الفصل الثاني

ما الأدب؟

(١) الأدب فن يتوسل باللغة

١

لا يجد المرء صعوبة تذكر في إدراك النوع الفني الذي تنتمي إليه اللوحة أو التمثال فالرسم له أدواته الخاصة به من خطوط ومساحات وألوان … إلخ، لا تشاركه فيها فنون أخرى سمعية كانت أو لغوية. أي إن أدواته نقية. وكذلك الموسيقى فهي لا تشترك مع النحت أو التصوير في أدواتها وهي الأصوات الآلية أو البشرية. أما الأدب فهو يستخدم الألفاظ أي الوحدات الصوتية البشرية ورموزها المكتوبة وهي الوحدات التي يستخدمها الإنسان في أغراض أخرى أهمها التواصل والتفاهم والتعبير المباشر عن أحاسيسه وإن لم يؤدِّ هذا التعبير إلى التواصل والتفاهم. فالذي يطلب من صاحبه قلمًا أو كراسة يريد من صاحبه أن يفهم ما يريد، أما مَن يتعجب من حال الدنيا أو يشكو الزمان وهو عائد وحده إلى منزله فربما لم يكترث لمدى فهم الناس له بل ربما لم يكترث إذا لم يسمعه أحد. ولكن الاثنين يستخدمان اللغة فيما لا يصح أن نطلق عليه لفظ الأدب. ومن هنا تنشأ الصعوبة التي ذكرناها وهي صعوبة التمييز بين اللغة التي تستهدف التوصيل أو التعبير المباشر وبين الأعمال اللغوية التي تنطبق عليها صفات التجربة الفنية الكاملة.

وسوف تزول الصعوبة إذا ذكرنا أن جوهر القضية يتمثل في عملية التحويل التي أشرنا إليها والتي لا تتم إلا عن طريق الوعي بالتراث، والإلمام بالتقاليد الفنية القائمة في أدب المجتمع؛ بحيث تتجسد التجربة الشعورية من خلالها. فالشاعر مثلًا يبدأ عملية التحويل اللغوي باستيعابه لتقاليد الشعر في لغته الأم بحيث يدرك الأنماط والأشكال التي تتخذها الأعمال الشعرية في مجتمعه باللغة التي يفكر بها ويشعر بها. أي إن الفنان هنا — والأديب كما قلنا فنان لغوي — لا يبدأ من فراغ وإنما يبدأ من داخل الأعمال الأدبية التي يجدها بين يديه والتي يجدها تعيش في وجدانه سواء كانت مشفوهة أو مكتوبة. بل ربما وجد في بعض هذه الأعمال الأدبية تجسيدًا لجانب من تجربته الشعورية فأعانه ذلك على إدراك طبيعة إحساسه، ولربما بدأ بمحاكاتها ولا ضير عليه في هذا؛ إذ إن قدراته الفنية ما تزال في المهد. وما زال يحس ويفكر بقلب غيره ولغة غيره! بل إن ثمة نظرية تقول إن التجربة الفنية التي يخوضها الفنان لتجسيد تجربته الشعورية تعينه على اكتشاف أحاسيسه وفكره. وعلى أية حال فعندما يصل الفنان إلى مرحلة النضج يكون قد تخطى المرحلة الأولى وهي مرحلة المحاكاة والمرحلة الثانية وهي مرحلة اكتشاف اتجاه موهبته بحيث يصبح قادرًا على التركيب والتشكيل وإخراج أعمال تقف جنبًا إلى جنب مع ما أنتجه السلف فإذا اختلفت أضافت إلى التراث الأدبي القائم وأثرت التقاليد الأدبية بل وغيرت منها، كما سبق أن ذكرنا.

