الفصل الأول

الشعر القصصي – الملحمة

١

من المتفق عليه أن أقدم الفنون اللغوية هو فن الشعر وذلك رغم أن الإنسان قد بدأ حديثه نثرًا أي بدأ الكلام (منذ أن علمه الله الأسماء ووهبه النطق) بالنثر لا بالشعر. ولكن يبدو أن وضع الكلام في صورة منظومة يسهل ترديدها وتطرب لها النفس كان أول خطوة يخطوها نحو الفن اللغوي أو الأدب، ولا شك أن الشعر ارتبط بالنظم منذ نشأته. أما الدافع الذي حدا بالإنسان إلى قول الشعر في البداية فعليه خلاف، إذ يذهب البعض إلى أن الإنسان كان في حاجة إلى تأكيد طاقته على المنطق أي الكلام (ومن ثم على الفكر) وذلك بإثبات هذا الكلام وحفظه وترديده، ويذهب البعض إلى أن الإنسان كان في حاجة إلى تأكيد وجوده في عالم غريب عليه، عالم الطبيعة القاسي والكون بأبعاده المترامية وألغازه وأسراره، فاستخدم الشعر باعتباره سجلًّا لأسماء الأشياء وأفعالها، أي إنه كان مفتاحًا للعلم بها والعلم قوة ومنعة. ويذهب البعض الآخر إلى أن الشعر كان في منشئه وسيلة للتواصل مع قوى الطبيعة من رعد وبرق وشمس ورياح وطير وحيوان؛ فالأناشيد الأولى تناديها بأسمائها، فهل كان الإنسان الأول يرجو أن يستأنسها أو يسترضيها خاصة وأن بعض ما وصل إلينا من بقايا هذه الأناشيد يزخر بالتوسل والرجاء؟ مهما يكن من أمر المنشأ فيبدو أن الأنشودة القصيرة كانت أولى الأنواع الشعرية وأنها كانت تلبي حاجة من حاجات الإنسان وترضي الحاسة الجمالية التي تستجيب للكلمة المنغومة والصورة والإيقاع.

ومن الأناشيد البدائية نشأت صور شعرية أكثر تعقيدًا في شتى البيئات وتطورت بتطور المجتمع البشري في صوره الأولى، من صور الأسرة والجماعة إلى صور العشيرة والقبيلة، وقد حفظ لنا التاريخ نماذج من النشيد الديني الذي يتوجه به الإنسان ضارعًا إلى آلهته الوثنية. إلى جانب عدة ألوان من الأناشيد الأخرى، مثل النشيد الاجتماعي الذي يتغنى بأمجاد القبيلة. وعلى مر الزمن نشأت الأناشيد التي تجمع بين هاتين الغايتين وتفرع منها الكثير من ألوان النظم ربما كان أهمها هو الأنشودة الحماسية، والأنشودة القصصية التي تروي تاريخ الأجداد وتذكِّر بماضيهم أي الأنشودة التي ترسِّخ للإنسان جذورًا في الأرض. وقد قُدِّر لبعض هذه الأناشيد أن يعيش في أفواه الناس وفي ذاكرتهم، فكان الرواة يحفظون قدرًا كبيرًا منها وينشدونها على أنغام الآلات البدائية مع إدخال العديد من التغييرات فيها من جيل إلى جيل. وحين اهتدى الإنسان إلى فن الكتابة استطاع تسجيل الكثير منها، وتراث مصر القديمة حافل بشتى أنواعها.

ومع انتشار الإنسان في الأرض ونشوء الأمم ارتقى فن الشعر وتطور واستطاع الراوي الفرد أو المؤلف أن «يؤلف» بين الأشعار المتفرقة والأناشيد التي تروي بطولات الأبطال والقادة في الحروب لإعداد بناء فني طويل هو الملحمة الشعبية. وتعتبر الملحمة الشعبية أقدم الصور الشعرية الكاملة التي وصلتنا من العالم القديم، ونقول «الكاملة» رغم التنوع الشديد في مادتها؛ إذ كانت تشتمل على الأغاني الشعبية والمواويل (أو البالادات) والخطب، والحوار المسرحي والسرد القصصي والوصف والنبوءات من عالم الغيب والخرافات … إلخ. وكانت مكتوبة بلغة الناس أي باللغة الدارجة التي يتحدثها جمهور السامعين، وكان ينشدها منشد محترف في حشد كبير من أهل القرية فيحدثهم عن أسلافهم وبطولاتهم، ويؤكد لهم أمجادهم وعراقتهم، ويطمئنهم — من ثم — على حاضرهم ومستقبلهم، ويسرِّي عنهم في الملمَّات (بإضافة أبيات شعرية من تأليفه تتفق والمناسبة) ويقدم لهم تأملات الحكماء ممن عاشوا قبلهم أو ممن يعيشون في بقاع أخرى من الأرض، ومن الملحمة الشعبية (أو ما يسميه النقاد بالملحمة الأولية) خرجت الملحمة الأدبية (أو الملحمة الثانوية).

