الفصل الأول

الأدب فن جميل؟

عندما قال الدكتور طه حسين إن الأدب فنٌّ جميل يتوسَّل باللغة، كان يقدِّم النظرة الجديدة للأدب التي لا تقتصر على الأدب العربي، بل تشمل آداب العالم كله. فقديمًا كان الأدب يعني لأبناء العربية «الأخذ من كل عِلم بطرف» (مقدمة ابن خلدون، ص١٠٦٩). وكان التأديب يشمل التعليم والتربية، وكان الأديب أو المتأدِّب يُوازي ما نسمِّيه اليوم «المثقف»، أي الذي يُحيط بكل معارف عصره، سواء تبحَّرَ فيها وتعمَّقَ أم وقف عند حدٍّ ما. ولما كانت المعارف تُكتسَب باللغة وتتوسل في نقلها بالقراءة والكتابة؛ فقد اقترن الأدب باللغة، ومن بعد ذلك بالكتابة. وأما دلالة الكلمة قبل ذلك على المعايير الخلقية والسلوكية فتفسيره أن المعارف تؤثِّر في الشخصية فتثريها وتنمِّيها وتهذِّب سلوكها، ولا خير عند العرب في علم بدون عمل. ولهذا كان الأدب يقترن أيضًا بأنماط السلوك المتحضِّرة، ويدلُّ على المعايير الخُلقية والسلوكية المقبولة في مجتمعٍ ما، أما النظرة الجديدة فقد حرَّرَت الأدب من هذين المفهومَين جميعًا إذ لم يعُد الأدب مقصورًا على الكلمة المكتوبة، ولم يعُد يرتبط ارتباطه القديم بأنماط السلوك، بل أصبح فنًّا جميلًا — مكتوبًا أو مشفوهًا — يتوسَّل باللغة؛ أي إنه يشترك في جوهره مع سائر الفنون التشكيلية والموسيقية والتمثيلية.

لكن ماذا نعني بأن الأدب فن جميل؟ أنواع الفن التشكيلي معروفة؛ الرسم والتصوير والنحت والزخرفة والعمارة وما إليها، والفنون السمعية معروفة؛ فهي الغناء والموسيقى بأنواعها، وأنواع الفنون التمثيلية معروفة، فهي الأداء المسرحي والرقص بأنواعه، فكيف يشترك معها الأدب؟ وما هي الخصائص التي تقرِّب بينها جميعًا؟ أمامنا منهجان لا ثالث لهما فإما أن نقول مثل الأقدمين إن الشعر تصوير ناطق؛ لأنه يستدعي الصور إلى الذهن؛ أي أن نتكئ على جانب التصوير في الأدب، وهو الجانب الذي يربط بينه وبين الفنون التشكيلية، وأن نقول مثلهم إن موسيقى الشعر مثلًا أو عنصر التوافُق فيه هو الذي يربط بينه وبين الموسيقى؛ أي بعبارة أخرى أن نتبع المنهج الوصفي، فنربط بين الأدب والفن لما يشتركان فيه من مظاهر واضحة نرصدها ونحلِّلها، وهذا هو المنهج الأول، وإما أن نحاول أن نتخطى هذه المظاهر لنرى جوهر الإبداع الفني في الأدب والفنون الأخرى، علَّها تفسِّر لنا هذه المظاهر المشتركة، وهذا هو المنهج الثاني. والواقع أن للمنهج الثاني امتيازًا على الأول في هذا الباب؛ فهو يرصد الجذور المشتركة وهي التي تعنينا حاليًّا، بينما يمتاز المنهج الأول بأنه يعين على تبيُّن مظاهر الاختلاف أيضًا، ولذلك فسوف يعيننا في البابَين الثاني والثالث على إدراك الفروق بين الأنواع الأدبية المختلفة.

