره. ولكن التاريخ لا يكتفي بأن يحقِّق أحد ممكنات الذات أو الوحي فقط، بل إنه يستنفد ممكنات وجود ذلك الذي يحقِّقه أيضًا؛ الأمر الذي يجعل التحوُّل عنه إلى غيره لازمًا. وهكذا فإن التاريخ باستنفاده لممكنات الشيء الذي يحقِّقه في الوجود إنما يفرض التطوُّر في اتجاه ما يتجاوزه كذلك. وهكذا يكون التاريخ جزءًا من بنية الوحي، وذلك من حيث يسمح له — عَبْر تحقيق ممكنات ذاته واستنفادها في الوجود في آنٍ معًا — بفَض شفرة ذاته، والوعي بما تنطوي عليه حقًّا.
وهنا لا بد من ملاحظة أنه إذا كان خروج الوحي من ذاته إلى التاريخ، لا يمثِّل أي اغتراب عنها — بل إن فيه إثراءً لها — فإنه أيضًا يقضي على غربة الأشياء في العالم؛ إذ الشيء في العالم يبقى، في طبيعته الخاصة، مجرد شيء بين غيره من الأشياء، غريبًا بلا هوية أو انتماء، ولكنه سرعان ما يتحول عن طبيعته الخاصة، حين يتشكل تبعًا لمبدأ روحي ما، فينتسب إليه، ويكتسب منه هُويته التي تجعله فرعونيًّا أو إغريقيًّا أو صينيًّا أو إسلاميًّا. وهكذا يصبح الشيء، بمقتضى هذا الانتساب الروحي، لا شيئًا مجردًا، بل كيانًا محدَّدًا له معناه.١٨ والملاحظ أن الشيء بمقتضى هذا الانتساب، لا يحدث له إلا أن يصبح موجودًا تاريخيًّا، بعد أن كان وجودًا في الزمان لا تاريخ له. وهكذا فإن جوهر ما يطرأ على الشيء من تحول، إنما يأتيه من مجرد اكتسابه تاريخيةً لا ينطوي عليها في وجوده الخاص. وإذ الدلالة القصوى لهذا التحوُّل تعني أن الشيء قد أصبح يخص الإنسان، بعد أن كان معزولًا عنه، فإن هذا يعني أن التاريخ هو القوة الجبارة التي تقضي على غُربة الوحي عن ذاته من جهة، وعلى غربة الأشياء في العالم من جهةٍ أخرى، وذلك بجعلها وجودًا يخُص الإنسان ولأجله.
ولقد بدا أن التجربة التاريخية تدعم هذا التحليل النظري للإمامة؛ وأعني أن الإمامة كانت على صعيد التاريخ، نقطة البدء لانبثاق كل تحقُّقات الوحي وتخارُجاته من ذاته؛ إذ الوحي قد صار، بعد اكتمال تنزيله، مجرد وحدةٍ مغلَقة لم تعُد تتسع لمثل ما اتسعَت له أثناء التنزيل من ضروب التنوُّع والاختلاف.١٩ ولعل هذه «الوحدة» هي ما دفعَت مؤرخي الفرق إلى الإلحاح على «أن المسلمين وقت النبي وبعد وفاته كانوا على طريقٍ واحدةٍ، لم يكن بينهم خلافٌ ظاهر.»٢٠ ولكن النص لا يتحدث إلا عن غياب الخلاف الظاهر فقط؛ إذ الحق أن الواقع قد انطوى على العديد من صور الصراع والتناقُض الباطن،٢١ التي سرعانَ ما انفجرَت، وتناثَرَت شظاياها في جسَد الأمة، عندما تهيَّأت الظروف الملائمة بعد وفاة النبي .
فالأمة، التي أدرك النبي أن التنازع يدبُّ في أوصالها مبكرًا، أثناء مرض موته،٢٢ لم تكن كيانًا متجانسًا على نحوٍ مثالي، بل كيانًا حيًّا ومؤلفًا — ككل حياة — من قوًى عدَّة تتنازعها المصالح والولاءات القديمة التي لم تجفَّ جذورها بعدُ؛ ذلك أن «جذور الواقع الجديد لم تكن قد ترسَّخَت إلى حد يحول دون استمرارية بعض بصمات الأوضاع القديمة.»٢٣
ومن هنا ما يراه البعض نوعًا من «القلق في بنيات الدولة»٢٤ القائمة آنذاك؛ وهو القلق الذي كان لا بد أن يتجاوز «بنية الدولة» إلى «بنية الفكر»، وذلك من حيث إن خلافات الواقع كان لا بد أن تستحيل إلى خلافات في النظر راحت تُعيد إلى الوحي ثراءه وغناه من خلال ما تنطوي عليه من تنوُّع في التأويل وتبايُن في الفهم؛ وأعني أن الوحي قد راح — عبر هذه الاختلافات — يتجاوز كونه مجرد وحدةٍ فقيرة، ليُصبح وحدة يُثريها التنوع ويُغنيها الاختلاف.
وبالرغم من هذا الطابع الإيجابي للاختلاف، بالنسبة لفكرة الوحي، فإن النظرة إليه لم تتجاوز أبدًا كونه «مصدر اضطراب في الأمة»،٢٥ وذلك من حيث آل — على صعيد الممارسة — إلى «أن بناء الجماعة قد انصدَع، وانفصمَت عُرى الوحدة بينهم»،٢٦ وعلى صعيد النظر، فإن أخطر ما آل إليه الاختلاف حقًّا كان هو «التفرق على الأصول النظرية»،٢٧ وبما يعنيه ذلك من تفتيتٍ للوحي، وإهدارٍ لشموله وكُليته. والحق أن الاختلاف لا يُهدِر شيئًا إلا مجرد أحادية فهم الوحي، ومن دون أن يمسَّ كُليته الحقَّة؛ هذه الكُلية الحية التي لا تستبعد أي حضورٍ للاختلاف داخلها، بل لعلها لا بد أن تنطوي في جوفها على كل ضروب الاختلاف والجزئية،٢٨ وذلك لتكتسب حياتها الحقَّة بالفعل، وإلا فإنها ستكون مجرد كُليةٍ ميتةٍ صماء؛ حيث الحياة الحقَّة للكلي تأتي فقط من انطوائه على كل ضروب الاختلاف والجزئية، وتعاليه عليها. والحق أن هذه الكلية الحية لا يمكن أن تكون كذلك، إلا بانطوائها على ضروب من الاختلاف التي لا بد أن تكون حية بدورها؛ أعني لا بد أن يكون مصدرها الواقع، وليس مجرد الوحي، وإلا فإنها ستكون صوريةً محضة. ومن هنا دلالة تلك الضروب التاريخية التي اغتنى بها الوحي وانبثقَت منها — وحسب مؤرخي الفرق أنفسهم — كل النتاجات النظرية اللاحقة.
ولقد كانت الإمامة هي الإطار الواسع الذي انطوى في جوفه على ضروب الاختلاف التاريخي، التي كانت أداة الوحي في إغناء ذاته وتحقيق ممكناته؛ وأعني أنها — وبجملة الاختلافات التي دارت حولها، على نحوٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشر — كانت الشرط المؤسِّس لكل النتاجات النظرية٢٩ التي انبثقَت في فضاء الثقافة العربية التراثية.٣٠ فإذ مضى «عصر السعادة [يعني عصر النبوة بالطبع] خالصًا من شوائب الشُّبه والأهواء، سليمًا من غوائل الأغاليط واختلاف الآراء»،٣١ فإنه سرعان ما «اختلف الناس بعد نبيهم في أشياءَ كثيرةٍ ضلَّل فيها بعضُهم بعضًا، وبَرِئ بعضُهم من بعض، فصاروا فِرقًا متباينين، وأحزابًا مشتَّتين.»٣٢ ومن الملاحظ أن هذا الاختلاف قد انبثَق من الإمامة على نحوٍ جوهري؛ إذ الحق أن تحليلًا لهذه «الأشياء الكثيرة التي اختلف فيها الناس» يكشف — وبحسب الأشعري نفسه٣٣ — عن أن الإمامة وحدها كانت، وفي العمق، أساس كل الاختلاف فيها.
حقًّا يتوسع البعض من مصنفي الفرق؛ أعني الشهرستاني والبغدادي خاصة، في رصد ضروبٍ من أسباب الاختلاف بين المسلمين غيرها، ولكنَّ تحليلًا لكل ضروب الاختلاف غير الإمامة، يكشف عن كونها جميعًا «ليست من الخلافات المؤثِّرة في أمر الدين»، أو أنها — وبتعبيرٍ معاصر — «من المسائل العملية الخالصة»؛٣٤ وأعني غير المنتجة نظريًّا على أي نحو؛ ذلك أنها كانت من ضروب «الاختلاف في فروع الدين، مثل مسائل الفرائض، فلم يقع خلافٌ يوجب التفسيق والتبرِّي، هكذا جرى الأمر على السداد أيام أبي بكر وعمر، وصدر من زمان عثمان،٣٥ ثم اختُلف في أمر عثمان وخرج عليه قومٌ منهم، فكان من أمره ما كان.»٣٦ وأمَّا مَا كان من أمره، فإنه يتمثل في ظهور ضروب «الخلافات المؤثِّرة في أمر الدين»؛ أعني تلك المنتجة نظريًّا، والتي عُدَّت لذلك من «المسائل العملية ذات الطابع النظري.»٣٧ والملاحظ أنها جميعًا قد انبثقَت من الإمامة وحولها، إنْ على نحوٍ صريح أو ضمني. فإن تجاوُز المرء عن الخلافات «في شأن عليٍّ وأصحاب الجمل، وفي شأن معاوية وأهل صفين وحُكم الحكَمَين»؛ وهي الضروب من الخلاف التي انبثق عنها نظريًّا «خلاف الخوارج، وخلاف السبئية وسائر أصناف الروافض» — حسب الإسفرائيني — والتي يبدو اتصالها بالإمامة أظهر من أن يُشار إليه؛ فإن ما يمكن النظر إليه بوصفه من «الخلافات النظرية ذات الطابع العملي»،٣٨ كخلاف القدَرية أو الخلاف حول مرتكب الكبيرة، قد اتصل بدوره بالإمامة اتصالًا وثيقًا. ولقد كان ذلك إلى الحد الذي راح معه البعض يلمح ضربًا من الاقتران بين الاختلاف في الإمامة، والاختلاف في الأصول.٣٩ فقد نشأ القول بالقدَر كضربٍ من الاحتجاج — ولكن على مستوى النظر — على الجبر الذي كان يرادف، عند الأمويين تحديدًا، اغتصاب سلطة الإمامة، ومن هنا وصفُ القاضي عبد الجبار الذائع للجبر أنه عقيدةٌ أموية،٤٠ وأما الخلاف حول مرتكب الكبيرة فإنه كان يمثِّل، على مستوى النظر أيضًا، استعادةً تكاد أن تكون كاملةً للخلاف على الإمامة بين عليٍّ وخصومه وسعيًا إلى تقييمه. وإذ تبلورَت جملة الرؤى والأطر المفاهيمية، التي تشكَّلَت تبعًا لها المسائل النظرية الخالصة، كالخلاف في الصفات والسمعيات، ابتداءً من التفكير في هذه الأمور النظرية ذات الطابع العملي المتصلة بالإمامة، فإنه يبدو وكأن المسائل النظرية الخالصة — كالصفات وغيرها — تتصل بالإمامة أيضًا، وإن على نحوٍ ضمني وغير مباشر. ولعل ذلك يعني أن الإمامة، وبكل ما انبثَق عنها من ضروب الخلاف، كانت الجذر المؤسِّس لكل ضروب التنظير اللاحق؛ حتى أكثرها تجريدًا.
والحق أن الأمر يتجاوز مجرد التأسيس لضروب التنظير الخاصة بعلم الكلام، إلى التأسيس لكافة ضروب الإبداع النظري والمعرفي التي تضافرت ليتكوَّن منها خطاب الثقافة العربية التراثية بأَسْرها؛ إذ النظام المعرفي (وأعني به جملة الأدوات والطرائق المنتجة للمعرفة) الذي تبلور خلال ممارسة التفكير في كل مسائل الخلاف المتصلة بالإمامة، قد انسرب إلى كافة الحقول المعرفية التي انطوى عليها خطاب تلك الثقافة، فبدا علم الكلام هكذا، منطويًا في جوفه على البنية العميقة لخطاب الثقافة التراثية بأَسْره، وذلك في صياغتها الأكمل وتعبيرها الأجلى؛ وأعني أنه يمثِّل الحقل الذي تشكَّلَت ضمنه بنية هذه الثقافة بأَسْرها.٤١ فإن هذه الثقافة تكاد تكون قد تشكَّلَت بأَسْرها في فضاءٍ ديني؛ ولذلك فإن للمرء أن يتوقع التشكُّل الأرقى لبنيتها في نصها الذي يقارب أكثر من غيره تُخومَ المجال الديني. ومن حسن الحظ أن علم أصول الدين (وهذه إحدى تسميات علم الكلام) يكاد يتميز بالفعل بأنه الحقل المعرفي (أو النص) الذي تشكَّلَت فيه بنية الثقافة التراثية؛ ليس فقط لمقاربته القصوى لتخوم «الديني» التي تظهر من مجرد تسميته، بل — والأهم — لأنه يكاد وحده أن يكون «الإبداع الفلسفي الأصيل للمسلمين»، والذي لا بد أن يكون — نتيجة لطابعه التنظيري — الأكثر قدرةً على الصياغة الأكمل والتعبير الأجلى عن بنية الثقافة بأَسْرها. ولعل في ذلك تفسيرًا لكون كافة الممارسات الإبداعية في الحقول المعرفية الأخرى من تاريخ ونحو وبلاغة وتفسير وفقه وغيرها، كانت تتوجَّه، على الدوام، إلى البحث عن أسانيدَ نظريةٍ من علم الأصول تُعالِج من خلالها قضاياها الخاصة؛ ولذلك فإنه لا ينبغي أن يدهَش المرء حين يقرأ في نصٍّ نحوي أو بلاغي أو فقهي عباراتٍ تكاد تكون، وبقاموس مفرداتها، ترجيعًا حرفيًّا لمثيلاتها في علم أصول الدين، حيث إنها البنية تُستعار في تعبيرها الأجلى.٤٢ ومن هنا كون الإمامة — كإطار لتبلور البنية في علم أصول الدين — هي الإطار الأشمل لبنية الثقافة التراثية بأَسْرها؛ أعني أنها كانت السياق التاريخي، لا لعلم أصول الدين فقط، بل لكافة التجليات المعرفية اللاحقة على تنوُّعها واختلافها.
وبالرغم من أن الإمامة، هكذا، تُعد نقطة البدء لكل تاريخٍ لاحق، وتاريخ علم أصول الدين بالذات، إلا أنها قد عانت بشدة من كل ضروب التهميش والغياب، وعلى الأخص — وتلك مفارقة — في الحقل المعرفي الذي انبثَق منها على نحوٍ مباشر؛ أعني حقل أصول الدين.٤٣ إذ «النظر في الإمامة ليس من المهمَّات، وليس من المعقولات، بل من الفقهيات.»٤٤ هكذا استقر الأمر في العلم؛ ولهذا فإن كثيرين ممن تناولوها — من الأصوليين — بالنظر قد اضطُروا للاعتذار بأنها «عندنا من الفروع، وإنما ذكَرناها تأسيًا بمن كان قبلنا.»٤٥ ذلك أنه «لما جرت العادة بذكرها [أي الإمامة] في أواخر كتب المتكلمين، والإبانة عن تحقيقها في عامة مصنَّفات الأصوليين، لم نرَ من الصواب خرقَ العادة بتركِ ذِكْرها، في هذا الكتاب، موافقةً للمألوف من الصفات، وجريًا على مقتضى العادات.»٤٦ وهكذا لا تجد الإمامة ما يربطها بالعلم إلا فيما جرت به العادة، وهو رباطٌ خارجيٌّ محض؛ الأمر الذي تبدو معه مجرد زائدة على العلم. ومن هنا، ليس فقط إمكان، بل وجوب استبعادها؛ حيث «المُعرِض عن الخوض فيها أسلم من الخائض.»٤٧ وإذن فإنه الاعتذار، هنا، لا عن الوضع الهامشي للإمامة في نسَق العلم، بل عن مجرد وضعها في النسَق أصلًا. ولعل هذه الاعتذارات الأصولية لتؤكِّد على كون الإمامة واستبعادها، كان فعلًا واعيًا مقصودًا. والحق أنه كان كذلك بالفعل، ولكنه لم يكن «مقصودًا من أجل [مجرد] إبعاد الناس عن السياسة وجعلها حكرًا على الحاكم وجعل التوحيد فارغًا من أي مضمون، فلا تحرِّك العقائدُ الناس، ولا يكون لها أثَر في حياة الجماهير.»٤٨ حقًّا يبدو الإلحاح على إلحاق الإمامة بالفقهيات (أو الفروع) منبثقًا عن السعي إلى المواجهة مع الشيعة، وهي مواجهةٌ لها جانبها السياسي دون شك.٤٩ ومع ذلك فإن جعل مجرد السياسة هي الأصل في تهميش الإمامة واستبعادها، يجعل الأصل — هكذا — يقف خارج العلم،٥٠ وليس في طبيعة بنيته الباطنية الخاصة.
والحق أن السعي إلى إقصاء الإمامة؛ إما عَبْر الوضع الهامشي لها في ختام نسَق العقائد تارة، أو بالسكوت عن ذكرها تمامًا تارةً أخرى،٥١ إنما يجد تفسيره الجوهري في بنية العلم الخاصة، لا خارجها. ولعل ذلك يقتضي رصدًا، لا لمجرد البنية في اكتمالها، بل ولكيفية تبلوُرها تاريخيًا على نحوٍ جوهري.٥٢ إذ الحق أن كيفية التبلور التاريخي للبنية، هو ما يُشكِّل نظام اكتمالها البنيوي على نحوٍ ما. ويبدو أن نقطة البدء إلى الوعي بكيفية تبلوُر بنية العلم تنطلق من أنه قد كان ثمَّة ضروبٌ من الاجتهاد والتعدُّد ينطوي عليها العلم في جوفه، سرعان ما توارت لتدَعَ الدرب فسيحًا أمام هيمنةٍ لا هوادة فيها لواحدٍ منها فقط. ولقد ارتبط ذلك، فيما يبدو، بالتحول في العلم من «مصنَّفات الفرق»٥٣ — حيث التاريخ بكل ما ينطوي عليه من تعدُّد واختلاف يبدو حاضرًا على نحوٍ ما — إلى «مصنفات العقائد» حيث لا شيء إلا النسق البنيوي مكتملًا وحده، وبلا أي إحالة إلى التاريخ خارجه. ولعل ذلك يعني أن المرء، في نسَق العقائد، هو بإزاء بنيةٍ تتبلور، لا ضمن حدود التاريخ، بل في سياق الإقصاء الشامل له.٥٤
إذ النسَق قد راح يتبلور ضمن عملية إقصاء لكل ما عداه من ضروب الاجتهاد؛ وهو الأمر الذي اضطَرَّه إلى الإقصاء الشامل للتاريخ، وذلك لا من حيث ينطوي (أي التاريخ) فقط على هذه الضروب من الاجتهاد المراد إقصاؤها وطمسُها، بل ومن حيث يسعى النسَق — وهو الأهم — إلى إخفاء السياقات التاريخية التي أنتجَته هو نفسه، والتعمية عليها، وذلك بأن يحيل نفسه — وتلك هي آليته الأثيرة في تكريس هيمنته وتأبيدها — إلى بنيةٍ إبستيمولوجيةٍ خالصة تتسامى على كل ما يربطها بحقل الأيديولوجيا والتاريخ، حتى لتحوز — في هذا التسامي — على كل سمات الإطلاق والقداسة.٥٥ إذ النسَق (الأشعري) حين يفك روابطه مع التاريخ، فإنه يسكن خارجه في سكون وثبات يستعصيان على أي تطور أو تجاوز، ومن هنا السعي إلى تغييب كل ما يربط النسَق بتاريخه. وإذ الإمامة هي الفضاء التاريخي لانبثاق النسَق — بل والعلم بأَسْره — فإن ذلك وحده هو ما يبرِّر السعي إلى تهميشها، أو حتى استبعادها كليًّا. وهكذا يرتبط الوضع الهامشي للإمامة في ختام نسَق العقائد، بالكيفية التي تبلوَر بها هذا النسق، وبسعيه الدءوب إلى التحول من «تكوين تاريخي» — يقبل التجاوز لتاريخيته — إلى «معطًى مطلَق» لا يقبل التجاوز بحال؛ الأمر الذي يعني أن هامشية الإمامة تجد تفسيرها داخل النسَق، لا خارجه. وإذ يستهدف تهميش الإمامة، والتاريخ بالتالي، تأبيد هيمنة النسَق ودوام فاعليته في الوعي، وذلك بتغييب تاريخيته تكريسًا — في المقابل — لقداسته، فإن ذلك يعني أن أي تطور أو تجاوز للنسَق هو مما يستحيل، لا شك، إلا عَبْر كسر طوق قداسته، وذلك بردِّه إلى التاريخ الذي ينكره، بل ويجتهد في إخفائه. والحق أن ذلك يقتضي قلبًا لبنية النسَق وإعادة بناء نظامه الباطن، لا على صعيد المضمون فقط، بل وعلى صعيد الشكل على نحوٍ جوهري.٥٦ ذلك أن إعادة بناء الشكل هي الخطوة الأهم في سبيل استعادة المضمون الحق، لا الزائف لكلٍّ من النسَق والعلم بأَسْره؛ فإذ يكرِّس الشكل السائد مضمونًا صوريًّا مجردًا للنسَق، لا مكان فيه للإنسان أبدًا، فإن تقويض هذا الشكل هو ما يمكن معه استعادة «الإنسان» بوصفه المضمون المتعين للنسَق. ولأن هذه الاستعادة — التي تعني تقويضَ الشكل السائد أصلًا — تتحقَّق من خلال البدء بالإمامة (في النسَق)، فإن ذلك يكشفُ عن كون تهميش الإمامة يمثِّل تكريسًا، لا لتهميش التاريخ فقط، بل والإنسان كذلك؛ والحق أنهما متلازمان دومًا … حضورًا وغيابًا.

٢

وإذا كانت الإمامة قد استحالت هكذا؛ أعني من خلال الوضع الهامشي لها في ختام نسَق العقائد، من فضاءٍ ينبثق فيه التاريخ إلى ساحةٍ لتهميشه وتغييبه، فإنها وبما ينطوي عليه بناؤها من الأفكار والتصورات، قد راحت — وعلى نحوٍ صريح هذه المرة — تدعَم هامشيته وتؤسِّس لغيابه، وذلك عَبْر سلبه الفاعلية، وتصوُّره إطارًا للانهيار والتدهور، وليس الارتقاء والتطور. وإذن فإنه الإقصاء الشامل للتاريخ، وذلك من حيث إن المضمون هنا قد راح — بعد الشكل فيما سبق — يؤسِّس صراحةً لهذا الإقصاء؛ إذ الإمامة لم تكن مجرد إطارٍ لتداول جملة أفكارٍ عن شروط الإمام وكيفية تعيينه، أو حتى الخروج عليه، وغيرها من الأفكار التي تبلوَر منها البناء الفقير لكتب الأحكام السلطانية المتأخرة، بل إنها — ولدورها التكويني — قد انطوت على جملة تصوُّراتٍ مركزية راحت بها تتجاوز مجرد «التقعيد للحكم» إلى «التقعيد للفكرة»؛ وأعني أن تنظير الإمامة عند المتكلمين يتميَّز بتجاوزه مسألة «أصول الحكم» إلى «أصول الفكر»، فإذ انبثق الخلاف حول الإمامة مبكرًا جدًّا في الماضي — بعد وفاة النبي مباشرة — وسابقًا لذلك على تنظيرها الذي يبدو أنه قد تأخَّر لقرنٍ كامل تقريبًا عن ظهور الخلاف بالفعل،٥٧ فإن الكلام فيها (أي الإمامة) لم يقف عند مجرد وضع القواعد النظرية اللازمة لممارسة السياسة في الحاضر فحسب، بل إنه راح ينعكس على «سياسة الماضي»، باعتبار أن «سياسة الحاضر» هي مجرد امتداد لها.

وفي هذا الانعكاس على الماضي، فإن قصد المتكلمين لم يكن مجرد السرد والرواية لما جرى على طريقة الإخباريين، بل التقييم والتوجيه ﻟ «الماضي» على نحوٍ يدعم سياسة الحاضر؛ وهو الأمر الذي اقتضى أن تتسع الإمامة لجملة أفكار عن «التفضيل والتكفير» كانت لازمة، بالطبع، كأدوات للتقييم والتوجيه. ولعل هذه الأفكار، تحديدًا، هي التي لعبَت الدور الجوهري في تبرير الإقصاء الشامل للتاريخ من حقل التفكير الذي راح يتبلور — تبعًا لذلك — في فضاءٍ لا تاريخي.

والحق أنه ليس ثمَّة في الإمامة ما هو أكثر جوهرية من «التفضيل والتكفير»، وذلك من حيث يبدو أنه لا سبيل إلى التماس التصوُّر الصريح للتاريخ داخل نسَق العقائد إلا من خلالهما أساسًا. ويبدو أن الفكرتَين تتضافران معًا في تكريس ذات التصوُّر الواحد للتاريخ؛ فإذ «التفضيل» يئول إلى تصوُّر للتاريخ بوصفه انهيارًا، فإن «التكفير» لا يفعل إلا أن يجسِّد هذا الانهيار واقعًا متحققًا «في صورة التشرذُم والتفرُّق والتبعثُر والقضاء على الوحدة الأولى التي كانت في العصر الأول، عصر النبوة والخلافة.»٥٨ ولعل ذلك يعني أن المرء، هنا، بإزاء ضربٍ من الارتباط البنيوي بين الفكرتَين، وليس مجرد علاقةٍ خارجيةٍ طارئة تقبل الانفكاك. ومن هنا فإن الخاتمة «فيمن يجب تكفيرُه من الفرق» ليست ملحقًا للإمامة، أو تذييلًا للنسَق،٥٩ يستهدف تمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكة، بل القصد منه تجسيد انهيار التاريخ وتحقيقه واقعًا، ومن هنا جوهرية ارتباطه ﺑ «التفضيل» الذي يكرِّس هذا الانهيار نظريًّا.
لكنه يبدو — مع ذلك — أن نقطة البدء في التحليل لالتماس التصور التاريخي المهيمن على النسَق الأشعري تنطلق من فكرة التفضيل أساسًا، لا لأن هذا التصوُّر يتبلور ضِمنَ أفق التفضيل على نحوٍ أكثر جلاء، بل ولأن علاقته بالإمامة — وهي حقل التاريخ في النسَق — تبدو الأسبق والأكثر جوهرية، وذلك على عكس علاقته بمفهوم التكفير الذي لم يتبلور داخل النسق إلا ابتداءً من القرن الخامس الهجري حين ابتدأ إلحاقه بالإمامة. بل إن الإمامة عند بدء تنظيرها — وعند واحدٍ مثل الأشعري مثلًا — تكاد أن تكون مجرد درس في التفضيل لا غير.٦٠ ولعل ذلك يرتبط باستغراق التنظير للإمامة — آنذاك — في مجرد الانعكاس على الماضي تقييمًا وتوجيهًا؛ وأعني أن الانشغال الجوهري هنا قد انصَبَّ أساسًا، لا على كيفية تعيين الإمام وشروطه، بل على تقييم الاختلاف حول الإمامة في الماضي، وبعد وفاة الرسول مباشرة.٦١ وإذ انحصر ذلك في السعي إلى تأسيس تراتُب الأئمة (أو الخلفاء) — وكان ذلك يمثِّل خلافًا جوهريًّا آنذاك —،٦٢ على أساس تراتُبهم في الفضل خاصة، فإن ذلك هو ما جعل الإمامة مجرد درسٍ في التفضيل؛ لأنها لم تكن شيئًا إلا السعي إلى تأسيس شرعية كل واحدٍ من الأئمة أو الخلفاء على أساس أنه هو أفضلُ الأمة في وقت توليه.
ولعله يبدو، هنا، أن التراتب في الفضل هو الأساس في تراتب الأئمة أو الخلفاء؛ وبما يعني أن تقدُّم الإمام أو تخلُّفه في سلسلة الأئمة يرتبط بموقعه في سلسلة الأفضل من أهل العصر. وإذ يرتبط ذلك بما «صار إليه معظم أهل السنة [من] أنه يتعيَّن للإمامة أفضل أهل العصر»،٦٣ فإنه — ومنذ الأشعري — لا شيء يؤسس لإمامة أبي بكر ومن جاءوا بعده أيضًا، إلا النص أو الإجماع٦٤ على أنه «كان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك»،٦٥ أو — وبعبارة للباقلاني يكثِّف الاختصار دلالتها — على «اجتماع خلال الفضل والإمامة فيه.»٦٦ ويتجاوز الأمر، من غير شك، أبا بكر إلى عمر من بعده؛ وذلك من حيث إن عَقْد الإمامة له واختياره لها إنما يأتي من أنه «كان أفضلَهم بعد أبي بكر رضي الله عنه.»٦٧ وإذ الأمر هكذا فيمن يخلُفونه أيضًا، فإنه يبدو فعلًا أن التراتُب في الفضل هو المؤسس للتراتُب في الإمامة، حيث «الفضيلة» لا غير هي المحدد — والحال كذلك — لانعقاد الإمامة لأشخاصِ مَن تولَّوها، ولتراتُبهم فيها بالطبع.
والحق أن تأخُّر الكلام في التفضيل عن حدث الإمامة،٦٨ كان لا بد أن يجعل منه شيئًا أقرب إلى حكم القيمة المفروض على واقعِ ما جرى من خارجه، وليس أداةً منهجيةً لتحليل الواقع منبثقة منه، ومن هنا عدم دلالته على واقعِ ما جرى فعلًا، وتحوُّله بالتالي إلى مجرد إسقاط لتصوُّرٍ مثالي على واقعٍ متخيل؛ ذلك أن قراءةً لمجمل الروايات٦٩ التي راحت تسرد وقائع وكيفية انعقاد الإمامة لأبي بكر — ومن تلَوه أيضًا — لتكشف عن «أن جميع الأخبار التي تنقلُها [هذه الروايات] حول الطريقة التي بُويع بها أبو بكر تجعل القبيلة المحدِّد الأول والأخير لجميع المواقف.»٧٠ إذ الاحتجاجُ بالقبيلة يبدو المهيمن بقوة على كافة حُجج الفرقاء المتنازعين على الخلافة إبَّان حدث السقيفة وما تلاه حتى استقر الأمر لأبي بكر؛ وأعني أن أحدًا آنذاك لم يستند في تبرير أحقيته بالخلافة إلى كونه «الأفضل». ولقد كان الأمر كذلك حتى فيما يتعلق بابن أبي طالب الذي يكشف تحليلُ أقواله عن وعيٍ حادٍّ بدور القبيلة حاسمًا في استئثار بعضهم بالخلافة دونه، رغم أنه كان يرى نفسَه الأحق بها، لا لكونه الأفضل، بل لقرابته من النبي؛ وهي الحجة (حُجة القرابة) التي استندَت إليها قريشٌ نفسها في انتزاع الأمر من الأنصار.٧١ فإن كان الأنصار قد ردُّوا ما تصوَّروا أنها جدارتهم بالخلافة إلى «سابقة في الدين وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب»،٧٢ فإن قريشًا قد احتجت بقول أبي بكر: «نحن عشيرة رسول الله ونحن مع ذلك أوسط العرب أنسابًا، ليست قبيلةٌ من قبائل العرب إلا ولقريشٍ فيها ولادة»،٧٣ ثم تؤكِّد بلسان عمر مخاطبًا الأنصار أيضًا: «والله لا ترضى العرب أن تؤمِّركم ونبيُّها من غيركم، ولكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم وأولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفَنا من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من ينازعنا سلطانَ محمد وميراثَه — ونحن أولياؤه وعشيرته — إلا مُدلٍ بباطل أو متورطٌ في هلكة.»٧٤ وهكذا لم تجد قريشٌ ما تستند إليه — في مواجهة الأنصار — إلا وضعها المتميز بين قبائل العرب، وهو ما رضخ له الأنصار، إقرارًا بمنطق القبيلة الذي كانوا — هم أنفسهم — يفكِّرون به من دون شك، فراحوا يُسلِّمون: «إن محمدًا رسول الله رجلٌ من قريش؛ وقومه أحق بميراثه وتولِّي سلطانه.»٧٥ وحين كان على قريش، بعد ذلك، أن تحسم أمرها في مواجهة آل البيت الذين راح ابن أبي طالب يحتج باسمهم: «الله الله، يا معشر المهاجرين، لا تُخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، ولا تدفعوا أهلَه عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحقُّ الناس به لأنَّا أهل البيت، ونحن أحقُّ بهذا الأمر منكم»،٧٦ فإنها لم تجد ما تردُّ به عليه إلا قول عمر: «إنَّ الناسَ قد كَرِهوا أن يجمعوا لكم النبوَّة والخلافة، وإن قريشًا اختارت لنفسها فأصابت.»٧٧
وهكذا يتبدَّى التبايُن لافتًا بين روايات الإخباريين ونصوص المتكلمين٧٨ فيما يتعلق بفترة الخلافة الراشدة؛ إذ بينما تتجلى رواياتُ الإخباريين عن الدَّور الحاسم للقبيلة آنذاك، فإن نصوص المتكلمين لا تتكشَّف — وكما سبقَت الإشارة — إلا عن الحضور المُهيمِن للتفضيل والفضيلة.٧٩ والحق أن تجاوزًا للروايات إلى تحليل مجمل العوامل التي ساهمَت في انعقاد الخلافة وتداوُلها، ليكشف — بالفعل — عن كون «القبيلة» لا «الفضيلة» هي المحدِّد لانعقادها وتداوُلها على نحوِ ما تحقق؛ وأعني أن جملة المعطيات الواقعية السائدة آنذاك لم تكن تسمح أبدًا بما يتجاوز إطار القبيلة، ليس فيما يتعلق بفترة الخلافة الراشدة فقط، بل وفيما يتعلق بفترة الدعوة النبوية أيضًا. ومن هنا ما صار إليه ابن خلدون — في «فصل في أن الدعوة الدينية من غير عصبيةٍ لا تتم» — من الاستناد إلى حديث «ما بعث الله نبيًّا إلا في منَعة من قومه» في التأكيد على أنه: «هكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيَّدون من الله بالكون كله لو شاء؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقَر العادة … وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرقِ العوائد، فما ظنُّك بغيرهم ألا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية … [وهكذا] فإن كل أمر تُحمل عليه الكافة فلا بد له من العصبية.»٨٠ وإذ يبدو أمر العصبية أكثر جلاءً في التاريخ اللاحق لحقبتَي النبوة والخلافة على الخصوص،٨١ فإنه يبدو وكأن تحليلَ ابن خلدون لتاريخ الدولة العربية الإسلامية لا يكشف إلا عن هيمنة مفهوم العصبية بقوة على تاريخ هذه الدولة، وعلى نحو يكاد فيه أن يكون قانونها الأوحد.٨٢ إنها، إذن، «طبائع العمران» السائد آنذاك هي ما يئول إلى هذا المفهوم-القانون مما يؤكِّد على كونه انبثاقًا عنها، وليس مفروضًا عليها من الخارج؛ ومن هنا أنه يمثل قانونًا ثابتًا لهذا العمران، وإلى حد أنه لا انفكاك عنه — حسب ابن خلدون نفسه — إلا بما هو خارقٌ للعادة. وإذ الخارق للعادة لا يمكن أن يكون موضوعًا للعلم، بل للإيمان، فإن ذلك يعني أن أي مفهومٍ آخر غير العصبية القبلية، يُستعار لتُقرأ من خلاله أحداث أي حقبة في تاريخ الدولة العربية الإسلامية، سيكون مجرد إسقاطٍ خارجي يفرضه الإيمان، وليس نتاج تحليلٍ باطني لهذا التاريخ.
وضمن هذا السياق فإن التفضيل (وهو المفهوم الذي راح يقرأ من خلاله المتكلمون الأشاعرة خاصة أحداث حقبة الخلافة الراشدة) يبدو مجرد إسقاطٍ متأخر على هذه الحقبة.٨٣ ومن هنا ما ينطوي عليه من الاصطناع لا شك؛ فإذ القصد من التفضيل هو ترتيب الخلفاء في الفضل على نحوٍ يدعم شرعية تراتُبهم في الخلافة على ما تحقَّق، فإن ذلك قد آل — وكان لا بد أن يئول — بالمتكلمين إلى اصطناع ضروبٍ من الفضل ينسبونها إلى المتقدم في الخلافة ليتفوَّق بها على من يليه، فيُصبح تقدُّمه في الخلافة مُبررًا — والحال كذلك — بتقدُّمه في الفضل.
وهكذا يصطنع المتكلمون تقدمًا في الفضل يبرِّرون به التقدُّم في الخلافة، فيُوهِمون بأن التراتُب في الفضل هو أساس التراتُب في الخلافة أو الإمامة. والحق أنه ليس ثمَّة إلا التراتُب في الإمامة (المتحقَّقة) أولًا، يتلوه السعي إلى تبريره عَبْر «اصطناع» تراتُب في الفضل ثانيًا؛ وأعني أن تحقُّق إمامة الواحد من الخلفاء سابقًا على الآخر هي التي تُوجِب اصطناع تقدُّمه في الفضل عليه. وإذن فإن الإمامة (والتراتب فيها) هي التي أوجبَت الفضل (والتراتُب فيه)، وليس العكس. ومن المفارقات أن الإقرار بهذه الحقيقة قد أفلَت من الأشعري نفسه، وذلك حين قرَّر بصدَد إمامة أبي بكر أنه «إذا وجبَت إمامة أبي بكر بعد رسول الله وجَب أنه أفضلُ المسلمين.»٨٤ وهكذا يبدو إيجابُ الفضل مُستفادًا من إيجاب الإمامة؛ وبما يعني أن التراتُب في الإمامة هو ما يؤسس للتراتُب في الفضل. ولا ريب في أن الإمام، ضمن هذا السياق لا يكون إمامًا لأنه الأفضل، بل إنه يغدو الأفضل لمجرد كونه الإمام. وإذ يبدو أن هذا التلازم بين مجرد أن يكون المرء إمامًا، وبين إيجاب كونه الأفضل، قد تبلور کردٍّ متأخرٍ على ما صار إليه الشيعة الزيدية من «جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل»، فإن ذلك يعني أن التفضيل قد تبلوَر، لأول وهلة، لمنع إمامة المفضول. ومن حُسن الحظ أن أحد البناة الأوائل للنسَق الأشعري، يقرر — تأكيدًا لذلك — أن «الغرض من ذلك [أي التفضيل] ينبني على منع إمامة المفضول.»٨٥ ولعله يبدو غريبًا ذلك السعي — بالتفضيل — إلى منع إمامة المفضول، رغم أن تجويز إمامته (أي المفضول) كان سبيلَ من قالوا به من الشيعة وغيرهم إلى تجويز الإمامة لكلٍّ من أبي بكر وعمر تحديدًا (وهما من انشغَل أهل السنَّة بإمامتهما على نحوٍ خاص). وإذ كان ذلك ما قرَّره الزيدية صراحة،٨٦ فإنه يبدو أنه قد كان هناك أيضًا — وراء القول بإمامة المفضول — ما سكَتوا عنه وأدركه الأشاعرة، فراحوا يسعَون لذلك إلى منع إمامة المفضول. فلعلهم قرءوا جملة ما قاله الزيدية حول «إمامة المفضول»، وأدركوا ما ينطوي عليه من النظر إلى ما جرى فيما يتعلق بالإمامة، بوصفه انتصارًا لقيم القبيلة التي بدا لهم أن الإسلام لم يكن قد تجاوزَها بعدُ،٨٧ وفطنوا إلى ما يرمي هذا النظر للإمامة في سياقٍ مغاير لما استقرَّ عليه الفكر الشيعي على العموم.
فإذا انشغل عموم الشيعة، من الإمامة، بالكيفية التي تتحقق بها (نصًّا وتعيينًا لا اختيارًا وشورى)، فإنهم لم يركِّزوا على تقييم ما جرى بشأنها من داخله، وانحصر دحضُهم، لهذا الذي جرى، انطلاقًا من كونه لم يتحقق طبقًا للكيفية التي كان لا بد أن يتحقَّق بها عندهم؛ وهي النص. وأما الزيدية، فقد انشغلوا، لا بدحض ما جرى بشأن الإمامة لمجرد مخالفته للكيفية التي كان لا بد أن تتحقق بها؛ وهي النص (وكيف هذا؟ … وهم الذين بلَغوا حد القول بأنها شوری)،٨٨ بل ركَّزوا الاهتمام على قراءة ما جرى واكتشاف قوانينه الخاصة من الداخل؛ وهو ما آل بهم إلى إدراك كونه جاء تكريسًا لعالم القبيلة الذي لم يكن الواقع قد تخطَّاه بعدُ.
ومن غير شك فإنه في مقابل «عالم القبيلة» هذا، ماثلًا في إمامة المفضول، قد كان هناك «عالم الفضيلة» ماثلًا في إمامة الأفضل؛ وهو التقابل نفسه بين «عالم المتحقق» من جهة، و«عالم الممكن» من جهةٍ أخرى. وهكذا يبدو الواقع — ضمن هذه النظرة٨٩ — منطويًا في جوفه، لا على المتحقق فقط، بل الممكن أيضًا؛ وبما يعني، بالطبع، إمكان سلب المتحقق ونفيه بواسطة الممكن. وإذن فإنهم لا يقبلون المتحقق بوصفه واقعةً نهائيةً لا تقبل التخطِّي، بل بوصفه لحظةً ضروريةً فرضَتْها ظروف الواقع حقًّا، ولكنها، مع ذلك، تبقى مجرد لحظةٍ عارضة يستحيل إلا تجاوُزها لإفساح السبيل أمام الممكن للتحقق في صيرورة لا تتوقف فيها عملياتُ التحقق والتخطي. وهكذا فإن قبولهم للمتحقق كان قبولًا «تاريخيًّا»، لا «مطلقًا» كالحال عند الأشاعرة الذين سعَوا إلى ترسيخ هذه النظرة المطلقَة لكل ما تحقَّق إبَّان فترة الخلافة، ليبقى هذا المتحقق فاعلًا أبدًا في مخيال الجماعة وقادرًا على صياغة تصوُّراتها، حتى في الحاضر. ومن هنا، السعي الأشعري إلى «منع إمامة المفضول» التي أدركوا فيها سعيًا بالممكن إلى زعزعة هذا المتحقق ونفيه. وإذ التفضيل هو أداة الأشاعرة في منع «إمامة المفضول» — حسب الجويني — فإن ذلك يعني أن التفضيل ينبني بالأساس على نظريةٍ في الطبيعة المطلَقة للمتحقق وأوليته على الممكن. بل إن التفضيل الأشعري يسعى بالكلية إلى تغييب هذا الممكن وإقصائه على نحوٍ تام، وذلك بوصفه سقوطًا إلى الأقل فضلًا عن الدوام.

