الفصل الأول

القصة القصيرة

١

عندما تذكر القصة ينصرف الذهن إلى القصة القصيرة باعتبارها النوع الأكثر شيوعًا في بلادنا، إذ توسع الصحف والمجلات أبوابها لها؛ وهي قصيرة حقًّا ومن ثم تتيح للقارئ أن يقرأها بل ويستمتع بها في وقت يختلسه من مشاغل الحياة من حوله. ولكن القصة القصيرة ليست في الحقيقة سوى فن أدبي حديث لم يعرفه أجدادنا الأولون رغم أنهم عرفوا صورًا كثيرة من الفن القصصي كان أقدمها — كما رأينا — هو الملحمة، وكان مع الملحمة فنون كثيرة من الشعر القصصي اندثر معظمها ولم يبقَ إلا البالاد الذي سبق الحديث عنه، وربما قليل من الرومانسات التي تولاها الأدباء في عصر النهضة وانكبوا عليها تشذيبًا وتهذيبًا حتى فقدت معظم خصائصها الأولى. وربما كان للعرب فن من الشعر القصصي لم يصل إلينا، ولكن عنصر السرد الذي تشتمل عليه بعض القصائد القديمة مثل المعلقات يدل على ذلك وإن لم يرجحه.

ولنبدأ في البداية فنسأل ما المقصود بلفظ قصة؟ المعنى الاشتقاقي واضح فهو من قصَّ الأثر أي تتبع المسار من ثم رصد الأحداث. ولا شك أن العرب قد عرفوا نوعًا ما من القصص التي تناقلها الرواة، وربما تضمنت الخرافات والأساطير حتى إذا أتى الإسلام كانت الكلمة قد اكتسبت معناها المألوف واستخدمها القرآن في المعنى الأول وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ والمعنى الثاني فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ معًا. ولكننا سنعرض للون من القصص لا يُكتب شعرًا بل يكتب نثرًا فمتى ولد هذا الفن؟ ربما كان المنشأ مرتبطًا بالمعنى القديم في كل اللغات والذي ينحصر في رواية الأحداث التي وقعت، أي إنه ارتبط بالأخبار والسير. والكلمة بعدُ في اللغات الأوروبية مرتبطة بالتاريخ وتعود في أصلها إلى الكلمة التي تعني التاريخ باليونانية. ولكننا نناقش فنًّا أدبيًّا لا يتناول التاريخ ولكن يقدم أحداثًا متخيلة، أحداثًا لم تقع مطلقًا وإن كان من الممكن أو من المحتمل أن تقع، فمتى بدا هذا الفن النثري؟

قبل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال، لا بد أن نجمل ما سبق أن قلناه من خصائص ذات أهمية بالغة على بداهتها، أولها أن القصة فن أدبي منثور. وثانيها أنه يتناول أحداثًا لم تقع، وثالثها أنها تتضمن أو تقوم على السرد أي متابعة عدد من الأحداث.

أما متى ولد هذا الفن النثري فالواضح أنه لم يولد مرة واحدة ولكن سبقته صور متعددة تشترك في هذه الخصائص الثلاث، فالحكاية الشعبية صورة من الصور الأولى، والأسطورة صورة أخرى، وقس على هذا النوادر والملح والطرف، وخاصة المختلقة منها، والأمثال (أي الحكايات الرمزية التي ربما اندثرت فلم يبقَ منها إلا العبرة أو المثل) وحكايات الطير والحيوان وهلم جرًّا. فالإنسان ينزع بطبعه إلى القص، وهو يحاول إسباغ معنى على الأحداث اليومية أو يحاول أن يمنطقها أو يجد بينها رابطًا يجعل منها سلسلة متصلة الحلقات، كما يحاول أن يجعل من حياته قصة أو عدة قصص، ويحاول أن يربط بين هذه القصص وبين المشاعر والأفكار التي يستخلصها من حياته، فإذا وُجِد الأديب ذو الخيال الخصب استطاع أن يبدع أحداثًا مشابهة أو مناقضة للأحداث التي تمر به أو التي سمع بها بحيث ترضي لدى السامع (أو القارئ فيما بعد) هذه الرغبة في إدراك المعنى وبحيث تشبع نهمه إلى رؤية الأحداث التي تجسد مشاعره وأفكاره.

وقبل أن نمضي لا بد من تلخيص العنصرين اللذين عرضتهما في الفقرة الأخيرة وهما «رابعًا» منطق التسلسل للأحداث والربط بينها و«خامسًا» إسباغ المعنى على الأحداث أو النزوع إلى استخلاص معنى منها.

ولكن الفن القصص المنثور لم يكن ليبدأ إلا مع بداية فن النثر الأدبي الذي اقتصر في البداية على كتابة الأخبار والسير، وكتابة الرسائل وكتابة الخطب. أي إنه كان مرتبطًا بالواقع والتاريخ، ولذلك خاف الكثيرون من الأدباء من اللجوء إلى الخيال خشية أن يشك الناس في صدق رواياتهم للأخبار، وكانوا إذا أرادوا كتابة قصة خيالية زعموا أنها قد وقعت حتى لا يرفض الناس روايتهم فيصبحوا سندًا غير معتمد. ولهذا كثر ما يُسمى بالكذب وكثرت الروايات الكاذبة أو ما أسماه الدكتور طه حسين أيضًا بالنَّحل؛ أي الروايات المنحولة وهي التي أُلِّفَت فيما بعد ثم نُسبت إلى قائلين لم يقولوها أو فاعلين لم يفعلوها وربما كانت البداية الحقيقة هي المقامة، مقامات الحريري وبديع الزمان، إذ أنها حققت لأول مرة في النثر العربي شرط الخيال الذي يقبله القارئ باعتباره خيالًا (أو ما يسميه كولريدج «الامتناع الإرادي عن التكذيب» أي أن تمتنع طائعًا مختارًا عن تكذيب ما تسمع).

