بسم الله الرحمن الرحيم

تصدير الطبعة الأولى

يهدف هذا الكُتيِّب إلى تقديم فكرة مُوجَزة ومبدئية عن الموضوع الذي يتناوله. ونحن نقول «فكرة» لا تعريفًا لأن أي تعريف لعلم من العلوم أو لفنٍّ من الفنون محدود الفائدة، بل لا فائدة منه للمبتدئ؛ فقارئ القصة يعرف أنها أدب، وقارئ القصيدة يعرف أنها أدب، ولن يفيده تعريفك الذي يضم النوعَين إلا إذا كان التعريف يشتمل على دراسة تفسِّر له ما غمض عليه، وتساعده على التفريق فيما بعد بين الأدب الحقيقي وبين ما يتخذ صورة الأدب من غير أن يكون أدبًا، كالنَّظْم الذي لا يرقى إلى مستوى الشعر، أو كالسَّرْد الذي لا يرقى إلى مستوى القصة. ولذلك فبدلًا من محاولة وضع تعريف جامع مانع، سنقتصر على رصد الخصائص التي تُعِين المبتدئ على إدراك الفروق بين الأنواع الأدبية وإدراك ما تشترك فيه جميعًا، وأملنا أن يستطيع غير المتخصِّص أن يلم بطبيعة هذا النشاط الإنساني الذي يتعرَّض لضغوط كبرى في عصر العلم والتكنولوجيا، ويواجه هجومًا كاسحًا — في الحقيقة — من كل حدب وصوب في عالَم يتجه إلى المادية بكل قواه.

والخصائص التي نستند إليها في حدود التمييز بين الأنواع الأدبية خصائص متغيِّرة. وهي تختلف باختلاف المكان والزمان، وقد اتسم هذا التغيير بسرعة لاهثة في وطننا العربي؛ بحيث أصبح تغيُّرًا من جيل إلى جيل، بل من عَقْد إلى عَقْد. ومثلما تطوَّر العلم تطوُّرًا هائلًا في المائة عام الأخيرة اختلفت أشكال الفن وتعدَّدَت مذاهبه بصورة لم يسبق لها مثيل مما دفع الكثيرين إلى محاولة إعادة تعريفه، أيْ إلى محاولة توسيع نطاقه حتى يشمل الأشكال الفنية الجديدة؛ فالتعريف القديم للتصوير الزيتي الذي يقتصر على محاكاة الطبيعة بتمثيل ما فيها أصبح قاصرًا في عصر يتميَّز بازدهار المدارس الجديدة من تجريدية وتكعيبية وسيريالية وما إليها، كما إن كل عصر يُعيد النظر في التراث الفني الذي خلَّفه الأسلاف فيرفض بعضه ويقبل البعض الآخَر، وكم من أديب هلَّل له الناس في زمانه ثم طواه النسيان بعد أن اختلفت صور الأدب عما كان يكتب! وكم من أديب عانى من التجاهل في زمانه ثم هلَّل له الناس في عصر لاحق!

ولقد شهد الأدب العربي منذ فجر القرن العشرين عدة محاولات لإعادة التعريف. وسارت هذه المحاولات جنبًا إلى جنب مع ظهور الأنواع الأدبية الجديدة التي دخلت الأدب العربي، مثل القصة القصيرة والرواية والمسرحية وألوان الشعر الحديث على اختلافها.

ولا شك أن اتساع آفاق الأدب العربي بعد انتشار الطباعة والصحافة واتصاله بالآداب العالمية ساهم إلى حدٍّ كبير في هذا النشاط. واستهلَّ هذا الجهدَ الدَّءُوب كثيرٌ من الروَّاد، نذكر منهم الدكتور طه حسين الذي كان من أوائل مَن أقاموا علاقة وثيقة بين الأدب والفنون الجميلة؛ وتلاهم جيل الأساتذة الذين أخرجوا كتبًا ندين لها بالفضل في توضيح صورة الأدب للقارئ الحديث، مثل الدكتور لويس عوض والدكتور رشاد رشدي والدكتور محمد مندور والدكتور عبد الحميد يونس. وقد أدَّت جهودهم إلى ترسيخ المفهومات الجديدة للأدب ولم يعُد من العسير على أبناء جيلنا، سواء الذين تخصَّصوا في الآداب العربية أو في الآداب الأجنبية أن ينطلقوا في دراساتهم الأدبية من هذه المفهومات الجديدة (والتي لم يعُد عليها خلافٌ اليوم) مهما بلغ الخلاف في وجهات نظرهم.

وبعدُ …

فإن هذا الكُتيِّب مقدِّمة مُبسَّطة تعتمد على ما أبدعه جيل الأساتذة وتقرُّ لهم بالفضل. وإنْ كنتُ قد تحاشيتُ التعريفات العامة، فإنني أقدِّم في غضون النص تعريفات شاملة أقرب إلى الشروح منها إلى التعريف لكل مصطلح نقدي قد لا يلم به غير المتخصِّص. وإذا كنت أنزع أحيانًا إلى التبسيط الشديد أو إلى ذِكر ما هو معروف لدى الكثيرين، فعُذري أنني أبغي الوضوح كلَّ الوضوح ولا أريد أن أُتَّهم بمخاطبة المتخصِّصين الذين يعرفون ما في الكتاب. وقد حاولت قَدْر الطاقة تجنُّب أسماء المؤلفين من شعراء وقصَّاصين وروائيين ممَّن لا يعرفهم ذو الثقافة العامة، كما تحاشيت الدخول في تفاصيل نشأة كل فن أدبي وتطوُّره، واكتفيت بأحدث تطوُّر فيه بالمقارنة إلى ما كان عليه في الجيل السابق أو الجيل الذي سبق ذلك على أكثر تقدير؛ فالمكتبة العربية تزخر ولله الحمد بالكتب المتخصِّصة في كل فن أدبي، ولن يُعيِي طالبَ الاستزادة أن يجد بغيته في مكتباتنا العامرة.

وأخيرًا فقد تعمَّدتُ ألا أُشير إلى أحدٍ من أدبائنا المعاصرين إلا للضرورة القصوى؛ لأنني بصدد إعداد دراسة مُنفصِلة — بإذن الله — أتناول فيها الأعمال الأدبية لمَن لم يلتفت إليه النقاد، وأعيد تقييم مَن تناولوه فلم يوفوه حقه.

وقد يُلاحظ القارئ أنني لم أتناول بابًا هامًّا من أبواب الأدب، وهو المسرح؛ وذلك لأنني كتبتُ فيه كتبًا أخرى، كما تحاشيت النقد الأدبي؛ لأنه يتطلَّب مجلدًا قائمًا برأسه، كما إنني تركت الفولكلور أو الأدب الشعبي للكتب المتخصِّصة.

والله ولي التوفيق،
القاهرة، ١٩٨٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