ويمكننا أن نقول بدايةً إن جوهر الإبداع الفني، ومن ثم الأساس النفسي الذي يؤدِّي إلى ظهور العمل الفني، أيًّا كانت وسيلته، هو التجربة الشعورية التي تدفع الفنَّان إلى محاولة التعبير عنها تعبيرًا مجسَّدًا. وكلمة تعبير تعني أنه يجعلها «تَعْبُر» نفسه إلى الخارج، فهو يحاول نقلها إلى حيث يستطيع غيره أن يراها أو يسمعها، وذلك بأن يودعها عملًا مُجسَّدًا، أيْ محسوسًا، أي يقع في نطاق الحواس الخمس (وإن كان السمع والبصر واللمس هي الحواس المَعنيَّة عادةً). وهو يفعل ذلك بأن يجد في الوجود المادي من حوله (أو ما يُسمى بالطبيعة) عناصر يمكنه أن يصوغها ويشكِّلها، بحيث تصبح قادرة على الإيحاء بهذه التجربة إلى الآخَرين، وأن تثير فيهم من المشاعر ما يقترب مما خامر الفنَّان في تجربته الأصلية. أما الصياغة والتشكيل فكثيرًا ما يوحيان بأن الفن يُحاكي الصور والأصوات في الطبيعة ولكن الحقيقة غير ذلك كما سنرى.

أما لماذا نسمِّيها تجربة شعورية وليس شعورًا أو إحساسًا وحسب؛ فذلك لأن الدارسين اكتشفوا أن ما يخامر الفنَّان لحظة تولُّد العمل الفني ليس شعورًا بسيطًا (وأنا أستخدم هذه الكلمة هنا في معناها الدارج، أي عكس مركَّب) أو إحساسًا مفردًا يمكن تحديده والتعبير عنه بكلمة أو كلمتين، ولكنه عادةً حالة نفسية مركَّبة تدخل فيها انفعالات اللحظة الحاضرة وانفعالات أخرى مستدعاة من الماضي إلى جانب الكلمات المتناثرة التي ربما تداعت إلى الذهن من الأعمال الأدبية التي قرأها الفنَّان، أو اللوحات التي شاهدها أو الموسيقى التي سمعها أو المناظر والصور التي رآها في الماضي أو في خياله! وفي لحظةٍ ما يصعب علينا تحديد كُنهها (ولكننا نستطيع أن نصف ما يحدث فيها) تتشابك هذه الانفعالات والأفكار من الماضي والحاضر وتخلق في نفس الفنان ما يمكن تسميته بالإدراك الفني أو الرؤية الفنية بحيث يطفو إلى سطح وعيه إدراك جديد لمعنى ما يحسه وما يراه ومن ثم فهو يعمل جاهدًا حتى يتحول هذا الإدراك إلى عمل فني ملموس. وبهذا المعنى يمكن أن تكون التجربة الشعورية حالة استيقاظ للوعي تُكسبه حدة نادرة أو قوة على تجميع وتركيز وبلورة مكونات التجربة في بؤرة واحدة هي العمل الفني، ولو أن ناقدًا شهيرًا يذهب إلى أن الرومانسيين كانوا يستمدون مادتهم من اللاشعور (أو ما يطلق عليه اللاوعي وأحيانًا العقل الباطن) فهو يجمح بهم ويشطح وينقلهم إلى دنيا الخيال الرحيبة حيث لا عقل ولا منطق.

على أية حال ينبغي أن نناقش العنصر التالي مما وصفناه بجوهر العمل الفني وهو — بعد التجربة الشعورية — المادة التي يعيد الفنان تشكيلها أو صياغتها. كلنا يعرف أن الرسام الذي يصور منظرًا طبيعيًّا أو شخصًا … إلخ، لا ينقل ما يراه وحسب ولكنه يضيف إليه أو ينقص منه أو يعدل فيه ويبدل، بحيث لا يتفق مصوران مطلقًا في إخراج اللوحة نفسها لمنظر واحد أو لشخص واحد. فما الذي يحدث؟ ربما قال قائل إن أحدهما أمهَر من الآخَر وإن الاختلاف يعود للدرجات المتفاوتة في المهارة الحرفية. وهذا صحيح بلا شك فالمبتدئ يختلف في مهارته وقدرته عن المتمكن ولكننا سنفترض أن لدينا اثنين من كبار الرسامين اللذين أثبتا قدرتهما الحرفية إلى حد كبير ولم يعد ثم مجال للشك في مهارتهما. ومع ذلك فإن لوحتيهما اللتين تصوران المنظر الواحد سوف تختلفان، فلماذا؟ إن المادة التي يصورانها ليست مادة ميتة، حتى ولو كانت صخرة، لأنها بمجرد أن تصل صورتها إلى الذهن عن طريق العين تكتسب حياة خاصة بها وحياة خاصة بالفنان الذي يراها. والذهن العادي — كما هو معروف — لا يستقبل صور الأشياء استقبالًا محايدًا أي إنه لا يتخلى عن كل فكرة مسبقة عن الصخور حتى يرى هذه الصخرة المفردة بكل ما تتفق وتختلف فيه عن باقي الصخور. إنه في الحقيقة يراها في ضوء كل ما عرفه (ومرَّ به من تجارب) عن الصخور فهي بالنسبة له نموذج لفكرته عن الصخرة وهذا ما نسميه «الرؤية النمطية» (أي رؤية الأشياء باعتبارها أنماطًا أو نماذج للأفكار) وهذا ما نعنيه أيضًا عندما نقول إن الإنسان يرى بعين عقله أكثر مما يرى بعين رأسه. أما الفنان فهو يراها باعتبارها صخرة مفردة تختلف عن سائر صخور الدنيا بألوانها الخاصة وشكلها المتميز وملمسها الخشن أو الناعم وعلاقتها بالصخور من حولها وهلم جرًّا.