٢

أما الملحمة الأولية فليس بين أيدينا سوى عدد ضئيل من النماذج الكاملة لها، مثل ملحمة قلقامش السامرية التي كُتبت عام ٣٠٠٠ قبل الميلاد تقريبًا، وهي ملحمة تناقلها الرواة وظلت في الأفواه قرونًا طويلة حتى وصلت إلى صورتها الحالية وهي تروي مغامرات الملك قلقامش في بحثه عن سر الحياة وعن المجد، ولقائه بأخطار هذه الدنيا ومجالاتها، وتروي لنا كيف توصل إلى معرفة سر النبات فاستطاع أن يهتدي إلى شطآن بابل القديمة ليزرع الأرض ويأمر قومه بزراعتها ثم يبني القصور والأسوار ويقيم لنفسه مُلكًا كبيرًا. وتتضمن الملحمة شتى التفاصيل المستقاة من حياة البشر على ضفاف دجلة والفرات، وأساطيرهم وأغانيهم الشعبية، كما تتضمن قدرًا غير يسير من تاريخ تلك المنطقة. ويضيف النقاد إلى هذه الملحمة ملاحم أولية أخرى منها الملحمة الإنجليزية القديمة بوولف (وهي مترجمة ومتاحة لمن يريد أن يقرأها بالعربية) وأنشودة رولان إلى جانب الملحمتين اليونانيتين الإلياذة والأوديسة للشاعر هوميروس.

وتتميز الملحمتان اليونانيتان اللتان أُلِّفتا عام ١٠٠٠ قبل الميلاد تقريبًا بأنهما تُنسبان إلى مؤلف واحد. كما يذهب بعض النقاد إلى أنهما قد استوحيتا مادتهما من التاريخ الحقيقي، ولكن الصورة التي اتخذتاها لا يمكن اعتبارها تاريخًا صادقًا وذلك لغلبة الأساطير عليهما وللحشد الحاشد من الخرافات والمعتقدات الشعبية التي تشيع بين جنباتهما. ونص الملحمتين مترجم إلى العربية ومتاح لمن يريد الاستمتاع بقراءته وتشترك هذه الملاحم جميعًا في صفات عامة يمكن إيجازها فيما يلي:

(١) الضخامة

وليس المقصود هو الطول فقط (إذ عادة ما يتجاوز عدد أبيات الملحمة العشرة آلاف وعادة ما تقع في اثني عشر كتابًا) ولكن أيضًا نطاق الأحداث فهو عادة حرب طاحنة بين أناس يمثلون حضارات مختلفة ولذلك فموضوعها يقتضي اتساع رقعة الأحداث والتنقل وامتدادها في الزمن.

(٢) وحدة الحدث

والمقصود بهذا وجود خط قصصي محدد يمكن متابعته رغم الاستطرادات الكثيرة أو وجود ما نسميه بعقدة رئيسية واحدة تتفرع منها كل العقد (أو الحبكات) الثانوية (وسوف يأتي تعريف الحبكة فيما بعد). فكل ملحمة تختص بحدث واحد أو «موضوع» واحد مهما تفرع ومهما تشعَّب أثناء السرد.

(٣) البطولة

رغم أن بعض الملاحم تدور حول بعض الأبطال الأفراد فإن هؤلاء لا يمثلون ذواتهم في الحقيقة بقدر ما يمثلون الأمة التي ينتمون إليها، ومن ثم فإن الصراع البطولي لهؤلاء يرمز إلى صراع الأمم بحضاراتها وثقافاتها للبقاء في عالم لم تكن قد تبلورت فيه الحدود البشرية.