فإذ الممكن يكون هو الأفضل، والمتحقق هو المفضول أو الأقل فضلًا، تبعًا لقول الزيدية بإمامة المفضول، فإن المتحقق هو، على العكس، الأفضل، وأما الممكن فهو المفضول أو الأقل فضلًا، تبعًا لقول الأشاعرة بالتفضيل. وهكذا يبدو أن التحقُّق هو الأساس في الفضل، وبما يعني أن الشيء لا يتحقَّق لأنه الأفضل، بل إنه الأفضل لمجرد أنه تحقَّق فحسب. ومن غير شك فإنه يستحيل مع هذا التلازم بين المتحقق والأفضل أن يتم تجاوزُه أو تخطيه، وهو ما يجعل انبثاق التاريخ مستحيلًا تمامًا. إذ الثبات عند «المتحقق»، بسبب كونه الأفضل، لا يقدِّم البتة تاريخًا؛ لأن التاريخ هو صيرورة للواقع، لا تتوقف عند جانبه المتحقِّق، بل تتجاوزه إلى ما لم يكنه بعدُ، وهو ما يعني أن التاريخ في جوهره هو سلب للمعطى المتحقق، وليس أبدًا ثباتًا عنده.

وهكذا يتكشف التفضيل عن نظرةٍ وضعيةٍ معاديةٍ للتاريخ؛ وذلك من حيث لا يرى — كالوضعية — إلا الواقع في جانبه المتحقق فقط، ومن دون أن ينفذ إلى جملة الممكنات الكامنة فيه. ومن هنا أنه يمثل تكريسًا للواقع القائم، ومناهضةً لأي سعي إلى تغييره؛ وهو ما يعكس طابعه التسلُّطي الذي يتفق فيه مع الوضعية التي أفاض ناقدوها في الكشف عن طبيعتها التسلُّطية.٩٠ ولعل ذلك يدفع إلى التأكيد على أن السياسة كانت هي الفضاء الذي انبثَق فيه مفهوم التفضيل الأشعري على نحوٍ مباشر، ولكن مع ملاحظة أنه خضع بدوره لقانون التحوُّل الأساسي في الثقافة التراثية من التاريخي إلى البنيوي؛ وأعني أنه سرعان ما تجاوَز ارتباطَه التاريخي مع السياسة التي انبثَق فيها على نحوٍ مباشر، إلى تكوين مجالٍ معرفيٍّ خاص راح منه يمارس هيمنةً بنيويةً شاملة على نظام المعرفة السائد في محيط الثقافة بأَسْرها.
فإذ راح التفضيل، في سعيه إلى تثبيت الواقع القائم، يؤسِّس نفسه على تصورٍ لما تحقَّق في الماضي (لا من حيث هو كذلك، بل بوصفه أساسًا للحاضر) باعتباره الأفضل، فإنه كان، هكذا، يضع أساسه في الماضي؛ إذ المتحقق من حيث هو كذلك، لا يتميز عن الممكن أو الذي لم يتحقق بعدُ إلا بأنه يتقدَّمه في الزمان؛ أعني أنه مجرد ماضٍ. ولعل ذلك يعني أن المتحقق ليس إلا «المتقدم» قياسًا على «المتأخر» الذي هو ممكن لم يتحقق بعدُ؛ وبما يعني أن المتحقق يرادف المتقدِّم، فيما المتأخر هو قرين الممكن. والحق أن هذا الارتباط بين «المتحقق والمتقدم» من جهة، وبين «الممكن والمتأخر» من جهةٍ أخرى، يبلغ حدًّا من الجوهرية يستحيل الفضل تمامًا دونه؛ ذلك أنه إذا كان مجرد التحقق لا يمكن أن يصنع فضلًا، فإن الانتقال من «المتحقق» إلى «المتقدم» هو ما يصنع الفضل ويؤسِّسه؛ لأنه إذا كان المتحقق لا يتميَّز عن الممكن (غير المتحقق) إلا بمجرد التقدم في الزمان، فإن المتقدم لا يتمايز عن المتأخر — حسب خطاب الثقافة المهيمنة — بمجرد التقدُّم بالزمان، بل وبالعلية والطبع والشرف والمرتبة.٩١

وهكذا يعكس الانتقال من «المتحقق» إلى «المتقدم» تحولًا من فضاء «الزمان» إلى فضاء «القيمة»، وهو ما يتسِق مع جوهر التفضيل على العموم. وإذ المتحقق هكذا (أعني لا من حيث هو كذلك، بل بما هو يرادف المتقدم) لا يتميَّز بمجرد تقدُّمه في الزمان، بل — والأهم — بتقدُّمه في الطبع والشرف والمرتبة، فإن ذلك يعني أن أوَّليته ليست، هنا، واقعةً عارضةً أنتجَتها الأسبقية الزمانية فحسب، بل واقعة أصلية ترتبط، جوهريًّا، بطبيعة المتحقِّق أو المتقدِّم ذاته. ولقد اقتضى ذلك، بالطبع، تصورًا لطبيعة هذا المتحقق-المتقدم، لا بوصفه وجودًا حيًّا ينطوي — ككل حياة — على كافة ضروب التناقض والاختلاف، بل بوصفه نموذجًا لا بد من تصوره خلوًا، على نحوٍ مثالي، من كل ضروب الخلاف، وذلك عبر إسقاط الصور المتخيلة على هذا النموذج-المتقدم، بما يجعله فاعلًا في صياغة مخيال الجماعة، وقادرًا على توجيه حاضرها بالتالي. وهكذا يبدو وكأن ثمَّة ضربًا من التوجيه المزدوج، للماضي من الحاضر أولًا، توطئة لممارسة الماضي توجيهه للحاضر على نحوٍ دائم لاحقًا؛ فثمة (أولًا) التوجيه للماضي عَبْر إسقاط الصور المتخيَّلة عليه من الحاضر، وثمَّة (ثانيًا) التوجيه من هذا الماضي (الخاضع للتوجيه أصلًا) للحاضر؛ وذلك من خلال إحضاره في المخيال كبناءٍ مطلَق يستحيل تجاوزه في الحاضر.

واللافت في هذا التوجه المزدوج أنه يجعل مركزية التفضيل بأَسْره تقوم في الماضي الذي ينطوي وحده — وعَبْر الاصطناع غالبًا — على كل شروط الفضل والتميز. وإذ يصبح الماضي هكذا؛ أعني من حيث يستحيل إلى نموذج، هو وحدَه مصدر الفضل وأصله، فإن كل زمانٍ لاحقٍ لا يمكن إلا أن يكون إطارًا للأقل فضلًا وقيمة؛ لأنه يمثِّل آنئذٍ مجرد انهيارٍ للنموذج المتقدِّم (في الماضي) وتدهورًا له. ولعل هذا الانشطار، في صميم الزمان، بين لحظةٍ نموذجيةٍ وبين لحظاتٍ من الانهيار والتدهور تتلوها، يعني أن المرء، هنا، بإزاء رؤية يبدو فيها التاريخ انهيارًا وتدهورًا، على نحوٍ دائم، من الأفضل إلى الأقل فضلًا؛ وبما يعني أن التفضيل قد استحال من مجرد أداة لتكريس الواقع القائم في الإمامة، إلى كيفية لتصوُّر التاريخ بوصفه انهيارًا؛ وهو التصوُّر الذي أسَّس لرؤية للعالم راحت تنتظم كل ضروب التفكير وطرائقه، وأنظمة إنتاج المعرفة داخل خطاب الثقافة المهيمنة.

ولقد راح الأشاعرة يمركزون هذه اللحظة النموذج التي يبدأ منها التاريخ دورة انهياره وتدهوره، حول «لحظة النبوة» التي كان لا بد من تصوُّرها — تبعًا لذلك — ذروة الفضل ومثاله. ومن هنا السعي المُلِح إلى تصوُّر هذه اللحظة خلوًا من كل ضروب الاختلاف مطلقًا؛ وبما يعني اختزال مسألة الفضل، فيما يتعلق بالحِقَب والقرون على الأقل، في مجرد الوحدة التي تخلو من الاختلاف، وذلك فيما يختزل غياب الفضل — تبعًا لذلك — في مجرد التشتُّت والافتراق.٩٢ وإذن فإن ما يبرِّر كون عصر النبي هو «عصر السعادة»٩٣ أنه كان «عصر الوحدة»٩٤ الذي راحت تتلوه، لسوء الحظ، عصور الشقاوة بكل ما تمخضَت عنه من مظاهر التعارض والاختلاف. وهنا يبدو وكأن لحظة النبوة تمثِّل ذروةَ الفضل وكمالَه بالقياس إلى ما يتلوها فقط؛ وبما يعني أنها تكتسب دلالتَها ومعناها من التاريخ اللاحق عليها فحسب، والذي يكتسب منها، بدوره، كل دلالته ومعناه. ولعل ذلك يكشف عن كونها مجرد لحظةٍ جزئية، وذلك من حيث لا تمثِّل أساسًا لتصور تاريخٍ كونيٍّ شامل، بل للتاريخ اللاحق عليها فقط.

ولقد أدرك الأشاعرة، فيما يبدو، ضرورةَ تجاوز هذه الجزئية، لتبقى اللحظة التي يتأسَّس عليها التاريخ بريئةً عن كل نقص من جهة، وقادرة على تفسيره في شموله وكليته من جهةٍ أخرى، وإذ بدا أن أي سعي إلى تجاوز هذه «الجزئية» كان يقتضي تصوُّر لحظة النبوة، لا كمجرد نقطة أولى يبدأ منها الفضل انهياره، بل كنتاج لتطور في الفضل تُعَد هي لحظة ختامه واكتماله، وبحيث تستمد، أيضًا، دلالتها ومعناها من هذا التاريخ السابق، وذلك بقَدر ما يستمد منها، بدوره، دلالته ومعناه، فإن الأشاعرة قد راحوا يتصوَّرون التاريخ السابق على نبوة محمد بوصفه تطورًا في الفضل — لا انهيارًا له — من الأقل فضلًا إلى الأفضل؛ وأعني أنهم راحوا يفاضلون بين الأنبياء، ولكن في ضربٍ من التفضيل كان لا بد أن ينعكس فيه اتجاه الحركة من الأقل فضلًا (الأنبياء السابقين) إلى الأفضل (النبي محمد).

ومن هنا أنهم صاروا إلى «أن نبينا أفضلُهم [أي الأنبياء]، وأولو العزم من الرسل أفضلُ من غيرهم؛ وهم خمسة؛ نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام»،٩٥ وجعلوا الفضل فيهم مترتبًا من الأقل فضلًا إلى الأفضل، وذلك باعتبار «أن من بُعثَ منهم إلى الكافة أفضلُ ممن بُعث منهم إلى قومٍ مخصوصين.»٩٦ وإذ يبدو التطور في النبوة من الخطاب «لقومٍ مخصوصين» إلى الخطاب «للكافة»، وذلك من حيث «إن تأثير دعوة موسى عليه السلام كانت مقصورةً على بني إسرائيل فقط. وأما دعوة عيسى عليه السلام، فكأنه لم يظهَر لها تأثيرٌ إلا في القليل [رغم أنها كانت خطابًا للكافة]، وأن تأثير دعوة محمد عليه السلام في علاج القلوب المريضة والنفوس الظلمانية، كان أتم وأكمل من تأثير دعوة سائر الأنبياء، فوجَب القطعُ بأنه أفضلُ من جميع الأنبياء والرسل»،٩٧ فإن ذلك يؤكد على أن التاريخ السابق على نبوة محمد هو تطورٌ من الأقل فضلًا إلى الأفضل. وهكذا يكون تبلور لحظة النبوة كذروة للفضل ومثاله، لا بالنسبة فقط للتاريخ اللاحق عليها (والذي يمثِّل سقوطًا للفضل)، بل وبالنسبة أيضًا للتاريخ السابق عليها، والذي كان لا بد أن يمثل صعودًا في الفضل تكون هي — أي لحظة النبوة الخاصة بالنبي محمد — ذروتَه وختامَه؛ وبما يعني أنها الأساس في بناء تاريخٍ كونيٍّ شامل تبدو هي قطبَه ومركزَه. لكنه التاريخ، هنا، لا بوصفه بناءً متجانسًا، يكرِّس التجانس وحدته، بل التاريخ بما هو منقسم على ذاته بين لحظتَين من الصعود والسقوط، لا سبيل أبدًا إلى صهرهما في هويةٍ واحدة.٩٨

وبالرغم من أن التفاضل بين الأنبياء — تكريسًا لأفضلية النبي محمد على غيره — يبدو ضروريًّا، على هذا النحو، لتبلور النبوة كأساس لبناء تاريخٍ كونيٍّ شامل، إلا أنه يمثِّل مأزقًا لمسألة التفضيل بأَسْرها، وذلك من حيث يكشف عن اتجاهٍ للفضل يعاكس اتجاهه في التفضيل على العموم، فقد بدا أنه يستلزم انكسارًا لنمط التفضيل السائد من الأفضل إلى الأقل فضلًا، والتحوُّل عنه إلى نمطٍ مغاير —بل مناقض — يمضي فيه التفضيل من الأقل فضلًا إلى الأفضل. والحق أن هذا الانكسار في نمط التفضيل قد أصبح ضروريًّا، حين بدا للأشاعرة أنه يستحيل اعتبار النبوة مجرد نقطة الصفر في التاريخ الذي انشغلوا به؛ وهو التاريخ اللاحق عليها، وذلك من حيث أدركوا استحالة تصوُّرها في انفصال عن كل ما سبقها (حيث اعتبَر الإسلامُ الإيمانَ بالنبوات السابقة جزءًا من الإيمان بنبوته الخاصة)؛ وبما يعني أنهم كانوا مضطَرين للتفكير في وضعها بالنسبة للتاريخ السابق عليها. وإذ راحوا يفكِّرون في هذا التاريخ السابق، فإنهم لم يستطيعوا إلا تصوُّرها لحظة ختامه واكتماله؛ وبما يعني أنها — هنا — نهاية تاريخ كان لا بد أن يكون تاريخًا للفضل المتصاعد. وإذ آل بهم التفكير في وضعها بالنسبة للتاريخ اللاحق عليها إلى تصوُّرها نقطة ابتداء انهياره، فإنها بدت — ضمن هذا السياق — كنقطة ابتداءٍ لتاريخٍ مغاير؛ وهو تاريخ الفضل المتساقط. ولأن التفضيل عندهم يتبلور ضمن هذا الانشغال بالتاريخ اللاحق فحسب؛ أعني من تصوُّرها نقطة ابتداء فقط، فإن المأزق، الذي يفرض ضرورة انكساره، ينشأ من هذا التصور الذي يفرضه قيام تاريخٍ سابق عليها؛ أعني من تصوُّرها لحظة اكتمال وختام.

ولعل ذلك يكشف عن أن تجاوز مأزق التفضيل مشروطٌ بتصور النبوة كمجرد لحظة ابتداء فقط؛ وأعني مشروطًا بتصوُّرها من دون تاريخٍ سابق عليها. وإذ سبق التنويه بأن تصوُّرها من دون تاريخٍ سابقٍ عليها، يُعَد تنكرًا لكل النبوات السابقة؛ الأمر الذي يتعارض مع روح الإسلام الحقَّة، فإنه بدا وكأن الأمر يقتضي بلوغ تصوُّر يمكن الجمع في بنائه بين وضع نبوة محمدٍ كحقيقةٍ أولى يبدأ منها كل تعيين من جهة، وبين أخذ كافة النبوات الأخرى في الاعتبار من جهةٍ أخرى. وبالرغم من أن الفكر قد أمكنه بلوغ مثل هذا التصور بالفعل، ولكن في إطار حقلٍ معرفيٍّ مغايرٍ لعلم الكلام، هو حقل التصوف؛٩٩ ومن خلال مفهوم «الحقيقة المحمدية» تحديدًا، إلا أن مأزق التفضيل قد بقي قائمًا؛ وبما يعني أنه يستعصي على أي تجاوز.
فالحق أن «مفهوم الحقيقة المحمدية» يضع النبوة المحمدية كحقيقة أولى تبدأ منها، لا كل النبوات والشرائع فقط، بل وكل التعينات الأنطولوجية والمعرفية. ومن هنا كليَّتها،١٠٠ التي تبرِّر مركزيتها ضمن سياق أي تاريخ؛ حيث تشمل كافة التعيُّنات «أنطولوجيًّا» من حيث «هو — أي النبي محمد كأول تعيُّن تتعيَّن به الذات الأحادية قبل كل تعيُّن»١٠١ — القطب الذي تدق عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره،١٠٢ و«معرفيًّا» من حيث هو «صاحب النبوة قبل وجود الأنبياء الذين هم نُوابه في الدنيا.»١٠٣ وليس من شك في أن مركزيته النبوية تلك ترتبط — جوهريًّا — بأولويته الأنطولوجية؛ وأعني باعتبار كونه صاحبَ وجودٍ سابقٍ بالاسم الباطن أو «الروح المجرد»؛ حيث «كان لها [أي لروح محمد] وجود في عالم الغيب دون عالم الشهادة، وأعلمه (الله فيه) بنبوَّته، وبشَّره بها، وآدم لم يكن إلا كما قال بين الماء والطين.»١٠٤ ولقد كان للنبي، بهذه النبوة السابقة في عالم الغيب «الحكم باطنًا في جميع ما ظهر من الشرائع على أيدي الأنبياء والرسل، سلام الله عليهم أجمعين»؛١٠٥ وبما يعني أن هذا الحكم «كان منسوبًا في الباطن والحقيقة إلى محمد، وفي الظاهر والمجاز كان الحكم منسوبًا إلى من نُسِب إليه من شرع إبراهيم وموسى وعيسى، وجميع الأنبياء والرسل.»١٠٦ ومن هنا كونهم — أي هؤلاء الأنبياء جميعًا — دونه في الفضل «ومُلحَقون به لحوق الكامل بالأكمل، ومنتسبون إليه انتسابَ الفاضل إلى الأفضل.»١٠٧ وبالرغم من أن جميع الأنبياء في الفضل دونه، إلا أنهم يتفاضلون فيما بينهم لا شك؛ وعلى نحوٍ تتجه فيه حركة الفضل من الأقل فضلًا إلى الأفضل؛ وذلك من حيث تبلغ النبوة المحمدية — عند الصوفية — غايةَ تحقُّقها وكمالها مع كل واحدةٍ من لحظات تحقُّقها الجزئي (مع الأنبياء السابقين على محمد) بأكثر مما كانت عليه مع سابقتها. ومن هنا ما لاحظه (ابن عربي) من «أنهم — أي الأنبياء — في التصاعد وسعة الاستعداد والمرتبة ينتهون إلى التعيُّن الأول ولا يبلغونه.»١٠٨ إذ الفضل هكذا، يتصاعد بينهم من الأقل فضلًا إلى الأفضل الذي لا يبلغ فضله أحد. وإذن فإنه التصاعد للفضل ينتظم النبوات الجزئية، وذلك رغم الوجود السابق، في البدء، للحقيقة المحمدية؛١٠٩ وبما يعني أن وضع هذه الحقيقة المحمدية كنقطة ابتداء للزمان والوجود بأَسْره، لم يحُل دون أن تكون مسيرة التاريخ اللاحق صعودًا من الأقل فضلًا إلى الأفضل. والحق أن ذلك يرتبط بكون الوجود المجرَّد أو الباطن للحقيقة المحمدية، يبدو في حاجة إلى الاكتمال بالوجود العيني الظاهر الذي تحققه النبوات الجزئية لسائر الأنبياء قبل محمد؛ إذ من دون هذا الاكتمال للحقيقة المحمدية بالوجود العيني الظاهر، فإنها تبقى مفهومًا فارغًا لا ينطوي على شيء. وإذ التاريخ اللاحق بأَسْره، وحتى لحظة الوجود التاريخي المتحقق للنبوة المحمدية، يمثِّل مسيرة تعيُّن الوجود المجرَّد للحقيقة المحمدية واكتماله بالوجود الظاهر، فإن كل واحدة من لحظاته كان لا بد أن تمثِّل صعودًا في الفضل من الأدنى إلى الأعلى؛ وعلى نحو يبدو فيه سياق الصعود في الفضل من الأكثر تجريدًا إلى الأكثر تعيُّنًا.
ولعل ذلك يعني أن الوجود السابق للحقيقة المحمدية في البدء، لم يفرض تصورًا للفضل من الأفضل إلى الأقل فضلًا؛ لأنه كان وجودًا فارغًا وفقيرًا بسبب ما ينطوي عليه من صورية وتجريد، ولكن بلوغ هذا الوجود المجرد ذروة الامتلاء والتعيُّن، مع التحقُّق التاريخي للنبوة المحمدية، يجعله يبلغ، فعلًا، ذروة الفضل الذي يمكن تصوُّر التاريخ اللاحق عليه تدهورًا بالنسبة إليه. وهكذا يعكس مفهوم «الحقيقة المحمدية» ضربًا من التمييز بين الوجود الميتافيزيقي السابق لمحمد من جهة، وبين الوجود التاريخي المتحقق لنبوته من جهةٍ أخرى. وحسب هذا التمييز، فإن الوجود الميتافيزيقي الأول يفرض تصورًا للفضل صعودًا من الأدنى إلى الأعلى، فيما يفرض الوجود التاريخي المتحقق لنبوته تصورًا معاكسًا للفضل ينحدر من الأعلى إلى الأدنى.١١٠
وبالرغم من أن «مفهوم الحقيقة» قد أفلح، هكذا، في وضع النبوة المحمدية كحقيقةٍ مطلقة يبدأ منها كل زمان وتاريخ، إلا أنه، رغم ذلك، لم يستطع إلا تصوُّر الفضل ابتداءً من هذه الحقيقة، بوصفه صعودًا من الأقل فضلًا إلى الأفضل. فبدا — هكذا — وكأن هذا المفهوم قد أخفَق في تجاوز مأزق التفضيل، وذلك من حيث ظل الفضل، فيما قبل تحقُّق النبوة المحمدية، صعودًا من الأدنى إلى الأعلى، وانهيارًا له بعد تحقُّقها من الأعلى إلى الأدنى؛ وبما يعني عجزَه عن تجاوز التصور الأشعري للتفضيل على العموم، وانتهاءه إلى نفس المأزق الذي آل إليه التفضيل الأشعري.١١١ والحق أن ذلك يعني أن مفهوم التفضيل يتكشَّف عن مأزقٍ بنيوي يستحيل تجاوزه أبدًا.
وبالرغم من هذا المأزق الذي آل إليه السعي إلى وضع النبوة كلحظةٍ مركزية يبدأ منها التاريخ مسيرة انهياره وتدهوره، فإن إطار هذه اللحظة المركزية قد راح يتسع، عند الأشاعرة، لينطوي على حقبة الخلافة الراشدة أيضًا. ولقد كان ذلك لازمًا، بالطبع؛ لأن التفضيل بأسْره قد انبثق من التفكير في هذه الحقبة تحديدًا؛ بل إنه كان مجرد إسقاطٍ مثاليٍّ متأخر راح يقرأ الأشاعرة من خلاله وقائع أحداث هذه الحقبة بالذات.١١٢ وإذ راح الأشاعرة، فيما لاح آنفًا، يؤسسون مركزية عصر النبوة على كونه عصر «الوحدة» الذي لا ينطوي على أي اختلاف، فإنهم راحوا — وقد أدركوا الاختلاف جليًّا، وإلى حد الفتنة، في هذه الحقبة١١٣ — يتأوَّلون كل ضروب الاختلاف فيها بوصفها ضروبًا من الاجتهاد. وهكذا صار (الأشعري) إلى أن «ما جرى بين علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم، فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعليٌّ الإمام، وكلهم من أهل الاجتهاد، وقد شهد لهم النبي بالجنة والشهادة، فدَل أنهم كانوا على حقٍّ في اجتهادهم، وكذلك ما جری بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما كان على تأويل واجتهاد.»١١٤ ويتابع (ابن خلدون) بأن: «المجتهدون إذا اختلفوا، فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحدٌ من الطرفَين، ومن لم يصادفه مخطئ، فإن جهته لا تتعيَّن بإجماع، فيبقى الكل على احتمال الإصابة، ولا يتعيَّن المخطئ منهم، والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعًا … [ثم يردف]، هذا هو الذي ينبغي أن تُحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين،١١٥ «فهم خيار الأمة، وإذا جعلناهم عُرضةً للقدح فمن الذي يختص بالعدالة … فإياك أن تعوِّد نفسك أو لسانك التعرُّض لأحد منهم، ولا تشوِّش قلبك بالريب في شيءٍ مما وقع منهم، والتمِس لهم مذاهبَ الحق وطُرقَه ما استطعت، فهم أولى الناس بذلك، وما اختلفوا إلا عن بيِّنة.»١١٦ ذلك أن «كل الصحابة أئمةٌ مأمونون غير متَّهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم، وتعبَّدنا بتوقيرهم وموالاتهم والتبرِّي من كل مَن ينقُص أحدًا منهم.»١١٧ وهكذا، من نهي «ابن خلدون» عن التعرض للصحابة، وتأكيد «الأشعري» على التعبُّد بتوقيرهم، راح الأشاعرة يكرِّسون مركزية حقبة الخلافة وعصر الصحابة أيضًا. وفي كل الأحوال فإن مركزية اللحظة (النبوة أو الخلافة) تنبني على قراءتها، لا من خلال تاريخها، بل عَبْر إسقاط التصوُّرات المثالية المتخيَّلة عليها.
يبدو — إذن — أن المركزية في هذه اللحظة، إنما تتأسَّس على السعي إلى انتزاعها من تاريخها،١١٨ عَبْر السكوت عنه أو التنكُّر له وإخفائه،١١٩ وذلك توطئة لتحويلها إلى بنيةٍ مثاليةٍ متعالية، تحوز —في تعاليها — على كل سمات الإطلاق والقداسة؛ وبما يعني أن المرء، هنا، بإزاء أحد تجليات التحوُّل الأثير، في النسَق المُهيمِن على الثقافة التراثية، من التاريخي إلى البنيوي. وبمثل ما يكون هذا التحوُّل أحد أهم آليات النسَق في تكريس هيمنته وتأبيدها على العموم، فإنه يكون، هنا، آلية هذه اللحظة في تأسيس مركزيتها وفرض هيمنتها على نحوٍ يستحيل تجاوزُه البتة؛ ذلك أنها (أعني اللحظة المراد مركزتها) حين تفك روابطها مع التاريخ، فإنها تسكُن خارجه في سكون وثبات يستعصيان على أي تطوُّر أو تجاوز؛ إذ هي تستحيل، عَبْر الانفكاك من التاريخ، من مجرد «لحظة» يبدأ منها الوعي مسيرته، متمثلًا ومستوعبًا ومتجاوزًا لها، رغم تميُّزها، إلى صور وجود جديدة، إلى «نموذج» لا يمكن أن يكون — بسبب طابعه المتعالي — لحظة ابتداء، بل واقعًا نهائيًّا مكتملًا لا يملك الوعي إلا العودة إليه تقليدًا واجترارًا، والاحتفاظ به، في اكتماله المطلق، عصيًّا على التجاوز والاستدماج في أشكالِ وجودٍ أرقى؛ ذلك أنه يبدو أن النموذج، أي نموذج، لا يمكن أن يكون، وخصوصًا حين يحقِّق مفارقته وتعاليه بالانفكاك عن التاريخ، موضوعًا لموقف «معرفي»، بل لموقف «سيكولوجي»١٢٠ بالأحرى؛ وذلك لأنه يفرض على الوعي، وبلغة التحليل النفسي، نوعًا من «التثبيت» عنده، وهو ما يجعله (أي النموذج) لا يفلِت فقط من هيمنة الوعي، بل ويفرض عليه، وربما أيضًا على «اللاوعي» بمعناه المعرفي لا النفسي بالطبع، سطوةً لا مهرب منها.

إذ المعرفة الحقة هي، في جوهرها، فعلٌ جدلي؛ أعني أنها فعلٌ يستوعب موضوعه ويتخطاه ويتجاوزه في آن معًا، وهو ما يكشف عن كونها، في العمق، فعل هيمنة. وإذ يبدو ذلك غير ممكن فيما يتعلق بالنموذج من حيث هو كذلك؛ أعني من حيث يسعى، بدوره للهيمنة، فإنه لا يمكن، بالطبع، أن يكون موضوعًا لمثل هذا الضرب من المعرفة، بل لضرب من المعرفة الاجترارية التي تقصد لا إلى تجاوز موضوعها، بل إلى ضربٍ من التماهي معه تُلغي فيه ذاتها كفعلٍ خلَّاق، ولا تكشِف إلا عن الحضور الأبوي الطاغي لموضوعها؛ وبما يعني هيمنتَه عليها بالطبع.

