الفصل الثاني

البالاد أو الموال

١

شاعت ترجمة كلمة بالاد باللغات الأوروبية بكلمة موال العربية والفرق بينهما كبير. أما الموال فهو نوع خاص من الشعر الشعبي له تقاليده المعروفة (سواء كان منشأ التسمية هو شعر «المواليا» أو نوع آخر من الشعر دخل الأدب العربي على أيدي الموالي) وتناقشه كتب الأدب الشعبي على اختلافها بالتفصيل، وأما البالاد فهو إن شئت موال غربي أو أوروبي لأنه يشترك مع موالنا العربي في أنه شعر شعبي وأنه مكتوب باللهجات المحلية وأنه يغلب عليه طابع الحزن، ولكنه يختلف عنه في نشأته وتقاليده. ﻓ «البالاد» كما يوحي ذلك اللفظ نفسه (المشتق من الفعل المستخدم في اللغات القديمة بمعنى يرقص، ومنه اشتقت كلمة باليه) فهو شعر قصصي في المقام الأول وإن لم يكن «البالاد» يمثل قصة بالمعنى الحديث. والمتفق عليه أن المادة الشعبية التي استقت منها الملحمة موضوعاتها هي المادة نفسها التي أنشأت البالاد، بل إن هناك مَن يقول بأن الملاحم انتظمت في ثناياها هذه البالادات القديمة وتمثلتها فما هي ملامح الموال الأوروبي أو البالاد؟

يمكن إجمال الخصائص الشكلية للبالاد الشعبي «الشفاهي» فيما يلي:

(١) البناء

لما كان البالاد ابنًا لحياة الجماعة وخاصة الاحتفالات التي تشهدها المجتمعات المحلية على مستوى القرية أو القبيلة فقد ارتبط البالاد بالموسيقى المبسطة التي لا تعتمد على أكثر من لحنين، لحن للمقطع الأول أو الفقرة الأولى أو المدخل ولحن للقرار. وهكذا فبعد أن ينشد الشاعر الشعبي المدخل يردد الحاضرون القرار الذي يتضمن الفكرة العامة. وقد أثر هذا في البناء الفني فأصبح في العادة يتكون من فقرات تتكون كل وحدة من أربعة أسطر أو أشطر (إذا اعتبرنا السطر القصير مرادفًا للشطر في البيت العربي) ويلي كل فقرة قرار مماثل في الطول أو قد يكون المدخل هو نفسه القرار. وأقرب نموذج لبنائه في العربية المعاصرة بناء الأغاني المكتوبة بالعامية وفيها يسمى المقطع «كوبليه» أي مقطع من بيتين، ويردد المغني بعده القرار وعادة ما يكون القرار جزءًا من الفقرة الأولى أو المدخل.

(٢) الخيط القصصي

يبدأ البالاد عادة بداية سريعة أي في منتصف الحدث لأنه يعتمد على معرفة السامعين للموضوع ويقص التفاصيل التي أدت إلى «التعقيد» بسرعة أيضًا، أما التعقيد فنعني به «المشكلة» أو «الأزمة» التي يتناولها البالاد والتي تظل دون حل لأنها تمثل واقعًا لم يتغير ولذلك فقد كان من اليسير على الرواة أن يضيفوا المزيد من التفاصيل إلى القصة الأصلية دون أن يغير ذلك من نهايتها. فإذا كانت القصة تدور حول كفاح بعض الفقراء في سبيل العيش ومقاومتهم للغني الظالم (وهذا موضوع مألوف كما سوف نرى) وجدنا في كل جيل مزيدًا من الفقرات المستقاة من حياة المجتمع الجديد (والتي لا تتمشى بطبيعة الحال مع النص القديم) وإذا كان البالاد يتناول شنق أحدهم والأحزان التي شهدتها القرية نتيجة لهذا الظلم وجدنا مزيدًا من التفصيلات في النصوص التي أُلِّفت بعد ذلك بل ربما وجدنا زيادة في الحدث، مثل إضافة حوار إلى الحوار الأصلي، مثل الكلام الذي يقوله البطل لحظة الحكم عليه أو لحظة شنقه وما إلى ذلك. والحوار جزء أساسي من أجزاء البالاد، أي إننا نصادف دائمًا «قال» و«قالوا» و«سمعوا» و«سمع من يقول». ولذلك فقد ذهب أحد النقاد إلى أن الخيط القصصي يقف عندما نسميه حاليًا بالموقف، فالبالاد يبني الموقف ثم يشبعه بالتأملات والصور حتى ليصبح أقرب إلى المأساة الصغيرة منه إلى القصة بالمعنى المألوف.