(٤) الخرافة

لما كانت الملاحم الأولية تمثل جماع الأفكار والمشاعر التي عرفها الإنسان الأول في بيئته الوثنية، فقد اعتمدت الملحمة على الأساطير والنبوءات القديمة وتصوير عالم الآلهة والعالم السفلي، بل إن الملاحم القديمة تمثل اليوم مصدرًا من مصادر معرفتنا بأساطير الأولين.

(٥) الصفات الفنية الدقيقة

مثل البحر سداسي التفعيلة (أي الذي يشتمل السطر فيه على ست تفعيلات)، وابتداء الملحمة في منتصف الأحداث ثم العودة لاسترجاع ما حدث في الماضي، وهي تشبه في هذا المسرحيات اليونانية القديمة (بل معظم المسرحيات)، والتشبيه الطويل المتأني المتئد سواء منه ما يساعد في تصوير لحظات الانفعال المختلفة أو ما يقصد لذاته أي للزخرفة والزينة، والاستطراد؛ إذ كثيرًا ما يوقف المؤلف تيار السرد ليحكي قصة قصيرة مناسبة، وتنوع النبرة بين السمو (في الخطب) والواقعية (في الحوار) وما إلى ذلك.

٣

وقد اختلفت الملاحم الأدبية (أو الثانوية) عن الملاحم الأولى في كثير من هذه الصفات سواء في موضوعها أو في بنائها وخصائصها الفنية … وأهم ملحمة من هذا الطراز هي ملحمة الإنيادة من تأليف الشاعر الروماني فيرجيل والواضح أن فيرجيل كان يحاكي هوميروس، وقد نجح في إسباغ كل الصفات الخارجية أو الشكلية على ملحمته من طول وضخامة … إلخ، ولكن الوسائل الفنية التي يستخدمها تفصح عن نضج لم يكن ميسرًا لهوميروس فهو رغم استخدامه أنواع التشبيه والاستطرادات نفسها، ونشدان العون من الآلهة يفصح عن وعيه بأن هذا كله من مقتضيات الصنعة، ولذلك فهو يلجأ إلى التوازن بين ما يأخذه من هوميروس وبين ما يضفيه هو من بناء خاص به، وبهذا يقدم لنا ملحمة تتسم بالانتظام والتطور المنطقي، وتحتفل بأنماط السلوك المتحضرة والقيم الجديدة التي اكتسبها أبناء وطنه بعد أن تم لهم المقام في روما، بل إن الملحمة نفسها تدور حول المصاعب ومراحل الكفاح التي أدت إلى إنشاء الدولة الرومانية بمفهومها الحديث، ولا غرو إذ إن الملحمة كُتبت قبل الميلاد بأعوام قليلة (حوالي ١٩ ق. م.)، كما يُدخل فيرجيل في الملحمة وعيًا جديدًا بالماضي، وهذا لم يكن من سمات الملاحم الأولى.

فإذا انتقلنا إلى ملحمة الفارساليا من تأليف الشاعر الروماني لوكان في القرن الأول للميلاد وجدنا أن الصنعة الأدبية تغلب عليها، وهي رغم عدم اكتمالها تدل على الرغبة أيضًا في محاكاة الأقدمين في شتى مظاهر الملحمة، ولكن موضوعها يفتقر إلى نبرة السمو والصدق القديمة، ويفتقر إلى الضخامة المعهودة في الملاحم الأولية، لأن موضوعها محدود فهو الحرب الأهلية بين قيصر وبومبي. كما تتراوح بين فقرات الوصف الممتع وفقرات الحوار والخطب المملة.

وبعد استقرار الأديان السماوية واستقرار كثير من أمم الأرض اختلف موضوع الملحمة الذي كان — كما ذكرنا — مرتبطًا بمحاولات الإنسان الدائبة لرصد جذوره التاريخية وتأكيد انتمائه في المكان والزمان، واستطلاع علاقاته المنوعة بقوى الطبيعة والكون من حوله. وهكذا نجد أنفسنا في القرن السادس عشر، (وقد أصبحت كل أمة في أوروبا متميزة بلغتها وشخصيتها) أمام ملاحم من نوع آخر، إذ لم يعد الشعراء يرون في الموضوعات القديمة ما يناسب شكل الملحمة، فاتجهوا نحو الدين وخرجت لنا ملاحم تمجد علاقة الإنسان بربه أكثر من علاقته بأمته ووطنه. ومنها ملحمة تحرير بيت المقدس (١٥٧٥م) للشاعر الإيطالي تاسو. ولا بد أن نلاحظ هنا أن تغيير الموضوع أدى إلى تغييرات في الشكل فتعدد الأبطال وتعددت البطلات ودخل في القالب الملحمي لأول مرة عنصر الرومانس؛ أي عنصر الحب والمغامرات والبعد عن الحياة الواقعية ونشدان المثل العليا. واشتملت هذه الملحمة الجديدة على بعض الخرافة أيضًا ولكن تاسو يستخدمها استخدامًا رمزيًّا بغية توضيح ما يريد من القيم العليا للفروسية أي للشهامة والفداء والاستشهاد في سبيل المبادئ السامية.