وهكذا يبدو وكأن النموذج ينتج شكلًا معرفيًّا سرعان ما يقوم هو، بدوره، بإنتاج هذا النموذج،١٢١ وضمن هذا الإنتاج المتبادل (من النموذج للشكل المعرفي والعكس) فإن تحرير الوعي من هيمنة هذه اللحظة النموذج — أو حتى أي نموذج — لا يكون إلا بردِّها إلى تاريخها — الذي يجتهد النسَق المهيمن في إخفائه والتنكر له — سعيًا إلى تفكيك مركزيتها وتحويلها من «نموذج» إلى مجرد لحظة بإمكان الوعي، رغم تميُّزها، أن يتجاوزها، لا باستبعادها كليًّا بالطبع، بل باستيعابها ضمن أشكالٍ للوجود أكثر تطورًا؛ وأعني أنه لا يكون إلا بإنتاج نوعٍ من المعرفة الحقَّة بها، بدل أن تكون — كما هي في وضعها الراهن — موضوعًا لتثبيتٍ نفسيٍّ مرضي. وإذن فالأمر، هنا، لا يتعلق بنفي اللحظة المركزية، أو حتى دحض تميُّزها، بل يتعلق فقط بإنتاج معرفةٍ بها تُغايِر كيفية الإنتاج المعرفي السائد لها، وخصوصًا أنه قد آل، لا إلى مجرد غُربة الوعي، بل وغربة التاريخ أيضًا.
ذلك أن «نمذجة» اللحظة، أي لحظة، وبمعنى تصورها من طبيعةٍ مغايرة للتاريخ ومفارقة له، يفرض على كل التاريخ اللاحق أن يكون، لا امتدادًا، بل سقوطًا. إذ تبدو اللحظة، حين تصير نموذجًا، غريبةً عن التاريخ ولا تنتمي إليه، وذلك ما يجعل التاريخ، بدوره، غريبًا عنها ولا ينتمي إليها. وإذ يبدو السبيل إلى قهر غُربة التاريخ وعدم انتمائه إلى هذه اللحظة، ماثلًا فقط في السعي إلى التماهي أو التوحُّد معها، فإن ذلك يكشف عن مفارقة تاريخٍ يسعى بنفسه إلى أن يكون لاتاريخًا. ذلك أن اللحظة المتعالية هي التي تتعالى بالتاريخ — إذ يسعى إلى التماهي معها — إلى أن يصبح لاتاريخيًّا مثلها، دون أن يكون هو نفسُه قادرًا على استيعابها ضمن حدوده الخاصة؛ وأعني أنها تنطوي عليه في جَوفِها دون أن يكون هو — بالمثل — قادرًا على احتوائها في جوفه. والحق أن ذلك يرتبط بأن التاريخ — في سعيه إلى التماهي في هذه اللحظة — النموذج، لا يعرف إلا كيفيةً واحدة في إنتاجها معرفيًّا، هي التكرار والاجترار؛ وهي «معرفة» لا تكشف إلا عن الحضور الطاغي لموضوعها، (وهو هنا هذه اللحظة النموذج) وبما يسلب التاريخ هويته، ولا يبقي إلا الهوية اللاتاريخية الخاصة بهذه اللحظة النموذج. ولعل ذلك هو مأزق أي تصور لتاريخ يتخذ نقطة ابتدائه (أو بالأحرى سقوطه) من خارجه؛ أعني أنه يبقى محكومًا بأن يكون: إما سقوطًا أو لاتاريخًا. وهذا الخيار، أمام التاريخ، بين أن يكون سقوطًا أو لاتاريخًا، يأتي من أن تجاوزه لتدهوره وسقوطه يبدو مشروطًا بنفيه لذاته على نحوٍ جوهري. ومن هنا فإن التاريخ اللاحق للحظة النبوة والخلافة كان لا بد أن يجمع بين كونه سقوطًا ولاتاريخًا؛ وذلك من حيث أن ابتداءه من وضع النبوة والخلافة كنماذج متعالية ومن طبيعة لاتاريخية،١٢٢ راح يفرض عليه إما السقوط والتدهور، وإما السعي إلى تجنبهما عبر التماهي مع نماذج من خارجه. إنه إذن تاريخ محكوم بالانهيار والتدهور، ولا سبيل أمامه إلى تجاوزهما إلا بأن يكون لاتاريخًا.١٢٣
واللافت حقًّا أن هذا التصور للتاريخ سقوطًا من اللحظة النموذج خارجه، قد استحال إلى نمط للتأريخ الخاص بكل حقبة أو دولة، وذلك في التاريخ اللاحق للنبوة بأَسْره؛ وبما يعني انطواء كل حقبةٍ لاحقة للنبوة على لحظةٍ نموذجية،١٢٤ يبدأ منها التاريخُ الخاصُّ بها انهيارَه الذي يتزايد مع كل ابتعادٍ عنها بالطبع، هكذا يظهر الأمر صريحًا عند ابن خلدون الذي لم يفعل إلا أن قرأ التاريخَ الخاصَّ بكلٍّ من الدولتَين الأموية والعباسية بحسب هذا النمط لا غير.١٢٥
وبالرغم من أن الأمر يقتضي اختبارًا تطبيقيًّا بالطبع،١٢٦ إلا أنه يمكن الزعم بأن هذا «النمط» للتأريخ قد وجَّه الكتابات التاريخية لجل المؤرخين المسلمين، وخصوصًا أولئك الذين طواهم النسَق الأشعري، ولو دون وعيٍ منهم، في جوفه.١٢٧ وهكذا يبدو وكأن ثمَّة داخل التاريخ العام اللاحق للنبوة، تواريخَ جزئيةً متمايزة (من دون أن يُلغي تمايُزها كونُها مجرد لحظات يحقِّق عَبْرها التاريخُ العام قصدَه)، ينطوي كل واحدٍ منها على لحظته النموذجية الخاصة به بالطبع. لكن هذه اللحظات النموذجية الخاصة بكل حِقَب التاريخ اللاحق للنبوة تمثِّل، هي نفسها — وبسببِ ما تنطوي عليه من جزئية — ضربًا من الانهيار والتدهور بالنسبة للحظة النبوة؛ التي هي النموذج الكلي الأعلى لكل التاريخ اللاحق. بل إنه يبدو وكأن هذه اللحظات النموذجية الجزئية لا تفلِت، بدورها، من هيمنة النمط الشامل الذي ينتظم حركة التاريخ اللاحق للنبوة بأَسْره؛ وأعني أن كل واحدةٍ من هذه اللحظات الجزئية تمثِّل انهيارًا وتدهورًا بالنسبة لتلك السابقة عليها.
والحق أن ذلك يكشف عن كون التاريخ — حسب الأشاعرة — أعجز من أن يحقِّق تماهيَه مع اللحظة-النموذج خارجه؛ وأعني بها لحظة النبوة التي هي من طبيعةٍ كلية. إنه لا يعرف، وفقط، إلا نماذجَ جزئيةً خاصة يمثِّل اللاحق منها سقوطًا من السابق؛١٢٨ وبما يعني أن التاريخ لا يعرف، حتى مع هذه النماذج الجزئية، إلا السقوط والتدهور الذي يتزايد بمقدار ابتعاده عن لحظة النبوة. واللافت أن فاعلية هذا النمط (نموذج/تدهور) لم تقف عند حد التأسيس المعرفي للكتابة التاريخية فقط، بل تعدَّته إلى التأسيس لكافة ضروب الإبداع المعرفي داخل الثقافة.١٢٩ ومن هنا يمكن فهم تحوُّل هذا النمط — في المؤلفات المتأخرة خاصة — إلى أصل من أصول الدين الذي ينبغي الاعتقاد فيه؛ إذ صار «مما يجب اعتقاده أن قَرنه [المقصود قَرن النبي بالطبع] أفضل القرون، ثم القرن الذي بعده.»١٣٠ وكذا وجب الاعتقاد، على العموم، في أنه «ما من يومٍ إلا والذي بعدَه شرٌّ منه، وإنما يُسرَعُ بخياركم»،١٣١ وبهذا التحوُّل راح هذا «النمط» يُمارِس، في محيط الثقافة، هيمنةً لا مهربَ منها.
بل إنه بدا أيضًا، أن هذه الهيمنة هي مما يستحيل تجاوزه؛ حيث الأشاعرة لم يكتَفوا فيما يبدو، بتصوُّر النموذج، الذي يبدأ منه التدهوُر، مطلقًا خارج سياق تاريخه، بل راحوا يضيفون إليه التشخيص أيضًا؛١٣٢ أعني تصوُّره مشخَّصًا؛ ذلك أن ما صار واجبًا اعتقاده من أن قَرْنَ النبي هو أفضلُ القرون لم يصبح اعتقادًا لانطوائه على قيمةٍ ذات طابعٍ موضوعي، وبحيث يمكن استعادتها على نحوٍ ما،١٣٣ بل يرتبط بحضور «شخصي» للنبي، وهو ما يستحيل استعادته على أي نحو. والحق أن ذلك يعني أن حضور النبي «الشخصي»، وليس الحضور «الموضوعي» للقيمة التي تنطوي عليها نبوَّته، هو أساسُ الفضل ومصدره؛ وهو ما يئول في المقابل إلى ارتباط التدهوُر، لا بغياب القيمة، بل بغياب الشخص، وبما يكشف عن استحالة رفعه لتوقُّفه على شرط الحضور الشخصي للنبي.١٣٤
وإذ الفضل هكذا، لا نتاج تمثُّل «القيمة»، بل نتاج مجرد الصحبة والملازمة أو حتى مجرد اللقاء والرؤية لشخص النبي، فإن مراتب الفضل كان لا بد أن تتحدد تبعًا لذلك بالطبع؛ حتى لقد راح البعض يرتِّب على ذلك أفضلية نساء النبي على سائر صحابته، وذلك لما «لهن من الاختصاص في الصحبة، ووكيد الملازمة له عليه السلام، ولطيف المنزلة عنده عليه السلام، وبالقرب منه والحظوة لديه، ما ليس لأحد من الصحابة رضي الله عنهم، فهن أعلى درجةً في الصحبة من جميع الصحابة، ثم فضَلن سائر الصحابة بحق زائد، وهو حق الأمومية [للمؤمنين] الواجب لهن كلِّهن بنص القرآن.»١٣٥
وحتى رغم أفضلية الصحابة، على العموم، فإن ثمَّة بينهم من هو الأفضل من الآخر بالطبع؛ وذلك باعتبار سبق بعضهم وتقدُّمه في الصحبة على البعض الآخر، ومن هنا التعيين الأشعري لمراتب الفضل بين الصحابة على نحوٍ يكون فيه «أعلاهم رتبة «هم» السابقون في الإسلام [والأسبق في الصحبة بالتالي]، بينما آخرهم قوم رأَوا [مجرد رؤية] رسول الله فحسب.»١٣٦ وتتفاوت مراتب الصحابة، بالطبع، فيما بين هؤلاء «الأسبق في الصحبة»، وأولئك «الذين حازوا مجرد الرؤية»، بلوغًا لأولئك الذين «أدركوا الجاهلية والإسلام [أي أدركوا زمان النبي كله]، ولم يُرزقوا رؤية رسول الله … وهؤلاء عدادهم في التابعين.»١٣٧ وإذ يبدو هؤلاء ضمن الطبقة الأولى من التابعين، فإنه يبدو وكأن مراتب الفضل بين التابعين تتحدَّد ابتداءً من الحضور الشخصي للنبي أيضًا، وذلك من حيث يلحق بهم أيضًا «قوم وُلدوا في زمان النبي ولم يسمَعوا منه.»١٣٨ لكنه إذ يلحق بهذه الطبقة أيضًا «من أدرك العشرة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة، أو أدرك أكثرهم»،١٣٩ فإنه يبدو وكأن الفصل بين التابعين يتعيَّن أيضًا تبعًا لضرب من الحضور الشخصي غير المباشر للنبي؛ وأعني من خلال أولئك الذين كانوا أسبق في الصحبة — وبالتالي أعلى في درجتها — من غيرهم. ولا بد بالطبع من أن تتباين درجة هذا الحضور الشخصي غير المباشر للنبي بدوره؛ وأعني فيما بين هؤلاء الذين هم الأعلى درجةً في الصحبة، وأولئك الأقل درجةً فيها.١٤٠ وهكذا بلوغًا إلى تابعي التابعين الذين يتلاشى بعدهم الحضور الشخصي للنبي، إنْ على نحوٍ مباشر أو غيرِ مباشر، فيغيب الفضل، ولا يكون ثمَّة إلا التدهور.
ولعل من أخطر ما آل إليه هذا الحضور الشخصي للنبي في تعيين مراتب الصحابة والتابعين، أنه راح يفرض تصورًا «للفعل»، لا يستمد فيه قيمته في ذاته، بل من مجرد إضافته إلى عَرَضٍ خارجي؛ إذ الفعل — تبعًا لذلك — لا يكون من درجةٍ واحدة في الفضل تفرضُها طبيعة ذاته، بل تتباين درجته حسبما يُفرَض عليه من الخارج؛ وأعني أن كونَه الأفضل أو الأقل فضلًا هو نتاجٌ عارضٌ لإضافة تلحقه من الخارج، ومن دون أن يكون لطبيعته الذاتية أيُّ تأثير في ذلك. وتبعًا لذلك فإن «فضل من عمل في المكان الفاضل «يفوق فضل» غيره ممن عمل في غير ذلك المكان [الفاضل]، وإن تساوى العملان، [وكذا فإن] سائر أعمال البر من «النبي» أو معه، فقليلٌ من ذلك أفضلُ من كثير الأعمال بعده، [وهكذا إلى حد القطع بأن] كل عمل عملوه [أي الصحابة] بأنفسهم بعد موت النبي ، لا يوازي شيئًا من البِر عملَه ذلك الصاحب بنفسِه مع النبي ١٤١ وهكذا تتوقَّف درجة الفعل في الفضل على حضور النبي (ولو بوساطة المكان) أيضًا؛ وبما يعني أن القيمة مضافةٌ إليه من الخارج. والحق أن هذا التصور للفعل، لا ينطوي على أي قيمةٍ باطنية، بل تُضاف إليه دومًا من خارجه، هو ما يؤسِّس بناء التاريخ الأشعري بأَسْره. ولعل ذلك يتسِق مع تصورهم للفعل عمومًا — وفي الأخلاق خاصة — يفتقر إلى تقوُّم ذاتي، حيث الافتقار إلى التقوُّم الذاتي هو ما يميِّز العالم الذي يفكر به الأشاعرة، وبكل ما يتضمَّنه من عناصر (الطبيعة والإنسان والتاريخ).
والحقُّ أن تصوُّر «الفعل» — ضمن سياق التفضيل — يستمد قيمته ومعناه، لا من ذاته، بل من مجرد إضافته إلى عرض خارجي، يجعل من التاريخ (المضمر في التفضيل) أحد وجوه الأخلاق الأشعرية؛ وذلك من حيث إنه الحقل المؤسس لتصور الفعل هكذا، هو حقل الأخلاق أصلًا.١٤٢ وضمن سياق الأخلاق الأشعرية، فإن الفعل لا ينطوي في ذاته، على أي قيمةٍ موضوعيةٍ باطنة، تبرِّر أخلاقيته، أو حُسنه أو قُبحه؛ ولهذا فإنه، وبما هو فعل، يبدو — حسب الأشاعرة — من طبيعةٍ لا أخلاقية؛ لا بمعنى تنافيه مع الأخلاق، بل بمعنى أنه خارج نطاق التناول الأخلاقي، وذلك من حيث لا ينطوي على أي مقوِّم لحكمٍ أخلاقي أو تقويم.١٤٣ ولقد ترتب على هذا التصوُّر للفعل، خلوًا من أي مقوِّم ذاتيٍّ يبرِّر أخلاقيته، أن منع الأشاعرة «أشدَّ المنع من أن يكون في العقل بمجرَّده طريقٌ إلى العلم بقُبحِ فعلٍ أو حُسنه.»١٤٤ إذ لا سبيل للعقل في إنتاج معارفه، إلا بإدراك ما ينطويه موضوعه في باطنه، بينما الفعل (وهو هنا موضوعه) لا ينطوي في باطنه على أي قيمةٍ موضوعيةٍ يُدرِكها العقل؛ ولهذا كان لا بد أن يجعل الأشاعرة تقريرَ حُسن الفعل أو قُبحه من موارد الشرع، لا العقل؛ وبما يعني أن الأحكام الأخلاقية (أو التحسين والتقبيح) — هي كالأعراض التي تلحق بالجواهر في سياق الأنطولوجيا الأشعرية١٤٥ — مجرد لواحقَ تلحقُ بالأفعال بدورها، وتُضاف إليها من الخارج؛ وبمعنى أنها ليست متضمَّنةً موضوعيًّا فيها. وليس من شك في أن هذه الإضافة للقيمة على الفعل، تكون من الله، ومن هنا فإنه إذا كان الله هو الذي يُلحق الأعراض بالجواهر، في سياق الأنطولوجيا، ويؤلِّف بينها، فإن الأحكام (أو القيم)، بدورها، لا تثبُت للأفعال إلا بالشرع (من الله).١٤٦ ولهذا فإنه، وكما أن علاقة الأعراض بالجواهر كانت — حسب الأشاعرة — خارجية وطارئة، فإن علاقة الأحكام الأخلاقية بالأفعال لا بد أن تكون، بدورها خارجية وطارئة، وذلك لكي يكون في مقدور الله، إن أراد بالطبع، أن يُقبِّح ما حسَّن أو يُحسِّن ما قبَّح؛ وبما يعني أنه حتى بعد تحسين فعلٍ ما أو تقبيحه من الله، فإن هذا الحسن أو القبح، لا يتحول إلى قيمةٍ موضوعيةٍ ينطوي عليها الفعل، بل يبقى مجرد إضافةٍ خارجيةٍ وطارئة. وإذ الأخلاق، هكذا، لا تجد ما يؤسِّسها إلا في «ورود القول المبيِّن [لها] عن مالك الأعيان»،١٤٧ وليس في ارتباطها الحميم بعالَم الإنسان، فإنها — بذلك — تتكشف عن خواء الوجود الإنساني وضآلة شأنه؛ لأنها — وفي كل مراحلها — لا تعرف إلا أن تُصادِر «الإنسان» لحساب «مالك الأعيان». وليس من شك في أن تاريخًا لا يجد ما يؤسِّسه إلا في تصوُّر الفعل كما ينبثق في مجال هذه الأخلاق، لا يمكن أن يتكشَّف عن شيءٍ مغايرٍ لما تتكشَّف عنه هذه الأخلاق.
إذ الحق أن بنية الفعل التاريخي، لا تكاد البتة أن تتميَّز عن بنية الفعل الأخلاقي؛ وذلك من حيث إنه لا ينطوي مثلُه على ما يتقوَّم به ذاتيًّا؛ وأعني أنه، ضمن سياق التفضيل، مثلًا، لا ينطوي على ما يجعله الأفضل أو الأقل فضلًا، بل الوصف له (بالأفضل أو الأقل فضلًا)، يبدو مجرد إضافةٍ تلحقُ به من خارجه.١٤٨ وإذ يبدو الفعل هكذا، خلوًا من أي مقوِّم ذاتي يبرِّر أفضليَّته أو عدمها، فإنه يمكن أن يُصار من ذلك إلى أن الأشاعرة يمنعون «أشد المنع أن يكون في العقل بمجرده طريق إلى العلم بأفضلية فعلٍ على آخر، بل وأفضلية شخصٍ على آخر؛ ولهذا فإن الفضل لا يُعرف إلا ببرهانٍ مسموعٍ من الله تعالى في القرآن، أو من كلام رسول الله.»١٤٩ وهو ما يؤكِّد على أن أحكام التفضيل — هي كالأعراض في سياق الأنطولوجيا، والتحسين والتقبيح في سياق الأخلاق — مجرد لواحق تلحَق بالأفعال والأحداث والأشخاص من الخارج. وهكذا فإنه — وكما كانت الأحكام — في سياق الأخلاق لا تثبُت، على قول الباقلاني، إلا بالشرع من الله، فإن أحكام التفضيل راحت بدَورها، لا تثبت إلا «بالوضع من الله.»١٥٠
وإذ يبدو التوازي شاملًا، على هذا النحو، بين الأخلاق والتاريخ؛ أعني على مستوى «بناء الفعل» (إذ هو في الحقلَين خاوٍ لا يتقوَّم بذاته)، وكذا على مستوى «مصدر القيمة» (إذ هي في الحقلَين من الشرع أو الوضع من الله)، فإنه يبدو وكأن التاريخ، حسب الأشاعرة، هو أحد أشكال الأخلاق لا غير.١٥١ ولعله يستحيل، بسبب هذا الجوهر الأخلاقي للتاريخ، تصوُّره عمليةً خلَّاقة، تتسع لحركة الإنسان في العالم، وتنطوي في جوفها على قوانينها الباطنية الخاصة. ويرتبط ذلك بأنه يصبح عمليةَ مقايسةٍ بسيطةٍ للوضع الإنساني في العالم على نموذجٍ أوليٍّ مطلَق يقوم خارجه؛ وهي — حتى — مقايسةٌ عقيمة لأنها لا تئول أبدًا إلا إلى إدانة هذا الوضع الإنساني في العالم؛ لأنها لا ترى فيه إلا اغترابًا دائمًا عن نموذج الكمال المطلق خارجه. وإذ التاريخ هكذا، هو ضربٌ من القياس لا يُدرك في الواقع (المُقاس) قيمةَ النموذج، الأصل (المُقاس عليه) وفضلَه، فإن ذلك يعني أن مساهمة الفقه في بناء هذا التاريخ، تتجاوز ما سبقَت الإشارة إليه من انبناء الفضل على الأدلة الشرعية الأربعة التي تؤسِّس للفقه، إلى أن يهبه الشكل١٥٢ الذي يتشكَّل تبعًا له تصوُّر التاريخ؛ أعني شكل المقايسة الفقهية.
ولعله يلزم التنويه، هنا، بأن هذا الجوهر الأخلاقي للتاريخ الأشعري (والذي آل به إلى أن يغدو مجرد مقايسة فقهية)،١٥٣ تنسَد فيها الآفاق أمامه؛ من حيث لا يصبح (أي التاريخ) صيرورةً خلَّاقةً غيرَ مشروطة إلا بقوانينها الخاصة، بل صيرورة تدهورٍ مشروطة بنموذجٍ متحققٍ (سلفًا)، إنما يُستفاد — وكما سبقت الإشارة — من ذلك الإلحاح الأشعري على كون الموقف الفاضل (أو نموذج الكمال)، ليس التمثُّل، بل التعظيم؛ وذلك من حيث إن «كل فاضلٍ فمأمورٌ [فقط] بتعظيمه»،١٥٤ وليس تمثُّله. إذ بينما «التمثُّل» موقف معرفي ينطوي على مجاوزة لموضوعه بعد احتوائه له (ينبثق التاريخ منها)، فإن «التعظيم» هو موقفٌ أخلاقيٌّ لا يرى في أي مجاوزة لموضوعه، إلا ضربًا من السقوط يستحق الإدانة، وهو ما يجعل غايته مجرد الاستغراق في موضوعه (الذي هو أصلًا نموذج) والثبات عنده؛ الأمر الذي يتناقض، لا شك، والجوهر الحق للتاريخ. ولعله يبدو لذلك، أن هذا الموقف الأخلاقي (المنبثق عن تعظيم النموذج، وليس تمثُّله) كان أحد آليات النسَق الأشعري في تحويل «نموذج الفضل» إلى مطلقٍ يستحيل تجاوزه؛ وذلك من حيث أحاله إلى موضوعٍ للأخلاق، وليس المعرفة. والملاحَظ أنه بينما يتكشَّف هذا الموقف الأخلاقي عن ضربٍ من التعالي بنموذج الفضل إلى حدِّ الإطلاق والمفارقة، فإنه — وفيما يتعلق بالتاريخ اللاحق عليه — لا يتكشَّف إلا عن ضربٍ من الإدانة الدائمة.

٣

ولعل هذا الانشغال بإدانة التاريخ اللاحق على اللحظة-النموذج، قد فرض على النسق ضرورة تجاوز «التفضيل» إلى ما يتفق وانشغاله الراهن بالإدانة والتحقير، فإذ التفضيل، وفيما سبق القول، مجرد إسقاطٍ متأخر تُقرأ من خلاله أحداثُ حقبتَي النبوة والخلافة، قَصْد نمذجتها وتحويلها إلى لحظةٍ متعاليةٍ مطلقة، ومن طبيعةٍ لا تاريخية، فإنه لا يصلُح أبدًا لقراءة أحداث الانهيار والابتعاد المتزايد عن النموذج؛ وذلك من حيث إن كلًّا منهما (أعني كلًّا؛ اللحظة- النموذج، ولحظة الانهيار اللاحقة) تبدو من طبيعةٍ مغايرةٍ للأخرى؛ إذ الأمر — فيما يتعلق بالأولى — ينبني على التعالي والصعود، بينما هو — فيما يتعلق بالأخرى — ينبني على التدهور والسقوط. وإذ السقوط، وبدلالة سقوط «آدم» الذي يؤسِّس لكل سقوطٍ لاحق، يرتبط بما يعني العصيان والمخالفة، فإنه يبدو وكأن لا شيء سوى ذلك — أي التكفير على نحوٍ صريح — هو يصلُح إطارًا يُقرأ من خلاله تاريخ الانهيار والتدهور.

وهكذا فإن انشطار التاريخ الأشعري بين لحظة تعالٍ وصعود، ولحظات تدهور وسقوط قد فرض منطقًا «للتفضيل» ينحصر تداوله ضمن سياق اللحظة-النموذج، في مقابل منطق «للتكفير» يستغرق كل تاريخ الانهيار اللاحق عليها.١٥٥ ولقد اقتضى هذا التباين بين «منطقَين» تباينًا؛ لا في الآلية المنتجة لكلٍّ منهما فقط، بل وفي جملة المفردات المتداوَلة في فضاء الواحد منهما أيضًا؛ فإذ «التفضيل» ينبني على «وجوب الكف [فيما يتعلق بلحظة الفضل الأولى] عن ذكر الاختلاف والسكوت عنه، بل وإنكاره حسب البعض»،١٥٦ فإن التكفير ينبني على الآلية النقيض؛ أعني آلية الكشف والفضح، أو «بيان الحديث المأثور في افتراق الأمة … وبيان فضائح كل فرقة»،١٥٧ وليس السكوت عنها.
وإذ الحديث يجري في سياق اللحظة — النموذج، بمفردات الفضل والاجتهاد وحسن الخلال، فإنه لا يعرف، فيما يتعلق بالتاريخ اللاحق، إلا الفضائح والأهواء وفرق الضلال. وهكذا ينطوي التاريخ في جوفه على ضربٍ من الثنائية التي يشقى بها أبدًا، وذلك من حيث يبدو أنْ لا سبيلَ إلى تجاوزها؛ حيث الشكل الأوحد للعلاقة الممكنة — ضمن هذه الثنائية — هو النبذُ من الأفضل للأقل فضلًا، وعلى نحوٍ لا يكون فيه لهذا الأخير (الأقل فضلًا) من معنًى إلا عَبْر نفي نفسه، سعيًا إلى التوحُّد مع الأفضل بالطبع. وإذ النفي، هكذا، هو جوهر العلاقة بين طرفَي الثنائية التي ينطوي عليها التاريخ؛ وبما يعني أنه لا سبيل إلى التقائهما أبدًا، فإنه يبدو وكأن التاريخ الأشعري يستحيل إلى تاريخَين يُضادُّ الواحد منهما الآخر بالكلية، وكذا يسعى فيه أحدهما (وهو التاريخ النموذجي بالطبع) إلى نفي الآخر.١٥٨
والحق أن التضادَّ بين التاريخَين (أو اللحظة-النموذج من جهة، ولحظات الانهيار التي تتلوها من جهةٍ أخرى) يتجاوز مجرد الآلية المنتجة لكلٍّ منهما (أعني السكوت في مقابل الفضح)، وكذا مجمل المفردات المتداوَلة في فضاء كلٍّ منهما، إلى «المفهوم» المؤسِّس في العمق لكلٍّ منهما؛ إذ «الوحدة» أو الاتفاق على «منهاج واحد، أو طريق واحدة دون خلافٍ ظاهر»،١٥٩ هي ما يؤسِّس بناء اللحظة-النموذج؛ ومن هنا الإلحاح على نفي أي حضورٍ للخلاف فيها وإنكاره بالكلية عنها، أو على الأقل تأويله بوصفه ضربًا من الاجتهاد «يبقَى الكل فيه على احتمال الإصابة، ولا يتعيَّن فيه المخطئ»،١٦٠ أو اعتباره جزئيًّا في الفروع، ظل المسلمون أثناءه «على كلمةٍ واحدةٍ في أبواب العدل والتوحيد والوعد والوعيد وفي سائر أصول الدين.»١٦١ وحسب البغدادي، فإن المسلمين «كانوا على هذه الجملة [أو الوحدة] في أيام أبي بكر وعمر وست سنين من خلافة عثمان.»١٦٢ فإلى هنا تقف حدود اللحظة-النموذج١٦٣ التي لم يقع فيها خلاف ينقض الوحدة، ويبدأ تاريخ الانهيار اللاحق الذي لن يجد ما يؤسِّسُه بالطبع، إلا في نقيض ما يؤسسها؛ أعني فيما «اختلفوا فيه … اختلافًا باقيًا إلى يومنا هذا»،١٦٤ لأنه يتعلق بالأصول التي يبقى الخلاف فيها موجبًا للتفسيق والتبرِّي أبدًا؛ إذ الأشاعرة، هنا، لن يسعَوا إلى تأول هذه الاختلافات بوصفها نتاج «الاجتهاد» الذي يبقَى الكل فيه على احتمال الإصابة، بل بما هي نتاج «الهوى»١٦٥ الذي لا بد أن يتعيَّن فيه المخطئ؛ وذلك من حيث إنها تبدو — آنئذٍ — أعمالًا إراديةً مقصودة تمامًا، تنتمي إلى عالم الذات وما يعتمل فيها من الجنوح إلى الهوى؛ الأمر الذي يكرِّس الجوهر الأخلاقي للتاريخ لا شك؛ حيث «الاختلاف» المؤسِّس لتاريخ التدهور يكون نتاج مجرد الانحراف الأخلاقي للذات، وليس نتاج التحقُّق الضروري لممكنات الموضوع (أعني الوحي) ذاته.

والحقُّ أن تصوُّر الاختلاف هكذا؛ أعني نتاج الانحراف الأخلاقي للذات، إنما يرتبط بتصوُّر الأشاعرة للموضوع (أو الوحي) لا ينطوي في جوفه على ما يبرِّر أي تنوُّع أو اختلاف؛ إذ الاختلاف — حسب هذا التصوُّر — يمثل تهديدًا لهوية الموضوع (الوحي) وإهدارًا لها. ولعل ذلك يرتبط بتصوُّر هذه الهوية على نحوٍ صوري مجرد؛ أعني خلوًا من «الحياة» التي تدفعُها إلى التخارُج من ذاتها لتتحقَّق في العالم، في صورٍ وأشكال وجود شتَّى، لا يمكن أن تكون تكرارًا لها (أي للهوية)، بل استيعابًا لها وارتفاعًا بها إلى آفاقٍ أرقى تُدرِك فيها نفسَها حقًّا. وهكذا يئول تصوُّر الموضوع (الوحي) خلوًا من الاختلاف، إلى اضمحلاله ومواته؛ وذلك من حيث يبدو — آنئذٍ — مجرد وحدةٍ مغلقة لا سبيل إلى الاحتفاظ بها إلا عَبْر مجرد تكرارها. والتكرار للفكرة — أي فكرة — يفترض دائمًا تحوُّلها إلى نموذجٍ فارغ لا ينطوي على أي مضمونٍ محدَّد، وينطوي — في نفس الوقت — على كل مضمون؛ الأمر الذي يعني كونها (أي الفكرة) تجريدًا خالصًا ينطوي على كل شيء ولا شيء، ويخلو — لذلك — من أي تعيُّن أو تحديد. وإذ التكرار، هكذا، يحيل الموضوع (الوحي) إلى تجريدٍ خالص، فإنه يُفقِده وجوده الحق، ويجعله مجرد وجودٍ شكلانيٍّ فارغ. والحق أن الوحي — وبحسب طبيعته الخاصة — لا يمكن أن يكون مجرد وحدةٍ مغلقةٍ لا تقبل سوى التكرار؛ ذلك أنه — وبما هو خطاب في العالم — لا يمكن إلا أن يكون مشروعًا مفتوحًا على الدوام، يسع العالم خارجه ويتسع به في آنٍ معًا، وهو ما يجعله حاضرًا، لا عَبْر مجرد التكرار، بل عَبْر التفاعل والحوار. ثم إنه — وككل خطاب — لا بد أن يقصد، وحسب بنائه، آخَر خارج ذاته، وهو ما يعني أن «الآخَر» يدخل في تركيب ماهيَّته الخاصة. وإذ الآخر، هكذا، يمثِّل جزءًا من التركيب الباطني لماهية الوحي، فإن ذلك يكشف عن كون الاختلاف هو جزءٌ من بناء تلك الماهية، وليس مفروضًا عليها من الخارج.

ومن هنا فإن الاختلاف، فيما يتعلق بالوحي، لا يمكن أن يكون مما يهدَّد ويقوَّض، بل لعله — بالأحرى — مما يعيَّن ويحدَّد؛ وأعني أنه يسمح بتحقيق الهُوية الصورية للوحي في أشكالِ وجودٍ محددة؛ فإذ الوحي ينطوي، كهويةٍ مجردة، على كل شيءٍ ولا شيء في آنٍ معًا، وذلك من حيث إنها تخلو من التحديد والتعيين، فإن الاختلاف هو ما يسمح بتعيين شيءٍ ما في مواجهة شيءٍ آخر داخل هذا الحضور لكل شيء ولا شيء؛ وأعني أنه يعيِّن شكلًا ما للوجود في مواجهة شكل، أو أشكالٍ معيَّنةٍ أخرى. وعَبْر هذا التعيين للوحي في أشكال وجود، فإن الاختلاف لا يحقِّقه فقط في العالم عَبْر الكشف عن ممكناته المضمَرة، بل ويسمح له بتجاوز ذاته على الدوام؛ لأن هذه الأشكال المحدَّدة، التي يتعيَّن فيها، سرعان ما تستنفد — بسبب ما تنطوي عليه من محدودية — طاقتها في الوجود، فيتجاوزها الوحي إلى أشكالٍ أرقى يحقق عَبْرها المزيد من الوعي بما تنطوي عليه ذاته من ممكنات، وكذا يكشف من خلالها عن نمط حضوره الفعَّال والخلَّاق في العالم.

ولعله يبدو — تبعًا لذلك — استحالة إقصاء الاختلاف عن دائرة الوحي، لأنه جزءٌ جوهري من بنائه، حتى ليئول غيابُه إلى مواته واضمحلاله؛ وهو ما يعني، بالطبع، أن الإقصاء الأشعري للاختلاف عن دائرة الوحي هو ما يهدِّد هويته، وليس العكس. ومن هنا وجوب النظر إلى هذا الإقصاء الأشعري للاختلاف عن دائرة الوحي، باعتباره مجرد قناع للسعي الجوهري إلى إقصاء التعدُّد والاختلاف من العالم؛ وأعني أنه ليس نتاج الحرص على الوحي، بل على امتلاك العالم بالأحرى؛ إذ الحق أن الاختلاف في دائرة الوحي لا يمكن البتَّة تصوُّره بمعزلٍ عن تصوُّر التعدد والاختلاف في العالم. ومن هنا فإنه إذا كان قد لاح، آنفًا، أن الاختلاف هو جزءٌ من الطبيعة الباطنية الخاصة لماهية الوحي، فإنه لا بد من التأكيد، الآن، على أنه يبقى مجرد إمكانية (وجوده بالقوة) مشروطة بحضور التعدُّد في العالم؛ وبما يعني أنه (أي الاختلاف) يكون جزءًا من بنية الوحي، لا بما هو كذلك، بل بما هو خطاب في العالم مشروطٌ بالوضع الإنساني في لحظةٍ معيَّنة.

إذ الوحي بما هو حضورٌ في المطلَق لا ينطوي أبدًا على أي اختلاف أو تعدُّد، بل يبقى مجرد وحدةٍ مغلقة لا ينفتح فيها الوحي على شيءٍ غير ذاته.١٦٦ ومن هنا فإن حضوره في العالم هو فقط ما يجعل الاختلاف جزءًا من بناء ماهيته؛ وذلك من حيث يفرض عليه هذا الحضور في العالم، ضرورة التبلوُر كخطاب، لا يقصد فقط وضعًا إنسانيًّا معينًا في لحظةٍ ما، بل ولا بد أن يتجاوزه أيضًا. وذلك من حيث يُفترض في الوحي ضرورة أن تتخطى فاعليَّته، على الدوام، حدود أي لحظةٍ ما. ولعل ذلك يعني أن تبلور الوحي كخطابٍ يتأسَّس جوهريًّا، على آليتَي الاستيعاب والتجاوز؛ وبمعنى استيعاب الوضع القائم ثم تجاوزه إلى أشكالِ وجودٍ أرقى. وإذ الاستيعاب — وكذا التجاوز — يكون دومًا في مواجهة «آخر»، فإن ذلك يعني حضورًا للآخرية، وللاختلاف بالتالي، في بناء ماهية الوحي الخاصة. والحق أن كون الاختلاف يُعَد جزءًا من بناء الوحي — لأنه في الأصل جزء من بناء العالم — إنما يؤكِّد على أن إقصاء الاختلاف من دائرة الوحي، ليس مقصودًا لذاته حسبما يعلن الأشاعرة، بل من حيث دلالته على العالم فحسب.١٦٧ وأعني أن تصوُّر الوحي وحدةً لا حضور فيها إلا لماهيته في مقابل ذاتها (ودون أي إحالة إلى «آخر» خارجها)، يدُل على تصوُّر للعالم لا مكان فيه بدوره إلا للنسَق «الأشعري» في مواجهة ذاته (ودون أي حضور لآخر يقابله أيضًا). وإذ يبدو نفي الآخر من العالم موازيًا لنفي انتمائه إلى دائرة «الوحي»، فإنه يبدو وكأن تكريس النسَق لحضوره الأوحد في العالم لن يقوم فقط على تأكيد انتمائه وحده إلى دائرة «الوحي»، بل وعلى التوحُّد معه (أي الوحي) بالأحرى؛ وبحيث يبدو التنكُّر لنسق، آنئذٍ، تنكُّرًا للوحي ذاته، وخروجًا عنه يستحق التكفير لا شك. وهكذا يبدو الجوهر العميق لإقصاء الاختلاف (عن الوحي والعالم)، ماثلًا في سعي النسَق، لا إلى فرض هيمنته على العالم فحسب، بل وإلى تأبيد هذه الهيمنة، وذلك عَبْر اعتبار الخروج عنها موازيًا — أو مرادفًا — للخروج عن الدين بالكلية.
ولعل ذلك يتبدَّى، جليًّا، في إلحاح النسَق «الأشعري» على اعتبار نفسه خطاب «أهل السنة والجماعة»، في مقابل غيره من خطابات «أهل البدع والضلالة». وبلغة البغدادي، فإنه خطاب «الدين القويم والصراط المستقيم» الذي يفارق خطابات «الأهواء المنكوسة والآراء المعكوسة.»١٦٨ ولا بد هنا، من التنويه بأن اختصاصَ النسَق بوصف «الجماعة» يبدو دالًّا تمامًا فيما يتعلق بسعيه إلى إقصاء التعدُّد والاختلاف، بل إنه يبدو وكأن مفهوم «الجماعة» قد تبلور، أصلًا، كنقيض لمفهوم «الاختلاف والتعدد» لا غير؛ وذلك من حيث يحمل معنى الإزاحة لكل ما لا ينتمي إلى إطاره الخاص؛ إذ الجماعة — أي جماعة — لا تتعيَّن إلا بتمييز نفسها في مواجهةِ آخرَ يقابلها؛ وهي إذ تتميز بأن تثبت لنفسها سماتٍ يخلو منها الآخر في مواجهتها، فإن ذلك يعني نفيَ ما يقابل هذه السمات في الآخر؛ الأمر الذي يعني أن النفي هو مضمون العلاقة بين الجماعة والآخر. وهكذا تتكامل ضروب النفي للآخر من الجماعة والعالم والوحي؛ وذلك على النحو الذي يبدو فيه وكأن نفي انتماء الآخر إلى إطار الجماعة يتوازى، ليس فقط مع نفي انتمائه إلى دائرة الوحي، بل ومع نفيه من العالم أيضًا.
وفي المقابل، فإنه يبدو وكأن الانتماء إلى كلٍّ من «الوحي والعالم» لا يمكن أن يتحقق إلا عَبْر الانخراط في تلك الجماعة ومفارقة ما عداها؛ وبحيث يبدو أن الانطواء ضمن إطار الجماعة هو انطواءٌ ضمن إطار الوحي، والانفكاك عنها هو انفكاكٌ عنه لا شك. ومن هنا فإن سعي النسق إلى اختصاص نفسه بوصف الجماعة،١٦٩ لا يمكن أن يكون — حسب المُعلَن — ناتجًا عن أن «معظم الأئمة ينتحلون مذهبهم، ويجتمعون على طريقهم، وهو الغالب على بلاد المسلمين»،١٧٠ بل هو نتاج السعي إلى الهيمنة عَبْر الإقصاء المتعمَّد لكل اختلاف وآخَرية. وإذ راح النسَق كذلك يسعى إلى الإيحاء بأن اختصاصه بوصف «الجماعة»، لم يكن من ذاته، بل من غيره، وذلك «لأن جميع الخاص والعام من أهل الفرق المختلفة [هم الذين] يُسمُّونهم أهل السنة والجماعة»،١٧١ وليسوا هم الذين يسمُّون أنفسهم هكذا، فإنه لا بد من التنويه بأن ذلك ليس إلا تمويهًا عَبْر الإيحاء بأن اختصاصه بهذا الوصف، قد جاء تعبيرًا عن «واقع»، وليس انحيازًا ﻟ «قيمة». لكنه يبدو أن ظلال القيمة لا تُفارِق أبدًا وصف الجماعة، إنْ من حيث أصله؛ حيث آثر النسَق إلا أن يردَّه إلى النبي نفسه، وإن من حيث دلالته على الفرقة الناجية حسب النبي نفسه أيضًا.١٧٢ ومن هنا؛ أعني من هذا الانحياز لقيمة، يتبلور الحضور الجوهري لمفهوم «الجماعة» في المخيال الإسلامي على العموم، وإلى الحد الذي بات معه «إنكار الإجماع» — وبما يتضمنه من دلالة مفارقة الجماعة — من الأمور المستحقَّة للتكفير حسب الأشاعرة.١٧٣

وليس من شكٍّ في أن هذا الإلحاح على «الإجماع» — أو الجماعة — يرتبط بما يتضمَّنه من دلالة «التوحُّد»، التي تجعل بالإمكان المماثلة بينه وبين لحظة الفضل الأولى، التي تصوَّر الأشاعرة — فيما سبقَت الإشارة — أنها تتأسَّس جوهريًّا على الوحدة. وإذن فإنه يمثِّل السعي إلى استعادة الوحدة الجوهرية الأولى (وحدة النبوة) السابقة على كل اختلاف؛ والذي يمثِّل — حسب التصوُّر المجرَّد للوحدة — نقيضًا لها يهدِّد وجودها ويقوِّضه، وليس عامل إثراء يقوم في باطنها بما يُضفيه عليها من تنوُّع وتعدُّد يكون باطنًا فيها لا خارجًا عنها. ومن هذا التصوُّر للاختلاف كعامل إهدار وتقويض، وليس عامل إثراء وتجديد (لوحدة الوحي الأولى)، فإنه يبقَى وحده هو الأصل المؤسِّس لكل التاريخ اللاحق للحظة الفضل والقيمة (أي لحظة الوحدة الأولى)؛ والذي لا بد أن يكون تاريخ انهيار وتدهور، وذلك بما ينطوي عليه — حسب الأشاعرة بالطبع — من إهدار وحدة الوحي الأولى وتقويضها من جهة، مع الإيغال في البعد والغربة عنها من جهةٍ أخرى. والمهم، هنا، أن هذا الانهيار والتدهور في التاريخ يبدو نتاج تصورٍ ما للاختلاف، وليس نتاج الاختلاف بما هو كذلك.

إذ الحق أن ثمَّة تصورًا للاختلاف يكون فيه جزءًا من الوحدة (يُثريها بالتنوُّع ويُغنيها بالتعدُّد)، وليس مجرد نقيضٍ لها يقوم خارجها. ولقد بدا أن الاختلاف — حسب هذا التصور — يبدو جوهريًّا بالنسبة لحضور الوحي وفاعليته في العالم؛ وذلك إلى الحد الذي يئول فيه إقصاؤه عن دائرة الوحي إلى اضمحلاله ومواته. ولعل الاختلاف هكذا؛ أعني من حيث يئول غيابه إلى اضمحلال الوحي ومواته، لا يمكن أن يكون جوهرًا لتاريخ الانهيار والتدهور الذي تصوَّره الأشاعرة مجرد نتاجٍ له لا غير، بل هو — بالأحرى — جوهر تاريخ تجدُّد الوحي ونمائه من خلال استيعابه — وليس استبعاده — لكل ضروب التعدُّد والثراء في التجربة البشرية. وحسب هذا التصوُّر للاختلاف، فإن نفيه وإقصاءه — وليس العكس — يكون هو الأصل في التدهور التاريخي؛ وذلك من حيث يئول إلى موات الوحي الذي هو مركز الحضارة. ومن هنا فإنه لا يمكن تصوُّر الإلحاح الأشعري على إقصاء الاختلاف بالكلية، بوصفه جزءًا من السعي إلى رفع «تاريخ التدهور» بقَدْر ما هو السعي إلى تكريس «تاريخ الهيمنة» عَبْر نفي الآخر واستبعاده، وليس احتوائه واستيعابه. ولعل هذه الهيمنة بالأحرى، هي الأصل المؤسِّس لتاريخ التدهور والانهيار، وذلك من حيث تئول إلى تَكلُّس الوحي وضموره. وإذ يقتضي هذا التصور لأصل التدهور في التاريخ، إعادة بناء لحظة الفضل الأولى، على نحوٍ يبدو فيه جوهرها ماثلًا في كونها لحظة ثراء وتعدُّد، وبحيث يمثِّل السعي إلى نفي الآخر منها، بداية الانهيار والتدهور، فإن ذلك يعني أن «المثل التاريخي الأعلى» — حسب هذا التصور — يبدو ماثلًا في تحقيق المزيد من «الحرية والتعدُّد» وليس «الهيمنة والتفرُّد».