ولكن القصص الشعبي في العالم العربي قد ازدهر دونما ضابط أو رابط، واتخذ صورًا مختلفة وأثر في العصور الوسطى في الفن القصصي في أوروبا فازدهرت الحكايات الشعبية وإن لم يحفظ لنا التاريخ منها الكثير (لأنها مكتوبة أو مؤلفة نثرًا والنثر لا يمكث في الذاكرة مثل الشعر). والأرجح أن قصص ألف ليلة وليلة العربية التي ذاعت لدينا في القرن العاشر الميلادي لم تتخذ صورتها الحالية حتى عصر النهضة ومن هنا جاء تأثيرها الكبير في الفن القصصي في أوروبا الذي اتخذ في بدايته صورة الحكاية البسيطة. ولكن مع انتشار الطباعة والقراءة والكتابة بدأت القصة المنثورة تأخذ مكانها إلى جانب القصة الشعرية بل بدأت تحل محلها وبدأ الشعر القصصي يتراجع، وبدأ الشعراء يركزون على الشعر الغنائي والشعر الدرامي.

أما القصة القصيرة بصورتها الحديثة فلم تولد إلا مع الصحافة التي ازدهرت في القرن التاسع عشر وخصوصًا على أيدي «إدجار ألان بو» الأمريكي الذي عمل ناقدًا صحفيًّا وكاتبًا طول حياته. وتعريفه للقصة القصيرة مشهور ولا بأس من تلخيصه وشرحه قبل أن نمضي إلى سائر ملامح القصة القصيرة فأول ما يقوله «بو» «وكان ذلك في معرض نقده للقصص التي كتبها هوتورن بعنوان حكايات تروى للمرة الثانية» هو أن القصة ينبغي أن تكون قصيرة حقًّا أي ألا تستغرق أكثر من ساعتين في قراءتها (من نصف ساعة إلى ساعة أو ساعتين)، ولكن هذا التحديد الزمني قديم، والتحديد الحديث (الذي يذهب إليه معظم النقاد) هو أن يتراوح طولها بين خمس صفحات وثلاثين صفحة، فإذا قصرت عن خمس صفحات صارت «أقصوصة» وهو نوع أدبي ذاع في بلادنا مثلما ذاع في العالم مع الصحافة والإذاعة، وإذا زادت عن ثلاثين صارت رواية قصيرة. ولكن هذا التحديد أيضًا غير دقيق وكثيرًا ما تطول القصة عن ثلاثين صفحة وتحتفظ بكل الخصائص المهمة للقصة القصيرة. فما هذه الخصائص؟

إن أهمها على الإطلاق في رأي «بو» وحدة الانطباع أو وحدة التأثير أي أن يكون لها تأثير واحد مهما تنوعت عناصر المادة التي تتناولها أي إنها تقترب في هذا من الشعر الغنائي الحديث إذ إن القصيدة الواحدة تقدم انطباعًا عامًّا واحدًا مهما تعددت أصواتها وذلك للسبب نفسه، وهو أن القصة القصيرة، كما يبين «بو» في تعريفه، تعالج موقفًا واحدًا لفرد واحد أي لشخصية واحدة، والشاعر يمكن أن يكون هذه الشخصية أو أن يبني القصيدة على الشخصية التي يتحدث بلسانها. وتركز القصة القصيرة مثل القصيدة الغنائية على لحظة زمنية واحدة رغم كل السرد الذي تتضمنه وتلك هي لحظة التنوير أي اللحظة التي يكتمل فيها معنى القصة. ولكن القصة تختلف عن القصيدة اختلافًا جوهريًّا وهي أنها عادةً ما تقوم على ما جرى العرف على تسميته بالحدث الواحد أي الفعل الواحد، والفرق بين الحدث والحادثة هو الذي يميز القصة القصيرة عن الحكاية، فكيف ذلك؟

الحدث أو الفعل في القصة القصيرة فعل إنساني وإرادي مثلما هو الشأن في الدراما أما الحادثة فيمكن أن تكون فعلًا لا إراديًّا أو من صنع المصادفة أو الأقدار، أي إنه إذا صدم سائق سيارة بسيارته رجلًا عن طريق الخطأ كانت هذه حادثة أما إذا تعمد أن يصدمه سواء صدمه في الحقيقة بعد ذلك أو لا كان ذلك حدثًا أو فعلًا. ولكن لماذا نضع هذا التفريق (رغم أن المعنى الاشتقاقي للكلمتين في العربية لا يوحي به؟) السبب هو أن الإرادة تستخدم في القصة القصيرة وسيلة للكشف عن جانب من جوانب الشخصية بل إن الحدث هو الوسيلة الأولى للقصة. وقبل أن نمضي في توضيح ذلك يجمل بنا إيجاز الملامح التي حددناها في سياق هذه المناقشة وإضافتها إلى الملامح الخمسة السابقة، وهي سادسًا: القصر. وسابعًا وحدة الانطباع. وثامنًا وحدة الفاعل الفرد ووحدة الموقف واللحظة. تاسعًا قيامها على الفعل أي الحدث. وعاشرًا الكشف عن جانب من جوانب الشخصية في لحظة التنوير.