ولكن هذه الصورة الخاصة — التي تجمع بين الصورة الذهنية والصور البصرية — تختلف في تخصيصها عن التخصيص الذي يتسم به منهج عالم الجغرافيا أو عالم النبات إذا كان «الموضوع» شجرة مثلًا! إن الفنان لا ينتهي — مثل العالِم — من التخصيص إلى التعميم سعيًا وراء خصائص النوع — ذلك النوع من الصخر أو النبات — ولكنه يظل في نطاق التخصيص فيقيم علاقة ما بين الصورتين اللتين ذكرناهما والانفعال الذي تولَّد في نفسه (ونفس الفنان مرهفة بطبيعتها) فإذا به يرى في الشجرة الصورة التي يصورها الانفعال بها — وهو ما نسميه بالرؤية الفنية — وإذا ملامحها قد تغيرت وأصبحت أقرب إلى الشجرة التي يريد أن يراها منها إلى الشجرة التي أمامه، وهذا ما أسميناه بعنصر إعادة الصياغة والتشكيل في عملية المحاكاة.

الأصل في التجربة الشعورية إذن ليس الانطباع الحسي، أي الصورة التي تنطبع في الذهن عندما يرى الفنان الشجرة ولكن تأثير الانطباع الحسي أو الانطباعات الحسية في النفس وهو ما نسميه بالمعنى أي بدلالة تفاعل الذهن مع الكائنات والحياة الحافلة من حوله. فالرسام الذي لا يرى في الشجرة إلا الألوان والخطوط سوف لا يزيد في معناه عن انطباع العين الجسدية وربما رأيت الشجرة التي صورها فأعجبتك ولكنك ستنساها على الفور لأن الرسام لم يزد عن نقل الصورة التي تعرفها عينك وتمر بها مر الكرام كل يوم. أما الفنان الصادق فقد يرى فيها صورة الدفء والمأوى أو صورة الظل والابتراد، أو صورة الأم الرءوم، أو صورة الانتماء للأرض والحياة (فترى عروقها تشبثت بالأرض كأنها أصابع قوية) أو صورة إنسان شامخ بثباته واعتداده أو على العكس من ذلك صورة للعجف والنحول والذبول والعري وما إلى ذلك، وهكذا فإن هذا الفنان سيخرج لنا من الطبيعة معنًى جديدًا لا وجود للعمل الفني بدونه وهو المعنى الذي أشرق في نفسه في لحظة ما من لحظات التجربة الشعورية.

وما قلناه عن الفنون التشكيلية يصدق على الفنون السمعية، إذ إن الموسيقيَّ الذي يُعنى بتوافق الأنغام ابتداءً من رنات الوتر المفرد أو دقات الطبل أو صفير الناي وانتهاءً بالسيمفونية التي تتشابك فيها عناصر الإيقاع والسرعة والانخفاض مع الأنغام يُخضع أيضًا موسيقاه لرؤيته الخاصة. وهي رؤية زمنية إذا شئنا التفرقة بينها وبين الرؤية المكانية التي تتميز بها الفنون التشكيلية (إذ لا بد لإبداعها وتذوقها من زمن معين ولا بد من انقضاء هذا الزمن في العمليتين أي في عملية الإبداع الأولى وعملية التذوق بعدها)، ونقصد بالرؤية الموسيقية ذلك التلاحم أو التوالي أو التقابل أو التضاد الذي يلجأ إليه المؤلف بين نغمات مختلفة الموقع على السلم الموسيقي ومختلفة الطول الزمني. بل إن الموزع الموسيقي وقائد الأوركسترا يشتركان اليوم مع المؤلف في إسباغ معانٍ جديدة على قطعة موسيقية رغم احتفاظها بألحانها الأساسية بل وإيقاعاتها الأساسية أيضًا. ومثلما يعتمد الرسام على عنصر الاختيار في تصويره للطبيعة والبشر ينزع الموزع الموسيقي إلى الحديث بلغة الآلات؛ إذ يرى لكل آلة معنًى موسيقيًّا خاصًّا؛ فالمعنى الفني الذي يقدمه الناي يختلف عن المعنى الفني للبيانو أو الأرغن ولو كانا يعزفان نفس اللحن. أما الذي يحدد هذا الاختيار (ومعه المعنى) فهو التجربة الشعورية التي تحدثنا عنها والتي تتحول إلى تجربة فنية حين يترجمها الفنان إلى تشكيل جديد للمادة التي استقاها أساسًا من الطبيعة وهي الأصوات.