والحق أن ذلك يعني أن التصور بأَسْره؛ وأعني تصوُّر التاريخ — حسب الأشاعرة — منقسمًا بين اللحظة-النموذج (وجوهرها الوحدة) من جهة، ولحظات انهيار تتلوها (يؤسِّسها الاختلاف) من جهةٍ أخرى، وتصوُّر المثل التاريخي الأعلى قائمًا — تبعًا لذلك — في النبذ الدائم للاختلاف (الذي هو علامة الانهيار) سعيًا إلى بلوغ الوحدة (التي هي علامة الفضل والقيمة)، إنما هو نتاج سعي النسَق الأشعري إلى مجرد «الهيمنة والتفرُّد» في العالم، عَبْر نفي كافة الأنساق الأخرى، وذلك على الرغم مما يعلنه النسَق دومًا من أن ذلك هو نتاجُ حرصِه على نقاء الوحي ووحدته التي تبدِّدها هذه الأنساق المنحرفة.١٧٤

وإذ يبقى الاختلاف — حسب الأشاعرة — هو ما يؤسِّس كل تاريخ الانهيار والتدهور، أو حتى التكفير، فإنه يبدو وكأن هذا التكفير يتكامل — ولكن بالتضاد — مع التفضيل الذي ينبني، في مقابل الاختلاف والتعدُّد (المؤسِّس للتكفير) على الوحدة أو التوحُّد. واللافت حقًّا أن هذا التكامل بينهما بالتضاد يكتمل، هو نفسه، بتصوُّر الاختلاف يتأسَّس على غياب الحضور الشخصي للنبي، في مقابل انبناء التوحُّد على الحضور الشخصي له بالطبع، وذلك من حيث لم يحُل هذا الحضور الشخصي للنبي دون الاختلاف بين الجماعة فحسب، بل إنه أصبح وحده الضامن لوحدة الجماعة واتفاقها على رأيٍ واحد، وذلك من خلال ما يتضمَّنه هذا الحضور للنبي من النطق عن الوحي، لا الهوى. وأما غياب الحضور الشخصي للنبي، فإنه — وحتى رغم حضوره الرمزي من خلال الكتاب والسنة — قد آل إلى الاختلاف والتنازع، بل وحتى إلى الكفر والضلال، وذلك باعتبار أن معظم النطق بعده — إلا ما ينطق به النسَق الأشعري بالطبع — لا يكون عن الوحي، بل عن الهوى. وإذ النطق عن الوحي (أساس الوحدة) هو — على هذا النحو — قرينُ الحضور الشخصي للنبي، فيما النطق عن الهوى (أصل الاختلاف) هو قرينُ غيابه الشخصي، فإن ذلك يكشف عن استحالة رفع التدهور (الذي يؤسِّسه الاختلاف)، تمامًا مثلما بدا — فيما سبق — استحالة استعادة الوحدة (أصل الفضل والقيمة)، وذلك من حيث يبقى كلاهما مشروطًا بما يتعلق بالنبي-الشخص، وليس بالقيمة الموضوعية التي تمثِّلها نبوَّته. ولعل ذلك يئول إلى أنه ليس ثمَّة عند الأشاعرة أي حضورٍ للتاريخ الحق، وذلك من حيث لا يتكشَّف هذا التاريخ (سواء تعلق بالفضل أو التدهور) عن أي بنيةٍ موضوعية.

وبالرغم من هذا التقابل، وإلى حدِّ التضاد، بين كلٍّ من التفضيل (ينبني على الوحدة)، والتكفير (ينبني على الاختلاف)، فإن ضربًا من التحليل المعرفي يئول إلى أن التكفير يتجلَّى عن نفس البنية العميقة التي يتكشَّف عنها التفضيل؛ وبما يعني أن ثابتًا بنيويًّا واحدًا ينتظمهما، رغم الاختلاف،١٧٥ وأن نظامًا معرفيًّا واحدًا هو الذي أنتجهما، رغم التباين؛ فإذ التفضيل يتكشَّف — وفيما سبق القول — عن السعي إلى نمذجة لحظة الفضل، وبحيث تستحيل إلى نموذجٍ مطلَقٍ خارج أي تاريخ، لكي يُقاس عليه أي فضلٍ لاحق في حال وجوده بالطبع، فإن التكفير، بدوره، يتكشف عن ذات السعي إلى نمذجة لحظة الكفر الأولى (كفر إبليس)، واعتبارها نموذجًا مطلقًا للكفر الذي يقع خارج التاريخ، ويُقاس عليه أيضًا كل كفرٍ لاحق. «فمن المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهةٍ وقعَت لبني آدم، فإنما وقعَت من إضلال الشيطان الرجيم [إبليس] ووساوسه، ونشأَت من شبهاته، وإذا كانت الشبهات [الخاصة بإبليس] محصورةً في سبع، عادت كبار البدع والضلالات [اللاحقة] إلى سبع، ولا يجوز أن تعدُوَ شبهات فرق الزيغ والكفر والضلال هذه الشبهات، وإن اختلفَت العبارات وتباينَت الطرق، فإنها [أي شبهات إبليس] بالنسبة إلى أنواع الضلالات (الخاصة بالفرق) كالبذور»؛١٧٦ أو أنها — وبتعبير الشهرستاني نفسه — هي المصدر أو الجوهَر، وأما ضلالات الفرق فإنها المظهَر.
وإذ يبدو أن كل كفرٍ لاحق، هو مجرد تكرار لكفرٍ أوليٍّ سابق،١٧٧ فإن ذلك يئول إلى أن التاريخ الأشعري بأَسْره يبقى مجرد تكرارٍ شائه للنماذج المطلقة خارجه، وذلك من حيث إن تصوُّر الكفر هكذا، يرتبط بنيويًّا بتصوُّر أن كل فضلٍ لاحق (للنبوة) لا بد أن يكون، بدوره، مجرد تكرارٍ للفضلِ الأوليِّ السابق؛ وبما يعني أن التاريخ لا يتكشَّف (فضلًا أو كفرًا) عن شيءٍ يغاير ما كان موجودًا قبلًا البتة. واللافتُ أيضًا أن حركة الكفر من «الكفر النموذج-المطلق» إلى كل كفرٍ لاحق، تبدو حركة انهيار وتدهور، وذلك من حيث يبدو هذا الكفر اللاحق مجرد مسخٍ أو تكرارٍ شائه (تشوُّه الفرع بالنسبة للأصل) للكفر الأصلي السابق. وهكذا يبدو الانهيار والتدهور ثابتًا بنيويًّا ينتظم، لا حركة الفضل فقط، بل وحركة الكفر كذلك؛ وهو ما يعني أن التاريخ الأشعري، رغم ثنائية الفضل والكفر، لا يعرف البتة شيئًا إلا محض التدهوُر والانهيار.

ولعل هذه الوحدة البنيوية (الثاوية خلف كلٍّ من التفضيل والتكفير) تتبدَّى على نحوٍ لافت من ملاحظة أنه إذا كان السعي إلى نمذجة «لحظة الفضل» قد آل إلى أن تصبح موضوعًا لمجرد التعظيم «الأخلاقي»، وليس التمثُّل «المعرفي»، فإن السعي إلى نمذجة «لحظة الكفر» قد آل بها أيضًا إلى أن تصبح موضوعًا لمجرد الإدانة أو التحقير «الأخلاقي» وليس التمثُّل «المعرفي»؛ وأعني أن السعي إلى نمذجتهما قد آل إلى أن يكون الموقف منهما معًا من طبيعةٍ أخلاقية، لا معرفية، وذلك رغم أن هذه «الأخلاقية» تتبدَّى تارةً عَبْر التعظيم، وتارةً أخرى عَبْر التحقير.

وإذ الفعل المعرفي يقوم على تجاوُزٍ لموضوعه، بعد احتوائه واستيعابه بالطبع، فإن الموقف الأخلاقي لا ينطوي إلا على مجرد الاستغراق في موضوعه، لا تجاوزه؛ الأمر الذي يعني أن الموقف الأخلاقي (سواء من لحظة الفضل أو الكفر) لا يفعل إلا أن يجعلهما مجرد موضوعَين للتكرار، وليس التجاوز. ومن هنا فإنه إذا كان قد بدا فعلًا أن الوعي الأشعري لم يعرف، فيما يتعلق بلحظة الفضل (أو عصر النبوة)، إلا مجرد التكرار، لا التجاوُز أو حتى الحوار، فإنه — وفيما يتعلق بالكفر أيضًا — لم يفعل إلا أن تصوَّر كل كفرٍ لاحق بما هو مجرد تكرار، لا يجاوز نموذج الكفر الأصلي السابق.١٧٨
وإذا كان التكرار — فيما سبق القول — قد آل فيما يتعلق بلحظة الفضل (أو عصر النبوة) إلى جمود الوحي واضمحلاله؛ وذلك من حيث يعكس هذا التكرار عجزًا عن الوعي بالروح الحقَّة للوحي، وبثراء الممكنات التي تنطوي عليها ذاته، فإنه قد آل أيضًا — فيما يتعلق بفرق الضلال (التي تجسِّد نموذج الضلال الأصلي السابق) — إلى العجز عن إنتاج أي معرفةٍ حقَّة بها؛ فهو إذ راح يرى في الفِرق-الخصوم مجرد صورٍ لضلالٍ سابق،١٧٩ فإنه كان يكشف عن انشغاله، لا بالمعرفة الحقة بها، بل بما يدعم إمكان المماثلة١٨٠ التي يُقيمها بين ضلال هذه الفرق، وبين الضلال الأصلي السابق. وأعني أن الوعي، هنا، لم يكن يتجه إلى قراءة النسَق الخاص بكل فرقة وإدراكه من داخله، بل يتجه إلى الرصد الخارجي المحض لكل ما يجعل المماثلة ممكنةً بين فرقةٍ ما، وبين نموذج الضلال السابق؛ إذ القصد لم يكن أبدًا إنتاج علمٍ منضبط بالفرق، بل السعي إلى التماس كل ما يكرِّس إدانتها؛ وأعني أنه — وبكلمةٍ واحدة — لم يكن الفهم، بل الحكم؛ أي الانشغال بمجرد إصدار الأحكام على الفِرق، وليس فهمها.
ومن حسن الحظ أن ذلك ما تؤكِّده مصنَّفات الفِرق، التي تجعل غايتها في مجرد «التمييز بين الفرقة الناجية التي لا يزلُّ بها القدم، ولا تزول عنها النِّعَم، وبين فِرق الضلال الذين يرون ظلام الظلم نورًا، واعتقاد الحق ثبورًا، وسيصلَون سعيرًا، ولا يجدون من الله نصيرًا»،١٨١ أو «بيان أوصافِ عقائدِ أهل الدين، وفضائحِ أهل الزيغ والملحدين»،١٨٢ وبما ينطوي عليه هذا البيان والتمييز من دلالة الإدانة والبراءة التي تؤكِّد أن الغاية فيها هي مجرد الحكم، وليس الفهم. ولقد آل ذلك بالفرق إلى أن تكون مجرد صورٍ نمطية للضلال، يلحق بها الخطاب المهيمن كل ما يراه انحرافًا عن مجمل تصوُّراته؛ وبحيث يبدو كل انحراف في التاريخ هو مجرد تكرارٍ لانحرافٍ سبق وجوده. ولعل في ذلك ما يفسِّر إلحاح الخطاب الراهن على أن يرى في الخارجين عليه مجرد تكرارٍ لنمط الخوارج في الخروج، وبما يعني أن التاريخ لا يتكشف البتة عن شيءٍ يغاير ما كانه.
وأخيرًا فإن الوحدة البنيوية بين كلٍّ من التفضيل والتكفير يؤكِّدها أن كونهما — بسبب نمذجتهما — موضوعَين لموقفٍ أخلاقي، لا معرفي، يجعلهما — كالأخلاق الأشعرية عمومًا — موضوعَين للنقل، لا العقل، وبما يعني أن السبيل إلى معرفتهما معًا لا مدخل فيه البتة للعقل. ومن هنا فإنه إذا كان الفضل «لا يُعرف إلا ببرهانٍ مسموعٍ من الله تعالى في القرآن، أو من كلام رسول الله»،١٨٣ فإن الكفر، بدوره، هو مما «لا مجال لدليل العقل فيه البتة.»١٨٤ والحق أنه يبدو — لذلك — وكأن التكفير هو التفضيل معكوسًا، وأن العلاقة بينهما تتجاوز مجرد تجاورهما الخارجي في ختام نسَق العقائد، إلى ضرب من الارتباط الباطني يتضافران فيه معًا لبلورة تصوُّر متكامل، يبدو فيه التاريخ، لا انهيارًا وتدهورًا فقط، بل وتكرارًا مملًّا لا يعرف التجاوز والتخطِّي.

ولعله يبقى لازمًا ضرورة اختبار هذا التصور تجريبيًّا، وهنا فإن قراءة لابن خلدون تبدو الأكثر دلالةً في هذا السياق، وذلك من حيث لم يكتفِ الرجل بمجرد التأريخ، بل حاول التنظير له والتفلسُف فيه. ومن حُسن الحظ أنه — ورغم ثراء نصِّه وغناه — يؤكِّد هذا التصوُّر عن التاريخ، رغم ما يبدو عليه من آلية وعقم، بل إنه يبدو وكأن النص الخلدوني (أعني المقدمة) مُكرَّسٌ بأَسْره لدعم هذا التصوُّر وتأكيده، وأن ابن خلدون لم يفعل إلا أن راح يُفلسِف التاريخ الإسلامي إلى عصره طبقًا لهذا التصوُّر (الذي تبلوَر في سياق عقائدي مجرد) وذلك بالرغم مما يجري تداولُه في فضاء نصه من مفاهيمَ ومقولاتٍ ذات طابعٍ علمي ومتعين.

اختبار التصور الأشعري للتاريخ: ابن خلدون نموذجًا

لعل قراءة لابن خلدون تُعاكِس السائد والمستقر في أغلب الدراسات الخلدونية، يلزمها التنويه أولًا، بأن النص الخلدوني — وككل النصوص المؤسِّسة — ينطوي، لا على صعيد بنية مفاهيمه فقط، بل وبنيته اللغوية أيضًا،١٨٥ على ما يجعله إطارًا لضروب من القراءة والتأويل تتنوَّع إلى حدِّ التباين، وتتباين أحيانًا إلى حدِّ التناقُض؛ وأعني أن النص، وبما ينطوي عليه من ثراءٍ ظاهر،١٨٦ يُعَد واحدًا من تلك النصوص المولِّدة لما يتجاوز منطوقها المباشر. وإذ يعني ذلك أن ثمَّة ما هو مسكوتٌ عنه داخل النص الخلدوني يبرِّر تولُّد التأويلات وتعدُّدها، فإن هذا المسكوت عنه لا يمكن التماسُه البتة، أو النطق به، من خارج جملة السياقات المنتجة للنص؛ وأعني أن القراءة الأكثر علميةً وإحكامًا ستكون هي تلك الأكثر قدرةً على ردِّ النص إلى سياقه التاريخي (الذي ينطوي على جملة الشروط المحدِّدة لعملية إنتاجه تاريخيًّا) وإلى أفقِه المعرفي (الذي يعيِّن حدود المسموح وغير المسموح التفكير فيه)، وإلا فإن الاجتزاء والتعسُّف يكون — فيما سيظهر — قدَر أي قراءةٍ تضع النص في سياقٍ تاريخي ومعرفي لا ينتمي إليه؛ وهي قراءةٌ راح فيها ابن خلدون ينطق بآراء كونت ومونتسكيو وماركس وغيرهم، وراحت مصطلحاته تتلبَّس بمعانٍ ودلالاتٍ تبلورَت فقط في سياقٍ معرفيٍّ معاصر، ولم تكن قد تحدَّدَت في عصر ابن خلدون.١٨٧ ولقد راح النص الخلدوني، ضمن هذه القراءة يتضمن طموحًا إلى بناء جملة مفاهيمَ يُفلسِف بها التاريخ العام للإنسانية (رغم أن ابن خلدون نفسه قد أكد أن مجال تفكيره التاريخي يقف عند حدود التجربة الإسلامية على العموم، والتجربة المغربية الأندلسية خاصة)،١٨٨ وهو جهاز يتسع لمفاهيمَ جعلَت ابن خلدون، عند البعض، أحد أهم رُوَّاد المادية التاريخية.١٨٩
والمُلاحَظ أن كل القراءات للنص الخلدوني خارج سياقه الخاص قد انتهت، حين أدركَت في النص بعضَ ما يُناقِض انتماءه إلى السياق المعاصر الذي تفرضه عليه، إلى أن هذا النقيض يُعَد استطرادًا زائدًا على الروح العلمية أو العقلانية للمقدمة، وغريبًا عنها؛ إذ «الترابط المنطقي الفريد المُلاحَظ في المقدِّمة هو من العمق والدقة بحيث يُصبِح من حقِّ الباحث [لا سيما في حالة اعتماده هذا الترابُط كأساسٍ لبنية المقدمة الداخلية، وكمحكٍّ لتقويمها] حتى التشكيك بعائدية بعض أجزائها شخصيًّا، وفعلًا مهما حاول البعض تصوير جزء المقدِّمة الذي يُعالِج قضايا النبوة والكهانة والرؤيا، وكأنه ظاهرةٌ اعتيادية وطبيعية فيها، فإن هذا الجزء يبقى نوتة نشاز في مجمل هارموني المقدمة، جسمًا غريبًا عنها، وعنصرًا دخيلًا عليها.»١٩٠ وإذ كان الاستبعاد لأجزاءٍ من النص يبدو، هكذا، عملًا يفرضه الترابُط المنطقي له، فإن ثمَّة من راح — في المقابل — يرى في هذا الاستبعاد ذاته إهدارًا للترابط العميق في نص المقدمة، ومن هنا ما تولَّد في نفسه من «اعتقادٍ قوي بأن الدراسات الخلدونية أصبحَت اليوم في حاجةٍ ماسَّة إلى عملية [تصحيح] تعود بالفكر الخلدوني إلى إطاره الأصلي، وتحتفظ له بكُليته وهُويته الحقيقية.»١٩١
يبدو إذن أن ثمَّة قراءةً لنص المقدمة تسعى إلى تجاوز المأزق الذي انتهت إليه القراءات السابقة له؛ والمتمثل في إهدار سياقه ووحدته، وتبديد شموله وكُليته. وإذ اتخذَت هذه القراءة نقطةَ بدئها من «أن الطريقة المثلى في دراسة فكر ابن خلدون يجب أن تنطلق من النظر إليه ككُل، مع تجنِّب إخضاعه إلى مقاييسنا الراهنة، بل الرجوع به إلى روح العصر والمفاهيم السائدة بين رجاله»،١٩٢ فإنها قد انتهت إلى «أن ابن خلدون — خلافًا لما يذهب إليه بعض الباحثين — لم يتحرَّر نهائيًّا من أطر التفكير السائدة آنئذٍ.»١٩٣ لكن هذه القراءة، وانطلاقًا من الإصرار على القطيعة المعرفية بين المشرق والمغرب، قد راحت تُلِح على «أن الأمر [مع ابن خلدون وغيره من مفكِّري المغرب والأندلس] يتعلق فعلًا بلحظةٍ جديدة تمامًا في تاريخ الفكر العربي، لحظة تميَّزَت بنقد الأساس الإبستيمولوجي الذي قام عليه الحقل المعرفي البياني منذ عصر التدوين، واقتراح أساسٍ جديد»،١٩٤ فبدا وكأنها تميِّز في نص ابن خلدون بين «ملاحظاتٍ جزئية أو وجهاتِ نظرٍ في هذه المسألة أو تلك»، تنتمي إلى أُطر التفكير القديمة، وبين «طريقة في التفكير، ومفاهيم مُوظفة، وكيفية في توظيفها» تؤسس لحظةً جديدة تمامًا في الفكر العربي. وبتعبير الجابري فإنه «يمكن أن نختلف [مع ابن خلدون] حول ما يقرِّره من وجهات نظر في هذه المسألة أو تلك، فهذا لا يهم، ولا يهمنا نحن بالذات، إنَّ ما يهمنا هو طريقة التفكير والمفاهيم الموظَّفة وكيفية توظيفها.»١٩٥
وإذن فالنص الخلدوني لا ينتمي — حسب هذه القراءة — إلى النظام المعرفي السائد في عصره إلا من خلال بعض وجهات النظر الجزئية (التي يمكن الاختلاف معها بالطبع)،١٩٦ وأما من حيث طريقة التفكير التي تنتجه، وبنية المفاهيم التي تنتظمه (وهي الأمور الحاسمة في التحليل حسب هذه القراءة) فإنه يؤسِّس نظامًا معرفيًّا مناقضًا للنظام السائد. وهكذا يبدو وكأن هذه القراءة تردُّ النص إلى سياقه الخاص، لا لتأكيد انتمائه إليه، بل لإثبات انقطاعه عنه. والحق أنه بالرغم من أن ثمَّة «طريقة في التفكير، ومفاهيم موظَّفة، وكيفية في توظيفها» يتميَّز بها ابن خلدون داخل النسَق أو النظام السائد (وهو النسَق الأشعري)، فإن ذلك لا يعني البتة انقطاعه عن هذا النسق … بل إنه فقط يتميَّز داخله، دون أن يقطع معه؛ ذلك أن هذا الذي يتميز به ابن خلدون (أعني طريقة التفكير وبنية المفاهيم) يبدو مستخدمًا ضمن حدود النسق، لا خارجه، أو موظفًا لتكريس بنيته الثاوية؛ وأعني أنها — وبما تنطوي عليه من اختلافٍ ومغايرة — تمثِّل القناع المتعين والملموس الذي يؤكِّد تصورًا للتاريخ تبلوَر في سياق نسَق العقائد الأشعري.
ومن هنا فلعله يبدو أن طريقة التفكير وبنية المفاهيم المستخدَمة في النص الخلدوني تمثِّل فقط أحد مستوياته التي يُمكِن تجاوزها إلى مستوى بنيته الأعمق، أو ما يؤسِّسه فلسفيًّا وميتافيزيقيًّا؛١٩٧ وهو المستوى الذي يتكشَّف — وعلى نحوٍ أعمق — عن انتماء ابن خلدون إلى نفس النظام المعرفي السائد في عصره، لكن لا على نحوٍ مباشر؛ إذ الحق أن حضور البنية العميقة للنسَق الأشعري (وهو السائد في عصر ابن خلدون) داخل النص الخلدوني، لا يكون حضورًا مباشرًا، بل من خلال طريقة في التفكير وبنيةٍ مفاهيميةٍ تبدو — للمفارقة — لا غريبة فقط عن بنية النسَق، بل ونقيضة لها. ومن هنا فإن ابن خلدون يبقى — رغم كل شيء — يفكِّر داخل النسق حقًّا، لكن على نحوٍ يلائم، لا خصوصية حقله المعرفي فقط، بل ومجمل إنجازاته وكشوفه، التي لا سبيل إلى إنكارها داخل هذا الحقل أيضًا.
والملاحظ أن البنية الأشعرية تنسرب داخل النص الخلدوني من خلال جملة آليات تکاد تنتظم النص بأَسْره؛ وهي آلياتُ التدهور (من الأفضل إلى الأقل تفضيلًا)، والنمذجة (للحظة-مثال)، والوعي الوضعي بالواقع (أو النزوع إلى تثبيته)، والتي بدا — فيما سبق — أنها تنتظم التصوُّر الأشعري للتاريخ؛ إذ التاريخ — حسب ابن خلدون — هو مجرد دوراتٍ متكرِّرة من التدهور الدائم للعمران واضمحلاله؛ وهو تدهوُر لا يمكن البتَّة رفعه؛ لأنه إنما يحدُث بمقتضى الطبع الذاتي للعمران، ومن دون أن يكون مجرد عرضٍ طارئ عليه.١٩٨ وبعبارة ابن خلدون فإن التدهور أو الهَرَم «من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعُها، لما أنه أمرٌ طبيعي، والأمور الطبيعية لا تتبدل.»١٩٩ وهكذا يبلغ انحصار ابن خلدون داخل أفق التدهور أو (الهرم) حد تصوره، لا على أنه ظاهرةٌ إنسانية أو تاريخية، بل «أمرٌ طبيعيٌّ»؛ الأمر الذي يعني انفلاته من هيمنة الإنسان وقدرته على تخطيه، بل الإنسان سيصبح — وحسب ابن خلدون — مجرد أداة لتحقُّق هذا الأمر الطبيعي؛ الذي هو التدهور؛ إذ «قد يتنَبه كثيرٌ من أهل الدول (والدولة عند ابن خلدون هي صورة العمران) ممن له يقظة في السياسة، فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهَرَم، ويظن أنه ممكن الارتفاع، فيأخذ نفسه بتلافي الدولة، وإصلاح مزاجها عند ذلك الهَرَم، ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم، وليس «الأمر» كذلك، فإنها أمورٌ طبيعية للدولة، والعوائد هي المانعة له من تلافيها، والعوائد منزلةٌ طبيعيةٌ أخرى.»٢٠٠ يعني ابن خلدون أن عوائد البشر هي المانعة من تلافي تدهور الدولة، ولكنه حين يرى بعضُهم يظن أن بالمقدور تغيير هذه العوائد على نحوٍ يجنِّب الدولة التدهور، فإنه يُسارِع إلى التأكيد بأن «العوائد منزلةٌ طبيعيةٌ أخرى»؛ الأمر الذي يعني استحالة تغييرها، وتجنيب الدولة المصير الذي ينتظرها. وإذن، فالإنسان بعوائده التي هي طبيعية تُفلِت من الهيمنة (ولا سبيل هنا البتة للتعويل على وعيه) هو الأداة لتحقق التدهور. وهكذا، يمعن ابن خلدون في التأكيد على «طبيعية»٢٠١ التدهور، وذلك عَبْر رد الجزء الذي يفعل به الإنسان في دورة العمران إلى الطبيعة، لا الوعي.
ولعل ذلك يكشف عن كون التاريخ — حسب ابن خلدون — ليس إطارًا لفاعلية الجماعة الإنسانية وتراكمًا لوعيها وخبرتها يمكن أن تُفيد منه في صُنع تقدُّمها، بقَدْر ما هو إطارٌ تتحقق فيه نفس الدورة الطبيعية المتكرَّرة للسقوط والتدهور؛ فكل دولة، ورغم وراثتها لتجربة الدولة السابقة لا تستطيع البتة أن تُفلِت من المصير إلى التدهوُر والسقوط؛ حتى ليبدو وكأن الدولة اللاحقة لا ترث من الدولة السابقة إلا هذا المصير إلى التدهور.٢٠٢
فالتدهور، على طول المقدمة، هو الثابت الذي ينتظم دورة العمران وما تقتضيه من عوائد وأحوال وصنائع وعلوم. ذلك أنه إذا كان المظهر الأساسي لدورة العمران يتمثل، على العموم، في الانتقال من البداوة إلى الحضارة، أو على الخصوص في التحول من الخلافة إلى الملك، فإن هذا الانتقال أو التحوُّل ينطوي أبدًا على دلالة الانحدار والتدهور؛ وذلك من حيث إنه يكون دومًا من الأفضل إلى الأقل فضلًا. وهكذا فإنه إذ ينطوي طَوْر البداوة على ما يجعل ابن خلدون يخصِّص فصلًا «في أن أهل البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر» وآخر «في أن أهل البدو أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر»،٢٠٣ فإنه يَمْضي — في المقابل — إلى «أن الحضارة هي نهاية العمران، وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر (أي بلوغه الذروة)، والبعد عن الخير.»٢٠٤
وبعبارة أظهر، فإنه إذا كانت أخلاق البداوة «أقرب إلى الفطرة الأولى، وأبعد عما ينطبع في النفس من سوء الملكات بكثرة العوائد المذمومة وقبحها … فإن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد.»٢٠٥ وليس من شك في أن ذلك يعني أن اللحظة الثانية في الزوج (بداوة/حضارة) تمثِّل تدهورًا لتلك السابقة عليها. وإذ يوازي ابن خلدون بين هذا الانتقال من البداوة إلى الحضارة، وبين التحوُّل من الخلافة إلى المُلك، فإن ذلك يئول إلى أن لحظة «المُلك» تمثِّل ضربًا من التدهور والسقوط — لا ريب — بالنسبة للحظة الخلافة. وذلك أنه إذا كان «الأمر في أوله خلافة، ووازع كل أحدٍ فيها من نفسه وهو الدين، وكانوا يُؤثِرونه على أمور دنياهم، وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة … [فإن الأمر بعد ذلك قد] صار إلى المُلك وبقيت معاني الخلافة من تحرِّي الدين ومذاهبه، والجري على منهاج الحق، ولم يظهر التغيُّر إلا في الوازع الذي كان دينًا ثم انقلب عصبيةً وسيفًا … ثم ذهبَت معاني الخلافة ولم يبقَ إلا اسمها، وصار الأمر ملكًا بحتًا، وجرت طبيعة التغلُّب إلى غايتها، واستعملَت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ … ثم ذهب رسمُ الخلافة وأثرُها بذهاب عصبية العرب، وفناء جيلهم، وتلاشي أحوالهم.»٢٠٦ وهكذا ينطوي التحوُّل على التدهور من «الخلافة»، لا بما تَعنيه فقط من تحري الدين والجري على منهاج الحق وبما صاحبها من «الإذن للعرب في انتزاع ما بأيدي الأمم الأخرى [الروم والفرس] من الملك والدنيا، فغلَبوهم عليه، وانتزعوه منهم»،٢٠٧ إلى المُلك الذي يُحيل، لا إلى مجرد «القهر والتقلب في الشهوات والملاذ»، بل وإلى «ذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم». والمُلاحظ أن دورة التدهور من «الخلافة إلى الملك» تُوازِي تمامًا دورة التدهور «من البداوة إلى الحضارة»؛ لأنه إذا كان قد بدا «أن الخلافة قد وجدَت بدون المُلك أولًا، ثم التبسَت معانيهما واختلطَت، ثم انفرد المُلك حيث افترقَت عصبيتُه من عصبية الخلافة»،٢٠٨ فإن ذلك يَعْني أن دورة التحوُّل هذه، هي دورةٌ ثلاثية يتحقَّق فيها الانتقال من الخلافة إلى المُلك عَبْر مرحلةٍ وسطى «التبسَت فيها معانيهما واختلطَت»، وهو ما يتوازى تمامًا مع دورة الانتقال من البداوة إلى الحضارة، التي هي أيضًا دورةٌ ثلاثية يتحقق فيها الانتقال عَبْر مرحلةٍ وسطى «تلتبس فيها معانيهما وتختلط»؛٢٠٩ وبمعنى أن دورة التدهُور هي في النمطَين، ثلاثيةُ الأطوار.
وإذ بدا التدهور، هكذا، هو المصير اللازم لدورة العمران أبدًا،٢١٠ فإن كل ما تقتضيه دورة العمران من الصنائع والعلوم كان لا بد أن يلزمه ذات المصير؛ أعني التدهور؛ إذ العلوم والصنائع هي، كالأعراضِ الأشعرية، التي لا تنفَك عن الجوهر البتة. وهكذا فإنه «لا تزال الصناعات [والعلوم] في التناقُص، ما زال [عمران] المِصْر في التناقُص إلى أن تضمحل.»٢١١ «وذلك لما بينَّا أن الصنائع [والعلوم] إنما تُستجاد إذا احتيج إليها وكثر طلبها؛ وإذا ضعفَت أحوال المصر وأخذ في الهرَم بانتقاص عمرانه وقلة ساكنه تناقص فيه الترَف، ورجعوا إلى الاقتصار على الضروري من أحوالهم، فتَقِل الصنائع التي كانت من توابع الترَف.»٢١٢ وانطلاقًا من هذه المقدمات فإنه «في كل مرة يكتب فيها المؤلف [يعني ابن خلدون] تاريخ علم أو مؤسسة، فإنه يلاحظ انحطاطها»؛٢١٣ وبما يعني أن صيرورة العلوم والصنائع لم تتكشَّف لابن خلدون إلا عن الانحطاط والتدهور.

ولعل هذا الانحطاط للعلوم والصنائع، إنما يتأتى من كونها ليست تعبيرًا عن النشاط الواعي للإنسان في العالم قصدَ إخضاعِه والسيطرة عليه، بقَدْر ما هي توابعُ للترف؛ إذ الحق أن كونها من توابعِ الترف يحولُ دون تبلورها كموضوعاتٍ مستقلةٍ تنطوي في باطنها على آلياتِ تطوُّرٍ خاصة تستطيع بها أن تتجاوز التدهور (تدهورها الخاص أو تدهور العمران بأَسْره). ومن جهةٍ أخرى فإن كونَ العِلم والصنائع هي مجرد توابعَ لما ينتمي إلى «عالم الشهوة»، بما ينطوي عليه من هيمنة لعالم الأشياء الخارجية على الإنسان، وليس إلى «عالم العقل» بما ينطوي عليه من هيمنة الإنسان على عالم الأشياء، إنما يَكشِف عن كونها لا تمثِّل تحريرًا للإنسان من عبوديته للأشياء (وتلك غاية كل نشاطٍ إنسانيٍّ حق)، بقَدر ما هي تجسيدٌ لهذه العبودية ذاتها. وبذلك فإنها تُحيل إلى وجودٍ إنساني لا يحقِّق أي تطوُّر، بل يتكشَّف بالأحرى، عن مجرد التدهور. وهكذا تعكس العلوم والصنائع واقع التدهور، لا عَبْر تاريخها، بل وعَبْر بنيتها الباطنية الخاصة أيضًا.

والحق أن هيمنة «التدهور» على بنية المقدمة، تتأكد على نحوٍ نموذجي من خلال تحليل ما أوردَه عن «أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه، وكَشْف الغطاء عن ذلك.»٢١٤ فإذ بدا لابن خلدون «أن المشهود بين الكافة من أهل الإسلام على مَرِّ الإعصار، أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيِّد الدين ويُظهِر العدل، ويتبعُه المسلمين، يستولي على الممالك الإسلامية، ويُسمَّى بالمهدي، ويحتجُّون في هذا الشأن بأحاديثَ خرَّجها الأئمة، وتكَّلم فيها المُنكِرون لذلك، وربما عارضوها ببعض الأخبار، وللمتصوِّفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقةٌ أخرى ونوعٌ من الاستدلال، وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصلُ طرائقهم»،٢١٥ فإنه — وانطلاقًا من الوعي بما ينطوي عليه هذا الحديث من دلالةٍ تقدميةٍ تُناقِض تدهور تاريخه — لا يفعل إلا أن «يذكر الأحاديث الواردة في هذا الشأن، وما للمنكرين فيها من المطاعين، وما لهم في أفكارهم من المستند، ثم يتبعُه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم ليتبيَّن الصحيح من ذلك.»٢١٦ وهكذا فإنه يمضي إلى «أن جماعة من الأئمة خرَّجوا أحاديث المهدي، منهم الترمذي وأبو داود والبزَّار وابن ماجه والحاكم والطبراني وأبو يعلي الموصلي [وليس بينها البخاري ومسلم على أي حال]،٢١٧ وأسندوها إلى جماعة من الصحابة، بأسانيدَ ربما يعرض لها المنكِرون كما نذكُره، [وإذ] المعروف عند أهل الحديث أن الجَرْح مقدَّم على التعديل، فإذا وجدنا طعنًا في بعض رجال الأسانيد بغفلةٍ أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرَّق ذلك إلى صحة الحديث وأوهَن منها.»٢١٨
وابتداء من هذه القاعدة الخاصة بأن الطعن في بعض رجال الأسانيد، يُوهن في صحة الحديث نفسه، فإن ابن خلدون راح يستعرض الأسانيد الخاصة بالروايات المختلفة لهذا الحديث كاشفًا عن وجوه الطعن فيها. وهكذا فإنه ليس ثمَّة في هذه الأسانيد إلا «المتهم الوضَّاع، رديء الحفظ، سيِّئ المذهب، المجهول، الزائغ غير الثقة، المدلِّس، الضعيف، الأحمق، ضعيف العقل، والمتَّهم بالكذب، والمتشيِّع.»٢١٩ وإذا كان قد لوحظ أن مجرد تشيُّع أحد رجال السند، هو من بين ما يُوهن روايته ويُضعف حديثه، فإن دلالة التشيُّع، كتهمة تكفي بذاتها لإسقاط الحديث وإهداره كليًّا، سوف تبرُز بقوة مع انتقال ابن خلدون إلى ذكر كلام المتصوِّفة ورأيهم في هذا الشأن.
«وأما المتصوِّفة فلم يكن المتقدمون منهم يخوضون في شيء من هذا، وإنما كان كلامهم في المجاهدة بالأعمال، وما يحصُل عنها من نتائج المواجد والأحوال»،٢٢٠ لكن تبلور المذاهب الشيعية الباطنية، بما تنطوي عليه من القول بالإمام المعصوم والوصية والرجعة والحلول وانتظار عودة الأمر في آل البيت من خلال عقيدة المهدي، كان لا بد أن يترك تأثيره على التصوف، «فحدَث عند المتأخرين من الصوفية الكلام في الكشف وفيما وراء الحس، وظهر من كثيرٍ منهم القول على الإطلاق بالحلول والوحدة، فشاركوا فيها الإمامية والرافضة لقولهم بألوهية الأئمة وحلول الإله فيهم. وظهر منهم القول بالقُطب والابدال، وكأنه يحاكي مذهب الرافضة في الإمام والنقباء، وأُشربوا أقوالَ الشيعة وتوغَّلوا في الديانة بمذاهبهم، وامتلأَت كتبهم بمثل ذلك في الفاطمي المنتظر، مما يُفهم منه ومن غيره مما تقدَّم دخولهم في التشيُّع، وانخراطهم في سلكه»،٢٢١ وإذن فإنها آلية التضعيف بالتشيُّع هي ما يتبنَّاه ابن خلدون في مواجهة متأخِّري الصوفية، لكنه يتجاوز ذلك إلى التعرُّض لما يتطرَّقون إليه من «كلام يُعيِّنون فيه الوقت والرجل والمكان بأدلةٍ واهية، وتحكُّماتٍ مختلفة، فينقضي الزمان، ولا أثَر لشيء من ذلك، فيرجعون إلى تجديد رأيٍ آخرَ مُنتحَل كما تراه من مفهوماتٍ لغوية، وأشياءَ تخيُّلية وأحكامٍ نجومية، وفي هذا انقضت أعمار الأول منهم والآخر.»٢٢٢
وهكذا لا يتجاوز أمر المهدي، كما يتصوره الصوفية المتأخرون، مجرد كونه أشياءَ تخيُّلية وأحكامًا نجومية. وهو كذلك لأن «الحق الذي ينبغي أن يتقرَّر لديك أنه لا تتم دعوةٌ من الدين والمُلك إلا بوجود شوكةٍ عصبيةٍ تُظهِره وتُدافِع عنه من يدفعه حتى يتم أمر الله فيه. وقد قرَّرنا ذلك من قبلُ بالبراهين القطعية التي أريناك هناك، وعصبية الفاطميين، بل وقريش أجمع قد تلاشت من جميع الأفاق»،٢٢٣ ولهذا فإنه لا وجه البتة لظهور الفاطمي (أو المهدي) المنتظَر. وهكذا يُمارِس ابن خلدون إقصاءً لا هوادة فيه لمفهوم الفاطمي أو المهدي المنتظَر، وذلك ابتداءً من الطعن في أسانيد الحديث (عن المهدي)، ثم الإيحاء بأنه من مُنتحَلات الشيعة التي تداولها متأخِّرو الصوفية عنهم، إلى القطع باستحالة أي ظهورٍ له لتعارُض ذلك مع طبائع العمران … وليس من شك في أنه كان إقصاءً ضروريًّا، لتأكيد الاتساق في بنية المقدمة، عَبْر نفي كل ما يُناقِض قانون التدهور ويدحضه.
وإذ التدهور هكذا، هو الثابت الذي ينتظم بنية المقدمة بأَسْرها (وذلك من حيث ينتظم دورة العمران وكافة ما يلحق بها من أعراض)، فإن ذلك يؤكِّد على أن ابن خلدون هو، كالأشاعرة، يُمارِس التفكير داخل نظام التدهور والانحطاط.٢٢٤ وبالرغم من ذلك فإنه يتميَّز، داخل النسَق الأشعري، بأن راح يبحث في طبائع العمران ذاته عن العِلَل المباشرة لهذا التدهور؛ وبما يعني أن التدهور، عنده، يتميز بأنه نتاجُ عواملَ عينيةٍ ملموسة (يمكن تحديدُها رغم استحالة رَفعِها لكونها من قبيل الطبيعي، لا التاريخي)، وليس — كما هو عند الأشاعرة — نتاج مجرد البعد عن اللحظة-النموذج (أعني لحظة النبوة). وإذن فالتدهور، عنده، لم يعُد فقط نتاج تصوُّرٍ قبليٍّ محض (يقوم المؤرخ بإسقاطه على حقبةٍ ما)، بل نتاج اختبارٍ محدَّد لتجربةٍ تاريخيةٍ ملموسة.٢٢٥ ومن هنا فإنه يبدو وكأن ابن خلدون يتميَّز — ضمن النسَق الأشعري — بالتطوير أو التنويع داخله، وليس أبدًا بالقطع معه. حقًّا يمكن القول هنا، بأن ابن خلدون قد قطع مع الأداة (وذلك من حيث لا يُسقِط تصورًا، بل يستقرئ تجربة)، ولكنه لم يقطع أبدًا مع الرؤية (وذلك من حيث يبقى التدهور مهيمنًا على خطابه التاريخي).