أما كون الحدث الوسيلة الأولى للقصة فمعناه أن كل قصة ينبغي أن تشتمل على موقف إنساني يتطور نتيجة لفعل إرادي، وقد يتكون الفعل من حركة مادية أي عمل ملموس وقد يتكون من حركة نفسية أي اعتزام وقصد يتطور حتى يصل إلى لحظة التنوير. وأما الموقف الإنساني أو تعريف الموقف في الفن عمومًا فهو تواجد عدة قوى مادية أو معنوية تتجاذب وتتصارع، ويكون حل هذا التجاذب أو الصراع رهنًا بالفعل الإرادي. ولذلك نجد أن أشد القصص تماسكًا أي أشدها إحكامًا من ناحية البناء هي تلك التي تتحرك فيها الأحداث أو الوقائع تبعًا لقوى الإنسان لأن هذه القوى هي التي تربط بين أجزائها وتهبها في النهاية معنًى موحدًا، أي وحدة الانطباع التي تحدثنا عنها.

٢

والواقع أن هذا التحديد لملامح القصة القصيرة قاصر فهو ينطبق على النوع الأدبي الذي نشأ في القرن التاسع عشر في أوروبا وأمريكا ولم يعرفه العرب. والقصة القصيرة الحديثة تنوعت أشكالها حتى أصبح من الصعب رصد شكل ثابت لها. فإذا كانت الملامح السابقة تنتمي إلى الشكل الكلاسيكي المنضبط والذي يقترب كثيرًا من الدراما ويمكن أن نطبق عليه ما نطبق على المسرح الكلاسيكي من وحدات … إلخ، (أو ما يسمى بالقواعد الأرسطية؛ نسبة إلى أرسطو) فإن ثمة أنواعًا أخرى من القصص القصيرة التي تتمتع بمستوًى فني رفيع وتحتوي على نظرات نفسية ثاقبة تثري الوعي وتمتع الحس الجمالي دون أن تصدق عليها كل هذه الملاحظات.

هناك مثلًا ما يسمى بالقصة الصورة، أو الاسكتش. وفيها ينحصر هم الكاتب في تصوير لقطة من لقطات الحياة لاستشفاف معنى باطن قد تمر به العين ولا تراه، وتتكئ هذه القصة على الوصف والتحليل وتبلغ ذروتها حين يكتمل إظهار المعنى الذي يرمي إليه الكاتب، كما تراوح بين وجهات النظر بحيث تظهر لنا الواقع من عدة زوايا تتقابل أو تتضاد ولكنها تلتقي في النهاية عند لحظة التنوير، بل إن هذه اللحظة نفسها قد تكون مجرد إشارة وقد يوحي بها الكاتب دون أن يفصح عنها بحيث تبدو لنا النهاية مفتوحة أي إن القصة تبدو لنا دون نهاية.

وهناك أيضًا ما يسمى بقصة الشخصية أي القصة التي يصور فيها الكاتب شخصية إنسان فرد دون حاجة إلى موقف حاضر ودون حاجة إلى فعل حاضر، ويمكن أن يكون تصويره نفسيًّا خالصًا يعتمد على تيار الشعور أي على الأفكار التي تطوف برأسه دون انقطاع والأحاسيس التي تخامره على مدى فترة زمنية محدودة بحيث تبرز لنا من خلال تحليل الشخصية وجهة نظر محددة للكاتب أو فكرة أو موقف يزيد من وعينا أو يثري مشاعرنا. وتعتمد مثل هذه القصة عادة على التحليل والغوص في أعماق النفس البشرية أكثر من اعتمادها على الوصف الخارجي والحركة الخارجية.

وربما كان أحدث نوع قصصي هو القصة الرمزية، وهذه تختلف عن القصة الرمزية التقليدية (أي القصص الديني أو قصص الطير والحيوان) في أنها تقدم حدثًا واقعيًّا في الظاهر ولكنه يتعدى معناه ليوحي بمعانٍ أخرى قد تتعدد بتعدد القراء. فالرمزية هنا تعني قدرة الحدث أو الأشياء والشخصيات التي تعالجها القصة على تخطي حدود معناها الظاهر لترمز إلى أشياء أخرى دون أن ينال ذلك من المعنى الأصلي للحدث. وعادة ما تدور مثل هذه القصة حول ثيمة إنسانية شائعة «الرحلة – البحث – اللقاء … إلخ». وعادة ما تكتسي هذه الثيمة في ثنايا القصة معاني جديدة تخرج بها عن نطاق الواقع وتفسح المجال لمشاعر القراء وأفكارهم، وعادة أيضًا ما يكون نسيجها، أي الوحدات أو الخيوط التي تنسج منها، غير محدود اللون مما يقترب به أحيانًا من التجريد رغم صلابة الرمز وتجسيده.

وتوضيحًا لذلك سنورد ثلاثة نماذج من القصص الحديثة. أولها للقصاص الأمريكي لانجستون هيوز (المتوفى عام ١٩٦٧م) وهي تصور النوع الكلاسيكي الذي حددنا ملامحه أولًا، والثانية للكاتبة البريطانية الشهيرة فيرجينيا وولف (المتوفاة عام ١٩٤١م) وهي تمثل القصة الصورة وتتداخل مع قصة الشخصية في اتكائها على تيار الشعور، ومن ثم فهي تمثل نوعًا نادرًا من القصة القصيرة، والثالثة للكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ وهي تمثل القصة الرمزية خير تمثيل.