التحول إذن أو التحويل عنصر أساسي من عناصر الإبداع الفني، وهو العنصر الذي تعتمد عليه الفنون أو قل إنه العنصر الذي يميز الفنون عن العلوم. ويقع التحول في الذهن نتيجة للخبرات الخاصة للفنان وهو في النهاية وليد الموهبة التي حباها الله للفنانين. وإذا كنا تحدثنا عن الطبيعة ومحاكاتها وتمثيلها (أي تصوير جزء من الشيء ليمثل الشيء كله) وإعادة تشكيل عناصرها في بعض الفنون، فالحقيقة أن الفنان لا يتجه إلى الطبيعة إلا من خلال التقاليد التي يرثها من مجتمعه أو من تراث الإنسانية بصفة عامة. فالموسيقيُّ لا يبدأ من فراغ حيث «يكتشف» رنين الوتر ودقات الدف ولكنه يسمع الأغاني منذ طفولته ويرددها، وهو يحفظ الألحان ويتعلم العزف على الآلات الموسيقية. وهو حينما يتمكن من أدواته الفنية يكون قد استوعب أيضًا هذه التقاليد الفنية. ولذلك فنحن حينما نتحدث عن صقل الموهبة بالدرس والدربة فإنما نتحدث في الواقع عن شيئين أولهما المهارة التي سبق الحديث عنها، وثانيهما استيعاب التقاليد الفنية. ولنقف لحظة لنرى مدى تأثير هذه التقاليد الفنية في عملية الإبداع الفني.

قلنا إن التحويل جوهر هذه العملية؛ أي تحويل المادة النفسية المستقاة من التجربة الشعورية إلى مادة فنية هي اللوحة أو الموسيقى أو القصيدة. وقلنا إن الفنان يخرج مشاعره من خلال هذه المادة وهي كما نرى مادة سبق تشكيلها ولذلك فهي ليست الطبيعة بعناصرها الأولى غير المشكلة. معنى هذا أن الفنان لا يحاكي الطبيعة فحسب بل يحاكي الأعمال الفنية أيضًا، وثم درجة من التوازن بين القدر الذي يعتمد فيه على الطبيعة والقدر الذي يعتمد فيه على الأعمال الفنية التي رآها وخبرها وانفعل. إن الفنان إذن يحس منذ نعومة أظفاره بطاقة هذه الأعمال الفنية على إثارة المشاعر والأحاسيس في نفس المتذوق (الرائي أو السامع) وهكذا فهو يحول مشاعره التي قد تفتقد إلى الشكل المحدد في نفسه إلى عمل فني يتميز بالشكل الدقيق المنتظم مقتديًا بما فعله الفنانون من قبله. إنه إذن يحاكي شكلًا توحي به الأعمال الفنية القائمة في المجتمع. ومحاكاته لهذا الشكل القائم تحدد الصورة النهائية التي سيخرج عليها عمله — فهي تتدخل في اختياره لموضوعه — سواء كان شجرة أم حركة جسدية مفردة أم مشهدًا كبيرًا مركبًا، وهي تقدم له اختيارات أخرى منوعة في المنهج الفني الذي يمكنه أن يتبعه في التصوير، ولذلك فإذا ازدادت معرفة الفنان بالتقاليد الفنية والمناهج التي اتبعها مَن سبقه من الفنانين ازدادت حرية اختياره للموضوع والشكل معًا، وازداد الترابط بينهما بحيث أصبح الموضوع هو الذي يفرض الشكل، وأصبح لكل عمل فني حياته الفنية المستقلة. فإذا اكتشف أن هذه التقاليد لا تعينه العون الذي يرجوه ولا تقدِّم له الأداة الطيعة التي تمكنه من نقل رؤيته الأصيلة إلى المتذوق، فإنه يعدل من هذه التقاليد بل قد يثور عليها وينبذها تمامًا إذا بلغت موهبته درجة العبقرية.