(٣) اللغة

اللغة كما قلنا هي لغة الشعب، أي لغة الحديث اليومي، وهي خاصة بالأمثال الشعبية وبالصور المألوفة المستقاة من هذه الحياة أيضًا. وقد دأب الرواة والمنشدون على إضافة عبارات لاذعة أصبحت تجري مجرى الأمثال. ولذلك فقد تجد نصًّا من القرن السادس عشر يتضمن إشارات إلى أشياء أو أحداث لم تقع إلا في القرن الثامن عشر. وهذا على أية حال من طبيعة التراث الشفاهي. أما الصور الشعرية فهي قريبة المتناول شائعة يسيرة المأخذ، وهي عادة قديمة لا تمثل انفعال المؤلف أو إحساسه الصادق به أو تجربته الجديدة إزاءه ولذلك لم يحظَ البالاد باحترام النقاد قرونًا طويلة حتى أتت النهضة في أواخر القرن الثامن عشر (كما سنرى).

أما موضوعات البالاد الشعبي فكانت تشتبك مع موضوعات الرومانسية في إطارها الخارجي (والرومانسية نوع من القصص الشعري القديم الذي يدور حول الحب والحرب والمغامرة والأساطير) وتختلف عنها في مكونات مادتها أو ما يسمى حاليًّا بمفردات هذه المادة. فإذا كانت الرومانسية التي اشتهرت وذاعت في العصور الوسطى تصوِّر معركة انتصر فيها أحد النبلاء على غريم له أو تمجد علاقة حب بين فارس مغوار و«الفتاة» التي يستلهم جمالها في القتال، وجدت البالاد الذي يعالج الموضوع الأول وقد ركز لا على النصر ولكن على من لاقوا حتفهم نتيجة لهذه الحرب الضروس وبخاصة من يموتون دون أن تكون لهم في الحرب ناقة ولا جمل. وقد يركز هذا البالاد على لحظة الموت ويورد حوارًا بين المحارب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة وبين أحد أصدقائه ممن يقاتلون في صفه. وهكذا يتحول النصر الذي تصوره الرومانسية إلى رثاء وبكاء على موت البطل! أما إذا عالج البالاد موضوع الحب فهو لا يتناول العلاقة بين النبلاء وبنات الأشراف ولكنه يتناول العلاقة بين المقاتل الفقير وحبيبته أو زوجته التي تركها في المنزل، وعادة ما يكتب هذا النوع من البالاد من وجهة نظر الزوجة أو الفتاة التي تفقد حبيبها.

وهكذا فإن موضوعات البالاد يغلب عليها الحزن وتقترب من روح المأساة الشعبية وحتى حين تصور المغامرات فإنها دائمًا تنتصر للمظلومين رغم هزيمتهم في النهاية، فالبالاد الذي يصور أساطير «روبين هود» اللص الشريف، وغيره من الأبطال الصعاليك الذين كانوا يتجولون في المناطق الشاسعة والغابات في أواسط أوروبا وشمالها يصور قدرة المحارب الفرد رغم افتقاره إلى العدة الحربية المتقدمة على التصدي لأعدائه من النبلاء الظالمين، ويمجد تعاونه مع عشيرته والعشائر الأخرى في مقاومة ظلم الظالمين رغم أنه ينتهي دائمًا بموت البطل.