٢

ولكن ما الفرق بين اللغة التي انتهت إلينا في الأعمال الأدبية واللغة التي نستخدمها في حياتنا اليومية؟ ربما لم يكن الإنسان الأول يفرق بين لغة الأدب ولغة الحياة وكانت أولى الأعمال الأدبية التي شهدها الإنسان تستخدم الألفاظ والتركيبات اللغوية نفسها التي استخدمها الإنسان في حياته اليومية، عدا اختلاف واحد جوهري وهو الاختلاف بين الشعر والنثر، إذ كان الشعر وما زال يُكتب نظمًا؛ أي إن صوت الألفاظ يتبع إيقاعًا معينًا وينقسم فيه الكلام إلى وحدات متساوية أو تتفاوت بين التساوي والاختلاف حسب نظام محكم (كما سنرى بالتفصيل في باب الشعر)، ثم أخذت لغة الأدب في الابتعاد التدريجي عن لغة الحياة بسبب الطبيعة الخاصة للمادة الأدبية (والتي سبق ذكرها) والتي بدأت تفرض أشكالًا جديدة تبلورت على مر العصور وتحددت وخاصة في الفنون اللغوية الثابتة (كالشعر) مما دفع النقاد على مر الزمان إلى تصور أن الاختلاف بين اللغة المستخدمة في الأدب وبين اللغة اليومية هو الذي يفرق الأدب عن غيره، خاصة لأن كثيرًا من الأنواع الأدبية التي وصلتنا مكتوبة بلغات لم تعُد تستخدم في الحياة اليومية (كالشعر الجاهلي أو مسرحيات عصر النهضة في أوروبا أو كالكوميديا الإلهية لدانتي) بل إن الكثير منها مكتوب بلغات لم تعُد متكلَّمة في أي مكان في الأرض كاليونانية القديمة واللاتينية.

ولكن هذا المفهوم قد أصبح قديمًا بدوره ولم يعُد صالحًا اليوم وبخاصة في إطار الأعمال الأدبية الجديدة التي ولدت ونمَت منذ بداية القرن التاسع عشر أي مع الحركة الرومانسية الأوروبية والدعوة إلى الكتابة بلغة الإحساس والتفكير بدلًا من ترجمتها إلى لغة الأدب القديم. أضف إلى هذا تعدد المستويات اللغوية بتعدد المستويات الذهنية للقراء ونشوء الأنواع الأدبية الجديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مثل المسرح الواقعي المنثور الذي يتطلب عدة مستويات لغوية ومثل القصة القصيرة والأقصوصة، هذا إلى جانب عودة الاهتمام بالأدب الشعبي المكتوب باللغة العامية (وقد تعمدت ترجمة بعض البالادات في فصل البالاد من هذا الكتاب إلى العامية بغية تقريب الأصل إلى القارئ العربي كما ترجمت الحوار في إحدى القصص إلى العامية لأنه مكتوب بالعامية في الأصل وترجمته إلى الفصحى في قصة أخرى بغية الأمانة الفنية).

ولذلك فإن اتجاه النقد الحديث هو عدم وضع حدود ثابتة بين لغة الأدب ولغة الحياة، وتطويع اللغة في العمل الأدبي لمقتضياته الداخلية، فالأفكار المعقدة أو المشاعر المتداخلة تتطلب مستوًى لغويًّا رفيعًا يختلف عما تتطلبه الأفكار البسيطة وهكذا. ومن ثَم فلا بأس إذا اقتضى الموقف أن يتحول المؤلف من مستوى إلى مستوى آخَر، وقد يكتب الحوار بالعامية أو بالفصحى، وقد يستخدم في ثنايا حواره ألفاظًا محلية قد لا يفهمها إلا أهل المنطقة أو أصحاب الحرفة وهلم جرًّا، وقد يستخدم القصاص لغة مستوحاة من الوضع الذهني والاجتماعي والنفسي لبطل قصته؛ أي قد يكتب القصة بضمير المتكلم بحيث تكون اللغة مرآة تعكس الحياة الوجدانية والفكرية للشخصية وتبلورها، وقد يكتبها من وجهة نظر شخصيتين مستقلتين ومتناقضتين؛ بحيث نرى أمامنا مستويين متضادين من مستويات اللغة. بل لقد نرى في القصة أو الرواية عدة مستويات أحدها هو المستوى اللغوي للكاتب بينما ينفرد كل شخص من الشخوص بمستواه اللغوي وهلم جرًّا.

٣

ومع ذلك فإن ثمة خصائص عامة يمكن رصدها في الأعمال الأدبية الراسخة التي وصلتنا والتي تظهر بوضوح في اللغة، منها مثلًا أن اللغة الأدبية تنزع إلى التخصيص بدلًا من التعميم وإلى التجسيد بدلًا من التجريد. أي إن الأديب الذي يصور موقفًا ما لا يصوره في نطاق المعاني العامة التي ترتبط في أذهان الناس بمثل هذا الموقف، ولكنه يصور هذا الموقف بعينه في نطاق المعنى الخاص به والذي تبلور في وجدانه هو وحده (حتى ولو اشترك البعض معه في ذلك دون أن يدري). ولما كان يهدف إلى إبراز هذا المعنى الخاص به بحيث يراه القراء رأي العين ويحسون ما أحسه فإن الأديب يلجأ إلى التجسيد بدلًا من التجريد أي إنه يستخدم ألفاظًا مستقاة من عالم الحواس الخمس؛ بحيث يستطيع القارئ أن يتصور الموقف وأن يعيشه بحواسه قبل أن يعيشه بذهنه ووجدانه. وقد تتفاوت براعة الفنان في استعانته بالانطباعات الحسية والتفاصيل والاتكاء على الجزئيات في إظهار المعنى الكلي أو ما أسميناه بالمعنى الفني، ولذلك «مدارس» أو «مناهج» مختلفة ليس هذا مجال رصدها.