التقاليد الفنية إذن تتداخل مع الرؤية الخاصة دائمًا وتشترك مع عين الفنان وقلبه في صياغة المادة الشعورية وتتحكم في عملية التحول التي وصفناها بأنها جوهر كل إبداع فني. والتزام الفنان في البداية بهذه التقاليد لا يعني أنه يزيف من أحاسيسه أو من تجربته الشعورية على الإطلاق، وإنما يعني أنه يستخدم الوسائل الفنية التي أثبت أسلافه قدرتها على تصوير التجارب الشعورية وتجسيدها بصدق ومن ثم قدرتها على التأثير في المتذوق بالصورة التي يرجوها الفنان. أما خروجه عن التقاليد فيما بعد فلا يعني أنه قد هدمها أو أثبت عدم جدواها بل إن ذلك يعني أنه يضيف إليها تقاليد جديدة قد تقتضيها رؤاه الخاصة وقد يكتب لها البقاء فتضاف إلى التراث الفني الهائل الذي عرفته الإنسانية على مر العصور وتقدم من ثم اختيارًا آخر للفنان المبتدئ في جيل لاحق أو على العكس من ذلك، قد ينقضي تأثيرها سريعًا فتزول، ولا يكترث الفنان في الأجيال اللاحقة بمحاكاتها فتختفي تمامًا أو قد تختفي دهورًا ثم يعيد اكتشافها فنان آخر! أي إن الفن لا يتقدم بالمعنى العلمي بمعنى أن كل اكتشاف جديد يلغي أفكارنا السابقة، أو أن الأفكار الجديدة تبطل أفكارنا القديمة ولكنه يسير في دورات. وكل عمل فني صادق أو جديد ينتمي إلى كيان واحد هو كيان الفن الإنساني الذي تختلف تقاليده وتتنوع على مر العصور.

ولذلك فإن أصحاب المدرسة الكلاسيكية الذين يحددون لكل نوع فني أصولًا وقواعد ينصحون بعدم الخروج عليها يتجاهلون أو يجهلون هذه الحقيقة. فمعظم الأنواع الأدبية متداخلة وهي تنتمي إلى تقاليد فنية متغيرة مهما بلغ من استقرار المظاهر الشكلية لهذا النوع أو ذاك.

ولهذا فلا أريد لقارئ هذا الكتاب أن يتصور أن الملامح التي أوردها لنوع ما من الأنواع الأدبية تمثل التقاليد الثابتة التي يتعذر أو ينصح بعدم الخروج عليها. ولكنها ملامح عامة استقاها النقاد مما وصلنا من آثار أدبية وهي تعين على التفرقة بين شتى الأنواع للمبتدئ فحسب، وللعبقري أن يخرج عليها بعد أن يثبت أولًا مهارته في إطارها، وهذا هو الشرط الذي افترضناه عند المقارنة بين صورتي الرسامين!

ولذلك فقد رأينا في هذا الفصل أن نتكئ على الأساس الواحد الذي تشترك فيه الفنون جميعًا ومنها الأدب حتى نؤكد للقارئ أن الاختلاف هو اختلاف في الوسائل وليس في جوهر الإبداع الفني. ولنؤكد أيضًا هنا ضرورة استيعاب التقاليد الأدبية قبل محاولة الخروج عليها. وقد رأينا أن الأساس النفسي واحد. وأن جوهر الإبداع الفني واحد أي إنه وليد تجربة شعورية تتحول من خلال عملية تجسيد حسية إلى عمل فني ملموس (مرئي أو مسموع أو مقروء) ولكن الأدب يختلف عن سائر الفنون في أن وسيلته غير نقية أي إنه ليس كالرسم أو الموسيقى وذلك لأنه يستخدم اللغة التي تُستخدم في أغراض أخرى غير الأدب. ولهذا فلا بد من الوقوف طويلًا عند هذه الوسيلة وهذا ما سنفعله في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