شكرًا يا مدام

كانت سيدة ضخمة وكانت تحمل حقيبة يد ضخمة تحتوي على كل شيء عدا المطرقة والمسامير! وكانت الحقيبة تتدلى من كتفها بحزام جلدي طويل. وبينما كانت تسير وحدها والساعة تقترب من الحادية عشرة مساءً إذ جرى صبي خلفها وحاول اختطاف حقيبتها. وانقطع الحزام حين شده الصبي من الخلف ولكن ثقل الصبي وثقل الحقيبة معًا أفقداه توازنه وهكذا فبدلًا من أن يولي الأدبار بأقصى سرعة (كما كان يتمنى)، وقع على ظهره فوق الرصيف وارتفعت قدماه في الهواء. والتفت السيدة الضخمة وركلته ركلة مباشرة في مؤخرته، وكان يرتدي سراويل جينز زرقاء، ثم انحنت وأمسكت بتلابيب الصبي قابضة على فتحة قميصه وظلت تهزه حتى اصطكت أسنانه.

وقالت السيدة: «وطي! جيب الشنطة يا ولد! حطها هنا.» كانت لا تزال تمسكه لكنها انحنت حتى تتيح له أن يأتي بحقيبة يدها ثم قالت: «هيه … مانتش مكسوف من نفسك؟»

كانت لا تزال تمسك بتلابيبه، ورد الصبي: «فعلًا.»

وقالت السيدة: «عملت كده ليه؟»

وقال الصبي: «ما كنش قصدي.»

وقالت: «كداب!»

كان بالطريق عدد من المارة فتطلع البعض إلى ما يجري وظل البعض واقفًا.

وقالت السيدة: «إذا سبتك، حتجري؟»

ورد الصبي: «طبعًا.»

وقالت السيدة: «يبقى موش حاسيبك.» وظلت قابضة على قميصه.

وهمس الصبي: «حقك علي يا مدام أنا آسف …»

– «كدة كدة! ووشك وسخ! أنا عايزة أغسل لك وشك! ما فيش في بيتكم حد قال لك تغسل وشك؟»

ورد الصبي: «لأ.»

– «يبقى لازم يتغسل الليلة.» وانطلقت السيدة تسير في الشارع وهي تجرُّ الصبي المذعور خلفها.

كان يبدو في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. ضعيف البنية، نحيفًا معروقًا، ويرتدي حذاءً من الكاوتش وسراويل جينز زرقاء.

وقالت المرأة: «لو كنت ابني كنت علمتك الصح من الغلط، خليني بس أغسل لك وشك الليلة. انت جعان؟»

وقال الصبي وهي تجره خلفها: «لا … بس لو سمحتي سيبيني.»

وقالت السيدة: «أنا كنت ضايقتك في حاجة وأنا باعدي ع الناصية؟»

ثم قالت السيدة: «ومع ذلك احتكيت أنت بي! إذا كنت فاكر إن الاشتباك ده حيتفك بسرعة تبقى غلطان» حتشوف! وساعة ما أخلص منك مش حتقدر تنسى مدام لويلا بيتس واشنطن جونز.

وبدأ العرق يتصبَّب من جبهة الصبي وبدأ يحاول التملص من قبضتها. وتوقفت السيدة جونز وجذبته بعنف حتى أصبح أمامها ثم أطبقت بيدها على رقبته واستمرت في جره في الطريق. عندما وصلت إلى منزلها دفعت الصبي إلى الداخل فعبرا الصالة ووصلا إلى غرفة ضخمة في مؤخرة المنزل بها مطبخ صغير. وأضاءت النور وتركت الباب مفتوحًا. وتناهت إلى أسماع الصبي أصوات ضحكات وأحاديث السكان في المنزل الضخم، كل في غرفته، وقد ترك بعضهم الباب مفتوحًا فأدرك الصبي أنهما ليسا وحدهما في المنزل. وكانت السيدة ما تزال تطبق على رقبته في وسط الغرفة.

قالت: «اسمك إيه؟»

وأجاب الصبي: «روجر.»

– «طيب يا روجر. روح الحوض اللي هناك ده واغسل وشك.» وأخيرًا أخلت سبيله، ونظر روجر إلى الباب، ثم نظر إلى السيدة، ثم إلى الباب، ثم اتجه إلى الحوض.

– خلي الحنفية مفتوحة شوية لحد المية ما تسخن، خد آدي فوطة نضيفة.

وقال الصبي وهو ينحني على الحوض «انتي حتوديني السجن؟»

وقالت: «مش بوشك الوسخ ده! ما قدرش أوديك أي حتة، حاجة عجيبة! أنا راجعة البيت أحضر لقمة آكلها تقوم تخطف شنطتي! يمكن انت كمان لسه ما اتعشتش، والوقت متأخر قوي، مش كدة؟»

وقال الصبي: «ما فيش حد في بيتنا.»

وقالت: «يبقى حنتعشى سوا. أنا واثقة أنك جعان، يمكن كنت جعان لما حاولت تخطف شنطتي.»

وقال الصبي: «كنت عايز أشتري جزمة شاموا زرقا.»

وقالت السيدة لويلا بيتس واشنطن جونز: «واللي يعوز جزمة شاموا زرقا يقوم يخطف شنطتي؟ كان حقك تطلبها مني!»