وتختلف هذه اللغة إذن عن اللغة المستخدمة في الدراسات العلمية التي تنزع بطبيعتها إلى التعميم والتجريد. ويكفي أن تقارن اللغة التي يكتب بها أي نوع أدبي باللغة المستخدمة في المقالات السياسية أو الاقتصادية وما إليها حتى تتبين ذلك. فإذا كان الأديب الذي يصور موقف أحد الفقراء مثلًا من ركوب الحافلة في زحام الطريق سوف يركز على هذا الإنسان بعينه ويغوص في أعماق شعوره وفكره حتى لكأننا نعرفه (بل إننا لنعرفه آخر الأمر!) متوسلًا بشتى التخصيصات والتجسيدات، فإن السياسي أو الاقتصادي سوف يهتم بنفس الإنسان باعتباره أحد أفراد قطاع عريض وسوف يعالج المشكلة في إطارها العام وينتهي في مقاله أو بحثه إلى نتائج يتراجع فيها الفرد إلى عالم النسيان وتبرز بدلًا منه حقائق اقتصادية أو مالية أو توصيات باتخاذ إجراءات لصالح المجموع، وهكذا ننسى الفرد ونذكر المجموع الذي هو أحد أفراده.

وإذا كانت «الرؤية الخاصة» أو الرؤية الفنية هي التي تستخرج من الحياة معاني جديدة أو تضفي عليها معاني جديدة، وإذا كانت (كما قلنا) تستمد وجودها من التجربة الشعورية التي يمر بها الأديب، فإن تجسيد هذه الرؤية لا يمكن أن يتخذ الصورة الفعالة أو المؤثرة حقًّا إلا إذا اكتملت عدة الأديب ووسيلته الفنية وهي اللغة. ومثلما يلجأ الرسام إلى المزج بين الأشياء وإقامة علاقات جديدة بينها، يلجأ الأديب إلى «إعادة تشكيل» الحياة من حوله وصياغة المادة الشعورية والمادة الفكرية التي يتناولها عن طريق الخيال. والخيال يتخذ في اللغة صورة المجاز، ولكن قبل أن نناقش لغة المجاز ينبغي أن نفرق بين أشهر معاني كلمة الخيال كما تستخدم في الأدب أما الأول فهو «المخيلة» أي طاقة الذهن على التخيل وقدرته على إقامة علاقات جديدة وإعادة تشكيل الأشياء (ولهذا مبحث خاص ليس هذا مكانه) وأما الثاني فهو «الأخيلة» أو الصور الخيالية التي تولد في الذهن نتيجة لتلك الطاقة وكثيرًا ما يشار إليها باسم الصور الشعرية تمييزًا لها عن الصور الزيتية أو الفوتوغرافية مثلًا. ولذلك فإذا اكتملت عدة الأديب فأحاط باللغة الإحاطة اللازمة استطاع أن يُخرج ثمار مخيلته في صور مجسدة مخصصة نستطيع أن نحسها وندركها مهما بلغت درجة غرابتها وبُعدها عن المألوف. ومعنى هذا أنه يخرج عن التعبير الحقيقي إلى التعبير المجازي، فما لغة المجاز؟

٤

«المجاز» من الأسس الثابتة في تطور أي لغة فإذا كان الإنسان على مدى تاريخه الطويل قد بنى بنيانًا لغويًّا ميسرًا يستطيع أن يفرق فيه بين الأشياء وأن يحدد خصائصها بألفاظ خاصة بها ولا تطلق على سواها، فإنه كثيرًا ما يستعير بعض الألفاظ من مجال ما لاستخدامها في مجال آخر. وقد يفعل الإنسان ذلك مضطرًّا؛ إذ إن استعارة لفظة موجودة بالفعل واستخدامها في معنًى جديد تمامًا أمر قد لا يقبله الناس، بل وقد يصعب ابتكار هذا اللفظ بداية! فإذا اجتازت اللفظة المستعارة اختبارها الجديد بنجاح، أي إذا قبلها الناس واستخدموها في المعنى الجديد، بدأت تفقد صفتها الاستعارية وغدت مع الأيام تعبيرًا حقيقيًّا.