والحق أن الحضور الأشعري عند ابن خلدون، يتجاوز مجرد التفكير — رغم التغايُر — داخل نظام التدهور والانحطاط، إلى التفكير في إطار السعي إلى مَرْكزة ونَمْذجة اللحظة التي يبتدئ فيها التاريخ، وفي التجربة الإسلامية خاصة، صيرورة تدهوره (وأعني لحظة النبوة والخلافة بالطبع). وإذ الأشاعرة قد صاروا — وفيما سبقَت الإشارة — إلى هذه النمذجة عَبْر تصوُّر هذه اللحظة خلوًا من أي وجهٍ للاختلاف والتناقُض، فإن ذلك هو ما يفعله ابن خلدون بالضبط. ومن هنا فإنه إذا كانت «العصبية» هي المفهوم المؤسِّس لخطابه التاريخي بأَسْره؛ وذلك من حيث إن تحليلًا لتاريخ الدولة العربية الإسلامية لعهده لم يتكشَّف له إلا عن هيمنة مفهوم العصبية على تاريخ هذه الدولة، حتى ليكاد أن يكون قانونَ وجودها الأوحد، فإنه قد راح يستثني حقبتَي النبوة والخلافة من هيمنة قانون العصبية الذي يُحيل إلى معاني القهر والغلَبة بكل ما تنطوي عليه من اختلافٍ وتنازُع.

ﻓ «شأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذٍ [يعني إبَّان حقبتَي النبوة والخلافة] بذلك الاعتبار؛ لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه، واستماتة الناس دونه؛ وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم، وتردُّد خبر السماء بينهم، وتجدُّد خطاب الله في كل حادثةٍ تُتلى عليهم، فلم يُحتَج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزُّهم من تتابُع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة، والملائكة المتردِّدة التي وجموا منها، ودهشوا من تتابُعها، فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجًا في ذلك القبيل»؛٢٢٦ يعني من قبيل الخارق للعادة.٢٢٧
ولقد كان هذا الإقصاء لوقائع حقبتَي النبوة٢٢٨ والخلافة، هو سبيل ابن خلدون إلى نمذجة اللحظة الإسلامية الأولى (التي تطوي في جوفها هاتَين الحقبتَين)، وذلك عَبْر إقصائه لأي اختلاف أو تنازُع لا بد أن تنطوي عليه العصبية (لكونها لا تعرفُ إلا القهر والتغلب). ومن هنا فإن ابن خلدون لم يجد ما يقوله في «شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين» إلا «أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية، وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبَرة. والمجتهدون إذا اختلفوا؛ فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفَين، ومن لم يصادفه مخطئ، فإن جهته لا تتعيَّن بإجماع، فيبقى الكل على احتمال الإصابة، ولا يتعيَّن المخطئ منهم، والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعًا … [ولهذا] فإن غاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلافٌ اجتهادي في مسائلَ دينيةٍ ظنية.»٢٢٩ وإذن فإنها الحروب يفسِّرها مجرد الاجتهاد.
والحق أنه إذا جاز أن يصادف المرء ذلك (وهو يصادفه بالفعل) عند متكلمٍ كالأشعري٢٣٠ يبدو حريصًا على تأسيس العقيدة، بأكثر من سعيه إلى اكتناه الحقيقة، فإنه يبدو غريبًا حقًّا من مؤرخٍ في وزن ابن خلدون ألَّا يرى مثلًا في وقائع ما عُرِف بأحداث الفتنة،٢٣١ على خطورتها وما ترتَّب عليها من الانقسام في جسَد الأمة، إلا ضربًا من التأويل يبقى الكُل فيه على احتمال الإصابة. إن ذلك من الأمور الغريبة لأن العديد من المؤرخين الأسبق منه٢٣٢ قد أفاضوا في تناول وقائع حقبتَي النبوة والخلافة بما يدل على أن «العصبية القبلية» قد كانت أحدَ أهم المحدِّدات فيما دار فيهما من وقائع؛ بل لعلها كانت أهمَّها جميعًا.
والمهم أن ابن خلدون — وعَبْر هذا الاقصاء للعصبية من جهة، وتصوُّره من جهة أخرى أن الاجتهاد «هو الذي ينبغي أن تُحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين»٢٣٣ — قد مضى يُمركِز لحظة التأسيس الأولى في الإسلام؛ حتى لقد أحالها إلى نموذجٍ يستحيل تجاوزُه حين جعلها موضوعًا لخطابٍ أخلاقي، لا معرفي؛ إذ الحق أن خطابه حول هذه اللحظة هو خطاب الأمر والتحذير الذي يلخِّصه قولُه: «إياك أن تعوِّد نفسك أو لسانك التعرُّض لأحدٍ منهم، ولا تشوِّش قلبك بالريب في شيءٍ مما وقع منهم، والتمِس مذاهبَ الحق وطُرقَه ما استطَعت؛ فهم أولى الناس بذلك، وما اختلفوا إلا عن بيِّنة، وما قاتلوا أو قُتِلوا إلا في سبيل جهادٍ أو إظهارِ حق. واعتقِد مع ذلك أن اختلافهم رحمةٌ لمن بعدهم من الأمة، ليقتدي كل واحدٍ بمن يختاره منهم، ويجعله إمامه وهاديه ودليله.»٢٣٤ ويعني ذلك أنه ليس خطاب التحليل الذي هو «في باطنه نظرٌ وتحقيق، وتعليلٌ للكائنات دقيق، وعلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق.»٢٣٥ وهكذا؛ من النهي عن التعرُّض لأفعال الصحابة، ليس فحسب بالذم، بل بمجرد الفهم،٢٣٦ ومن الأمر بقراءتها لا ضمن ما كانت عليه بالفعل، بل ضمن سياقِ ما ينبغي أن تكونَ عليه، يكون ابن خلدون قد بلغ ذروة المركَزة والنمذَجة للحظة التأسيس الأولى في الإسلام.
والملاحظ أن هذه النمذجة للحظةٍ ما يبتدئ منها التاريخ تدهوره، قد استحالت — عند ابن خلدون — إلى نمطٍ عام للتاريخ ينطبق على كل دورةٍ تاريخيةٍ جزئية؛ وبما يعني أن على رأس تاريخ كل واحدةٍ من هذه الدورات الجزئية لحظةً نموذجية يبتدئ منها تدهوره الخاص. وإذ الدورة التاريخية تستغرق — عند ابن خلدون — أربعة أجيال؛ أي مائة عام أو أكثر قليلًا،٢٣٧ فإن ذلك يشير إلى سعيه إلى أن يستوعب، داخل نظامه التاريخي، مفهوم الحديث المتواتر عن النبي () من «إن الله يبعث على رأس أمتي كل مائة عامٍ من يجدِّد لها دينها.» وبمعنى أن ثمَّة عنده داخل الدورة الكلية للتدهور، دوراتٍ جزئيةً محدودة تنطوي كل واحدة منها — وعند قمتها — على نموذجٍ (أو مجدِّد) يبدأ منه الانهيار اللاحق.
ولقد كان ذلك هو النمط الذي آرَخَ ابن خلدون بحسبه للدولة الأموية التي ابتدأَت دورتَها التاريخية (وقد استغرقَت مائة عامٍ بالضبط) بمن كانوا قائمين بمعاني الخلافة، «وإن كانوا ملوكًا، فلم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي، إنما كانوا متحرِّين لمقاصد الحق جهدَهم … ثم جاء خَلَفُهم واستعملوا طبيعة المُلك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم، ونسُوا ما كان عليه سلفُهم من تحرِّي القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها. وكان ذلك مما دعا الناسَ إلى أن نعَوا عليهم أفعالهم، وأدالوا بالدعوة العباسية منهم»؛٢٣٨ وهي الدعوة التي تتحقق دورتُها التاريخية حسب هذا النمط أيضًا. وبمعنى أنها تبدأ بدورها — ودائمًا حسب ابن خلدون — من المُلك الذي يلتبِس مع الخلافة (وهو النموذج الأعلى) ثم تصير إلى المُلكِ البحت الذي هو قرينُ التدهور والانحطاط.٢٣٩

وأخيرًا فإنه إذا كان قد بدا — وفيما سبق — أن القصد الأشعري إلى مركَزة لحظة التأسيس الأولى في الإسلام ونمذجتها، إنما يرتبطُ بالحرص على ثبات الواقع القائم عَبْر تصوُّره مجرد امتدادٍ لها (وهي النموذج المطلَق) في الحاضر؛ ذلك أن أي تفكير في اللحظة المؤسسة على نحوٍ تبدو فيه بلا أي امتيازٍ أو فضلٍ خاص، كان لا بد أن يئول، لا إلى مجرد إعادة النظر، أو حتى محاكمة كل ما ترتَّب عليها من أحداث في الحاضر فحسب، بل وإلى السعي إلى تقويضه أيضًا. وفي المقابل، فإن نمذجة لحظة التأسيس الأولى وأطلقَتَها، وتصوُّر الحاضر كمجرد امتدادٍ لها، يجعله يحوز — لا شك — على بعض سماتها الخاصة؛ وبما يعني تكريسَ حضوره بالطبع.

وبدوره فإن ابن خلدون كان يفكِّر ضمن سياق ذات الرؤية الوضعية للتاريخ؛ وذلك من حيث يتكشَّف خطابه عن السعي إلى تبرير كل الوقائع والأحداث، والتأكيد على لزوم وقوعها، وبالكيفية التي وقعَت بها، باعتبار كونها مما اقتضَته طبائع العمران. ولعله يُلاحَظ أن هذا المفهوم عن «طبائع العمران» إنما يتجلى، على نحوٍ أساسي، عن هيمنة هذه الرؤية الوضعية على مجمل الخطاب التاريخي عند ابن خلدون؛ إذ تبدو أحداث العمران ووقائعه — حسب هذا المفهوم — لا ظواهر تاريخية تتوقف على شروطٍ تقع ضمن حدود التجربة الإنسانية، بل أمورًا طبيعية٢٤٠ لا تتوقف البتَّة على أي عواملَ أو محدِّدات من خارج طبيعتها الخاصة. وهكذا فإن أمورًا مثل «التوحُّش والتأنُّس والعصبيات، وأصناف التغلُّبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من المُلك والدول ومراتبها، وما ينتحلُه البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش، والعلوم والصنائع … [إنما هي جملة] ما يلحق [العمران] من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه»،٢٤١ وليس أبدًا بمقتضى الجهد والإرادة الواعية للبشر؛ الأمر الذي يعني أن هذه الأحوال العمرانية لا تتوقف على شروطٍ تاريخية إذا ارتفعَت مثلًا، استحال حدوثها، بل إنها تحدث دومًا وبقطع النظر عن أي عواملَ أو محدِّدات؛ لأنها نتاج صيرورةٍ طبيعيةٍ جامدة. وإذ يكشف ذلك عن رؤيةٍ لطبائع العمران وأحواله من طبيعةٍ متعالية، وذلك من حيث تبدو مستقلةً تمامًا عن الفاعلية الإنسانية، فإنها تتفق تمامًا وجوهر الرؤية الوضعية التي استهدف من ورائها كونت — فيما يرى ماركيوز — «تعليم الناس أن نظامهم الاجتماعي يندرجُ تحتَ قوانينَ أزلية لا يجوز لأحدٍ أن يُخالِفها، وإلا كان مستحقًّا للعقاب.»٢٤٢ ولعل هذا التصوُّر للنظام الاجتماعي أو لأحوال العمران تقع في قبضة طبائعَ أو قوانينَ أزلية لا هيمنة للإنسان عليها، قد يُحيل إلى تصوُّرها من طبيعة إلهية.٢٤٣ والحق أنها كانت بالفعل كذلك عند ابن خلدون؛ ذلك أن طبائع العمران هي — وكأي طبائعَ أخرى — من خلق الله في الحقيقة، وإنما تُنسَب للعمران مجازًا. ولعل ذلك ما جعل أحدَهم يتصوَّرها «عبارة عن المشيئة الإلهية كما تتجسَّم في حوادث الكون [أو التاريخ بالأحرى].»٢٤٤ وإذن فإنها نظرية الكسب الأشعري مرةً أخرى، لكن موضوعها العمران، لا الأفعال الفردية؛ وبمعنى أن أحوال العمران هي لله خلقًا، وللعمران كسبًا. وإذ البشر — فيما يتعلق بالأفعال — لا خالقين، بل مجرد كاسبين لها، فإنهم — وفيما يتعلق بأحوال العمران — مجرد أدواتٍ لتحققها، وليسوا إراداتٍ واعية تُنتِجها؛ الأمر الذي يعني ضرورةَ تقبُّل كل ما يلحق بالعمران من أحوال، بوصفها أوضاعًا لا سبيل البتة إلى تجاوزها أو تغييرها؛ لأنها من طبيعة تنفلت من وعي البشر ونشاطهم في العالم. وإذ النهاية القصوى لهذه الرؤية الخلدونية هي الثبات لأي وضعٍ قائم٢٤٥ (باعتبار أنه نتاج طبائع لا هيمنة للإنسان عليها)، فإن ذلك يكشِف عن كون الحضور الأشعري داخل النص الخلدوني يتجاوز مجرد البنية التي يتمحور حولها النظام التاريخي، إلى الوظيفة التي تؤديها هذه البنية داخل هذا النظام أيضًا. لكنه الحضور من خلال التميُّز؛ أعني تميز ابن خلدون بالطبع؛ إذ الحق أن فكر ابن خلدون يندرج بتمامه ضمن بنية النسق الأشعري، ولكنه يندرج على طريقته الخاصة التي تجعله يتميَّز بمجرد الأداة، وليس بالرؤية؛ وأعني أن الرؤية التي تطوي داخلها نظامه التاريخي هي ذات الرؤية الأشعرية (رؤية التدهور والانحطاط)، فيما الأداة عنده تتميَّز بما انطوت عليه من السعي إلى بلورة جهازٍ مفهوميٍّ يتركب من مقولاتٍ ذات طبيعةٍ استقرائيةٍ عينية، والطموح — بالتالي — إلى بناء نموذج لتركيبٍ تاريخي يتجاوز الطابع الإسنادي المتداول في الأدبيات التاريخية السابقة. ولقد راح البعض (وأعني الجابري خاصة)٢٤٦ يعوِّل على هذا التميُّز للأداة في الإلحاح على قطيعةٍ معرفيةٍ يقطع بها ابن خلدون (وغيره من مفكِّري المغرب والأندلس خاصة) مع بنية النظام المعرفي السائد في المشرق، وضمنه النظام الأشعري بالطبع.

والحق أنه يبدو وكأن ابن خلدون يقطع، بالفعل، مع النظام المعرفي السائد؛ لكنه الانقطاع على صعيد مجرد الأداة، لا الرؤية؛ إذ يبدو وكأن العلاقة بين الرؤية والأداة في خطاب ابن خلدون، هي التجاور، وليس التفاعل. ومن هنا إمكان الفصل بينهما في خطابه؛ ذلك الفصل الذي يتجسَّد، على نحوٍ لافت، في ممارسة ابن خلدون الدائمة لإقصاء الأداة حين كان يبدو له أن حضورها قد يئول إلى زعزعة الرؤية (التي ينطوي عليها خطابه) ودحضها، (وهنا مثلًا يُشار إلى إقصاء «العصبية» عن حقبتَي النبوة والخلافة). وهكذا فإن العقلانية الظاهرة للأداة تبدو مجرد قناعٍ لا يدحض تقليدية الرؤية، بل لعله يكرِّسها في الأغلب؛ وذلك من حيث يُمِدُّها بما يجعلها تُراوِغ من إمساك الوعي بها.

وإذ يبدو هكذا أن ابن خلدون لم يفعل إلا أن راح يفكِّر، على طريقته الخاصة، ضمن سياق التصوُّر الأشعري عن التاريخ (تدهورًا وانحطاطًا من الأفضل إلى الأقل فضلًا)، فإنه يُمكِن القول إن مشروعه التاريخي يكاد يكتسب قيمته — وإن في أحد جوانبه على الأقل — من دلالته على هذا التصوُّر للتاريخ الذي ظل مضمرًا في المصنَّفات العقائدية الأشعرية. ويرتبط ذلك بأن أحدًا من المؤرِّخين السابقين لم يستطع أن يبلور خطابًا عن التاريخ يجسِّد هذا التصوُّر المضمَر على نحوِ ما فعل ابن خلدون. ولعله كان (وهو الذي ابتدأ بشرح المصنفات العقائدية الأشعرية) ينقل — ولو من غير وعيٍ مباشر — هذا التصوُّر من سياق علم العقائد الذي ظل فيه مضمرًا وخاويًا مجردًا يفتقر إلى مضمونٍ يؤكده، إلى سياق التاريخ الذي أغناه بالطبع بما يفتقر إليه. ومن المفارقات أن هذا التجسيد الخلدوني للتصوُّر الأشعري عن التاريخ قد أعجز الوعي عن تجاوزه؛ وذلك من حيث أمدَّه بقناعٍ من العقلانية جعله يروغ — فيما سبق القول — من الإمساك بطبيعته الخاصة. وهكذا فإنه بالرغم من أن الخطاب الخلدوني قد انطوى على فجواتٍ وتعارضاتٍ بين قناع العقلانية الطافي على سطحه، وبين التصوُّر الكامن خلفه؛ وعلى نحوٍ كان يمكن أن يجعل تجاوزه واردًا، فإن كون هذا التصور قد انبثق أولًا — وكإطارٍ نظري — في سياق نسَق العقائد يجعل الوعي لازمًا — كخطوةٍ أولى — بما يؤسِّسه معرفيًّا في عناصر البنية الأشعرية ذاتها.