وقال الصبي: «أفندم؟»

وتطلع إليها الصبي والماء ما زال يتساقط من وجهه. وتوقف الحديث برهة طويلة، برهة طويلة جدًّا. وبعد أن جفف وجهه وقف حائرًا لا يدري ما يصنع فجفف وجهه مرة أخرى ثم استدار كأنما يتساءل في نفسه عن الخطوة التالية. ورأى الباب مفتوحًا؛ إنه يستطيع أن ينطلق إليه عبر الردهة ويجري ويجري، أنه يستطيع أن يجري ويجري ويهرب! كانت السيدة تجلس على الأريكة التي تُستخدم سريرًا. وبعد قليل قالت: أنا كمان كنت صغيرة وياما اشتهيت حاجات ما قدرتش أشتريها!

وتلا ذلك صمت طويل. وفتح الصبي فمه ثم قطب جبينه دون أن يدري وغمغمت السيدة ثم قالت «كنت فاكرني حاقول إن أنا ما حاولتش أخطف الشنط … مش كدة؟ غلط! مش ده اللي كنت حاقوله.» وتوقف الحديث. وحل الصمت ثم عادت تقول «أنا كمان عملت حاجات كثيرة ما قدرش أقول لك عليها يا … ابني، ولا حتى أقولها لربنا ولو أنه عارفها طبعًا. اسمع! انت تستنى شوية هنا لحد ما أحضر حاجة ناكلها، وخد المشط ده وسرح شعرك كده عشان يبقى شكلك معقول.»

وكان في ركن آخر من الغرفة موقد صغير وثلاجة صغيرة يحجبهما ستار. ونهضت السيدة جونز واختفت خلف الستار ولكنها أقلعت عن مراقبة الصبي (خشية الهرب) كما تركت حافظة نقودها على الأريكة ولم تعُد تلتفت إليها. ولكن الصبي قد حرص على أن يجلس في ركن الغرفة البعيد قائلًا في نفسه إنها يمكن إذا شاءت أن تراه في مكانه هذا بطرف عينها. لم يكن واثقًا أن السيدة يمكن ألا تثق فيه، ولم يكن يريد ألا يكون أهلًا للثقة الآن.

وسألها الصبي: «مش عايزة حاجة أجيبها لك من الدكان؟ لبن ولَّا حاجة؟» وأجابت «ما اظنش! إلا إذا كنت انت عايز لبن حلو! أصلي حاعمل كاكاو، باللبن اللي في العلبة دي.»

وقال الصبي: «مش بطَّال.»

ووضعت السيدة على النار بعض الفاصوليا المطبوخة باللحم لتسخينها إذ كانت باردة في الثلاجة ثم صنعت الكاكاو وأعدت المائدة. ولم تسأل المرأة الصبي عن مكان إقامته أو أهله أو أية أسئلة أخرى قد تسبِّب له حرجًا. ولكنهما تقدَّما للطعام وجعلت تقص عليه طرفًا من أخبارها، فقالت إنها تعمل في صالون تجميل بأحد الفنادق وإن العمل يستمر حتى ساعة متأخرة، ووصفت له عملها بالتفصيل قائلة إن الصالون ترتاده السيدات من جميع الأشكال، ذوات الشعر الأشقر وذوات الشعر الأحمر والإسبانيات، ثم قطعت نصف فطيرتها التي دفعت فيها عشرة سنتات وقدمته له.

وقالت: «كُل كمان يا بني.»

وبعد انتهاء الوجبة نهضت وقالت: «ودلوقتي، اسمع! خد العشرة دولار دول واشتري لك جزمة شاموا زرقا. والمرة الجاية! إياك تغلط وتخطف شنطتي ولَّا شنطة حد تاني! فاهم؟ الجزمة اللي تشتريها بفلوس حرام حتولع رجليك. يلَّا! أنا لازم أستريح دلوقتي. اتفضل! يا ريت من هنا ورايح تعقل وتبطل الشقاوة يا بني.»

وتقدمت أمامه عبر الردهة إلى الباب الأمامي وفتحته له. «تصبح على خير! وبلاش شقاوة يا ولد!» قالت له ذلك وهي تنظر إلى الطريق.

وأراد الصبي أن ينطق بكلمات أخرى غير «شكرًا يا مدام» إلى السيدة لويلا بيتس واشنطن جونز ولكنه لم يستطع عندما استدار ونظر إلى السيدة الضخمة الواقفة بالباب. وبصعوبة خرجت من فمه كلمة «شكرًا» قبل أن تغلق السيدة الباب. ولم يرها الصبي بعد ذلك أبدًا.