وعندما بزغ فجر النهضة الأوروبية وانهار النظام الإقطاعي وتكونت المدن الكبرى وانتشرت الصناعات وازدهرت التجارة تراجع الموال الأوروبي الشعبي إلى الريف، إذ كان غالبية سكانه ما زالوا يعانون بل ازدادت معاناتهم في ظل الرأسمالية التجارية. أما المدن فقد استغل أصحاب المطابع، وكانت الطباعة ما تزال في أوائل عهدها، قدرة البالاد على الانتشار فاستخدموه في نشر الأخبار التي تهم المجتمع وذلك بتكليف مؤلفين محترفين بصياغة نصوص جديدة تناسب الألحان القديمة (حتى يمكن التغني بها) وطبعها في صحائف عريضة كانوا يعلقونها في أماكن التجمعات الشعبية، أي في ساحات القرى والحانات وما إلى ذلك. وقد برز لأول مرة ما يشبه الصحافة الحديثة عن طريق هذا النوع الشعري فكان المحررون ينشدون الربح بترويج الأشعار الشعبية التي تشتمل على غرائب الأخبار وعجائب الأحداث بهدف الإثارة ويدسون في داخلها ما يريدون نشره من أفكار. وكان القرن السادس عشر بحق مرتعًا للخرافات والأساطير التي يتلهى بها سكان المدن الذين كانت صِلاتهم قد انقطعت بالريف دون أن تستقر للمدينة تقاليدها وأعرافها وأنماط حياتها الجديدة.

٢

ومع ازدياد الاهتمام باللغات المحلية الأوروبية، ازداد الاهتمام بالبالاد، فأخذ الشعراء والأدباء في جمع النصوص القديمة ومحاولة تطهيرها من الخرافات فوجدوا أن المدينة أدت إلى مولد نوع جديد من هذا اللون الشعري، وهو الذي تطور حتى تبلور في القرن الثامن عشر ويمكن تسميته بالموال الحضري. وهو موال ساخر يهاجم الأوضاع الاجتماعية بقسوةٍ وحِدَّة، ويكيل الضربات للطبقة الجديدة التي حلت محل النبلاء ولكن في أسلوب ضاحك يزيد من مقاومة البسطاء لهم.

ومع هذا الاهتمام بدأ الشعراء يعترفون بالقيمة الأدبية للبالاد، ويحاكونه فنشأ نوع جديد يمكن تسميته بالموال الأدبي. وازدهر هذا الموال في آخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وشجع على نشأته اعتراف كبار نقاد القرن الثامن عشر وشعرائه بما في الموال الشعبي من قيمة فنية، مثل الناقد «أديسون» في أوائل القرن والشاعر «كوبر» في أواسطه، وفعلًا أوسعت المجلات مكانًا لنشر هذا اللون الأدبي الجديد في معظم بلدان أوروبا ولكن الصفحات المخصصة له لم تكن تفرق بين الأنواع المختلفة فكنت ترى إلى جانب الموال الأدبي نماذج من المواويل الشعبية التي أقبل عليها الناس (خاصة بعد نشر المجموعة التي جمعها الأسقف بيرسي عام ١٧٦٥م) ونماذج من الأشعار الغنائية أو القصصية … إلخ، وكلها كانت تسمى مواويل، أو بالادات.

وأهم ما يفرق الموال الأدبي عن الموال الشعبي هو مستوى اللغة والصور الشعرية وأهم ما يشتركان فيه هو البحر والقافية والخيط القصصي. وفي عام ١٧٩٨م نشر الشاعران الإنجليزيان وليم وردزورث وصمويل تايلور كولريدج ديوانًا أسمياه مواويل غنائية أو بالأحرى بالادات غنائية فأحدث ضجة في الأوساط الأدبية؛ إذ هاجمه كبار النقاد الكلاسيكيين لاستخدام الشاعرين لغة الحديث اليومية في كتابة الشعر، وترجع أهمية الكتاب إلى إسباغ الغنائية على البالاد لأن الشعر الغنائي يختلف اختلافًا جوهريًّا كما سنرى عن البالاد. وقبل أن ننتقل إلى الشعر الغنائي يستحسن إيراد نماذج منوعة من البالادات الشعبية والأدبية حتى تتضح الصورة للقارئ.