١  أفاض الفلاسفة الألمان — وعلى الأخص هيجل وإشبنجلر رغم تباينهما — في الحديث عن الروح الخاص بكل حضارة؛ إذ بينما يرى هيجل في هذا الروح الخاص مجرد لحظةٍ جزئيةٍ في مجرى التطور العام للروح المطلَق، فإن إشبنجلر يراه — كالموناد عند ليبنتز — مجرد وحدةٍ مقفَلةٍ على نفسها، وذلك من حيث إن كل حضارة هي تعبير عن روح، وهذا الروح يختلف بين الحضارة والأخرى تمام الاختلاف في جوهره وأسلوبه وممكنات وجوده. انظر لهيجل: محاضرات في فلسفة التاريخ، ج١، العقل في التاريخ، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، (دار الثقافة للطباعة والنشر)، القاهرة، ١٩٨٠م، ص١٦١-١٦٢؛ وإشبنجلر، تدهور الحضارة الغربية، ترجمة أحمد الشيباني، (دار مكتبة الحياة)، بيروت، ١٩٦٤م، ٣ أجزاء، والكتاب بأَسْره هو مجرد بسط لهذه الفكرة.
ولا بد من ملاحظة أن هذه الفكرة أو الروح لا تمثِّل وجودًا متعاليًا على التاريخ، بحيث تبدو مجرد معطًى مطلَق، مُلقًى من الخارج ومفروض مسبقًا، بقَدْر ما تتبلور في التاريخ — وإن في واحدة من لحظات تبلوُرها على الأقل — ثم تستقل بمجالٍ خاص يبدو غير خاضعٍ لفاعلية العملية التاريخية على نحوٍ مباشر. لكنه، وحتى مع التجاوز عن الأصل الأنطولوجي للفكرة، فإنه لا إدراك لها أبدًا خارج التاريخ، الأمر الذي يعني أن الفكرة لا تنفصل — إن وجودًا أو إدراكًا — عن تاريخها أبدًا.
٢  حسن حنفي، التراث والتجديد، سبق ذكره، ص١٣١، ويبدو — لحسن الحظ — أن ذلك يمثل مبدأً مطلقًا، إذ «الدين هو المجال الذي تقدِّم فيه الأمة لنفسها تعريفًا لما تعتقد أنه الحقيقي؛ وهو تعريفٌ يتضمن كل ما ينتمي إلى ماهية الموضوع الذي تُرد طبيعته إلى تعيُّنٍ بسيطٍ أساسي بوصفه مرآة لكل تعيُّن، وبوصفه النفس المتغلغلة في كل شيءٍ جزئي؛ ولذلك فإن تصوُّر الله يشكِّل الأساس العام لشخصية كل شعب من الشعوب». انظر: هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، ج١، سبق ذكره، ص١٥٨.
٣  يستحيل — تبعًا لذلك — أن يحتفظ الوحي بماهيته الخاصة، أو صورته التي تنَّزل بها في لحظةٍ ما، ويبقى مع ذلك حيًّا، بل إن ذلك بالأحرى، يدخل به دائرة الاضمحلال والجمود، حيث الماهية بمجرَّدها لا تنطوي على غير الخواء، الذي لا يمكن تبديده إلا عَبْر الإغناء التاريخي لها بشتى ضروب الخبرة والتطور.
٤  ومن حسن الحظ أن ذلك تحديدًا، هو ما ينتهي إليه تحليل الدولة الإسلامية التقليدية عند منظريها الكبار؛ وأعني الفارابي وابن خلدون خاصة؛ إذ الدولة، عندهما، تبدو تجليًا للفكرة الحضارية الخاصة بمجتمعهما، ومن هنا تمايزها عن دولة — المدينة اليونانية — بما هي تجلٍّ لفكرةٍ حضاريةٍ خاصةٍ مغايرة؛ ولهذا فإنه بالرغم من انفتاح الفارابي، خاصة، على هذه الدولة الأخيرة، وإلى حد توظيف بعض مفاهيمها، فإن المدينة الفاضلة تظل تحتفظ بتمايُزها عن جمهورية أفلاطون، وذلك لتمايُز الفكرة الحضارية التي تنطوي عليها كلٌّ منهما، ومن هنا أيضًا تمايُزها عن الدول العربية الراهنة، بما هي مجرد شكلٍ سياسيٍّ مفروض على المجتمع من خارجه لقمعه وتدجينه.
٥  هيجل، محاضرات في فلسفة التاريخ، ج١، سبق ذكره، ص١٥٦. ولكن لا ينبغي أن يُستفاد من ذلك أن الدولة هي خالقة هذه العناصر، وإلا لما كان هيجل نفسه قد أشار إلى «أن صورة الدين تحدِّد صورة الدولة ودستورها» (انظر: المصدر السابق، ص١٥٩). وإذن فإنها تحقِّق هذه العناصر، بمثل ما تتحقَّق بها وتتحدَّد أيضًا، وذلك في جدليةٍ يصعب التمييز فيها بين طرفٍ فاعل وآخرَ منفعل.
٦  لا يُوجَد مَن هو أكثر مِن هيجل إلحاحًا على القيمة الجوهرية للدولة بالنسبة للتاريخ؛ ولذلك فإنه رغم أن «التطوير الكامل لفكرة الدولة ينتمي — على قوله — إلى فلسفة الحق.» (انظر: فلسفة التاريخ، ص١٤٤)، فإن هيجل حين أدرك «أننا نجد فيها هدف التاريخ في شكل أكثر تحديدًا» (ص١٤٣)، وذلك باعتبار أنها «الشكل الذي تتحقق فيه الروح»، قد اضطُر إلى استحضارها بقوة إلى ميدان فلسفة التاريخ، لا بما أفرده لها من الصفحات الطوال فقط (ص١٤٠–١٦٥ من الترجمة العربية)، بل وباعتبارها جزءًا من الأساس الميتافيزيقي للعملية التاريخية بأَسْرها. ثم تكتمل جوهريتها عنده بأن يرى وجودها شرطًا للتدوين التاريخي نفسه باعتبار «أن المجتمع الذي يكتسب وجودًا مستقرًّا، ويرتفع بنفسه إلى مستوى الدولة يحتاج إلى قوانينَ وأوامرَ رسمية؛ أعني إلى قواعد شاملة وملزمة بطريقةٍ كلية، بدلًا من الأوامر الذاتية للحكام التي تُلبي مقتضيات اللحظة الراهنة. وهكذا يأتي هذا المجتمع بسجلٍّ للأفعال والأحداث المعقولة الواضحة ذات النتائج الدائمة. كما يُبدي اهتمامًا بها، مما يدفع نموزين [أي قوة التذكر التي هي أساس التاريخ كتقنية] إلى أن تُضفيَ عليها صفة الدوام، تحقيقًا للهدف الدائم في تكوين وإنشاء الدولة.» انظر: المصدر السابق، ص١٧٣. ومن هنا جوهرية الدولة للتاريخ في كليته؛ أعني بما هو «روح باطنة» وبما هو «تدوين» أيضًا.
٧  ولعل كون الإمامة هي الأساس الذي انطلقَت منه كافة ضروب الإبداع والممارسة الإسلامية، يأتي من خلال انسراب البنية التي تبلورَت في حقل علم العقائد الذي انبثق من الانشغال بها (أي الإمامة)، إلى كافة الحقول المعرفية الأخرى التي أبدعَتها الثقافة؛ فقد كان الانشغال بالإمامة هو الجذر الذي انبثق منه التعيُّن النظري الأول للوحي في «علم الكلام». ولحسن الحظ فإن هذا العلم كان هو الحقل الذي تبلورَت في فضائه الصياغة الأكمل لبنية الثقافة التراثية بأَسْرها؛ الأمر الذي راحت معه كافة الممارسات الإبداعية في الحقول المعرفية الأخرى (من تاريخ ونحو وفقه وبلاغة وغيرها) تتوجَّه — تأكيدًا لانتمائها إلى نفس الثقافة — إلى البحث عن أسانيدَ نظريةٍ في علم الكلام تُعالج من خلالها قضاياها الخاصة.
٨  لا يمثل هذا التعيُّن الواقعي أي انتقاصٍ من قيمة الوحي ومعناه، بل لعله يكشف — بالأحرى — عن ثرائه وغناه، وذلك من حيث يسمح لفكرته، لا بمجرد اختبار قوَّتها وتماسُكها في التحقُّق وتطوُّرها تبعًا لذلك، بل والكشف عن كافة إمكاناتها الباطنة، الأمر الذي يجعله — أي هذا التعيُّن — جزءًا من بناء الفكرة، وليس مجرد أداة لتجليها في الوجود فقط، وهكذا فإنه لا انتقاص أيضًا من قيمة هذا التعيُّن، باعتبار كونه جزءًا من الفكرة، لا مجرد أداةٍ فقيرةٍ لها.
٩  ولعلها مفارقة الحاكمية، أن تنتهي هكذا، إلى إهدار فاعلية الوحي من حيث تبتغي تكريس هيمنته الشاملة، وهو الإهدار الذي يأتيها من نفي الإنسان وتغييبه؛ إذ الإنسان يبدو جزءًا من الوحي، لا بما هو قصدٌ له، بل — والأهم — من حيث كونه الأداة لحياته الحقَّة في التاريخ. ولقد كان ذلك هو ما أدركه الإمام عليٌّ، عندما أثيرت مسألة «الحاكمية»، للمرة الأولى في تاريخ المسلمين أثناء حرب صفين، بعد أن رفع الأمويون القرآن على أسنة الرماح، ودَعَوا إلى «تحكيم کتاب الله»، واندفع بعض أنصار الإمام — وقد خدعَتهم الحيلة — يردِّدون نفس الدعوى، فما كان إلا أن راح الإمام يُنبِّه أصحابَه إلى أن القرآن إنما «هو خطٌّ مسطورٌ بين دفتَين لا ينطق بلسان، وإنما ينطقُ عنه الرجال»؛ وكان يعني — بالطبع — أنه ما من حضورٍ للقرآن في العالم إلا بنطق الإنسان عنه.
١٠  فإذ اتجه (ابن ياسر) بخطابه إلى الأمويين قائلًا: «نحن ضربناكم على تنزيله، واليوم نضربكم على تأويله». نقلًا عن كامل مصطفى الشيبي: الصلة بين التصوف والتشيع، (دار المعارف بمصر)، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٦٩م، ص٤١٢، فإنه كان يكشف، بذلك، عن أن الإمامة كأصلٍ للنزاع في صفين، هي المظهر، وأن التأويل هو الجوهر، ولكن من دون أن يعني ذلك لاجوهرية المظهر؛ لأنه لا يتحدَّد بالمضمون أو الجوهر فقط بل يحدِّده أيضًا، فالأشعرية، مثلًا كجوهرٍ تأويلي لسلطةٍ ما، لم تحدِّد السلطة (كمظهر لها) فقط، بل وتتحدَّد بها كذلك ومن هنا وحدتهما؛ الإمامة والتأويل.
١١  ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، طبعة مصر، ١٣٢٦ﻫ، ص١٩٣. والحق أن هذا الوجه التأويلي للإمامة يتضاءل — وإلى حد الغياب أحيانًا — في النصوص السُّنيَّة. ولم يكن ذلك فقط بتأثير المواجهة مع الشيعة الذين اختزلوا الإمامة في مجرد التأويل، بل وبما حدث من الانقطاع الذي تكرَّس مع ولاية معاوية بين «الأمراء والعلماء» حيث «كان الأمراء — حسب ابن العربي — قبل هذا اليوم، وفي صدر الإسلام هم العلماء، والرعية هم الجند، فصار العلماء فريقًا والأمراء آخر». نقلًا عن محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٠م، ص٢٣٤. ولعل دلالة هذا الانفصال بين العلماء والأمراء، تتمثل، لا في الانفصال المطلَق بين الإمامة والتأويل، بل في الإشارة فقط إلى إمكان عدم توحدهما في شخص واحد، ولقد كان ذلك بالفعل هو جوهر التحول الجذري الذي عرفه المجتمع العربي الإسلامي ودولته مع معاوية (انظر المصدر السابق، ص٢٣٥)، ولعل ذلك ما يؤكِّد إصرار الشيعة، في المقابل، على توحيد الإمامة والتأويل في شخصٍ واحد، كجزء من تأسيهم بالطبع، بنموذج «دولة التنزيل»، حيث يتوحَّد في شخص الرسول () الإمارة والعلم معًا. ومن هنا ضرورة أن يتوحَّد في «دولة التأويل» — بما هي امتداد لدولة التنزيل عند الشيعة — الإمامة والتأويل في شخصٍ واحد، بينما لا يُشترط ذلك عند أهل السنَّة، وذلك هو جوهر الخلاف بينهما.
١٢  ومن المفارقات أن ثمَّة نصًّا لابن قتيبة، نفسه، يختزل الإمامة في مجرد كونها سياسةً فقط، وأعني به نص الإمامة والسياسة.
١٣  ولعل ذلك هو مأزق الدولة التي يسعى السلفيون في مصر وغيرها، إلى تكريسها عَبْر الفَرض القَسري لمبدأ الوحي على الدولة من الخارج؛ إذ لن يئول ذلك إلا إلى دولةٍ هشَّة غير متماسكة؛ حيث إن قوة الدولة تستلزم — كشرطٍ لها — تحويل الوحي من مبدأ خارجي يُفرض قسرًا إلى مبدأ باطني؛ وهو ما يتعذر إنجازه إلا عَبْر فعاليةٍ تأويليةٍ خلَّاقة تغيب عن الوعي السلفي الراهن.
١٤  ولا يتجه القصد، البتة، إلى التقليل من قيمة هذا المبدأ وجدواه، بل الأمر يقف عند مجرد الكشف عن حدوده، حال استعارته ليمثل مبدأً لدولة لا تنتمي إليه ثقافيًّا؛ وبالتالي فإنه يمثِّل مبدأ خارجيًّا يُفرض قسرًا عليها. ومن هنا تلك الأزمة التي تواجهها الدولة الراهنة.
١٥  وهنا فقط تكمُن المأساة الحقة للدولة العربية الراهنة، تلك التي راحت تدفع البعض — وقد أدرك عجز دولته شاملًا — إلى السعي إلى استعارة المبدأ القديم الذي أسَّس لدولة السلف. ولكن من سوء الحظ أن هذا المبدأ لا يمكن — بالكيفية التي يُستعار بها — أن يمثِّل أي تجاوز لمأزق الدولة الراهنة، بل إنه يُفاقِمه بمثل ما يظهر حاليًّا.
١٦  وهنا يتَّسِع مفهوم الإمامة لينطوي على كل ما تم إبداعه من تأويلاتٍ معرفية للوحي، وذلك بصرف النظر عن كون بعض هذه التأويلات قد يدعم سلطةً يسعى بعضها الآخر إلى تقويضها بالذات؛ ذلك أنها جميعًا تمثِّل — رغم تعارضها — ضروبًا من الاجتهاد تستهدف أن تحقِّق بالسياسة تنظيمًا بعينه للمجتمع.
١٧  وهكذا فإن هيمنة مذهب أو تيار — كالأشعرية مثلًا — في محيط الثقافة الإسلامية، لا ترجع — على العكس مما يجري الإيهام به — إلى أي جدارة أو تميُّز خاص، بل ترجع إلى التاريخ الذي يحقِّق وحدة هيمنة بعض ممكنات الذات ويفرض تهميش غيرها، ولكنه إذ يستنفد هذا الذي يحقِّق هيمنته، فإنه يجعل التحوُّل عنه لازمًا؛ فإن دوام هيمنة مذهبٍ ما، رغم استنفاد ممكناته، يكون مما يستحيل إلا بالنسبة لوعيٍ لا تاريخي في جوهره. وهذا هو أساس حضور الأشعرية للآن.
١٨  فإن حجرًا ما أو قطعة معدن، هي مجرد شيء بلا هُوية، ولكنها حين تتشكل طبقًا لمبدأ روحي ما فإنها لا تصبح حجرًا أو قطعة معدن، بل تشكيلًا يجسِّد روح حضارة (أو فكرة) ما.
١٩  حقًّا كان استيعاب الوحي (النص)، أثناء التنزيل، لمتغيرات الواقع خارجه هو ما يؤكِّد ثراءه ويهبه التنوع. ولكن اكتماله يحيله إلى وحدةٍ فقيرة، لا مجال فيها — من حيث أُغلقَت بالاكتمال — لكل ما يستجد من ضروب الاختلاف والتنوع؛ ولذلك فإنه (أي الوحي) يكون في حاجة إلى أن يتجاوز — بعد اكتمال التنزيل — هذه الوحدة الفقيرة؛ الأمر الذي يستحيل إلا بالتأويل الذي يسعى إلى إثراء نص الوحي، بقراءته ابتداءً من جملة المتغيرات والاختلافات خارجه. وهكذا يستعيد الوحي بالتأويل غناه الذي أوقفَه اكتمال التنزيل.
٢٠  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١٢، وانظر أيضًا: البغدادي، الفَرق بين الفِرق، سبق ذكره، ص١٢. ومع ذلك فإن بعض مصنَّفات الفرق تشير إلى بعض وجوه الخلاف والتنازع إبَّان حياة النبي نفسه، ولكنها تتجاوز عنها سريعًا لأنها «ليست من الخلافات المؤثِّرة في الدين». انظر: الشهرستاني، المِلل والنِّحل، ج١، سبق ذكره، ص٢١.
٢١  لا يرى مؤرخو الفرق لهذا الضرب من الخلاف الباطن أصلًا اجتماعيًّا في الواقع القائم آنذاك، بل يردُّونه إلى مجرَّد علةٍ نفسيةٍ تتجلى في نفاقِ البعض ممن كان قد أظهر الوفاق. انظر: البغدادي، الفَرق بين الفِرق، ص١٢، والشهرستاني، المِلل والنِّحل، ص١٩، والإسفرائيني، التبصير في الدين، ص١٢.
٢٢  يروي الشهرستاني أنه «لما اشتد بالنبي مرضُه الذي مات فيه، قال: ائتوني بدواةٍ وقرطاسٍ أكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعدي. «فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله قد غلبه الوجع، حسبُنا كتاب الله، وكثُر اللغَط. فقال النبي : قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع. ولقد كان ذلك أول تنازُع — وهو بصدد الإمامة فيما سيظهر — وقع في مرضه عليه السلام».» انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج١، ص٢١.
٢٣  محمود إسماعيل، سوسيولوجيا الفكر الإسلامي، (دار الثقافة الجديدة)، ج١، القاهرة، بدون تاريخ، ص٦٤.
٢٤  محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٩٠م، ص١٣٠.
٢٥  الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، (مكتبة النهضة المصرية)، القاهرة، ١٩٥٠م، الطبعة الأولى، ج١، ص٣٨.
٢٦  محمد عبده، رسالة التوحيد، (دار الشعب)، القاهرة، بدون تاريخ، ص١٢، ولعل إلحاح أهل السنَّة على إرداف تسميتهم بلفظ «الجماعة» يكشف عن كراهةٍ لا حدَّ لها للاختلاف الذي يكرِّس التفرق في مواجهة وحدة الجماعة.
٢٧  حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج٥ — الإيمان والعمل — الإمامة، (مكتبة مدبولي)، القاهرة، ١٩٨٨م، ص٥٥١.
٢٨  ولحسن الحظ فإن التاريخ الشامل للوحي يكرِّس هذا المفهوم عن الكلية الحية التي تستوعب في داخلها كل ضروب الاختلاف والجزئية، وذلك أنه إذا كان الوحي بناءً شاملًا يتحقق في لحظاتٍ جزئيةٍ مختلفة، ثم يكتمل بناؤه في اللحظة الأخيرة التي يمثِّلها الإسلام، فإن كلية هذه اللحظة، مثلًا، تأتي من انطوائها على كل ما يسبقها من لحظاتٍ جزئيةٍ متباينة وتجاوزها لها، وليس من مجرد احتفاظها بجملة من السمات العامة المشتركة بينها جميعًا؛ حيث الكلية هكذا لن تكون إلا محضَ تجريد، الأمر الذي يتناقَض مع المضمون العيني الحي للوحي.
٢٩  ومن هنا ما لاحظه الجابري من أنه «إذا كان ارتباط نشأة الفلسفة وتقدُّمها بالعلم، سواء في التجربة اليونانية أو التجربة الأوروبية الحديثة، هو ارتباط معلول بعلة، فإنه في التجربة الثقافية العربية يجب أن نضع السياسة [أو الإمامة] مكانَ العلم في التجربتَين اليونانية والأوروبية الحديثة؛ ذلك أن اللحظات الحاسمة في «نشأة» وتطوُّر الفكر العربي الإسلامي لم يكن يحدِّدها العلم، وإنما كانت تحدِّدها السياسة.» انظر: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، (دار الطليعة للطباعة والنشر)، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٨٤م، ص٣٣٦ و٣٣٨ و٣٤٦.
٣٠  ومن العجيب حقًّا أن الشرط المؤسِّس لكل النتاجات النظرية التي انبثقَت في فضاء ثقافة النهضة العربية الحديثة، كان سياسيًّا أيضًا، فبدا وكأن الثقافة لا تعرف — على مدى تاريخها — إلا السياسة كفضاءٍ تتبلوَر فيه ومنه كل نتاجاتِها النظرية.
٣١  حسين بن محمد الجسر الطرابلسي، الحصون الحميدية، (مكتبة الحلبي وأولاده بمصر)، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٥٥م، ص٣. وعلى عكس كل مصنفي الفرق القدماء، فإن الجسر لا يرى في الإمامة جذرًا لعصر الاختلاف الذي يلي عصر السعادة، بل يرى هذا الجذر فيما «أمر به أحد الخلفاء العباسيين من ترجمة كتب الفلاسفة المتقدمين، (حيث) انتشرَت تلك التراجمُ بين الأمة الإسلامية، ونشأ من الاطلاع عليها شُبَه زعزعَت إيمان ضعفاء المسلمين». المصدر السابق، ص٣-٤. والحق أن تحويل الجسر لأصل الخلاف عند السلف من الإمامة إلى الترجمة يرتبط بموقفه الخاص من عصره؛ فإذ أظهر دعمًا للإمامة وتصالحًا معها؛ أعني إمامة عصره بالطبع، فإنه قد اضطُر إلى عدم اعتبار الإمامة، عمومًا، أصلًا للاختلاف حتى عند السلف، وأما رفضُه لما حدث — في عصره — من «انتشار الفلسفة الحديثة بواسطة المطبوعات بين أهل الإسلام «وذلك لما» نشأ عنها من شُبه لم تكن معهودةً في غابر الأعوام»، فإنه هو ما يقف وراء النظر إليه على أنه أصلُ كل اختلاف وأساسُ كل شبهة، لا في عصره فقط، بل وفيما سلف أيضًا، وهكذا كان الجسر يحدِّد ملامح صورة الماضي حسب مقتضيات لحظته الخاصة، ومن هنا يأتي الاتفاق الجوهري بين الجسر وغيره من مصنِّفي الفرق؛ فهو بتصوُّره للانفتاح على ثقافة الآخر أصلًا للاختلاف والشبهة في عصره وفيما سلف، يؤكِّد ما قرَّره الشهرستاني — كقاعدة — من «أن الشبهاتِ التي وقعَت في آخر الزمان هي بعينها تلك الشبهاتُ التي وقعتَ في أول الزمان». انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج١، ص١٩.
٣٢  الأشعري، مقالات الإسلاميين، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، (مكتبة النهضة المصرية)، القاهرة، ١٩٥٠م، ج١، ص٣٤.
٣٣  إذ الأشعري نفسه لم يذكُر، من بين الأشياء الكثيرة التي أشار إلى اختلاف الناس فيها، إلا الإمامة فقط، وسكت تمامًا عن ذكر أي ضروبٍ أخرى للاختلاف، وإلى حدٍّ لم تعُد فيه الإمامة مجرد «الاختلاف الأول» بين المسلمين حسبما يذكُر، بل لعلها كانت «الاختلاف» الأوحد حسبما يظهر.
٣٤  حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج٥، الإيمان والعمل – الإمامة، سبق ذكره، ص٥٥٠، حاشية ٢١٦.
٣٥  حدده البغدادي بست سنين من خلافته، انظر: الفَرق بين الفِرق، سبق ذكره، ص١٤.
٣٦  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١٣.
٣٧  حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج٥، الإيمان والعمل – الإمامة، سبق ذكره، ص٥٥٠، حاشية ٢١٦.
٣٨  المصدر السابق، نفس الموضع.
٣٩  الشهرستاني: الملل والنحل، ج١، سبق ذكره، ص٢٦.
٤٠  ولقد كان ذلك ما أكده ابن قتيبة، الذي راح يرصد تاريخيًّا السياقات التي انبثق فيها القول بالجبر، وبعضها كان هازلًا لاحقًا، فإذ لاح لمعاوية — مثلًا — أن حُججًا من قبيل «أن يزيد أعظمنا حلمًا وعلمًا وأوسعنا كنفًا، وخيرنا سلفًا، وقد أحكمَته التجارب، وقصدَت به سبل المذاهب» ليست مما يُجدي الاحتجاج به دائمًا، فإنه لم يجد في حوارٍ مع السيدة عائشة ما يبرِّر به البيعة لابنه إلا «أن أمر يزيد قضاء من القضاء، وليس للعباد الخيَرة من أمرهم». انظر: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، سبق ذكره، ج١، ص١٤٧ و١٥٨. وهكذا انبثق القول بالجبر مصاحبًا للتحوُّل من الخلافة الراشدة — التي عرفَت نوعًا من الشورى النسبية — إلى المُلك العَضود الذي ما كان ليعرفَ إلا الجبر (في العقيدة)، تكريسًا لجوهره المستبد (في السياسة). وإذا كان الجبر قد اختلط، عند معاوية بالذات، بما يموه بنقيضه؛ أعني بنوعٍ من حرية التعبير، فإن معاوية نفسه قد قالها صريحة «إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا». نقلًا عن الجابري، العقل السياسي العربي، سبق ذكره، ص٢٣٧.
٤١  وهنا قد يجد المرء نفسه مختلفًا مع «الجابري» الذي يقرِّر أن كون الفقه «كان أعدل الأشياء قسمة بين الناس، في المجتمع الإسلامي، كان لا بد أن يترك أثره قويًّا، ليس فقط على السلوك العملي، بل [والأهم] على السلوك العقلي أيضًا؛ أي في طريقة التفكير والإنتاج الفكري.» ومن هنا كونه (أي الفقه) «كان ولا يزال أقرب منتجات العقل العربي إلى التعبير عن خصوصيته.» وبما يُفهم منه — بالطبع — كونُه الحقل الرئيسي الذي تشكَّلَت فيه بنية هذا العقل، انظر: الجابري، تكوين العقل العربي، سبق ذكره، ص٩٦-٩٧. ولكن الجابري سرعان ما يتجاوز عن ذلك ليقرِّر بنفسه أن علم أصول الدين هو الحقل الذي يؤسِّس معرفيًّا لعلم أصول الفقه ذاته، حتى وإن كان هذا الأخير قد أنجز اكتماله المنهجي قبله، فهو يؤكد أن «القواعد العقدية التي قرَّرها الشافعي [في أصول الفقه] كانت توجِّه من الداخل القواعد العقدية التي قرَّرها الأشعري [في أصول الدين]، تمامًا مثلما أن القواعد العقدية التي قرَّرها الأشعري هي نفسها التي وجَّهَت — من الداخل كذلك — القواعد المنهجية التي قرَّرها الشافعي». انظر: المصدر السابق، ص١١٦. ويعني أنه إذا كانت قواعد الشافعي المنهجية قادت قواعد الأشعري العقدية انطلاقًا من الأسبقية التاريخية للأول على الثاني، فإن قواعد الأشعري العقدية كانت توجِّه قواعد الشافعي المنهجية انطلاقًا من الأسبقية المعرفية والمنطقية لعلم أصول الدين على علم أصول الفقه. وليس من شك في أن المعرفي لا التاريخي هو ما يُعوَّل عليه في سياق أي تحليلٍ بنيويٍّ للعقل العربي.
٤٢  ومن هنا فإن علم أصول الدين، وبالبنية التي تنتظمه، قد راح يمارس توجيهًا معرفيًّا لأي نتاجٍ نظريٍّ خارجه، الأمر الذي جعل الانتماء العقائدي، عند القدماء، يمثِّل أساسًا نقديًّا لتقييم هذه النتاجات. وهكذا فإنه إذا كانت جماعةٌ من المتأخرين من أهل الأدب قد تدنَّسوا — حسب الإسفرائيني — بشيءٍ من بدع الروافض والقدَرية، فإن «من كان متدنسًا بشيء من ذلك لم يجُز الاعتماد عليه في رواية أصول اللغة وفي نقل معاني النحو، ولا في تأويل شيءٍ من الأخبار، ولا في تفسير آيةٍ من كتاب الله تعالى». انظر: الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١١٧. ولعل في ذلك ما يفسِّر لجوء العديد من الباحثين المعاصرين إلى التماس البنية الموجِّهة للخطابات النقدية أو النحوية أو البلاغية أو التاريخية عند مؤلفين بعينهم، مصاغة في أقصى درجات تماسُكها وشمولها في الحقل المعرفي الخاص بعلم أصول الدين، وذلك حين بدا أنه يستحيل تمامًا، من دون ذلك، إنجاز وعيٍ معرفيٍّ منضبط بتلك الخطابات، وهو الأمر الذي يكشف بجلاء عن المركزية البنيوية لعلم أصول الدين داخل البناء الثقافي التراثي بأَسْره.
٤٣  وذلك لحسن الحظ، ما استوقف باحثًا كبيرًا تنبَّه، بدوره، إلى مفارقة «أنه بينما كانت مشكلة الخلافة [الإمامة] هي أول قضية طرحَت نفسها على الفكر العربي الإسلامي، فإنها كانت آخر قضية حاول هذا الفكر تنظيرها، مع العلم أن النقاش في هذه القضية قد بدأ في وقتٍ مبكر وأنه كان المنطلَق الذي قام عليه علم الكلام، أكثر أنواع العلوم الإسلامية إيغالًا في التجريد والتنظير». انظر: محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، سبق ذكره، ص١٠٧. وإذ الجابري يقصد التهميش التاريخي لتنظير الإمامة، فيما القصد هنا يتجه إلى التهميش البنيوي لها، فإنه يبدو وكأن المرء هنا بإزاء واحد من تجليات القانون المهيمن على مجمل التحولات داخل الثقافة التراثية بأَسْرها؛ وأعني به التحول — داخل الثقافة — من «التاريخي» إلى «البنيوي»، وتلك فيما يبدو الخصيصة الجوهرية لأي ثقافة تنمو حول الدين، أي دين؛ حيث تسعى إلى الخروج من التاريخ والالتياذ بالبنيوي، وذلك من حيث يقلِّص التاريخي إمكانيات ما تطمح إليه هذه الثقافة من قداسة، فيما يكرِّسها البنيوي تمامًا.
٤٤  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، سبق ذكره، ص١١٣.
٤٥  الإيجي، المواقف، سبق ذكره، ص٣٩٥.
٤٦  الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، سبق ذكره، ص٣٦٣.
٤٧  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، سبق ذكره، ص١١٣.
٤٨  حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج٥، الإيمان والعمل — والإمامة، سبق ذكره، ص١٦٣. وبدوره يتفق الجابري مع حنفي في أنه «قد يكون للعوامل السياسية دورٌ ما في الموضوع، وعلى رأس تلك العوامل عامل السلطة وطبيعتها الاستبدادية»، لكنه — وكجزء من سعيه إلى تكريس أولوية علم أصول الفقه — سرعان ما يتجاوز عوامل السياسة إلى أن «تنظير الخلافة والتشريع للحكم كان يتطلب وجودَ قواعدَ للتفكير تستطيع أن تبرِّر الواقع وتقنِّنه بإضفاء الصبغة الشرعية عليه، وهذه القواعد لم تتوفر للعقل العربي، بشكل مضبوط، إلا مع الشافعي». انظر: الجابري، تكوين العقل العربي، سبق ذكره، ص١٠٧. ويبدو أنه أيًّا ما كان الدور «لعوامل السياسة» أم «لقواعد التفكير» فإنه يكشف عن الاتفاق بين حنفي والجابري في رؤية أصل التهميش خارج العلم. والحق أن لعوامل السياسة وقواعد التفكير دورًا في الموضوع، لكن — لا على نحوٍ مباشر أو مستقل — بل من خلال توسُّط البنية الخاصة بعلم أصول الدين.
٤٩  إذ الحق أن شيوع الاعتقاد، عند أهل السنَّة، بانتماء الإمامة إلى الفقهيات، لا الأصوليات فيما يعتقد الشيعة، ليس أمرًا يتعلق بمجرد النظر، بل يتعلق بمواجهةٍ أيديولوجيةٍ بين دولتَين أظهرها الغزالي صراحة حين أوقف أحدَ مصنَّفاته على كشف فضائح الباطنية، وكانت لها دولة في مصر آنذاك في مقابل «فضائل دولته المستظهرية» السنية.
٥٠  ومن هنا فقط يمكن النظر إلى أمر التهميش بوصفه «مجرد اقتراحٍ فردي، ومبادرة غير مقصودة، ثم تحوَّلَت إلى تقليدٍ جماعي، وفعلٍ مقصود، تقليدًا لا إبداعًا». انظر: حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج٥، الإيمان والعمل – والإمامة، سبق ذكره، ص١٦٤.
٥١  إذ تسكت المصنفات المتأخرة تمامًا عن أي ذكر للإمامة، انظر مثلًا — لا حصرًا: جوهرة التوحيد للقاني، وعقيدة العوام للسيد أحمد المالكي، وكفاية العوام للفضالي، وصغرى الصغرى للسنوسي، وتحفة المريد للبيجوري، وحتى رسالة التوحيد للإمام محمد عبده.
٥٢  إذ البِنيات لا تهبط على البشر من خارج التاريخ، كالأقدار التي لا دفع لها، بل إنها تتشكَّل في التاريخ الذي يتشكَّل بها بدوره في جدليةٍ مستمرة لا مجال فيها لضربٍ من الأولية الميتافيزيقية.
٥٣  إذ «اختفت هذه المصنَّفات بعد أن بلغَت ذروتَها في القرنَين الرابع والخامس، وأصبحَت تذييلًا في كتب العقائد الإسلامية». انظر: حسن حنفي، علم أصول الدين، ضمن كتاب: دراسات إسلامية، سبق ذكره، ص٩. وحتى على فرض استمرار هذه المصنَّفات، فإن غايتها — بعد تبلور نسَق العقائد — لم تعُد ردَّ الفِرق، والعقائد بالتالي، إلى تاريخها، بل أصبحَت مجرد الرصد للاختلافات النظرية بين الفِرق، أو حتى لمجرد عدِّها مصداقًا للحديث المنسوب إلى النبي عن انقسام الأمة إلى فِرق عدة، وذلك بالرغم مما بدا في هذه المسألة من تعسُّفٍ ظاهر.
٥٤  ومن المفارقات أنه لا يمكن للمرء أن يلتمس تفسيرًا لهذا السعي إلى إقصاء التاريخ، إلا في إطار التاريخ ذاته. ومن هنا فإنه — هو ذاته — فعلٌ تاريخي؛ حيث يتحقق بفضل التاريخ، لا رغمًا عنه.
٥٥  وبالفعل فإن النسق الأشعري — الذي أفلح في فرض هيمنته على كافة الاجتهادات المناوئة — قد مضى إلى تأبيد هذه الهيمنة في حقل الثقافة التراثية، بأن أحال نفسه إلى بنيةٍ لا تاريخ لها تحوز — مع هذا التعالي على التاريخ — على كل سمات الإطلاق والقداسة، الأمر الذي يؤهِّلها — والحال كذلك — للتماهي مع إسلامٍ مطلَق مقدَّس، يبدو أيُّ اجتهادٍ عداه مجردَ ظنٍّ دنيويٍّ مدنَّس لا يستحق سوى الإقصاء والنفي من العالم، ولعل ذلك يتأكد صراحة في كتاب البغدادي عن الفرق بين الفِرق على نحوٍ خاص.
٥٦  إذ الحق أن الشكل في علم أصول الدين ليس مجرد وعاءٍ فارغ للمضمون، بل هو المضمون نفسه، وإلى حدٍّ يمكن معه الحديث عن مضمون الشكل في علم أصول الدين؛ وبحيث يبدو إهدار الشكل فيه بمثابة الإهدار للمضمون نفسه تقريبًا. ومن هنا فإنه لا يمكن — وخصوصًا حين يتعلق الأمر بإعادة بناء العلم — اعتبار جوهرية المضمون فقط، والسعي — بالتالي — إلى إعادة بنائه فقط، معزولًا عن شكله الخاص؛ إذ يبدو حينئذٍ أن ما يطمح التحليل إلى تكريسه على مستوى المضمون، سرعان ما يُهدِره الاحتفاظ بذات الشكل القديم. ولعل ذلك ما تتكشف عنه المحاولة التجديدية الرائدة لحسن حنفي؛ فإذ سَعْي حسن حنفي في محاولته إلى إعادة بناء الإلهيات مثلًا، بوصفها الوعي الخالص للذات؛ أو هي الإنسان مقلوبًا، فإن ذلك المضمون يتناقض تمامًا مع «شكل» لم تزل فيه الذات غائبة لم تحضُر بعدُ، ولا مكان فيه للإنسان مقلوبًا أو غير مقلوب؛ وأعني أن هذا المضمون يستحيل إلا في سياقِ نسَق للعلم تحضر فيه الذاتُ سابقة على وعيها الخالص، وهو الأمر غير الممكن إلا عَبْر تفجير الشكل حتى تستعيد الذاتُ — داخل النسَق البنيوي للعلم — مركزيَّتها التي كانت لها تاريخيًّا.
٥٧  محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، سبق ذكره، ص١٠٨.
٥٨  حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج٥، الإيمان والعمل والإمامة، سبق ذكره، ص٣٩٤.
٥٩  فيما وقف القدماء عند رؤية الموضوع مجرد تذييل للنسَق، انظر: الإيجي، المواقف، سبق ذكره، ص٤١٤، فإن حسن حنفي راح يراه «ملحقًا للإمامة — وكان ذلك طبيعيًّا على قوله — لأنه يصف تاريخ الأمة الإسلامية، ونشأة فِرقها الدينية، وكيفية تحوُّل وحدة الفكر إلى كثرة العقائد» (وكل ذلك — والإضافة من عندنا — قد انبثَق عن الخلاف حول الإمامة). انظر: حسن حنفي، علم أصول الدين، ضمن دراسات إسلامية، ص٣٥. والحق أن هذا الإلحاق للموضوع بالإمامة يبدو الأكثر قبولًا، لا لأن افتراق الأمة قد انبثَق عن الخلاف حول الإمامة فقط، بل ولأنه الأكثر اتساقًا مع بنية الموضوع نفسه. وعلى أي الأحوال، فإنه وأيًّا ما كان موضوع التكفير ملحقًا للإمامة أو تذييلًا للنسَق، فإنه لمما يُلفِت النظر، هنا، ذلك الإلحاح على الوضع الهامشي له — وللإمامة قبله — في ختام النسَق، بل وتحويلهما إلى مجرد زوائدَ تقبل التهميش أو حتى الاستبعاد، وذلك رغم كونهما يتكشَّفان — إنْ على نحوٍ صريح أو ضمني — عن القصد العميق للنسَق، الذي يبدو وكأنه يجهد في إخفائه عَبْر هذا التهميش لما هو جوهري فيه.
٦٠  والحقُّ أن ذلك ما تتكشَّف عنه المؤلَّفات الأولى في النسَق، سواء عند الأشعري في الإبانة عن أصول الديانة، وتأتي أهميته من أنه آخر مصنَّفاته، أو عند الباقلاني الذي جعل الإمامة مجرد مدخل إلى كتاب في: مناقب الأئمة ونقض المطاعن عن سلف الأمة — والعنوان بالغ الدلالة لا شك على ما يُمكِن أن يُقال تحته عن الإمامة — ولذلك لم يجد ناشره الأب مكارثي أي داعٍ للقيام بما قام به الباقلاني نفسه من «نقل تلك الفصول [عن الإمامة] على وجهها إلى هذا الكتاب التمهيد؛ لأنه وجد تلك الفصول أقرب إلى علم الحديث أو علم التأريخ منها إلى علم أصول الدين؛ ولذا أهملها، لكنه ضربٌ من الإهمال البالغ الدلالة فيما نحسب»، انظر: الباقلاني، التمهيد، نشرة الأب مكارثي، (المكتبة الشرقية)، بيروت، ١٩٥٧م، ص٢٣ و٣٧٨. والحق أن قراءةً لهذه الفصول عن الإمامة قد أكَّدَت — رغم بعض الفصول التمهيدية ذات الطابع النظري — على انشغال الباقلاني في معالجته للإمامة بما هو تاريخي، وذلك عَبْر اجتراره لما جرى وتقييمه بالمفاضلة. انظر نشرة يوسف إيبش لهذه الفصول في كتابه: نصوص الفكر السياسي الإسلامي، (دار الطليعة)، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٦م، ص٣٣–١١٨.
٦١  وهكذا يبدو ممكنًا التمييز في الصياغة المكتملة للإمامة بين ضربٍ من التفكير يضع قواعدَ ما ينبغي أن يكون، وبين ضربٍ آخر من التفكير يتعلق بما قد كان بالفعل، وفيه بالذات ينبثق كلُّ ما له علاقة بالتاريخ. وإذا كان يبدو أن التفكير في الإمامة على العموم قد انبثَق داخل نسَق العقائد، في سياق السعي إلى إثبات الإمامة الخاصة بأبي بكر، وذلك حسب النص المؤسِّس في النسَق؛ وأعني نص الإبانة للأشعري الذي يجعل من الكلام في «إمامة أبي بكر الصديق» — وهي حدث تاريخي بالطبع — عنوانًا للكلام في الإمامة عمومًا، فإن ذلك يعني أنَّ ما هو نظري في الإمامة قد انبثق من التاريخي فيها، وكالعادة فإن هذا النظري سرعان ما يمارس إقصاءً وتهميشًا يصبح معه التاريخي من اللواحق التي تقبل الاستبعاد. والحق أن ذلك يكشف عن اكتمال دائرة التهميش والإزاحة داخل النسق؛ فإذ مضى النسق قبلًا، إلى إزاحة التاريخي فيه عَبْر إزاحته للإمامة وتحويلها من أصل وأساسٍ له إلى زائدة لم تجد فيها المصنَّفات المتأخِّرة ما يستحق الإبقاء، فإن المرء هنا، يصادف التهميش والإزاحة للتاريخي داخل الإمامة ذاتها؛ الأمر الذي يكشف عن استحالة هذا التهميش إلى ثابت ينتظم بنية النسق، وبناء عناصره كذلك.
٦٢  بل لعله جوهر الخلاف في الإمامة؛ لأنه فيما يعني قبول هذا التراتُب إقرارًا بشرعية كل ما تحقَّق في الماضي، وما ترتَّب عليه في الحاضر أيضًا، فإن رفضه لا يعني سلب الشرعية ما تحقَّق في الماضي فقط، بل ويبرر كل سعي إلى تقويض ما ترتَّب عليه في الحاضر أيضًا.
٦٣  الجويني، الإرشاد، سبق ذكره، ص٤٣٠.
٦٤  فقد آثر الأشعري — وعيًا بدوره الرائد فيما يبدو — إلا أن يوظِّف الآليتَين معًا في نصَّين مختلفَين؛ إذ «النص» هو الآلية الغالبة في الإبانة فيما «الإجماع» يهيمن تمامًا على اللمع. واللافت أن الأشاعرة لم يفعلوا بعده إلا تكريس الآليتَين معًا، أو إحداهما على الأقل، في إنتاج إمامة أبي أبكر — ومن تلاه — عَبْر اعتباره الأفضل من أهل العصر، بل إن ثمَّة منهم مَن راح يضيف دلالة الاجتهاد أيضًا، فالآمدي حين رأى أن مستند ذلك (أي التفضيل) ليس إلا الظن، وما ورد من الآثار وأخبار الآحاد، فإنه راح يسنده إلى «الميل من الأمة إلى ذلك بطريق الاجتهاد». انظر: الآمدي، غاية المرام، سبق ذكره، ص٣٩١. وهكذا تجتمع الدلالة على التفضيل من النص (قرآنًا وسنة بالطبع) والإجماع والاجتهاد معًا.
٦٥  الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، سبق ذكره، ص٧٦.
٦٦  الباقلاني، التمهيد، ضمن كتاب يوسف إيبش: نصوص الفكر السياسي الإسلامي، سبق ذكره، ص٦٣.
٦٧  الأشعري، الإبانة، سبق ذكره، ص٧٨.
٦٨  إذا كان الكلام لا يمكن أن يكون مساويًا للحدث على العموم، بل لا بد أن يتميَّز عنه؛ لأن كونه لاحقًا على الحدث، يجعل من الحدث شيئًا في قبضته، فإنَّ تأخُّر الكلام عن الحدث هنا لمدةٍ متطاولة — ناهيك عن قصد الكلام توجيه الحدث — يزيد لا شك من سطوته على الحدث، وإلى حدٍّ يذوب فيه الحدث.