•••

تنتمي هذه القصة القصيرة — كما قلنا — إلى النوع الكلاسيكي الذي تتوافر فيه جميع الملامح التي ذكرناها عند التعريف بهذا الفن الأدبي الحديث فهي في نطاق الطول المحدد وهي تسرد حادثة خيالية لها دلالة والحدث أو الفعل فيها واحد متطور من موقف ابتدائي إلى لحظة تنوير وهي تهبنا انطباعًا واحدًا في النهاية. وأهم من هذا كله هو ما اهتم به النقد الشكلي من أنها مبنية مثل الدراما على فعل إرادي يؤدي إلى نتيجة ومن ثم فلها بداية هي الموقف ولها وسط وهو ما يسمى بالتعقيد ولها نهاية وهو ما أسميناه بلحظة التنوير، أو لحظة الفك أو الحل (بالنسبة للتعقيد) وهي تتمتع بالتركيز في الزمن والمكان ولا تزيد فيها الحادثة عن واحدة ومن ثم فيها وحدات الزمان والمكان والحدث. أما البداية (أو الموقف) فهي الحادثة الإرادية (الفعل أو الحدث) أي محاولة اختطاف الحقيبة من السيدة في الطريق العام ويبدأ التعقيد أي تشابك الخيوط النفسية التي يطرحها الكاتب حين تتبين السيدة أن وجه الغلام في حاجة للماء والصابون لأننا نتبين من هذه الملاحظة التي يتضمنها الحوار بداية «الاتصال» بين السيدة وبين الصبي وهو الذي ندرك أهميته حين تفلت من فمها عبارة «لو كنت ابني» أي إن «الاتصال» هنا (وهي تستخدم كلمة احتكاك وكلمة اشتباك) يتيح لعاطفة مكبوتة لدى السيدة أن تفصح عن نفسها سواء كانت عاطفة الأمومة أم الوحشة أو العزلة فهي عاطفة محبطة وهي تخرج هنا إلى الحياة نتيجة الحدث. أي إن الموقف قد تطور من حادث مادي ملموس إلى حادث معنوي نفسي نتطلع إليه من خلال الحوار وسير الأحداث في التعقيد أو الوسط.

ومع سير الأحداث على مستوى التفصيلات الدقيقة نعرف المزيد عن طبيعة هذه العاطفة المحبطة لدي السيدة، ونعرف أيضًا طاقة الحب المكبوتة لديها ونزعتها الكامنة ﻟ «الاتصال» أو الاحتكاك والاشتباك — وهي نزعة لا تتحقق إلا بفضل هذا الطارق الغريب — كما نعرف المزيد عن هذا الصبي حين يطرح الكاتب خيوطه النفسية هنا لتلتقي مع العاطفة المحبطة للسيدة فهو يواجه الاختيار بأن يجري ويهرب أو يمكث ولكنه رغمًا عنه يحس بصدق عاطفتها فيحجم عن ذلك مؤقتًا بل إنه أصبح يريد أن يكون أهلًا للثقة.

وتكتمل الخيوط النفسية في اشتباكها ساعة الطعام حين تقص عليه السيدة طرفًا من أخبارها، ويتم الاتصال في لحظة نحس معها أننا شهدنا العاطفة المحبطة وقد خرجت إلى الوجود وذلك حين تقدم إليه المبلغ الذي يريده لشراء حذائه «الشاموا» الأزرق. في هذه اللحظة فقط يكتمل معنى القصة إذ يعود الصبي إلى الطريق وربما عاد إلى «الشقاوة» مرة ثانية، وتعود السيدة إلى غرفتها وعزلتها ووحشتها. ولكن التجربة قد اكتملت وتم الاتصال!

وربما تساءل القارئ عن معنى «التعقيد» هنا وهل هو موازٍ لما يسمى بالعقدة أو «الحبكة» في لغة النقد الشائعة. ولذلك فقبل أن نمضي في تقديم الأمثلة وشرحها ينبغي أن نذكر أن الحبكة في أبسط صورها هي ضبط التسلسل بين الأحداث بحيث يؤدي كل فعل إلى الفعل الذي يليه بالضرورة، وبحيث يظل القارئ متطلعًا إلى معرفة ما سيحدث بعد كل حادثة. وسوف تتاح لنا فرصة أخرى لشرحها عند الحديث عن الرواية.

وفيما يلي القصة التي كتبتها فيرجينيا وولف.

بيت مسكون

أيًّا كان وقت استيقاظك فسوف تسمع صوت إغلاق باب ما. كانا يسيران من غرفة إلى غرفة، وقد تشابكت أيديهما، فيرفعان هذا الشيء ويفتحان ذلك حتى يتأكدا، كانا زوجَين من الأشباح.

قالت «تركناه هنا»، وأضاف هو «وهنا أيضًا»، وغمغمت «في الطابق العلوي» وهمس «وفي الحديقة» وقالا معًا «لا بد من الهدوء وإلا أيقظناهم.»

ولكنكما لم توقظانا، كلا فالمرء عادة ما يقول «إنهما يبحثان عنه ولذلك يفتحان الستارة» ثم يمضي في القراءة — صفحة أو صفحتين — وأحيانًا ما يقول واثقًا «لقد وجداه الآن» ويوقف القلم الرصاص على الهامش. وأحيانًا يتعب من القراءة فينهض ويذهب ليتأكد بنفسه. إن المنزل خاوٍ تمامًا والأبواب مفتوحة ولا يُسمع إلا هديل الحمام والرضا يفيض منه، وهدير النورج وهو يدور في المزرعة القريبة «لماذا أتيت إلى هنا؟ كنت أريد أن أعثر على أي شيء؟» كانت يداي خاويتين. «ربما كان في الطابق العلوي» كان التفاح في غرفة السطح. وهكذا أهبط مرة أخرى. ما تزال الحديقة ساكنة كعهدها، غير أن الكتاب قد تسرب بين نصال الكلأ.