ومثال ذلك: عندما استعار الإنسان لفظة «الأرجل» لإطلاقها على القوائم الخشبية الأربعة للكرسي أو المنضدة كان يرى في مخيلته تشابهًا ما بين قوائم الكرسي الأربعة وأرجل الكائن الحي. وكان استخدام اللفظة في أول الأمر استعاريًّا ولكنه بمرور الوقت وعدم ظهور كلمة تنافس هذه الكلمة للدلالة على هذا المعنى نفسه استقرت الاستعارة فأصبحت تعبيرًا حقيقيًّا ولم تعد توحي إلى الذهن بالمعنى الاستعاري القديم. وهذا ما نسميه في علم اللغة بالمجاز الميت. كذلك عندما احتاج الإنسان إلى التعبير عن مشاعره الدفينة وهي حالات نفسية باطنة لا يدري كنهها ولا يعرف لها أسماءً فإنه استعار لها بعض الألفاظ من واقع حياته المادية وأطلقها عليها وبعد مرور الوقت حدث نفس الشيء إذ أصبحت الكلمة المستعارة تعبيرًا حقيقيًّا دون أن تفقد دلالتها القديمة في عالم الحواس (وأرجو من القارئ أن ينظر في المعاجم العربية ليقارن بين المعاني الحقيقة والمجازية لمثل هذه الكلمات؛ الضيق، الانقباض، الانشراح، الاطمئنان، الحزن … إلخ). وما زال الإنسان يضيف إلى هذه الذخيرة كلمات من عالم المادة بحيث يزداد عدد الكلمات المجازية التي تحولت وأصبحت تدل على معنًى حقيقي جديد دون أن تفقد معناها الحقيقي القديم تمامًا.

وقد ساهم الأدب أكبر مساهمة على مر العصور في إخراج هذه اللغة المجازية، سواء المجاز الميت أم المجاز الحي؛ أي الذي لم يكتسب بعدُ معنًى حقيقيًّا وما زال يثير في الذهن الصورة الاستعارية الخاصة به. فالأديب يحتاج أكثر من غيره إلى ألفاظ جديدة أو تراكيب جديدة يعبر بها عن مشاعر لا يجد لها في اللغة المتاحة في عصره مقابلًا دقيقًا. فهو في صراع دائم مع اللغة يحاول أن يجد في التركيب الاستعاري الجديد وسيلة لتجسيد أحاسيسه بل واكتشاف كنهها (كما ذكرنا)، فهو حين يعاني ألمًا معينًا لا يستطيع أن يصفه بالتعبير الحقيقي نراه يلجأ إلى الاستعارة فإذا هو يقول «أحس بقبضته العاصرة» أو «يضيق الجلد عن نفسي وعنها» أو «لكأنَّ في الأحشاء أثقال الجبال» وهلم جرًّا. وربما شاعت هذه العبارات فأثرت اللغة وأوسعت نطاق المجاز فيها.

ولكن المجاز لا يقتصر على التعبير المحدود مهما بلغت جرأة الاستعارة فيه، فهو ينتمي إلى إطار كبير يمكننا وصفه بإطار الرؤية الشعرية (أو الفنية). وكما قلنا فإن المعنى أو الموقف الذي ينبع من هذه الرؤية يتضمن إقامة علاقات جديدة فيما بين الأشياء أو بين الناس أو بين الأشياء والناس، وهذا هو الأساس في كل استعارة وفي كل «رؤية استعارية» فإذا كانت اللفظة المستخدمة للاستعارة في اللغات الأوروبية تعني نقل المعنى من شيء لآخر فإنها في الحقيقة تؤكد أن ثمة علاقة ما تبرر هذا النقل، سواء كانت علاقة شَبَه، أو علاقة تقارُب أو علاقة تمازج. وهذه العلاقة هي التي تكمن في جوهر الصور الشعرية التي ينسجها الخيال.

ولنضرب مثلًا صغيرًا على ذلك. يقول الشاعر ماتيو أرنولد:

حجب الضباب ضياء الشمس
والتفت البيوت حولي
أقزام سوداء
ما أثقل الحزن البهيم بنفسي!