٦٩  لعل أكمل الروايات التي تصوِّر ما حدث في هذه الفترة ترِد في الإمامة والسياسة لابن قتيبة، وفي تاريخ الأمم والملوك للطبري وكلاهما «سُنيُّ العقيدة».
٧٠  محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، سبق ذكره، ص١٣٢.
٧١  وبالرغم من ذلك فإن ابن خلدون، الذي بلور أوفى تحليلٍ لنشأة الدولة العربية الإسلامية وأطوار تطوُّرها استنادًا إلى مفهوم العصبية (والذي لا معنى له خارج فضاء القبيلة)، يسكُت تمامًا عن التصريح بأي دورٍ للقبيلة فيما يحدث إبَّان فترة الخلافة الراشدة؛ وأعني أنه — إبرازًا لأشعريته وتأكيدًا لها فيما يبدو — يستثني هذه الفترة من التحليل استنادًا إلى عصبية القبيلة، فهو يمضي إلى التمييز بين الخلافة (والوازع فيها يكون دينيًّا فقط)، والمُلك (حيث الوازع السلطاني والعصباني). ومن هنا فإنه بينما لا يكون العهد بالإمامة — ضمن المُلك — «إلى غير من ترتضيه العصبية»، فإنه لا يكون — ضمن الخلافة — إلا «إلى من يرتضيه الدين فقط». ولعل كون العهد في الخلافة لا يكون إلا «إلى من يرتضيه الدين فقط» يكشف عن الحضور المضمَر لمفهوم التفضيل لا شك؛ حيث لا رضا في الدين إلا للأفضل فحسب. وهكذا يبدو ابن خلدون أشعريًّا صريحًا يقول بالتفضيل، وإن بدا عنده مضمرًا، ويُلِح على إبراء فترة الخلافة الراشدة من كل ما له علاقة بالعصبية القبلية، ويُعلي — في المقابل — من شأن تميُّزها الديني، وإلى حد اعتبار كل ضروب الاختلاف فيها مجرد ضروبٍ من الاجتهاد، ولعل في ذلك كله ما يؤكد أشعريته، التي جعلَته يسعى، لا إلى تقديم صورة، ولو محتملة، لما جرى في هذه الفترة استنادًا إلى جملة مفاهيمه وأدواته المنضبطة، بل إلى رسم صورةٍ متخيَّلة عنها تؤثِّر في مخيال الناس أساسًا. انظر: ابن خلدون، المقدمة، سبق ذكره، ج٢، ص٥٩٨–٦٢٤.
٧٢  ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، سبق ذكره، ج١، ص١٣.
٧٣  المصدر السابق، ص١٣.
٧٤  المصدر السابق، ص١٥.
٧٥  المصدر السابق، ص١٦.
٧٦  ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، سبق ذكره، ج١، ص١٩. وبالرغم من أن كثيرين من الذين تخلفوا عن البيعة لأبي بكر ومالوا إلى عليِّ بن أبي طالب — وكانوا من فقراء الصحابة — قد استنَدوا في ميلهم إلى الإمام إلى قناعاتٍ لا علاقة لها أبدًا بما ينتمي إلى عالم القبيلة، بل إلى ما يُضادُّ هذا العالم تمامًا؛ حيث بدا الإمام في مخيالهم رمزًا لإسلام لا يعرف التمييز على أساس القبيلة، فإن وعيَ الإمامِ نفسه لم يتجاوز — فيما يظهر من الروايات العديدة المنسوبة إليه — حدودَ عالم القبيلة. ولذلك فإن حُججه في مواجهة قريش قد وقفَت عند هذه الحدود لا تتخطاها. (انظر تفصيل حُججه في: المصدر السابق، ص١٨–٢٠). والحق أن ذلك يعني أنه قد كان ثمَّة وعي يتبلور خارج حدود القبيلة، لكنه كان يتبلور مع هؤلاء الذين لم يكونوا جزءًا أصيلًا منها في الواقع.
٧٧  نقلًا عن محمد عمارة، «الفكر الاجتماعي لعليِّ بن أبي طالب»، ضمن كتاب: علي بن أبي طالب، نظرة عصرية جديدة، (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٩٨٠م، ص١٣. واللافت في هذا النص أنه ينسب الاختيار صراحة إلى «قريش»، وليس لجمهور «المسلمين». والحق أن الروايات عن هذه الفترة كثيرًا ما تتحدث عن المسلمين من جهة في مواجهة قريش من جهةٍ أخرى؛ الأمر الذي يؤكد على حضور الوعي بالانقسام بين القبيلة من جهة وبين ما يتجاوزها من جهةٍ أخرى. وقد أورد الطبري روايةً دالة في هذا الصدد؛ وكان ذلك حين راح عبد الرحمن بن عوف يسأل الناس المشورة فيمن يرونه أهلًا للخلافة من «أهل الشورى» الذين عيَّنَهم عمر قبل موته، «فقال عمار بن ياسر: إن أردتَ ألا يختلف [المسلمون] فبايع عليًّا، فقال المقداد بن الأسود: صدَق عمار، إن بايعت عليًّا قلنا: سمعنا وأطعنا. فقال ابن أبي سرح: إن أردتَ ألا تختلف [قريش] فبايع عثمان، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدق، إن بايعتَ عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا.» الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (دار المعارف بمصر)، القاهرة، الطبعة الأربعون، ١٩٧٧م، ج٤، ص٢٣٢-٢٣٣. ورغم أن الروايات تذهب بالخلافة لعثمان لسببٍ آخر غير هذا الانقسام، إلا أنه يبدو أن قريشًا (القبيلة) هي التي انتصرَت أيضًا هذه المرة.
٧٨  وهذا الاستخدام هنا مقصود تمامًا؛ لأن ما يقدِّمه المتكلمون عن أحداث هذه الفترة، لم تكن أخبارًا تقبل مجرَّد الفحص، ناهيك بالطبع عن الانتقاد، بل نصوصًا ليس للمرء بإزائها إلا التسليم والاعتقاد.
٧٩  والحقُّ أن التبايُن بينهما يطال أيضًا موقف كلٍّ منهما من الماضي الذي يتحدَّثان عنه؛ إذ في حين تسعى رواياتُ الإخباريين إلى تقديم صورة ولو تقريبية لما حدث في الماضي؛ صورة وإن كانت غير مطابقة تمامًا بفعل سلطة التأويل التي لا يفلتُ من هيمنتها حتى المؤرخ، إلا أنها محتمله على الأقل، فإن نصوص المتكلمين ليست معنية، في انعكاسها على الماضي، بهذا الماضي في ذاته وما حدث فيه، بل يعنيها أساسًا رسم صورةٍ متخيَّلة عنه، وذلك عَبْر إسقاط تصوُّراتها المثالية عليه. ولقد انعكس ذلك على شكل كتابة كلٍّ منهما؛ إذ في حين يجد المرء تباينًا بين روايات الإخباريين في العبارة؛ وهو التباين الذي يؤكِّد الحدث لا يطمسه، فإنه لا شيء سوى الاتفاق في العبارة بين نصوص المتكلمين؛ الأمر الذي يكشف عن الاصطناع فيها.
٨٠  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، سبق ذكره، ص٥٢٨-٥٢٩.
٨١  وذلك أن أشعرية ابن خلدون تتغلب عليه فيما يتعلق بهاتَين الحقبتَين، فيستثنيهما من هيمنة قانونه عن العصبية؛ ففي حين كان عليه — وفيما يفرضه منطق الفصل المشار إليه من «أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم» — أن يستمد مادته من حقبة النبوة، وهي غنية لحسن الحظ بما يؤكِّد دعواه، فإنه هنا — وكما فعل بالنسبة لحقبة الخلافة — يسكُت تمامًا عن الإشارة إلى كل ما له علاقة بالعصبية؛ ولذلك فإنه يستمدُّ مادة هذا الفصل كلها من تاريخ الدولة العباسية، رغم أنها لا علاقة لها بموضوعه المباشر. انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٢، سبق ذكره، ص٥٢٨–٥٣٢.
٨٢  والحق أن الارتباط، عند ابن خلدون، بين الدولة (وهي الدولة موضوع تحليله، لا الدولة على العموم) والعصبية هو نوع من الارتباط العضوي؛ وإلى حد أنه لا وجود للدولة دون عصبية عنده. ورغم أنه لا مماراة في تمايُز مفهوم الدولة عنده عن الدولة في الفكر السياسي الحديث، فإن بنية الدولة العربية الراهنة قد لا تفارق — رغم زخارف الحداثة على سطحها — بنية دولته.
٨٣  لكنه الإسقاط الذي لا يفرضه، هنا، مجرد الإيمان، بل والسياسة، حيث القصد منه تكريس سياسة الحاضر عَبْر ترسيخِ ما يؤسِّسها في الماضي؛ إذ في حين قد تؤدي قراءة ما حدث في الماضي من خلال مفهوم «القبيلة» إلى إعادة النظر في هذا الماضي، وعلى نحوٍ قد يتقوض معه ما ترتَّب عليه في الحاضر، فإن قراءته من خلال مفهوم «التفضيل» لا تستبعد فقط إمكانَ إعادةِ النظر في الماضي، بل وترى في ذلك خروجًا على صحيح الاعتقاد. وإذ يبدو هكذا أن «القصد» إلى تكريس وضعٍ ما هو ما يؤسِّس القول في التفضيل؛ وبحيث صار البعض من الأشاعرة أنفسهم إلى أن «النصوص المذكورة [في التفضيل] لا تفيد القطع على ما لا يخفى على منصف» ولذلك فإن «مستنده ليس إلا الظن، وما ورد في ذلك من الآثار وأخبار الآحاد، والميل من الأمة إلى ذلك بطريق الاجتهاد»، أو بدلالة الإجماع، فإن ذلك يعني أن إسناد التفضيل بعد ذلك إلى «النص» من الله أو الرسول، إنما يستهدف مجرد التغطية على الأساس الأيديولوجي للتفضيل عبر استبدال «النص» ﺑ «القصد». انظر: الإيجي: المواقف، ص٤١٢. والآمدي: غاية المرام، ص٣٩١.
٨٤  الأشعري، الإبانة، سبق ذكره، ص٧٧.
٨٥  الجويني، الإرشاد، سبق ذكره، ص٤٣٠.
٨٦  فهم جميعًا يتفقون على «أن عليًّا كان مستحقًّا للإمامة، وأنه أفضل الناس بعد رسول الله ، وأن الأمة ليست بمخطِئة خطأَ إثمٍ في أن وَلَّت أبا بكر وعمر … ولكنها مخطئةٌ خطأً بيِّنًا في ترك الأفضل». انظر: الأشعري، مقالات الإسلاميين، سبق ذكره، ج١، ص١٣٧.
٨٧  فالأصل في إمامة المفضول هو «تسكينُ ثائرة الفتنة، وتطييبُ قلوب العامة؛ فإن عهد الحروب التي جرت في أيام النبوة كان قريبًا، وسيف أمير المؤمنين عليٍّ عن دماء المشركين من قريش لم يجفَّ بعدُ، والضغائن في صدور القوم من طلب الثأر كما هي، فما كانت القلوب تميل إليه كل الميل، ولا تنقاد له الرقابُ كل الانقياد»، فكانت المصلحة لذلك في إمامة المفضول، لكنها كانت، على كل حال، خطأ لم يبلغ — مع أبي بكر وعمر بسبب الطبيعة المتميِّزة لشخصيتهما — درجة الفسق أو الإثم، ولكنه إذ يبلغ الذروة مع عثمان، فإنه يئول إلى الطعن فيه وتكفيره. انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، سبق ذكره، ج١، ص١٥٥ و١٥٩ و١٦٠.
٨٨  الأشعري، مقالات الإسلاميين، سبق ذكره، ج١، ص١٣٥.
٨٩  والحق أن قيمة هذه النظرة تأتي من قدرتها على الجمع في بناء الواقع بين الممكن والمتحقق معًا، وبما يعني تجاوُزها الطعنَ في أحد طرفَيه، وهو ما وقف عنده كلٍّ الشيعة وأهل السنَّة الذين عجزوا لذلك عن الوعي بجانبَي الواقع، واكتفَوا بإسقاط تصوُّراتهم المطلَقة عليه.
٩٠  كان ذلك هو ما أفاض فيه فلاسفة معهد العلوم الاجتماعية بفرانكفورت، وخصوصًا أدورنو الذي عُني بتحليل النزعة التسلطية على العموم، وكذا ماركيوز في: العقل والثورة، ترجمة فؤاد زكريا، (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٧٩م، ص٣١٢–٣٢٨.
٩١  والحق أن أولية المتقدم، على هذا النحو، قد تبلورَت ضمن سياق فلسفي؛ حيث انبثقَت عن الإشكالية الفلسفية الخاصة بعلاقة الله بالعالم، حين اضطُر من رفضوا تقدمًا زمانيًّا لله على العالم، أن يبلوروا ضربًا آخر من التقدُّم لله على العالم بالطبع والشرف والمرتبة. وبالرغم من ذلك، فإن المتكلِّمين قد استفادوا من هذه المسألة ضمن سياقهم الخاص، وعلى نحوٍ يبدو فيه التقدم هنا، لا لله على العالم، بل للنبي — وحتى للإمام — على غيره. وهكذا يتحدث الآمدي عن «المتقدم بالشرَف» فيراه «اختصاص أحد الشيئَين عن الآخر بكمالٍ لا وجود له فيه، كتقدم النبي » وكذلك يتحدث عن التقدُّم بالمرتبة، ويراه ممثلًا في تقدُّم الإمام على المأمومين، وهكذا كانت المسألة الخاصة بأولية المتقدم (بالمرتبة أو الشرف … إلخ) مستوعبةً ضمن السياق الكلامي. انظر: الآمدي، المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين، نشرة عبد الأمير الأعسم، ضمن كتاب: المصطلح الفلسفي عند العرب، (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٨٩م، ص٣٨٠.
٩٢  والحق أن ذلك يكشف عن الارتباط الجوهري بين مسألة التفضيل من جهة، والمسألة الأخرى التي ترتبط بالإمامة بدورها، وتكرِّس لنفس التصوُّر المضمر عن التاريخ في النسَق الأشعري؛ وأعني بها مسألة التكفير التي انبثقَت بأَسْرها عن السعي إلى التعدُّد والاختلاف، وذلك ما سنعود إليه لاحقًا على أي حال.
٩٣  حسين الجسر، الحصون الحميدية، سبق ذكره، ص٣.
٩٤  وهكذا اتفق متكلمو الأشاعرة على «أن المسلمين وقت النبي وبعد وفاته كانوا على طريقٍ واحد ولم يكن بينهم خلافٌ ظاهر». انظر: الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١٢، ومن هنا فإنهم، ورغم الانشغال بتعيين أول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين، قد سكتوا تمامًا عن نسبة أي ضربٍ من الاختلاف إلى فترة النبوة، وذلك رغم الاختلاف بينهم في تعيين أول ضروب الخلاف؛ فإذ يقف الأشعري في المقالات عند الإمامة كأول ما حدث من الخلاف، فإن الإسفرائيني في التبصير يرى الخلاف حول موت النبي أول ما حدث من الاختلاف، ويوافقه البغدادي في الفِرق، وأما الشهرستاني في الملل فإنه يرتد بأول ما حدث من الخلاف إلى ما هو أسبق، لكنه لا يتجاوز به ما حدث أثناء مرض موت النبي. ولقد سبق التأكيد على أن الإمامة هي — على أي حال — أول ضروب الخلاف المنتج نظريًّا على الأقل.
٩٥  البغدادي، أصول الدين، سبق ذكره، ص٢٩٧.
٩٦  المصدر السابق، ص٢٩٧، وإذ راح البغدادي، هكذا، يسعى إلى البحث في الطبيعة الخاصة بنبوة كل واحد من الأنبياء عما يُرتِّب به الفضل بينهم، فإن ثمَّة من راح يرتِّب الفضل بينهم، لا حسب الطبيعة الخاصة لنبواتهم، بل حسب البعد أو القرب (التاريخي بالطبع) من الأفضل؛ الذي هو النبي محمد. ذلك أن «مرتبتَهم فيه [أي الفضل] تأتي بعد مرتبته، وإن تفاوتوا فيها بالنسبة للقرب منه عليه الصلاة والسلام.» انظر: عبد السلام المالكي، إتحاف المريد في شرح جوهرة التوحيد، سبق ذكره، ص١١٩.
٩٧  الرازي، النبوات، تحقيق أحمد حجازي السقا، (مكتبة الكليات الأزهرية)، القاهرة، بدون تاريخ، ص١٨١–١٨٣، وللرازي نفسه أيضًا انظر: معالم أصول الدين، نشرة طه عبد الرءوف سعد، (مكتبة الكليات الأزهرية)، القاهرة، بدون تاريخ، ص١٠٣-١٠٤. وإذ يقف الرازي في سعيه إلى تبرير أفضلية النبي محمد على غيره من الأنبياء، عند ضرب من التحليل لطبيعة الخطاب النبوي، فإن المؤلَّفات المتأخرة قد راحت، وعلى نحوٍ يكشف عن هيمنة النقلي لا العقلي على بنائها كله، تستفيد أفضلية النبي على غيره، إما من: «نداؤه بيا أيها النبي، يا أيها الرسول، وهم [أي غيره من الأنبياء] يُنادَون بأسمائهم … يا زکريَّا، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، إلى غير ذلك، وإما من «أن أمته أفضل الأمم لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي عدولًا وخيارًا. ولا شك أن خيرية الأمم إنما هي بحسب كمالها في الدين، وذلك تابع لكمال نبيها الذي تبعَته، فتفضيلُها تفضيلٌ له».» انظر: محمد بن محمد الأمير، حاشية على شرح المالكي لجوهرة التوحيد، (مكتبة الحلبي)، القاهرة، ١٩٤٨م، ص١٩٩. وانظر كذلك «شرح المالكي» بهامش هذه الحاشية، نفس الصفحة.
٩٨  وإذ يبدو التاريخ، ضمن هذا الانقسام، صعودًا للفضل فيما قبل لحظة النبوة، وسقوطًا له بعدها، فإن ذلك يكشف عن أن التطور في التاريخ يرتبط فقط بالفاعلية المباشرة (للوحي) في العالم ودوام اتصال الله به، فيما يبقى السقوط والضياع مرتبطًا بانقطاع الوحي. ولا يؤثِّر في ذلك القولُ إن الوحي يبقى — رغم الانقطاع المباشر — حاضرًا في العالم، ولكن من خلال فاعلية «الوعي» الذي يبدو، حسب هذا التصوُّر للتاريخ، مرادفًا للتدهور التاريخي. ولعل هذا الانقسام، بين صعود وهبوط، يمثل تجسيدًا تاريخيًّا لتلك الدراما الكونية عن لحظة من السعادة توحَّد فيها الله والإنسان معًا، تلاها افتراقُهما وسقوطُ الإنسان غريبًا في عالم الشقاء والرذيلة، وإذ تبدو لحظة السعادة، في هذه الدراما، هي لحظة التوحد، فيما يرتبط ما تلاها من الشقاء بداء الافتراق، فإن التوازي يبدو شاملًا بين هذه الدراما وبين التاريخ المضمَر في النسَق الأشعري، وذلك من حيث إن لحظة الفضل أو السعادة فيه هي أيضًا لحظة «وحدة»، فيما يرتبط تدهور الفضل فيه بالاختلاف والفرقة.
٩٩  ولعل الصورية تحديدًا، هي التي أعجزَت النسق الأشعري عن بلوغ هذا التصور، وذلك من حيث يقتضي ضربًا من الجدلية يفتقر إليه النسَق في تجليه الكلامي. ولعل هذا التحديد بتجليه الكلامي فقط، يبدو مقصودًا تمامًا؛ لأن النسَق نفسَه قد راح ضمن حقول أو تجلياتٍ معرفية أخرى يكتسي طابعًا جدليًّا، من دون أن يعني ذلك أي كسر لبنيته؛ الأمر الذي يتبدى جليًّا مع ابن خلدون، مثلًا، في حقله التاريخي. ولعل ذلك يعني أن البنية الأشعرية قد راحت تتشكَّل داخل حقولٍ معرفيةٍ عدة، ومن دون أن تنكسِر، ومن دون أن تطمس أيضًا هذه التشكُّلات ما تنطوي عليه هذه البنية من تأزماتٍ باطنية؛ الأمر الذي يؤكِّده تشكُّلها، ومن خلال مفهوم التفضيل الخاص، في حقل التصوف.
١٠٠  ابن عربي، فصوص الحكم، بشرح القاشاني، (مكتبة الحلبي)، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٦٦م، ص٣٢٦.
١٠١  المصدر السابق، ص٣٢٦.
١٠٢  عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، (مكتبة الحلبي)، القاهرة، الطبعة الرابعة، ١٩٨١م، ص٧٤.
١٠٣  ابن عربي، الفتوحات المكية، نشرة عثمان يحيى، (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، القاهرة، ١٩٧٢م، ج٢، ص٣٣١.
١٠٤  المصدر السابق، ص٣٣١.
١٠٥  المصدر السابق، ص٣٣١.
١٠٦  ابن عربي، الفتوحات المكية، سبق ذكره، ص٣٣٢.
١٠٧  الجيلي، الإنسان الكامل، سبق ذكره، ص٧٢.
١٠٨  ابن عربي، فصوص الحكم، سبق ذكره، ص٣٢٦.
١٠٩  والحق أن «كلية» الحقيقة المحمدية في مقابل «جزئية» النبوات اللاحقة قد يُوهِم بكون الانتقال بينهما هو انتقال من الأفضل إلى الأقل فضلًا، وذلك باعتبار أفضلية الكُلي على الجزئي على العموم، ولكن حقيقة كون «الكلي» يستلزم «الجزئي» ويقتضيه في تحقيق وجوده المتعين؛ وبحيث يبقى دونه وجودًا مجردًا فارغًا، يكشف عن استحالة تميُّز الكلي، هنا، عن الجزئي بأي فضل.
١١٠  وبالرغم من أن النسق الصوفي — إذ راح يدرك الوجود التاريخي المتحقق للنبوة المحمدية متضافرًا مع الوجود الميتافيزيقي السابق للحقيقة المحمدية، وغير منفصل عنه — قد رأى في كل التاريخ اللاحق على التحقق التاريخي للنبوة المحمدية، ضروبًا أخرى من التجلي للحقيقة المحمدية لا تفترق كثيرًا عن ضروب تجلِّيها السابق قبل نبوة محمد، وذلك من خلال الأولياء، وبما يعني دوام الفضل، إلا أنه تمسَّك بوضعهم في الفضل دونه؛ وبما يعني تأكيد انحدار الفضل ابتداءً منه. وذلك أنهم (أي الأولياء) «منه ، بالموضع الأدنى، ومن مستواه بالتجلي الأسنى، فحصلوا في إنيَّته الحصر، وتمكَّنوا من قبضة الأسْر، وانفرد «أي النبي» — في مستواه — بمن اجتباه ومن اصطفاه، وصيَّره الحق تعالى خزانة سرِّه وموضع نفوذ أمره.» انظر: ابن عربي، عنقاء مغرب في ختم الأولياء وشمس المغرب، القاهرة، ١٩٥٤م، ص٤٢، وهكذا يتكشَّف النسَق الصوفي، فيما يتعلق بالتفضيل — ومع ابن عربي تحديدًا، وهو ذروة النسَق — عن نفس البنية المهيمنة على النسَق الأشعري.
١١١  ولعل ذلك يكشف عن كون مفهوم «الحقيقة المحمدية» قد تبلور، في جزء منه على الأقل، في ارتباط مع مسألة التفضيل؛ الأمر الذي يؤكِّد على إمكانية قراءة هذا المفهوم الصوفي من خلال التفضيل الأشعري، وقراءة التفضيل الأشعري به أيضًا. ومن هنا إمكان الاختلاف مع أولئك الذين راحوا — انطلاقًا من قراءةٍ أشمل للتصوف بالتشيع — يرون في هذا المفهوم الصوفي مجرد حاشية على مفهوم «الإمامة الباطنية» الذي بلورَه الشيعة. يمضي الأمر هكذا مع الشيبي الذي لا يفعل — وفيما يبدو من عنوان كتابه عن الصلة بين التصوف والتشيع — إلا أن يقرأ التصوف بالتشيع على العموم، وذلك ما تابعَه فيه الجابري الذي راح — في بنية العقل العربي — يقرأ، بدوره، التصوف بالتشيع، وإن اختلف بأنه يقرؤهما معًا من خارجهما؛ أعني بالهرمسية. وبالرغم من إمكان هذه القراءة بالطبع — بل إنها تُعَد الأكثر إمكانًا ومباشرة، وذلك من حيث يبدو التوازي لافتًا بين التصوف والتشيع — إلا أنه يبدو ممكنًا أيضًا — وإن على نحوٍ أقل مباشرة وأكثر خفاءً — قراءة التصوف بالأشعرية. ولعل ذلك ما يبرِّر إمكان قراءة ابن عربي، مثلًا، بالغزالي، وذلك لا لمجرد التأكيد على قيمة الإنجاز الصوفي للغزالي، بل والتأكيد في العمق على الأشعرية المضمَرة لابن عربي، وذلك بالرغم من خصوصيته بالطبع، تلك الخصوصية التي تُستفاد من سعيه الجبَّار إلى استيعاب كل ما أبدعته الحضارة في كافة الحقول المعرفية، وليس من خروجه عن البنية المهيمنة على الثقافة التراثية بأَسْرها؛ وهي البنية الأشعرية؛ إذ الحق أن مركزية النسَق الأشعري قد جعلَت منه بنيةً موجهةً وحاضرةً داخل حقول هذه الثقافة.
١١٢  إذ في حين راح الإخباريون — فيما سبقت الإشارة — يقرءون أحداث هذه الحقبة من خلال مفهوم «القبيلة»، فإن الأشاعرة كانوا أحرص على قراءتها من خلال التفضيل والفضيلة، وذلك سعيًا إلى تثبيتها وما ترتَّب عليها.
١١٣  ومن هنا النظر إلى هذه الحقبة بوصفها تمثل انهيارًا نسبيًّا للفضل، حيث «يظل الانهيار محصورًا دون هبوطٍ شديد أو انكسارٍ حاد». انظر: حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج٥، الإيمان والعمل والإمامة، سبق ذكره، ص٣٤٦.
١١٤  الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، سبق ذكره، ص٧٨.
١١٥  يُلِح ابن خلدون على إضافة «التابعين»، أيضًا إلى هذه اللحظة المركزية، بل لعله يتسع — فيما سيبدو لاحقًا — بإطار هذه اللحظة ليشمل البعض ممن بعدَهم أيضًا. ولعل ذلك كان، في جزء منه دفاعًا صريحًا عن أوضاعٍ سياسيةٍ معيَّنة من جهة، واختبارًا لنمط الحركة التاريخية (من الأفضل إلى الأقل فضلًا) على فتراتٍ تاريخيةٍ لاحقة من جهةٍ أخرى، وذلك رغم أنه، والأشعري قبله، يسكُت تمامًا عن أي ذكرٍ للخلاف في حقبة عثمان.
١١٦  ابن خلدون، المقدمة، سبق ذكره، ج٢، ص٦١٧ و٦٢٤.
١١٧  الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، سبق ذكره، ص٧٨.
١١٨  ولا بد، هنا، من التنويه، بأن هذا السعي إلى الخروج بها من التاريخ، كان يتحقَّق بفضل التاريخ، لا رغمًا عنه؛ أعني أنه كان نتاج السعي إلى تكريس واقعٍ سياسيٍّ ما.
١١٩  فثمَّة — حسب الإيجي — من «أنكر وقوع الفتن والحروب بين الصحابة»، وثمَّة أيضًا من «سكت — حال الإقرار بوقوعها — عن الكلام فيها». وإذ يُفضِّل الإيجي هذا الإقرار مع السكوت — وذلك من حيث إن الإنكار كليًّا «مكابرة للتواتر»، وهو آليةٌ أشعريةٌ جديرة بالاعتبار — فإنه لم يفعل إلا أن راح يكرِّس توجهًا أشعريًّا أصيلًا، انظر: الإيجي، المواقف، سبق ذكره، ص٤١٣. وهكذا يكون الأمر قد ابتدأ مع «الأشعري وابن خلدون» باعتبار ما جرى بين الصحابة على الاجتهاد والتأويل، رغم أنه قد يكون تأويلًا لم يُوصل إليه، ولم يُوقف عليه (حسب الآمدي)، ثم آل الأمر إلى القطع بوجوب الكَف والسكوتِ عما جرى بينهم (الباقلاني، الآمدي، الرازي، الإيجي)، حتى تطوَّر الأمر أخيرًا باتجاه إنكار وقوع هذه الأخبار كليًّا.
١٢٠  إذ بالرغم من أن التحول باللحظة إلى بنيةٍ متعاليةٍ أو نموذج، هو — في جوهره — تحوُّلٌ معرفي؛ أعني أنه مشروط بشكلٍ محدَّد في إنتاج المعرفة، إلا أنه ينطوي أيضًا على دلالة «نفسية» مرضية؛ وذلك من حيث يؤدي إلى «تثبيت» الوعي عند هذه اللحظة لا يتجاوزها؛ إذ الوعي، هنا، ينتج شكلًا معرفيًّا ما، لكنه سرعان ما يدرك اغترابه أمام ما ينتجه هذا الشكل، ولا شك في أن اغترابه، هذا، هو نتاجُ وهمٍ من طبيعةٍ نفسية لا معرفية، لكنه يبقى أن «المعرفي» و«النفسي» يتضافران معًا في تكريس مركزية وهيمنة هذه اللحظة-النموذج.
١٢١  وإذ لم يعرف هذا الشكل المعرفي المهيمن منذئذٍ وللآن، إلا هذا الإنتاج لموضوعه كنموذج، فإنه راح ينتج كل موضوعاته على هذا النحو، وبصرف النظر عن مصادرها؛ وأعني أنه أحالها جميعًا إلى نماذجَ لا تاريخية مفارقة.
١٢٢  إذا كان «الأشعري» قد راح، فيما سبقت الإشارة، يتحدث عن «التعبُّد» بتوقير الصحابة، وكان يعني الخلفاء منهم خاصة، فإن ابن حزم يتحدث صراحة عن «المقدس المطهر البائن فضله على جميع الناس ». انظر: ابن حزم: الفصل في الملل والأهواء والنحل، سبق ذكره، ج٤، ص١٠٠، وهكذا يبدو وكأن الحديث المتداول عن النبوة والخلافة قد انتقل إلى فضاء «التعبُّد» و«التقديس» وهو فضاء متعالٍ ولاتاريخي بالطبع.
١٢٣  وإلى الآن فإن كل قراءة لواقع الذات لا تدرك فيه أبدًا إلا تاريخًا للسقوط والتدهور، لكنها لا تتخذ من هذا الإدراك نقطة تبدأ منها التحليل والفهم والتفكيك من الداخل، بل لتبرر به سعيها إلى القفز عليه بأَسْره، والتماهي مع ما تتصوره نموذجها الأعلى خارجه. وهكذا لا تتكشَّف هذه القراءات — إلا فيما ندر — إلا عن القفز على تاريخ الذات المنهار إلى التماهي مع جملة نماذج مستعارة من خارجه، وضمن هذا السياق لا يتميز القفز إلى «السلف» عن القفز إلى «الغرب»؛ إذ الجميع في الفكر يقفزون. والحق أن هذه القراءات لم تفعل — عَبْر هذا القفز — إلا تكريس المزيد من الانهيار والتدهور في واقع الذات، وذلك لأنه لا تقدم أبدًا إلا في التاريخ بينما هي لا تعرف إلا القفز خارجه.
١٢٤  ولعل ذلك يتفق مع ما ورد في حديث النبي من «أن الله يبعث على رأس أُمتي كل مائة عام، من يجدِّد لها دينها»؛ وبما يعني أن على رأس كل حقبة (أو مائة عام) نموذجًا (أو مجدِّدًا) يبدأ منه الانهيار اللاحق.
١٢٥  وإذ يتخذ هذا النمط (نموذج/تدهور) صورة الزوج (خلافة/مُلك) — شرطَ أن تُفهم الخلافة هنا بوصفها «معنًى» يمكن أن يدوم، وليس بما هي مجرد «حقبة» منقضية — فإن ابن خلدون راح يرى معاني الخلافة قائمةً مع معاوية — وكعهده يسكُت عن يزيد — «وكذلك مع مروان بن الحكم وابنه [عبد الملك]، وإن كانوا ملوكًا، فلم يكن مذهبهم في المُلك مذهَب أهل البطالة والبغي؛ إنما كانوا متحرِّين لمقاصد الحق [أي لمعاني الخلافة] جهدَهم، إلا في ضرورة تحملهم على بعضها خشيةُ افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد (واللافت أن ابن خلدون لا يجد ما يبرِّر به ما أحدثه الأمويون إلا هذه الخشية من افتراق الكلمة؛ والعجيب أنها ليست كلمة «الأمة»، بل كلمة «العصبية»، عصبية بني أمية بالطبع)، يشهد لذلك (أي لقيامهم بمعاني الخلافة) ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء، وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم، فقد احتج مالك في «الموطأ» بعمل عبد الملك، وأما مروان فكان من الطبقة الأولى للتابعين، وعدالتُهم معروفة، ثم تدرَّج الأمر في ولد عبد الملك، فكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه، وتوسَّطهم عمر بن عبد العزيز، فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهدَه، ولم يهمل (وبما يعني بقاء معاني الخلافة في هؤلاء)، ثم جاء خَلَفُهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم، ونسُوا ما كان عليه سلفهم من تحرِّي القصد فيها باعتماد الحق في مذاهبها [وبما يعني ذهاب معاني الخلافة، وبحيث لم يبقَ إلا اسمُها، وصار الأمر ملكًا بحتًا]، وكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعَوا عليهم أفعالهم، وأدالوا بالدعوة العباسية منهم، وولي رجالها الأمر، فكانوا من العدالة بمكان، وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه [أي حسب معاني الخلافة] ما استطاعوا؛ حتى جاء بنو الرشيد من بعده، فكان منهم الصالح والطالح، ثم أُفضي الأمر إلى بنيهم فأعطَوا الملكَ والترفَ حقه، وانغمَسوا في الدنيا وباطلها، ونبذوا الدين وراءهم ظهريًّا [وبما يعني ذهاب معاني الخلافة ثانية]، فتأذَّن الله بحربهم، وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة، وأمكَن سواهم منه.» ومن حسن الحظ أن ابن خلدون قد أشار إلى أن «المسعودي» بدوره قد أرَّخ لبني أمية حسب هذا النمط لا غير، انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٢، سبق ذكره، ص٦٠٥–٦٠٨.
١٢٦  وليس يتسع المجال لذلك في نطاق هذه الدراسة التي تجعل موضوعها جملة المفاهيم وأنظمة الإنتاج المعرفي الثاوية في جوف الخطاب التاريخي فتوجِّهه، دون أن تكون حاضرةً فيه على نحوٍ مباشر.
١٢٧  وهكذا فإن إقرار المؤرخ، أي مؤرخ، بلحظةٍ مركزيةٍ أو نموذجيةٍ يبدأ منها تاريخ الدولة أو الحقبة، التي يؤرِّخ لها، مسيرته (التي تكون تدهورًا متزايدًا بالنسبة لها)، لا يرتبط فقط بأنه يكتب تاريخه، في الأغلب، بأمرٍ من «صاحب السلطان»؛ الأمر الذي يقتضي مركزةً للفضل حول لحظةٍ ما في دولته، وهي لحظة لا بد أن تقع (مع المؤسس) في بدء تاريخ الدولة المؤرَّخ لها، وذلك لأنها اللحظة التي تكتسب منها كلُّ اللحظات اللاحقة لها شرعيتها، بل إنه يرتبط — أيضًا — بأن ثمَّة نظامًا معرفيًّا ثاويًا يوجِّه عمله التاريخي، رغم أنه غير حاضر فيه على نحوٍ مباشر؛ بمعنى أن حضوره يكون غير مُوعًى به من جانب المؤرِّخ.
١٢٨  والحق أن ذلك يعني أن نمط التدهور أو السقوط يبقى دائمًا لا ينكسر، رغم الحديث عن المجدِّدين الذين يبعثهم الله على رأس الأمة كل مائة عام؛ ذلك أنهم، وفيما يبدو، يكرِّسون نمط التدهور، لا يرفعونه.
١٢٩  ومن هنا فإنه يبدو وكأن الأمر يمضي في كل ما أبدعَتْه الحضارة من علوم، حسب هذا النمط تقريبًا. «إذ المتقدمون من أهل العلم [أي علم] أقعَد به من غيرهم من المتأخرين؛ فالمتأخِّر لا يبلغ من الرسوخ في علمٍ ما مَا بلغه المتقدِّم. وحسبك من ذلك أهل كل علمٍ عملي ونظري؛ فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين.» هكذا يقطع «الشاطبي»، مؤكدًا على أن ذلك نمطٌ عام لا ينطبق على علمٍ دون آخر، بل «هو أمرٌ مُشاهَد [بالتجربة] في أي علم كان»، وإذا كان اختصاصه بعلوم الشريعة قد جعله يمضي إلى أن «كتب المتقدمين وكلامهم وسِيَرهم أنفعُ لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم على أي نوعٍ كان، وخصوصًا علم الشريعة»، فإن ذلك لا يدحضُ حكمة العام، بل لعله يدعمُه. انظر: الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، سبق ذكره، ج١، ص٦١-٦٢. ولعل هذا التصور يكاد يتردَّد، وبنفس مفرداته تقريبًا، ضمن بناء كل علم، ومن دون استثناء تقريبًا.
١٣٠  البيجوري، تحقيق المقام، سبق ذكره، ص١٤، والملاحظ أنه لا ذكر البتة لهذا الحديث المنسوب للنبي في المصنَّفات الأشعرية الأولى؛ حيث الأمر في هذه المصنفات قد وقف عند حدود التفاضل بين الأشخاص فقط. ولعل النص النموذجي الذي يعكس الانتقال من التفاضل بين الأشخاص إلى التفاضل بين الأزمنة والعصور، قد ورَد مع الآمدي في القرن السادس الهجري، حيث يقول: «يجب أن يُعتقد أن أبا بكر أفضل من عمر، وأن عمر أفضل من عثمان، وأن عثمان أفضل من عليٍّ، وأن الأربعة أفضل من باقي العشرة [المبشرين بالجنة] والعشرة أفضل ممن عداهم من أهل عصرهم، وأن أهل ذلك العَصْر أفضلُ ممن بعدَهم، وكذلك من بعدَهم أفضل ممن يليهم.» انظر: الآمدي، غاية المرام، سبق ذكره، ص٣٩١.
١٣١  البيجوري، تحفة المريد، سبق ذكره، ص٩٠.
١٣٢  والحق «أن المتتبع لتاريخ علم العقائد يجد هناك تشخيصًا واضحًا للنبوة، أي التركيز على النبوة كشخص، دون النبوة كرسالة، وتظهر النبوة كشخص في الإسراء والمعراج، وفي التفضيل بين الرسل والأنبياء ثم تتشخَّص في سيرته الذاتية، أولاده ونسبه، وأصحابه وزوجاته؛ مرة في علاقته بالصوري ومرة في علاقته بالمادي، مرة بالنسبة إلى الروح ومرة بالنسبة إلى البدن.» انظر: حسن حنفي، من العقيدة إلى الثورة، ج٤، النبوة، المعاد، سبق ذكره، ص٢٠٤. واللافت أن هذا التشخيص قد راح يتضخَّم إلى أن أصبح أحد أصول الاعتقاد في المؤلَّفات المتأخرة.
١٣٣  وحسب الأشاعرة، فإنه يستحيل — وحتى وعلى فرض تصوُّرها «كقيمة» — استعادتها على نحوٍ خلاق، وذلك لأن نظامهم في إنتاجها معرفيًّا، لا يعرف — وفيما سبقت الإشارة — إلا مجرد التكرار والاجترار؛ وهو ما تستحيل معه الاستعادة الخلَّاقة لها، لا شك.
١٣٤  وهكذا يتضافر تصوُّر النموذج «مطلقًا خارج سياق تاريخه»، مع تصوره «مشخَّصًا»، في تكريس هيمنته ومعه التدهور بالتالي. لكنه بينما يبدو النموذج، حال تصوره مطلقًا خارج سياق تاريخه، مما يمكن تجاوُز هيمنته (ورفع التدهوُر بالتالي)، وذلك بردِّه إلى تاريخه الذي ينتزعه الفكر منه ويتعالى به عليه، فإنه يتعذَّر حال تصوُّره مشخَّصًا تجاوز هيمنته؛ لأن ذلك يبدو مشروطًا بحضور للشخص هو مما يستحيل لا شك.
١٣٥  ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، سبق ذكره، ج٤، ص٩٤-٩٥.
١٣٦  البغدادي، أصول الدين، سبق ذكره، ص٢٩٨–٣٠٣.
١٣٧  المصدر السابق، ص٣٠٣.
١٣٨  المصدر السابق، ص٣٠٥، وإذ التابعية، هكذا، لا تتأسَّس على عدم اللحاق بزمان النبي، بل على غياب الإدراك الشخصي له (عَبْر الرؤية أو السماع)، فإن ذلك يكشف عن ذروة التشخيص لا شك.
١٣٩  المصدر السابق، ص٣٠٤.
١٤٠  وإذ يجعل البغدادي آخرهم (أي التابعين) في الطبقة، من لقي أنس بن مالك، وعبد الله بن أبي أوفي … (أصول الدين، ص٣٠٥)، وهم الذين يعدُّهم من متأخري الصحابة (الفَرق بين الفِرق، ص١٥)، فإنه يؤكِّد على قيمة الحضور الشخصي غير المباشر للنبي (عَبْر الصحابة)، وذلك من حيث ترتبط الطبقة الأولى من التابعين بإدراك طبقة الصحابة الأوائل؛ الأكثر صحبة بالطبع، فيما ترتبط الطبقة الأخيرة منهم بإدراك متأخري الصحابة الأقل في الصحبة لا شك.
١٤١  ابن حزم، الفِصل في المِلل والأهواء والنِّحل، ج٤، سبق ذكره، ص٩٣.
١٤٢  والحق أن هذا التصور للفعل يرتبط، في التحليل الأخير، بتصوره — حسب الأشاعرة — مخلوقًا لله؛ ولهذا فإنه يأتي — وككل خلقه — مفتقرًا إلى ما يتقوَّم به ذاتيًّا، وذلك لتبقى الهيمنة مطلقةً ودائمةً لله، عَبْر خلقه المستمر لكل ما في العالم من موجودات وأفعال. واللافت أن تصوُّر الفعل من صنع الإنسان لا يفترض أبدًا افتقاره إلى ما يتقوم به ذاتيًّا، بل لعله يقتضيه؛ وذلك من حيث أن هذا التقوُّم الذاتي للفعل (أو حتى للموجود) هو فقط ما يجعله موضوعًا للإدراك من العقل.
١٤٣  ولهذا فإننا «لو قدرَّنا إنسانًا خُلق تام الفطرة، كامل العقل دفعةً واحدة، من غير أن يتخلق بأخلاقِ قوم، ولا تأدَّب بآداب الأبوَين، ولا تزيَّا بزي الشرع، ولا تعلَّم من معلِّم، ثم عُرض عليه أمران، أحدهما: أن الاثنَين أكثر من واحد، والثاني أن الكذب قبيح، فلا شك أنه لا يتوقف في الأول، بينما يتوقَّف في الثاني.» انظر: الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، نشرة الفرد جيوم، أكسفورد، لندن، ١٩٣٢م، ص٣٥٢.
١٤٤  الباقلاني، التمهيد، سبق ذكره، ص١٠٥.
١٤٥  فإذ الافتقار، من الموجود أو الفعل، إلى التقوُّم الذاتي، هو الجذر البنيوي المؤسِّس للنسق الأشعري، فإن كافة عناصر هذا النسَق — وضمنها الأنطولوجيا بالطبع — لن تكون غيرَ حقولٍ لتجلي هذا الجذر المؤسِّس.
١٤٦  الباقلاني، التمهيد، سبق ذكره، ص١٠٥.
١٤٧  المصدر السابق، ص١١٤.