وأنشأ سبنسر في إنجلترا في القرن نفسه نوعًا جديدًا من البناء الشعري يشبه هذه الملحمة وإن كان يختلف في الموضوع، ألا وهو قصيدة ملكة الجان. هذه القصيدة فريدة في موضوعها وشكلها. فهي خليط من الملحمة والرومانس ورغم طولها الشديد فإن ما كتبه (حتى عام ١٥٩٦م) ووصلنا منها لا يزيد على نصف ما كان اعتزمه أي إن الكتب الستة التي وصلتنا هي نصف ما اعتزم من كتب الملحمة الاثني عشر. وهو يذكر في خطاب أرسله إلى السير والتر رالي (الرحالة الشهير) أنه يقفو خطوات هوميروس وفيرجيل وأريوستو وتاسو، ولكنه في الحقيقة ينتهج منهج الرمز، وهو ما لم تفعله ملحمة من قبل، أي إن كل شخصيات الملحمة وأحداثها ترمز لقيم وفضائل مجردة تهدف إلى تثقيف الإنسان وإعداد الإنسان الفاضل. وهو يعتمد فيها على أساطير الملك آرثر ورومانسات الملك شارلمان ولأول مرة يخرج لنا صورة الحب بمعناه الحديث، صورة تقديس للعلاقة الرفيعة السامية (وإن لم تكن عذرية) بين الرجل والمرأة، وجميع القيم العليا المرتبطة بها.

وإذا كنا لم نذكر الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي بالإيطالية في القرن الرابع عشر وسبق بها تاسو، فذلك لأنها تختلف اختلافًا كبيرًا جعل النقاد يترددون في اعتبارها ملحمة، فهي مكتوبة بضمير المتكلم، وهي تحتفل لأول مرة بوجود ما يسمى بالفرد التاريخي أي الإنسان الذي يتمتع بوجود مستقل عن الجماعة أو القبيلة. وهي قصيدة تأمل دينية تعمد إلى الرمز والاستعارة التمثيلية؛ ولذلك فهي تنتمي إلى العصر الحديث أكثر مما تنتمي إلى السياق الذي نورد فيه نماذج الملاحم القديمة.

٤

ويكاد النقاد يجمعون على أن ملحمة الفردوس المفقود للشاعر الإنجليزي ملتون هي آخِر ملحمة شهدها الأدب الأوروبي وفيها يتخذ الشاعر موضوعه من الدين وعلى وجه التحديد سقوط الإنسان أو هبوط آدم وحواء من الجنة نتيجة لغواية إبليس. ويبدو من هذا أنه خالف أهم تقاليد الملحمة الكلاسيكية وهو الكتابة عن الحرب، وهذا صحيح ولكن ملتون رغم هذا الاختلاف لا يكتب عن الدين بصورة مجردة، بل يكتب عن آدم وحواء باعتبارهما نموذجين للبشر الذين كانوا يعيشون في عصره، بحيث نرى في هبوطهما هبوطًا للبشر من معاصريه وفي إصغائهما للشيطان وعصيانهما لله إصغاء مواطنيه لإبليس وعصيانهم للبارئ! كما أنه كان يرمي إلى أن يجعل أحداث ملحمته أحداثًا زمنية وأزلية في الوقت نفسه، فالشياطين شخوص تفكر وتشعر مثل البشر، وتتخذ المناقشات فيما بينها أنماط المناقشات السياسية بين الناس وسير أحداث القصة يتبع المنطق البشري الأرضي، وهلم جرًّا.