ولكنهما عثرا عليه في غرفة الجلوس. لا يستطيع أحد أن يراهما وبدت في زجاج النافذة صورة التفاح وصورة الورود. وكانت الأوراق تبدو خضراء في الزجاج. فإذا تحركا في غرفة الجلوس استدار التفاح فبدا جانبه الأصفر. ومع ذلك فإنه بعد لحظة واحدة — إذا فتح الباب — يبدو مبعثرًا على الأرضية ومعلقًا على الجدران ومدلى من السقف — ماذا؟ كانت يداي خاويتين. ومرَّ ظل بلبل على البساط، ومن أعمق آبار الصمت استمدت الحمامة البرية هديل صوتها. «أمان أمان أمان» كان نبض المنزل يدق في رفق. «الكنز الدفين، الغرفة …» وتوقف النبض. أكان هذا هو الكنز الدفين؟

وبعد لحظة خبا الضوء. هناك في الحديقة إذن؟ ولكن الشجرات قد نسجت ثوبًا من الظلام حول شعاع حائر من أشعة الشمس. كان الشعاع الذي أردته يتوهَّج دائمًا خلف الزجاج وهجًا رهيفًا رفيقًا باردًا، وقد غاص تحت السطح. وكان الموت هو الزجاج، وقد حال بيننا الموت إذ جاء أولًا إلى المرأة منذ مئات السنين فتركت المنزل وأغلقت كل النوافذ، وأظلمت كل الحجرات. وترك هو المنزل وتركها واتجه شمالًا واتجه شرقًا ورأى النجوم مقلوبة في سماء الجنوب. ثم عاد يطلب المنزل فوجده مهجورًا تحت المرتفعات. «أمان أمان أمان» كان نبض المنزل يدق في سرور. «الكنز لك»، وتزأر الريح فوق الطريق. وتميل رءوس الأشجار وتنحني على الجانبين وتسقط أشعة القمر فتثير رذاذًا وتسيل هائمة في المطر. ولكن شعاع المصباح يسقط مباشرة من النافذة. وتتوهَّج الشمعة وهي ثابتة ساكنة. إن الشبحين يجولان في المنزل ويفتحان النوافذ ويتهامسان حتى لا نستيقظ وهما ينشدان السعادة.

تقول «كنت أنام هنا» ويضيف هو: «قبلات بلا حصر». «نصحو في الصباح والفضة بين الأشجار»، «في الطابق العلوي»، و«في الحديقة»، و«عندما يأتي الصيف»، و«موسم الثلوج في الشتاء»، ويترامى صوت إغلاق الأبواب على البعد، خافقة برفق كأنها نبضات القلب.

ويقتربان ثم يتوقفان في مدخل الباب. وتسكن الريح وينزلق المطر كاللجين على الزجاج. وتعشى أعيننا، ولا نسمع الخطوات إلى جوارنا، ولا نرى المرأة وهي تنشر عباءة الأشباح التي ترتديها. وتحيط يداه هو بالفانوس لتحمي اللهب من الهواء. وتخرج أنفاسه قائلة «انظري، إنهم نائمون، والحب على شفاههم»، وينحنيان وقد رفعا مصباحهما الفضي فوق رءوسنا وجعلا ينظران إلينا نظرة طويلة وعميقة. ويتوقفان طويلًا بينما تهب الريح مباشرة على المصباح فيميل اللهب قليلًا، وتمر أشعة القمر الطليقة على الأرضية والجدران ثم تلتقي فتصبغ الوجهين المائلين — الوجهين المتفكرين — الوجهين اللذين يتفحصان النائمين بحثًا عن السعادة الخبيئة.

«أمان أمان»، ويدق قلب المنزل في فخر. ويتأوه هو «سنوات طويلة» ولقد وجدتني مرة أخرى. وتغمغم هي «هنا، نائمة، أو وأنا أقرأ في الحديقة أو أضحك أو أدحرج التفاح في غرفة السطح، هنا تركنا كنزنا»، ثم ينحنيان ثم يشع نورهما فيرفع الأجفان من فوق عيوني. «أمان أمان أمان!» ويدق نبض المنزل دقًّا عنيفًا. وأستيقظ وأنا أصيح: «أهذا إذَن كنزكما الدفين؟ النور في القلب؟»

•••

رغم قصر القصة الشديد الذي يجعلها من ناحية الطول أقرب إلى الأقصوصة فإن بها الملامح الأساسية التي تحدثنا عنها باستثناء «الحدث» أو الفعل بالمعنى الذي أوردناه والشخصية بالمعنى المفهوم. فنحن هنا أمام حالة نفسية ممتدة على الصفحات الثلاث أو الأربع، حالة الإحساس بوجود روحي بعد هذه الحياة وهو والوجود الذي يتمثل إبان هذه الحياة في طاقة الإنسان على الحب والتماسك، أولًا: على المستوى البشري أي فيما بين البشر، وثانيًا: على المستوى المادي أي مع الطبيعة والأشياء، فبطل القصة (أو بطلتها) يعيش في بيت مسكون وهو لا يعرف إلا القليل عن هذا البيت وعن أصحابه (هذه المعلومات توردها الكاتبة في سطور معدودة) ولكنه يعرف أن ثمة كنزًا دفينًا في المنزل لا يستطيع أحد أن يحدد كنهه. وفي ليلة ما — وهي الليلة التي يغلبه فيها النعاس وتصفو روحه فتقترب من أرواح الموتى — يحس بأنهما ما زالا يغشيان هذا البيت وأنهما يعمرانه بحبهما، وفي لحظة يكتمل المعنى في نفسه فيستيقظ وقد أدرك معنى الكنز الدفين. ألَا وهو النور الذي يضيء القلب. نور الحب.