١٤٨  وإذ الفعل هكذا، فإن الخبر عنه (وهو أساس الكتابة التاريخية) قد صار من نفس طبيعته؛ وأعني أنه صار — مثل الفعل — لا ينطوي في ذاته على ما يتقوَّم به، ولعل ذلك ما جعل «الإسناد» هو السمة الجوهرية للكتابة التاريخية عند المسلمين عمومًا؛ وذلك من حيث قامت، بالأساس، على تصوُّر للخبر لا ينطوي في ذاته على ما يتعيَّن به صدقه أو كذبه، فراحت — لذلك — تلتمس ما يؤسِّسه (أي الخبر) في الشهادة عليه من خارجه؛ وأعني بناء الخبر على مجرد إسناده إلى عدالة ناقليه. ومن هنا، فإن أي جهدٍ نقديٍّ انطوت عليه هذه الكتابة، قد انصرف — بالأساس — إلى مجرد اختبار سلسلة الإسناد، وإدراك الحلقة الأضعف فيها، ومن دون السعي أبدًا إلى فحص ما ينطوي عليه الخبر ذاته؛ وذلك لا لشيءٍ إلا لأنه لا ينطوي في ذاته على ما يتقوَّم به بالطبع. والحق أنها — لذلك — لم تكن كتابةً في التاريخ، بل كانت مجرد إخبار فقط؛ حيث التاريخ ينطوي على نشاطٍ تركيبيٍّ تفتقر إليه هذه الكتابة الإسنادية لا شك، ومن المفارقات أن ابن خلدون قد سعى إلى تجاوز هذا التقليد في الكتابة التاريخية، فراح يرى في التاريخ تركيبًا للوقائع تُصبِح فيه قابلةً للتفسير استنادًا إلى مفهومٍ باطني يتكشَّف عنه هذا التركيب ذاته. وبصرف النظر عما إذا كان ابن خلدون قد أخلص لتقليده في الكتابة، أم أنه ظل عاجزًا — وخصوصًا في كتاب العِبَر — عن تجاوز التقليد «الإسنادي» المتداوَل في كتابات كبار المؤرِّخين قبله، والذي انتقدَه هو نفسه، فإنه يبقى أن إخلاصه للتصوُّر الأشعري للتاريخ قد ظل راسخًا، لم يزعزعه هذا التقليد الكتابي الذي راح يفكِّر فيه في المقدمة؛ وذلك من حيث إن التركيب التاريخي للوقائع، حول مفهوم العصبية المهيمن في المقدمة، إنما يكرِّس هذا التصوُّر … لا يدحضه.
١٤٩  ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، سبق ذكره، ج٤، ص١٠٢، وإذ صار البعض من الأشاعرة إلى إكمال النص (من كلام الله أو الرسول) بإضافة الإجماع (الأشعري، الإبانة، ص٧٦)، والاجتهاد (الآمدي، غاية المرام، ص٣٩١)، فإنه بدا وكان ثمَّة الإلحاح على معرفة التفضيل بأدلة الشرع الأربعة التي تؤسِّس للفقه، فبدا وكأن التاريخ الأشعري لا يجد ما يؤسِّسه في الأخلاق فقط، بل وفي الفقه أيضًا. والحق أن ذلك يكشف، في العمق، عن مأزق تاريخٍ مقيَّد إلى سلطة «النص»، وبما لا يدع له إمكانيةَ الاستقلالِ بمسارٍ خاص. ومن هنا فإنه لا يشكِّل تاريخًا لحضور الإنسان الفاعل في العالم، بل اختبارًا لمدى الخضوع المطلَق لسلطة النص.
١٥٠  البزدوي: أصول الدين، سبق ذكره، ص٢٠٢.
١٥١  والحق أن هيمنة الأخلاق على هذا التاريخ، لا تقف عند حدود المضمون؛ وأعني من حيث يتأسس التاريخ — كنظامٍ معرفي — على تصوُّر للفعل تُعَد الأخلاق حقله المؤسِّس، بل تتجاوزه إلى مستوى الشكل، وذلك من حيث يتكشَّف عن أسلوبٍ تبدو فيه الكتابة ذات طابعٍ وعظي أخلاقي؛ بل إنها تتأسَّس — كشكل كتابي — على «الشهادة» والثقة في الرواة؛ وبما ينطوي عليه ذلك من طابعٍ دينيٍّ أخلاقي؛ ولهذا كان التاريخ يعتمد الثقة بأشخاص الرواة مقياسًا وحيدًا لصحته، وليس ثمَّة ما هو أكثر من ذلك، مما يكرِّس أخلاقيته.
١٥٢  والحق أنه فقط شكل القياسي الفقهي؛ لأن ثمَّة ما يميِّز الفقه عن التاريخ؛ حيث الفعل أو الواقعة — في سياق الفقه — لا بد أن تنطوي في ذاتها على ما يبرِّر قياسها على غيرها، وبما يعني أنها تتقوَّم ذاتيًّا (بما يراه الأصوليون «العلة»)، في حين لا مجال في التاريخ لأي تقوُّمٍ ذاتي للأفعال أو الوقائع.
١٥٣  والحق أن تصوُّر التاريخ على هذا النحو؛ أعني مجرد المقايسة، قد أحاله إلى ممارسةٍ آليةٍ رتيبة، راح فيها الوعي يقرِّر «أن الشبهات التي وقعَت في آخر الزمان هي بعينها تلك التي وقعَت في أول الزمان، [وقياسًا] يمكن أن يقرِّر في زمان كل نبي ودور صاحب كل ملة وشريعة؛ أن شبهات أمته في آخر زمانه، ناشئة من شبهات أول زمانه من الكفار والملحدين، وأكثرها من المنافقين، وإن خفي [على الوعي] ذلك في الأمم السالفة لتمادي الزمان، فلم يَخفَ في هذه الأمة [الإسلامية] أن شُبهاتِها نشأَت كلها من شبهات منافقي زمن النبي عليه السلام.» انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج١، ص١٩. وإذ لا شيء، هنا، إلا مجرد القياس العقيم لشبهات آخر الزمان على تلك التي وقعَت أوله، فإن الوعي قد انشغل، جوهريًّا، لا بما تنطوي عليه كل حِقبةٍ تاريخيةٍ من حقيقة تخصُّها (إذا جاز بالطبع أن التاريخ الأشعري ينطوي في ذاته على ما يتعيَّن به)، بل بمجرد الإدراك الخارجي المحض لما يجعلها مجرد استمرار لحِقَب سبقتها؛ وهو الاستمرار الذي تتكشَّف فيه جميعًا عن حقيقة التدهور والسقوط؛ وبكيفيةٍ واحدةٍ تقريبًا. ولعل في ذلك ما يفسِّر انشغال المؤرخين المسلمين، ومن دون استثناءٍ تقريبًا، بكتابة تاريخٍ كونيٍّ شاملٍ لا يقدِّم إلا عرضًا مملًّا لحقيقةٍ كليةٍ واحدةٍ تتخطى حدود الزمان، وتطمس كل تمايُز فيه بين حِقبة وأخرى، وليس تاريخًا يقرأ فيه المؤرخ كل حِقبة ضمن حدودها الخاصة. وإذ قد يرى البعض في ذلك دنوًّا من التصوُّر الهيجلي للتاريخ، فإن الأمر يقتضي بيانًا للفارق الجوهري الذي يتبدَّى في أن كل حقبةٍ تاريخيةٍ تلعب — حسب هيجل — دورًا في بناء الحقيقة الشاملة، ومن دون أن تكون مجرد عرضٍ آليٍّ لها؛ وهو ما يعني أنها تنطوي على حقيقتها الخاصة رغم اندماجها بالطبع في إطارِ حقيقةٍ أشمل تتجاوزها.
١٥٤  وإذ يكشف ذلك عن انتظام ابن حزم — ولو في مجال التفضيل تحديدًا — ضمن النسَق الأشعري، فإنه يبدو وكأن الإلحاح على «قطيعة معرفية» تفصل بينه (بوصفه مغربيًّا أندلسيًّا)، وبين سائر مفكِّري المشرق ليس له ما يبرِّره، انظر: سالم يفوت، ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، (المركز الثقافي العربي)، بيروت – الدار البيضاء، الطبعة الأولى، ١٩٨٦م، والكتاب بأَسْره — وبدلالة مجرد العنوان — مكرَّس للتأكيد على هذه القطيعة. والحق أنه يبدو أن ثمة ما يتميز به ابن حزم بالفعل، وحتى في إطار التفضيل ذاته، وذلك من حيث ينفرد بتفضيل نساء النبي () على صحابته، وكذلك بتفضيل عائشة على فاطمة؛ وهو ما يرتبط بغايةٍ سياسيةٍ فرضَها الوضع في الأندلس. انظر: المصدر السابق، ص٧٣ وما بعدها. لكنه يبدو أن النظام المعرفي المهيمِن على نسَق تفكيره في التفضيل خاصة، لا يفارق — في الأغلب — بنية النظام المهيمِن على النسَق الأشعري بأَسْره. والحق أن الحديث يتزايد في العديد من الكتابات المغربية الراهنة عن «قطيعة معرفية» تفصل مفكِّري المغرب والأندلس على العموم (وإن تميَّز ابن حزم وابن رشد وابن خلدون بوضعٍ خاص) عن مفكِّري المشرق. وإذ الأمر فيما يتعلق بابن حزم، يحتاج إلى دراسةٍ أوفى، فإنه قد بدا، وفيما يتعلق بابن خلدون، استحالة قراءته البتة إلا عَبْر انتظامه ضمن بنية النسَق الأشعري، رغم أنه يبدو للوهلة الأولى، وكأن القطيعة بينهما كاملة، وإنْ على صعيد الشكل على الأقل.
١٥٥  ولعل ذلك ما حقَّقَته النصوص الأشعرية على نحوٍ صريح، حين راحت تنتقل مباشرة من «التفضيل» إلى تعيين «من يجب تكفيره من الفِرق». انظر مثلًا: البغدادي، أصول الدين، الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، والإيجي، المواقف. والحق أن ذلك يؤكِّد على أن التكفير ليس مجرد زائدة في النسَق.
١٥٦  الباقلاني، الإنصاف، سبق ذكره، ص٦٠؛ والإيجي، المواقف، ص٤١٣.
١٥٧  البغدادي، الفَرق بين الفِرق، سبق ذكره، ص٣، ٤. والكتاب بأَسْره مكرَّس لفضائح الفرق … يدينُها باستسهالٍ بالغٍ في إطلاق أحكام التكفير، وبمفردات تجاوز حدود الأدب أحيانًا، وهو ما يتناقض — على نحوٍ لافت ودال — مع الآلية الأشعرية المعتبَرة في إنتاج لحظة الفضل؛ حيث التأكيد هنا للمرء: «إياك أن تعوِّد نفسك أو لسانك التعرُّض لأحد منهم [ممن ينتمون لهذه اللحظة]، ولا تشوِّش قلبك بالريب في شيءٍ مما وقع منهم، والتمِس لهم مذاهبَ الحق وطُرقَه ما استطعت.» انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٢، سبق ذكره، ص٦٢٤.
١٥٨  وللآن فإنه يبدو وكأن الخطاب العربي ينطوي، عند سطحه، على تاريخَين؛ أعني تاريخَين ثقافيَّين بالطبع، يُضادُّ الواحد منهما الآخر بالكلية، ويسعى إلى إزاحته ونفيه.
١٥٩  البغدادي، الفرق بين الفِرق، سبق ذكره، ص١٢، وكذا الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١٢.
١٦٠  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، سبق ذكره، ص٦١٧.
١٦١  البغدادي، الفَرق بين الفِرق، ص١٤.
١٦٢  المصدر السابق، ص١٤.
١٦٣  ولعله يلزم هنا التنويه بأنها لحظةٌ مرنة، تتسع عند البعض (ابن خلدون مثلًا) لتبلغ حدود التابعين.
١٦٤  المصدر السابق، ص١٤.
١٦٥  وهكذا يرى الشهرستاني أن كافة الاختلافات (أو الشبهات) «ترجع جملتُها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالحق، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص.» انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج١، سبق ذكره، ص١٧.
١٦٦  ومن حسن الحظ أن هذا الحضور للوحي في المطلَق يقع خارج حدود التجربة الإنسانية؛ وذلك لا لقصورٍ بنيوي في بنية هذه التجربة، ولكن لأنه (أي الوحي) بمجرد انفتاحه على هذه التجربة يصبح حضورًا في العالم، لا في المطلق؛ الأمر الذي يعني أن الإنسان لا يعرف الوحي إلا حضورًا في العالم، لا في المطلَق. وأعني أنه لا يعرف إلا الوحي مسكونًا بالتعدُّد والاختلاف، وليس الوحي كهُويةٍ صوريةٍ خاوية.
١٦٧  وبالرغم من أنه يبدو وكأن القصد الجوهري للنسَق الأشعري هو الوحي، لا العالم، إلا أنه يبدو — وتلك مفارقة — أن السعي الأشعري المعلَن إلى تغييب العالم، والإلحاح — في المقابل — لا على مجرد استحضار «الإلهي»، بل والتوحُّد معه، هو في جوهره قناع للهيمنة على العالم، ولكن لا على نحوٍ مباشر، بل عَبْر التوحُّد مع الإلهي توحُّدًا يبدو فيه التنكُّر للنسق تنكُّرًا لله نفسه.
١٦٨  البغدادي، الفَرق بين الفِرق، سبق ذكره، ص٣.
١٦٩  «فهذه صفةٌ مختصةٌ بنا.» انظر: الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١١٤.
١٧٠  المصدر السابق، ص١١٥.
١٧١  المصدر السابق، ص١١٤.
١٧٢  حسب الإسفرائيني فإنه قد «جاء في رواية أنه ، سُئل عن الفرقة الناجية، فقال: الجماعة»، ويزيد القول إن «عبد الله بن عمر رضي الله عنه روى عن النبي في تفسير قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ إن الذين تبيضُّ وجوههم هم «الجماعة»، والذين تسودُّ وجوههم هم «أهل الأهواء».» انظر: التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١١٤-١١٥. وهكذا يبدو وكأن مفهوم الجماعة قد تبلوَر (وبالدلالة التي ينطوي عليها) مع النبي نفسه، وقبل أن يكون ثمَّة انقسام بالفعل بين «الجماعة» و«أهل الأهواء»؛ الأمر الذي يبرِّر التصارُع بين الفِرق على الفوز بوصف الجماعة. ومن غير شك فإن أي صراعٍ حول المفهوم لا يكون ممكنًا ما لم يكن مشحونًا بالقيمة أصلًا. وحتى لو أن المفهوم قد تبلور لاحقًا — وهو ما حدث بالفعل — ثم راح النسَق يردُّ نشأته إلى حقبة النبوة (وهي مصدر القيمة) فإن ظلال القيمة تبقى مهيمنةً لا شك.
١٧٣  انظر مثلًا: الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، سبق ذكره، ص١٢٢.
١٧٤  إذ النسَق الأشعري يجتهد دومًا في الابتعاد بكل ما يفكِّر فيه عن كل ما يربطه بحقل الأيديولوجيا، ساعيًا إلى تحويل هذا الذي يفكر فيه إلى بنيةٍ إبستيمولوجيةٍ خالصة مبرَّأة من أي حضور للأيديولوجيا، أو حتى التاريخ. ورغم أن الأيديولوجيا، هكذا، تدخل في نطاق اللامُفكَّر فيه داخل النسَق، فإن استحالة فهم «المفكَّر فيه»، وتفسيره داخل النسَق، إلا عَبْر الوعي بهذه الأيديولوجيا يجعل التفكير فيها ضروريًّا لا شك.
١٧٥  وهنا لا بد من ملاحظة أن اختبار البنية العميقة لنسَقٍ ما، لا يتحقَّق فقط من خلال قدرتها على تفسير العناصر التي تنتمي إلى مجالها المعرفي الخاص بفضلِ ما بين هذه العناصر من تماثُل وائتلاف، بقَدْر ما يتحقَّق، وعلى نحوٍ أعمق، من خلال قدرتها على تفسير هذه العناصر، حتى رغم ما قد يكون بينها من تبايُن واختلاف، بل إن تباين العناصر واختلافها يؤكد البنية، على نحو أكثر جوهرية، من مجرد تماثُلها وائتلافها.
١٧٦  الشهرستاني، الملل والنحل، ج١، سبق ذكره، ص١٦-١٧.
١٧٧  ولأن الأمر على هذا النحو، فقد «شبه النبي كل فرقةٍ ضالة من هذه الأمة بأمةٍ ضالة من الأمم السالفة، فقال: «القدرية مجوسُ هذه الأمة» وقال: «المشبِّهة يهود هذه الأمة، والروافض نصاراها»، وقال عليه الصلاة والسلام جملة: «لتسلكُن سُبل الأمم قبلكم حَذو القُذة بالقُذة، والنعل بالنعل، حتى لو دخلوا جُحْر ضبٍّ لدخلتموه».» انظر: المصدر السابق، ج١، ص١٩. ومن هنا راح مصنِّفو الفِرق يرَون في ضلال كل فرقةٍ صورةً لضلالٍ سابق، مؤكِّدين على أن التاريخ — لا فيما يتعلق بالفضل فقط — هو تاريخ التكرار المملِّ الفارغ.
١٧٨  وإذ يبدو التكرار — لا التجاوز — هو الثابت البنيوي الذي ينتظم علاقة الخطاب بنماذجه، سواء تعلق الأمر بالفضل أو الكفر، فإن في ذلك ما يؤكد على أن بنية الخطاب العربي المعاصر، لم تجاوز بنية سلفه التراثي؛ وذلك من حيث إن ما ينتظم علاقته بنماذجه (التي هي معاصرة بالطبع) هو التكرار، لا التجاوز أيضًا.
١٧٩  «فاللعين الأول [إبليس] لما حكَّم العقل على من لا يحكم عليه العقل، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق أو حكم الخلق في الخالق، والأول غلوٌّ، والثاني تقصٍّ، فثار من الشبهة الأولى مذاهب: الحلولية والتناسُخية والمشبهة، والغلاة من الروافض، حيث غلَوا في حق شخصٍ من الأشخاص حتى وصفوه بأوصاف الآلهة. وثار من الشبهة الثانية مذاهب: القدَرية والجبَرية والمجسِّمة، حيث قصروا في وصفه تعالى حتى وصفوه بصفات المخلوقين.» انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج١، سبق ذكره، ص١٨. ولعله يلزم التنويه بأنه في حين يجعل النسَق الأشعري من هذه الفرق-الخصوم مجرد امتدادات لضلالٍ أصليٍّ سابق يجسِّده نموذج الضلال الأول إبليس، فإنه راح يرى نفسه مجرد امتدادٍ لأصلٍ سابق أيضًا، ولكنه أصل الفضل بالطبع.
١٨٠  وإذ يبدو كذلك، أن «المماثلة» لا تنتظم فقط علاقة الخطاب العربي المعاصر بنماذجه المستعارة من خارج واقعه، بل تنتظم علاقة سلفه التراثي أيضًا بنماذجه المطلقة، فإن في ذلك ما يدل على أن ثابتًا بنيويًّا واحدًا ينتظم الخطابَين رغم تبايُنهما الظاهر، وأعني أنه إذا كان الخطاب المعاصر لم يعرف إلا أن ينتزع من تراثه بعض الأفكار المتناثرة، ساعيًا إلى إقامة ضرب من التماثل بينها وبين النماذج المراد استعارتها من خارجه، وذلك باعتبار أن هذا التماثُل هو وحده ما يبرِّر هذه الاستعارة، فإن الخطاب التراثي لم يعرف، بدوره، إلا مجرد المماثلة بين كل فضلٍ أو كفرٍ لاحق، وبين نماذجهما الأولى المطلقة التي تقوم خارج التاريخ. وهكذا يبدو الخطاب — وبشكلَيه التراثي والمعاصر — ساذجًا تقوم معرفته بالظواهر على مجرد الإدراك الخارجي المحض لأوجه التشابه والتماثُل بينها من جهة، وبين نماذجها الأولى من جهةٍ أخرى.
١٨١  البغدادي، الفرق بين الفِرق، سبق ذكره، ص٢.
١٨٢  الإسفرائيني، التبصير في الدين، سبق ذكره، ص١١، والحق أن هذه المصنَّفات تفيض بالعديد من وجوه التعسُّف ضد الفِرق، وإلى حد أنه يُمكِن القطع باستحالة بناء معرفةٍ حقةٍ بالفِرق استنادًا إلى ما تُعلِنه هذه المصنَّفات فقط، بل إنه يُمكِن القول إن المعرفة الحقَّة بهذه الفِرق يمكنُ فقط أن تتحقَّق، لا بفضل هذه المصنَّفات، بل على الرغم منها بالأحرى.
١٨٣  ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، سبق ذكره، ج٤، ص١٠٢.
١٨٤  الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، سبق ذكره، ص١١٩.
١٨٥  إذ النص، ورغم طابعه التجريبي الظاهر الذي كان لا بد أن يجعل لغته ذات طابعٍ وصفيٍّ تقريري، يتميز بلغةٍ مسكونةٍ بالكثير من وجوه المجاز والاستعارة، انظر خاصة:
Ferial Ghazoul: “The Metaphors of Historiography: A Study of Ibn Khaldun’s Historical Imagination”, in Quest of an Islamic Humanism, Edited by A. H. Green, Cairo, The American University in Cairo Press, 1984, pp. 48–91.
١٨٦  بلغ ثراء النص حدًّا راح معه البعض يقطع بأنه: «ليس الشيطان وحده هو الذي يستطيع أن يجد في المقدمة ما يُرضيه أو يُسخطه، بل إن المؤمِن والملحِد، والكاهن والمشعوِذ، والفيلسوف والمؤرِّخ، ورجل الاقتصاد وعالم الاجتماع، وحتى كارل ماركس نفسه … کل أولئك يستطيعون أن يجدوا في المقدمة ما به يبرِّرون أي نوعٍ من التأويل يقترحونه لأفكار ابن خلدون.» انظر: محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، (دار الشئون الثقافية العامة)، بغداد، دون تاريخ، ص٥. والحق أن ثراء نص المقدمة لا يتأتى فقط من انطوائه على ما يبرِّر تأويلات هؤلاء جميعًا رغم تباينهم وتناقضهم، بل ومن قدرته على التكشُّف، خلال عدة قراءات يقوم بها وعيٌ واحد، عن ضروبٍ من المعاني المتباينة أيضًا.
١٨٧  ومن المفارقات أن ابن خلدون نفسه يؤكِّد على كون المصطلح «لا ينبغي أن يُحمل إلا على ما كان يُحمل [عليه] في عصرهم، فهو أَليَقُ بمرادهم منه.» انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٣، سبق ذكره، ص١٠٦١.
١٨٨  ابن خلدون، المقدمة، ج١، ص٢٨٥.
١٨٩  كثيرون لا شك هم أولئك الذين راحوا يقرءون ابن خلدون في ضوء الماركسية، ولكن أحدهم (وأعني نمير العاني) قد بالَغ حتى جعل عنوان کتابه: ابن خلدون وبدايات التفسير المادي للتاريخ، (دار الهمداني للطباعة والنشر)، عدن، الطبعة الأولى، ١٩٨٤م.
١٩٠  نمير العاني، ابن خلدون وبدايات التفسير المادي للتاريخ، سبق ذكره، حاشية ٢٤، ص٦١، وكذا ساطع الحصري، دراسات عن مقدمة ابن خلدون، (مكتبة الخانجي)، القاهرة، ١٩٦١م، ص١٣، وعلي عبد الواحد وافي (محقق)، مقدمة ابن خلدون، ج١، حاشية ٢٦٨، ص٣٩٨.
١٩١  محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، سبق ذكره، ص٥.
١٩٢  المصدر السابق، ص١٦٧.
١٩٣  المصدر السابق، ص١٩٥.
١٩٤  محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، (المركز الثقافي العربي)، بيروت، الطبعة الثانية، ١٩٩١م، ص٥٥١.
١٩٥  المصدر السابق، ص٥٥٢.
١٩٦  والحق أن إمكان الاختلاف معها يتأتَّى فقط من اعتبارها ليست من العناصر الحاسمة في التحليل الذي تعوِّل عليه هذه القراءة؛ وبما يعني تجاهُل إدراك الدلالة القصوى لحضورها في النص.
١٩٧  وإذا كان مأزق القراءات السابقة لابن خلدون من خارج سياقه (وفي ضوء الماركسية خاصة) يتمثَّل فيما انتهت إليه من ضرورة استبعاد بعض أجزاء نصه، أو اعتبارها زائدةً عليه على الأقل، فإن مأزق هذه القراءة الإبستيمولوجية (وهي الأكثر مراوغة على أي حال) يتمثَّل في تصور النص «خلوًا من أي أساسٍ ميتافيزيقي أو فلسفي.» (انظر: الجابري، فكر ابن خلدون: العصبية والدولة، سبق ذكره، ص٣٧١). وإذن فإن هذه القراءة تُمارِس — كسابقاتها — الاستبعاد أيضًا، لكن لا لأجزاء من النص، بل لأساسه الفلسفي والميتافيزيقي؛ فهي تستبعد أشعريته المؤسِّسة (والمعلنة) وتسكُت عنها حين يتعلق الأمر بتفسير ما يؤسس النص فلسفيًّا وميتافيزيقيًّا، ولا تعوِّل عليها إلا عند تفسير بعض وجهات النظر الجزئية في النص. وإذن فإنها ترى أن الإنجاز الخلدوني قد تبلوَر في معظمه، خارج الأشعرية، ولكنها حين ترى الحضور الأشعري لافتًا فإنها تتجاهَل مجرد الإشارة إليه. وهكذا فإنه إذا كان ابن خلدون قد مارس النقد ضد بعض علوم عصره، فإنه كان — حسب هذه القراءة — «يصدُر في نقده للعلوم المذكورة عن مقاييس [علمية]، أي مقاييس نابعة من نظريته في المعرفة، القائمة — كما رأينا — على ثنائية العقل والنفس كمصدرَين معرفيَّين، أما أن تكون هذه النظرية خاضعة للرؤية الأشعرية فهذا موضوعٌ آخر.» انظر: محمد عابد الجابري، «إبستيمولوجيا المعقول واللامعقول في مقدمة ابن خلدون»، ضمن كتاب نحن والتراث، (المركز الثقافي العربي)، بيروت – الدار البيضاء، الطبعة الثالثة، ١٩٨٣م، ص٣٩١. وإذن فإنه أن يكون ابن خلدون صادرًا في نقده لعلوم عصره عن مقاييس تراها «علمية»، فإن ذلك فقط هو ما تحتفي به هذه القراءة، أما أن تكون هذه المقاييس العلمية نابعةً من نظريةٍ تخضع أساسًا للرؤية الأشعرية، فإن ذلك ما تراه — هذه القراءة — موضوعًا آخر لا بد من السكوت عنه؛ لأنه يتعارض مع شروط اللحظة الإبستيمولوجية الجديدة التي يدشِّنها ابن خلدون، وغيره من مفكِّري المغرب والأندلس في تاريخ الفكر العربي، حسب هذه القراءة بالطبع.
١٩٨  ولعله قد يُصار إلى أن في القول بالطبع الذاتي للعمران، خروجًا عن مقتضيات النسَق الأشعري الذي لا حضور فيه البتَّة لأي تقوُّم أو فاعلية ذاتية لشيءٍ ما، بل الفاعلية في إطار الكون تُنسب إلى الشيء على سبيل التسخير، مثلما تُنسب الفاعلية، في المجال الإنساني، إلى العبد على سبيل الكسب. والحق أن الفعل الصادر عن العمران، والذي يبدو طبعًا له، ليس فعلًا ذاتيًّا للعمران، بل هو فعل لله، على الحقيقة، يُنسب للعمران على سبيل التسخير. ومن هنا فإن التدهور (أو الهرَم مثلًا)، ليس طبعًا للعمران، بمعنى أنه ليس فعلًا ذاتيًّا له، بل هو فعل لله يُنسب للعمران على سبيل التسخير. وفقط فإن اقترانه المتكرِّر بالعمران، واستقراره في العادة، على هذا النحو، هو ما يجعله يبدو طبعًا للعمران؛ الأمر الذي يعني أن الله يفعل في التاريخ من خلال هذه الطبائع، التي تبدو — والحال كذلك — مجرد كيفيةٍ أجرى بها الله العادة في العمران؛ فابن خلدون، وكسائر الأشاعرة، يفسِّر السببية بالعادة، وفقط فإنه يتميَّز عنهم بأن العادة قد استقرت عنده بما يحول دون خرقها. انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٦١٦.
١٩٩  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٧٥٤.
٢٠٠  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٧٥٤.
٢٠١  ولعل هذه «الطبيعة» تتأكد، على نحوٍ أفضل، من خلال الطابع الدوري للعمران، حسبما تصوَّره ابن خلدون والذي يؤكِّده تحليلٌ للعبارات التي يختتم بها فصوله عن العمران؛ والتي هي دومًا «والله يقدِّر الليل والنهار»، دلالة على تصوره للتدهور أقرب إلى الدورة الطبيعية لتعاقُب الليل والنهار. والحق أن العبارات الوعظية، في نهاية كل واحدٍ من فصول المقدمة، تلعب دورًا جوهريًّا في بناء النص الخلدوني؛ وذلك من حيث تبدو مجرد دوالَّ كاشفةٍ عن المغزى العميق لكل واحدٍ من هذه الفصول، بل إنه يمكن صياغة وبناء جملة المفاهيم التي ينطوي عليها النص ابتداءً من مجرد الوعي بدلالتها.
٢٠٢  استنادًا إلى نصٍّ يطرح فيه ابن خلدون رؤيته «للسبب الشائع في تبدُّل الأحوال والعوائد»، راح البعض من قُرائه في ضوء الماركسية خاصةً يتحدثون عن حضور، في نصه، لمفهوم التطوُّر التاريخي. وذلك لأنه «ما دامت الأمم والأجيال تتعاقَب في المُلك والسلطان، لا تزال المخالفة في العوائد والأحوال الواقعة» (ابن خلدون، المقدمة، ج١، ص٣٢١). والحق أن هؤلاء القُراء قد اضطُرُّوا، عند استخدامهم لهذا النص، إلى استبعاد الجوهري فيه؛ لأنه يتناقض مع ما تذهب إليه الماركسيةُ نفسُها؛ فإذ النص، فيما يبدو من الجزء المقتبَس منه آنفًا، يربط المخالفة في الأحوال والعوائد بتعاقُب المُلك والسلطان، فإنه يربط المخالفة، على هذا النحو، بما ينتمي إلى حقل السياسة، أو البنية الفوقية، وليس البنية التحتية التي تؤسِّس لكل تطور حسب الماركسية؛ إذ التبدل، حسب ابن خلدون، إنما يرتبط فقط بهيمنة عصبيةٍ ما وتدهورها. ولأن هذه الدورة العصبية لا تئول إلى تراكُم في البنية التحتية يُنتِج تطورًا ما، فإن المظهر الوحيد للتبدل والمخالفة هو العوائد، لا الوعي. ومن هنا فإنه إذا كان ما يُنتِج التبدُّل ينتمي (بما هو سياسة) إلى حقل البِنية الفوقية، فإن المظهر الذي يتبدَّى فيه هذا التبدُّل، وهو العوائد، ينتمي بدوره إلى حقل البنية الفوقية (بما هو أخلاق)، وهو ما يعني أن مظهر التبدُّل وأساسه عند ابن خلدون ينتميان — على عكس ما تقول به الماركسية — إلى البنية الفوقية التي لا تؤسِّس في الماركسية لأي تطوُّر. ومن هنا فإنه يُلاحَظ أن السياق الذي يستخدم فيه ابن خلدون هذا النص هو سياق التغيُّر والتبدُّل، وليس التطوُّر. وأخيرًا فإنه يبقى لزوم السؤال «ما الذي يتطور عند ابن خلدون؟» لأنه إذ لُوحِظ أنْ لا تطوُّر عنده في البنية التحتية، بل مجرد تبدُّل في العوائد فقط، فإنه يبدو أيضًا أن ليس ثمَّة عنده وعيٌ يلحقه التطور. وفي كلمةٍ واحدة فإن كل ما يحدث أن عوائدَ تتبدل، وليس من وعي، أو وسائل إنتاجٍ تتطور.
٢٠٣  أعني الفصلَين الرابع والخامس من الباب الثاني «في العمران البدوي»، المقدمة، ج٢، ص٤٧٤ و٤٧٨.
٢٠٤  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٤٧٥، ويُلاحَظ أيضًا أنه يخصِّص الفصل الثامن عشر من الباب الرابع «في البلدان والأمصار» في «أن الحضارة غايةُ العمران ونهايةٌ لعمره وأنها مؤذنةٌ بفساده.» ص٨٨٨، والحق أنه يلزم هنا التنويه بأن هذه «الحضارة التي شجبَها ابن خلدون، وجعلها مسئولة عن هرَم الدولة واضمحلالها هي شيءٌ آخر غير الحضارة بالمعنى الحديث والمعاصر … إنها أسلوبُ حياة أولئك الذين يعيشون من [الجاه] فقط، أولئك الذين لا يعملون ولا يُنتِجون في الوقت الذي يستهلكون فيه بغير حساب.» انظر: الجابري، فكر ابن خلدون، سبق ذكره، ص٣٥٣. ولعله يُلاحظ أنها الحضارة بالمعنى الذي تعيشه الدولة العربية الراهنة؛ وبما يعني أن بنية الدولة العربية الراهنة لم تُفارِق كثيرًا بنية الدولة موضوع التحليل عند ابن خلدون.
٢٠٥  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٤٧٤ و٨٩٢. والحقُّ أن هذا الحضور الجوهري للأخلاق في التاريخ الخلدوني، ليؤكِّد على كونه يفكِّر ضمن سياق التاريخ الأشعري الذي يجد جُل ما يؤسِّسه في حقل الأخلاق.
٢٠٦  المصدر السابق، ج٢، ص٦٠٨.
٢٠٧  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٦٠١.
٢٠٨  المصدر السابق، ج٢، ص٦٠٨. وإذ يختتم ابن خلدون هذا النص بعبارته الوعظية الأثيرة «والله مقدِّر الليل والنهار»، فإنه يكشف عن تصوُّره لدورة التدهور هنا، وكالحال في دورة البداوة والحضارة، أقرب إلى الدورة الطبيعية لتعاقُب الليل والنهار؛ وبما يعني أنه ذلك الضربُ من التدهور الذي يستحيل هنا أيضًا، رفعُه، لكونه من طبيعيةٍ لا تاريخية.
٢٠٩  المصدر السابق، ج٢، ص٥٤٦.
٢١٠  ولعل ذلك ما تؤكِّده دلالة المقطع الوعظي، الذي يختتم به ابن خلدون فصولَه الخاصة بدورة العمران؛ أي الخاصة بالانتقال من البداوة إلى الحضارة أو من الخلافة إلى الملك، وهو دومًا «والله خير الوارثين». انظر: ابن خلدون، المقدمة، ص٥٤٥ و٥٥٢ و٥٥٦ و٥٧٣ … إلخ، حيث يشير المقطع إلى أن الفَناء هو قرينُ اللحظة الأخيرة في دورة العمران؛ لأنه لا وراثة أبدًا إلا بعد الفَناء.
٢١١  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٩٤١.
٢١٢  المصدر السابق، ج٢، ص٩٤٠.
٢١٣  علي أومليل، الخطاب التاريخي؛ دراسة لمنهجية ابن خلدون، (دار التنوير)، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٩٨٥م، ص٢٠٥.
٢١٤  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٧٨٧.
٢١٥  المصدر السابق، ص٧٨٧-٧٨٨.
٢١٦  المصدر السابق، ص٧٨٨.
٢١٧  والملاحظ على العموم، أن ابن خلدون لا يتعامل مع الصحيحين كمؤرخٍ صاحب رؤيةٍ نقدية، كتلك التي يتعامل بها مع هؤلاء الأئمة المحدِّثين، فيعرض لأسانيدهما فاحصًا لها، ومقدمًا للجرح على التعديل، بل يتعامل معهما كأشعريٍّ يرى في مجرد «الإجماع الذي اتصل في الأمة على تلقِّيهما بالقبول والعمل بما فيهما، وفي الإجماع أعظم حماية وأحسن دفع … وليس غير الصحيحَين بمثابتهما في ذلك [حتى لقد] نجد مجالًا للكلام في أسانيدها.» ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٧٨٨.
٢١٨  المصدر السابق، ص٧٨٨.
٢١٩  ابن خلدون: المقدمة، ج٢، ص٧٨٩–٨٠٧.
٢٢٠  المصدر السابق، ص٨٠٩.
٢٢١  المصدر السابق، ص٨٠٩-٨١٠.
٢٢٢  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٨١٦.
٢٢٣  المصدر السابق، ص٨١٧.
٢٢٤  وإذا كان أمر التدهور، لا يرتبط فقط بأشعريته، بل وأيضًا بما أظهره من الوعي بما ينطوي عليه عصره من تدهور، «وكأنما نادى لسان الكون في العالَم بالخمول والإنقاص، فبادر بالإجابة»، انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج١، ص٣٢٦، وكذا بما انطوت عليه تجربة الدولة الإسلامية لعهده؛ والتي لم تقدِّم له دوراتٍ من التدهور المتلاحق، فإن ذلك كله لا يؤثِّر أبدًا في كونه يظل يفكِّر — في التاريخ — داخل نظام التدهور والانحطاط الذي يجد تأسيسَه داخل النسَق الأشعري.
٢٢٥  والحق أن ثمَّة من يرى، رغم ذلك، أن ابن خلدون قد كان يفكِّر قبليًّا على نحوٍ ما؛ وذلك من حيث إن جهازه المفهومي لم يكن مستفادًا من التحليل الدقيق لوقائع حقبةٍ ما، بقَدْر ما كان مفروضًا بالإسقاط على بعضٍ من وقائع هذه الحقبة، انظر: محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، سبق ذكره، ص١٦١. ومن هنا فلعله يبدو وكأن ابن خلدون لا يتجاوز الأشاعرة؛ إنْ من حيث التفكير داخل نظام التدهور والانحطاط، أو من حيث التفكير على نحوٍ قبلي؛ وذلك رغم الإقرار بتميُّزه بالطبع.
٢٢٦  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٦١٦.
٢٢٧  وإذ يستبدل ابن خلدون الخارق بالعصبية، فإنه لا يفعل إلا أن يستبعد حقبتَي النبوة والخلافة من أفق تحليله الصارم، ويجعلهما موضوعًا يُسقِط عليه تصوُّراته المثالية المُتخيَّلة؛ لأنه إذا كان الخارق للعادة لا يمكن — فيما سبق القول — أن يكون موضوعًا للعلم، بل للإيمان، فإن ذلك يعني أن أي مفهومٍ يناقض ما تجري به العادة سيكون — حين يُستعار لتُقرَأ من خلاله أحداثُ حقبةٍ ما على غير ما تجري به العادة — مجرد إسقاطٍ خارجي يفرضُه الإيمان، وليس نتاج تحليلٍ دقيق لأحداث هذه الحقبة.
٢٢٨  وبالرغم من أن ابن خلدون يخصِّص فصلًا في مقدِّمته عن «إن الدعوة الدينية من غير عصبيةٍ لا تتم»، فإن كونه يستمدُّ مادة هذا الفصل، لا من حقبة النبوة وهي غنية بما يؤكِّد هذه الدعوى، بل من تاريخ الدعوات العقائدية التي شاعت إبَّان الحقبة العباسية، إنما يؤكِّد على أنه يقصد بالدعوة الدينية التي لا تتم من غير عصبيةٍ دعاوى أصحاب المقالات والنِّحل. وذلك بالرغم من أنه يُخايل ببعض العبارات التي تُوهِم أنه يقصد دعوة النبوة. انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٥٢٨.
٢٢٩  ابن خلدون: المقدمة، ج٢، ص٦١٧.
٢٣٠  انظر للأشعري: الإبانة عن أصول الديانة، سبق ذكره، ص٧٨، ولقد كان ابن خلدون هو أبرز من تابعوه في ذلك.
٢٣١  وإذا كان ثمَّة مَن يُماري في أنَّ ابن خلدون كان يقصد وقائع هذه الفتنة التي بلغ فيها التنازُع حدًّا يُجاوِز كل اجتهاد، فإنه يذكُر بنفسه أن «الذي وقع من ذلك [أي الخلاف] في الإسلام إنما هو واقعةُ عليٍّ مع معاوية ومع الزبير وعائشة وطلحة، وواقعة الحسين مع يزيد، وواقعة ابن الزبير مع عبد الملك.» انظر: ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٦١٧.
٢٣٢  ويُشار هنا خاصةً إلى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، والطبري في تاريخه، وكلاهما مثل ابن خلدون سني العقيدة.
٢٣٣  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٦٢٤.
٢٣٤  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٦٢٤. والنص يزدحم — فيما يبدو — بما يجعله دالًّا تمامًا على تصوُّر ابن خلدون لهذه اللحظة كموضوع لموقفٍ أخلاقي، لا معرفي؛ وذلك من حيث ينطوي فقط على معاني الأمر والنهي والاقتداء والتأسي. ولقد سبق القول إن إحالة هذه اللحظة إلى موضوعٍ للأخلاق، وليس المعرفة، كان الآلية الأشعرية المعتبَرة في تحويلها إلى مطلقٍ يستحيل تجاوزُه.
٢٣٥  المصدر السابق، ج١، ص٢٨٢.
٢٣٦  وليس من شك في أن هذا النهي الخلدوني عن التعرُّض للصحابة وأفعالهم يرتبط بما صار إليه الأشعري قبلًا، من التأكيد على التعبُّد بتوقيرهم؛ يعني الصحابة. انظر: الأشعري، الإبانة، سبق ذكره، ص٧٨.
٢٣٧  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، سبق ذكره، ص٥٤٧.
٢٣٨  ابن خلدون، المقدمة، ج٢، ص٦٠٥. ولقد أشار ابن خلدون إلى أن المسعودي قد أرَّخ، بدوره، للدولة الأموية حسب هذا النمَط لا غير؛ وبما يعني أنه كان نمطًا متداولًا في الكتابة التاريخية.
٢٣٩  انظر: المصدر السابق، ج٢، ص٦٠٥.
٢٤٠  والحق أن هذا التصور «لأحوال العمران» بوصفها أمورًا طبيعية، لا تاريخية، يتفق تمامًا مع جوهر الرؤية الوضعية عند رائدها الأكبر كونت الذي مضى بدوره إلى تصوُّر أن «حركة المجتمع تخضع بالضرورة لقوانينَ فيزيائيةٍ لا تتغير». ولكن في حين اتخذ كُونت من هذا التصوُّر «وسيلة لتحرير النظرية الاجتماعية من اللاهوت والميتافيزيقا» (انظر: ﻫ. ماركيوز، العقل والثورة، سبق ذكره، ص٣١٤)، فإن الأمر يختلف تمامًا عند ابن خلدون الذي يبدو — على العكس — أن تصوُّره لأحوال العمران على أنها أمورٌ طبيعية، كان وسيلةً لردها إلى نطاق اللاهوت والميتافيزيقا. والحق أن ذلك يرتبط، في العمق، بتصوُّر الطبيعة الذي كان يفكِّر كلٌّ منهما في إطاره؛ إذ في حين تتميز الطبيعيات التي يفكر «كونت» ضمن سياقها (وهي الطبيعيات الحديثة) باستقلالٍ مطلَق يستحيل معه رد أيٍّ من ظواهرها إلى مبدأ خارجها، فإن الطبيعيات التي كان يفكِّر في إطارها ابن خلدون (وهي الطبيعيات الأشعرية المتأخرة) إنما تجد أساسَها كله في مبدأ يقوم خارجها، هو الله لا شك.
٢٤١  ابن خلدون، المقدمة، ج١، ص٣٢٨ و٣٣١، وهنا فإن مفهوم «الطبع» قد يخايل بالخروج على ما يقتضيه النسَق الأشعري. والحق أن الأمر يبدو كذلك، وإنْ من حيث الظاهر على الأقل، بالنسبة لطريقة المتقدِّمين من الأشاعرة، وأما بالنسبة لطريقة المتأخرين (والتي تبتدئ مع الغزالي حسب ابن خلدون)، فإن مفهوم «الطبع» قد أصبح — وحسب الغزالي تحديدًا — «مما لا يشتد نفورُ الطبع عنه؛ لأنه يبقى مجازًا.» انظر: الغزالي، تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، (دار المعارف بمصر)، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٥٥م، ص١٢٢، وإذن فالأمر لا يتعلق بانقلاب في بنية النسَق، بل الانقلاب بالأحرى، قد طال مفهوم الطبع ذاته؛ حيث دخل دائرة المجاز التي تُصبِح فيها نسبة الفعل إلى الطبع غير حقيقية.
٢٤٢  ﻫ. ماركيوز، العقل والثورة، سبق ذكره، ص٣١٦.
٢٤٣  وهنا فإنه حتى الوضعية تئول إلى ما يشبه اللاهوت. ومن هنا ما قاله هكسلي من أن «المذهب الوضعي هو المذهب الكاثوليكي بدون العقيدة المسيحية.» انظر: ليفي بريل، فلسفة أوجست كونت، ترجمة محمود قاسم، السيد محمد بدوي، (مكتبة الأنجلو المصرية)، القاهرة، ١٩٥٢م، ص٢٠٨.
٢٤٤  محمد عابد الجابري، فكر ابن خلدون، سبق ذكره، ص٤٥٣.
٢٤٥  وهنا أيضًا فإن ماركيوز قد صار فيما يتعلق بالوضعية إلى أنه «يندر أن نجد في الماضي فلسفةً [كالوضعية] تُطالِب، بمثل هذا الإلحاح وبمثل هذه الصراحة، بأن تُستخدم في حفظ السلطة القائمة، وحماية المصالح الموجودة من كل هجومٍ ثوري.» انظر: ماركيوز، العقل والثورة، سبق ذكره، ص٣١٦.
٢٤٦  والحق أن كتابه عن فكر ابن خلدون — وكذا دراساته اللاحقة عنه — لتكاد أن تكون بأَسْرها مجرد سعي إلى تكريس هذا الانقطاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