الاستعارة هنا محدودة بل ربما مررت بها دون التفات، فالبيوت صغيرة مثل الأقزام وهي سوداء نتيجة لدخان المصانع وما إلى ذلك. ولكن جوهر الرؤية الشعرية يكمن في العلاقات الجديدة التي أقامها الشاعر بينه وبين المكان وهي علاقات لا تفصح عن نفسها في استعارات جريئة صارخة ولكن في استخدام الشاعر لبعض الألفاظ في غير معناها المألوف. فالصورة الأولى قد تبدو صورة حقيقية لا مجاز فيها؛ إذ إن الضباب يحجب ضياء الشمس في الواقع ولذلك فهي من الناحية اللغوية الصرفة تعبير حقيقي، ولكنها في موقعها هنا تضع خطوطًا عريضة لإطار الرؤية الفنية ومعنى هذا أنها تحدد نوع التجربة تحديدًا مجسدًا، فنحن في ضباب يحجب الضوء بحيث تتعذر الرؤية البصرية وفي هذا الإطار يأتي الفعل الرئيسي في الجملة وهو «التفت»! إن الالتفاف من صفات الكائن الحي ومن هنا تنبع القوة الاستعارية للتعبير: إن البيوت السوداء الصغيرة تحيط بالشاعر كأنها تحاصره، ثم يأتي البيت الأخير ليضم شتى عناصر الرؤية الشعرية باستخدامه كلمة «البهيم». إن حزن الشاعر غامض مظلم لا يدرك صاحبه كنهه، ولكنه يحاول اكتشاف مدى تأثيره وتجسيده من خلال الصورة. إنه يحجب ضياء الشمس فهو كالضباب وهو يحاصره كأنه البيوت السوداء الصغيرة، ثم هو ثقيل الوطأة يؤكد إحساسه بالحصار، وهذه العلاقات التي قد لا تتضح للقارئ المتعجل هي علاقات استعارية رغم أن الاستعارة اللفظية في هذه الأبيات غير بارزة بالصورة المألوفة.

وعادة ما نجد في كل عمل أدبي وحدة داخلية أي تماسكًا بين شتى أجزائه بسبب وحدة الإطار الخيالي الذي تمليه الرؤية الفنية. وكما رأينا فإن هذا يظهر بصورة غير مباشرة في اللغة حيث تصب الصور المتعددة في الإطار الاستعاري الكبير. ويتضح هذا الإطار في الشعر الغنائي وبخاصة في القصائد القصيرة وهو يضفي على سائر الألفاظ أيًّا كان حظها من المجاز ظلالًا استعارية — بل رمزية — قد لا يدري بها الأديب نفسه.

أما الظلال الرمزية فأقرب مثل إلى ذاكرتي هو الأبيات التالية للشاعر محمد الفيتوري:

أيها السائق
رفقًا بالخيول المتعبة!
قف!
فقد أدمى حديد السرج
عظم الرقبة!

وكنت حين قرأتها منشورة في إحدى المجلات القاهرية عام ١٩٥٧م قد أدركت المعنى الرمزي الذي يرمي إليه الشاعر، إذ كنا آنذاك في بداية عقد التحرير الذي شمل القارة الإفريقية كلها وبلغ ذروته في الستينيات. وحينما قابلت الشاعر بعد ذلك بشهور ذكرت له أنه يسخر من الاستعمار وأن بالأبيات رمزية لا شك فيها واندهش وأكَّد لي أنه لم يكن يقصد ولم يكن يرمي إلى هذا المعنى رغم أن أحدًا من النقاد لم يكن يشك في وجوده! وبطبيعة الحال لم يكن في طوق الشاعر أن ينكر أن أبياته لها ظلال رمزية أيًّا كان مقصده ومرماه في البداية.

ولكن لغة الأدب تتميز بنوع آخر من الظلال هو ما نسميه بظلال المعاني. وظلال المعاني لا تفارق اللغة أيًّا كان مجال استخدامها، ولكنها تكتسب أهمية خاصة في الأدب لأنها تفصح عن مستويات باطنة من المعنى تتصل بأسرار عملية الإبداع الفني التي لا يمكن للأديب أن يكون واعيًا بها كل الوعي. فالذي يكتب دراسة عملية يحاول أن يحافظ على المعاني الدقيقة حتى يتجنب الغموض، وهو يحاول أن يجعل لكل كلمة دلالة واحدة فحسب، حتى يخرج معناه صافيًا واضحًا، ومثله الأعلى في ذلك لغة الأرقام أو الرموز الرياضية ورموز الكيمياء. أما الأديب فهو يستخدم اللغة الحية ذات التعبيرات المتصلة بأكثر من سياق واحد ومن ثم فهي يمكن أن تثير أكثر من معنًى وأن توحي إلى جانب معناها الظاهر بمعانٍ ثانوية أو هامشية لا يمكن تجاهلها في العمل الأدبي. ولهذا نقول إن ظلال المعاني قد تؤدي إلى تعدد الدلالات في اللغة الأدبية وغالبًا دون قصد من الأديب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