أما نموذج البالاد القديم فهو موال بعنوان «السير باتريك سبنس» وليس له مؤلف معروف ويعتقد الدارسون أنه يشير إلى حادثة تاريخية وهي غرق عدد كبير من نبلاء اسكتلنده في ١٢٨١م في طريق عودتهم إلى البلاد، بينما يعتقد البعض الآخر أنه يصور هزيمة أحد ملوك اسكتلنده في حربه ضد الإنجليز، وقد كانت هذه الصورة من صور البالاد شائعة قبل اهتمام النقاد وأصحاب المطابع ودور النشر بالبالاد، فهو مرثية وهو يصور الوفاء الذي يتحلى به السير باتريك وإخلاصه للملك وإصراره على الإبحار رغم استحالة ركوب البحر في هذا الوقت بالذات من السنة، وهو يتضمن إشارة إلى خرافة شائعة آنذاك ومؤداها أن رؤية هلال الشهر الجديد بعد رؤية القمر في المحاق قبله بليلة أو ليلتين نذير سوء لا محالة. وأرجو أن يلاحظ القارئ اعتماد البالاد على الحوار والحديث المباشر وهبوط مستوى اللغة بصفة عامة (ولذلك كان لا بد من ترجمته إلى العامية) وافتقارها إلى الصور الشعرية بالمعنى الحديث، فالتشبيه فيه قصير سريع، وليس به أية استعارات مطولة أو معقدة، وليس به أي جنوح للخيال. وهو يعتمد على الخيط السردي البسيط والموسيقى الغلَّابة (ولذلك أيضًا كان لا بد من مراعاة ذلك في الترجمة، وإن كنت ضحيت بالقافية في سبيل دقة المعنى). والأصل يتكون من رباعيات، كما في الترجمة، ولكن البيت الأول والبيت الثالث من كل رباعية يتكونان من أربع تفعيلات قصيرة بينما يتكون البيت الثاني والرابع من ثلاث تفعيلات فحسب:

عرش الملك في «دمفارلم»
والكاس في إيده بلون الدم
منين أجيب بحار شاطر
يخرج بمركبتي للبحر؟
فارس عجوز قام اتكلم
وكان على يمينه قاعد
قال له ما فيش بحار مغوار
زي العظيم «السير باتريك»
كتب الملك أمر عمومي
ومضاه بأيده أمام الكل
وراح مع المرسال ﻟ «السير»
وكان بيتمشى على الرمل
لما قرا «السير» أول سطر
الضحك جلجل في ودانه
لما قرا «السير» ثاني سطر
الدمعة فرت من عينه
مين اللي بس عمل فيه
العملة دي؟ دي لعبة شر؟
معقولة أنزل جوه البحر
في الوقت ده م السنوية؟
يلَّا قوام بينا يا جدعان
قبل الشروق نازلين البحر
نستنى أحسن يا قبطان
أنا خايف النوة الجاية
امبارح أنا ساعة المغرب
شفت الهلال في السما غارب
وفي حضنه زي هلال عدمان
دليل على اللي حيجرالنا
يا وقعتك ياسكتلنده
دي وقعة الكُبَرا قوية
غرقوا وبرانيطهم عايمة
يا رعبهم جوه الميه
ويا طول ما يستنوا الستات
ماسكين مراوح في إيديهم
ولا شافوا أبدًا «سير باتريك»
ولا وصلت المركب ليهم
ويا طول ما يستنى الستات
والمشط في الشعر مدهب
يستنوا رجعة أجوازهم
ولا عمرهم تاني شافوهم
غرقوا في سكة «آبردور»
والعمق قول كام ألف دراع
السير وحواليه النبلاء
وكلهم راقدين في القاع

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