أما في الشكل فلقد حاول ملتون أن يتمسك بتقاليد الملحمة الكلاسيكية إلى أبعد حد ممكن، فهو يبدأ في منتصف الأحداث ثم يروي لنا فيما بعد ما حدث قبل البداية، وهو يكتب ملحمته في اثني عشر كتابًا، ويحاكي الخصائص الأدبية لأسلوب هوميروس وفرجيل مثل التشبيه المنبسط. وهكذا فربما استطعنا أن نجعل القارئ يتبين مدى دقة الوصف وسائر هذه الخصائص إذا اقتبسنا له بعض الأبيات من الكتاب الأول حيث يصف الشاعر «إبليس»:

كانت هامته تعلو على الجميع
وكان في صورته وحركته شامخًا متكبرًا
كالبرج الأشم. لم تكن طلعته قد فقدَت بعدُ
بهاءها الأول، فبدا ملاكًا أكبر
أناخ عليه الدهر وغام منه فرط السناء وأظلم!
مثل الشمس عند شروقها وهي تشخص من خلال
ضباب الآفاق، عاطلة من أشعتها
أو عندما تطل من وراء القمر ساعة الخسوف المدلهم
جالب الكوارث، فتسكب الظلال على نصف أمم الأرض
وتثير الخوف من التحول والقلق في قلوب الملوك!
ورغم الظلام الذي كان يلف الملاك الأكبر
فقد فاق ضياؤه كل مَن حوله
كانت الجراح الغائرة من أثر الرعود تغضن وجهه
وكان الهم يقبع فوق خده الذابل،
مستظلًّا بحاجبين ينطقان بشجاعة لا تفل
وكبرياء الرزين المتدبر الذي يتحين الثأر!
وكانت في عينيه قسوة تشوبها آيات ندم
وشوق إلى رؤية رفاق جريمته، أو قل أتباعه
(وما أشد اختلافهم عمن رآهم في النعيم)
الذين كُتب عليهم الآن أن يتحملوا الآلام إلى أبد الآبدين
ملايين من الجان الذين أخذوا بجريرته
فحُرموا الجنة ونُبذوا من روائع الخلد لفسوقه وعصيانه!
ما أشد ولاءهم له حتى بعد أن ذوى بهاؤهم!
أرأيت إلى نيران السماء
حين تحرق أشجار البلوط في الغابات
أو أشجار الصنوبر على الجبال
وتظل قاماتها المهيبة، رغم عريها وشيب رءوسها
منتصبة على الربى الجرداء؟
(الأبيات من ٥٩٠–٦١٥)

وشهد الأدب الأوروبي محاولات تالية في القرنين التاسع عشر والعشرين لكتابة الملحمة، ولكن القصائد التي كتبت رغم طولها لا يمكن أن ينطبق عليها وصف ملحمة. خذ مثلًا قصيدة الشاعر الرومانسي الإنجليزي وليم وردزورث والتي أطلقت عليها زوجته بعد وفاته عنوان «المقدمة»، إنها قصيدة قصصية تماثل في الطول الملاحم القديمة؛ إذ تزيد على عشرة آلاف بيت وهي مقسمة إلى كتب بلغت في صورتها الأولى ثلاثة عشر كتابًا (وزيد عليها كتاب في الصورة النهائية) ولكنها تختلف بعد ذلك في كل شيء عن الملاحم. أولًا لضيق الرقعة التي تجري فيها الأحداث وقصر الفترة الزمنية التي تمثلها، وثانيًا، وهو السبب الأهم، لأنها قصيدة ذاتية في المقام الأول لأنها ترصد تطور تفكير الشاعر ومشاعره بصورة مباشرة وذلك في انتقاله من الطفولة إلى اليفوع والنضج. والشاعر هنا إذن يقدم لونًا جديدًا من الفن الشعري هو الترجمة الذاتية، أو السيرة الذاتية، ويبتعد كثيرًا عن الملحمة. والحق أن وردزورث كان يريد كتابة ملحمة من عدة أجزاء (نشر منها في حياته جزءًا واحدًا هو الرحلة) وكان يريد لهذه القصيدة التي لم تنشر إلا بعد وفاته أن تكون فاتحة لها واختبارًا لقدرته على كتابة الملحمة، ولهذا أسمتها زوجته المقدمة، أي مقدمة الملحمة.

وأغلب الظن أن العرب لم يعرفوا الملحمة بشكلها الأوروبي، وإن كانوا قد عرفوه فهو لم يصل إلينا وما وصلنا من قصائد طويلة لا يمكن إدراجه في هذا النوع الشعري، وأما الملحمة الشعبية فتتناولها كتب الأدب الشعبي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