وفي مثل هذا النوع من القصص لا يتبع السرد حبكة معيَّنة أي تيارًا منطقيًّا من الأحداث، ولكنه يتبع الحركة النفسية للشخصية حتى تبلغ ذروتها. فالاكتشاف الأخير هنا والذي نسمِّيه لحظة التنوير ليس اكتشافًا ماديًّا أو موضوعيًّا ولكنه اكتشاف نفسي، أي إن الذروة هي اكتشاف البطل لفكرة ما داخل نفسه، وقد تكون صحيحة أو كاذبة، وهي فكرة أقرب ما تكون إلى الأفكار الشاعرية أي الثيمات التي سبق الحديث عنها في الشعر الغنائي. ولذلك فهي لا تعيننا على فهم الشخصية باعتبارها فردًا متفردًا ولكنها تُلقي الضوء على حالة نفسية قد يمر بها الإنسان في أي زمان ومكان.

وهكذا فهذه القصة التي وصفناها بالقصة الصورة تجتمع فيها معظم سمات القصة القصيرة وأهمها وحدة الانطباع وتوحد الموقف والبطل واللحظة والمكان. وهي بعد هذا تنتقل بنا من حال النوم والأوهام إلى لحظة يقظة رمزية؛ أي لحظة انتباه إلى الفكرة الأساسية، وإن كانت القصة تختلف في معالجتها للحدث أو الفعل لأنها تنقله إلى داخل النفس، وتضحي بمنطق التسلسل المعروف في سبيل إبراز الدلالة، أو المعنى الكلي الذي سبق أن أسميناه بالمعنى الفني، أي المعنى الذي تبلوره التجربة.

وإذا كان القارئ العربي سوف يشكو من الغموض فيها، خاصة إزاء استخدام الضمائر (حتى إنه لن يتيقن من صورة البطل وهل هو واحد أم اثنان؟ وهل النائمون اثنان أم أكثر؟ وهل الشبحان يرمزان لروحيهما؟ وما مدى صدق العلاقة بين الأحياء والأموات؟)، فلا بد أن أؤكد له أن القارئ الأجنبي أيضًا يشكو من هذا الغموض وسوف نُلقي بالضوء على أسبابه في باب الرواية عند الحديث عن فرجينيا وولف والرواية النفسية وتيار الشعور.

أمام القصة الثالثة فهي «زعبلاوي» للكاتب الكبير نجيب محفوظ، وهي منشورة ضمن مجموعة دنيا الله، ومتاحة في المكتبات والأسواق لمَن يريد الاطِّلاع عليها. وأهم ما في هذه القصة هو أن الحدث أو الفعل يجري على المستوى الواقعي من البداية للنهاية. ومع ذلك فهو يتضمن مستوًى آخَر رمزيًّا. فما هو الحدث أولًا؟

إن بطل القصة رجل مريض استعصى مرضه على الأطباء فمضى يطلب الأولياء والصالحين وقد سمع عن رجل صالح اسمه الشيخ زعبلاوي له قدرة على مساعدة الناس على التغلب على همومهم وأمراضهم. ويمضي به البحث من مكان إلى مكان والناس يؤكدون له أنه كان موجودًا في الماضي ويحكون له عن المعجزات التي كان يبديها، وبالتدريج يهتدي إلى شخص أكَّد الناس له معرفته بالزعبلاوي، وهو الحاج ونس الدمنهوري. وفي جلسة مع هذا الونس يضطر بطل القصة إلى شرب الخمر (رغم أنه لا يشرب) فيغيب عن الوعي ويرى حلمًا كأنه الجنة. وعندما يُفيق يسأل الحاج ونس عن زعبلاوي فيقول له إنه كان هنا وإنه «عطف عليك فراح يبلل رأسك بالماء لعلك تُفيق» ويحاول بطل القصة العثور عليه ثانيًا بملازمة ونس ولكن الشيخ لا يحضر ويرتاده الشك أحيانًا فيساوره اليأس ثم يحاول إقناع نفسه بصرف النظر نهائيًّا عن التفكير فيه. قائلًا: «كم من متعبين في هذه الحياة لا يعرفونه أو يعتبرونه خرافة من الخرافات، فلم أعذب النفس به على هذا النحو؟» وينهي القصة قائلًا: «ولكن ما إن تلح عليَّ الآلام حتى أعود إلى التفكير فيه وأنا أتساءل متى أفوز باللقاء، ولم يثنني عن موقفي انقطاع أخبار ونس عني وما قيل عن سفره إلى الخارج للإقامة، فالحق أنني اقتنعت تمامًا بأن عليَّ أن أجد زعبلاوي … نعم عليَّ أن أجد زعبلاوي.»

الحدث إذَن هو عملية البحث الدائبة عن شخص له قوى روحية مسلم بها. ولكن هذا لا يؤدي إلى نتيجة مادية؛ أي إن البطل لا يجد زعبلاوي ولا يراه رأي العين، وأقرب ما يراه منه حلم الجنة الذي رآه حينما نام أو غاب عن الوعي. ولكن النهاية التي تبدو «مفتوحة» ليست كذلك في الحقيقة، فإصرار البطل على استمرار البحث مبني على اقتناعه بوجود ضرورة العثور عليه. وهذا الاقتناع الذي ينبع من الإيمان هو ما انتهى إليه البطل. أي إن لحظة الاقتناع تتوج الجهد الذي كان يتردَّد بين اليأس والأمل وبين الإنكار والتصديق، ولكن الحدث الحقيقي في القصة لا يقتصر على هذه النهاية التي نقيسها بالمقاييس التقليدية: الحدث الحقيقي هو الحركة الرمزية الباطنة في عملية البحث.

الواضح أن الكاتب يرفع منذ البداية «معنى» زعبلاوي إلى مستوى الرمز بأن يلقي بعبارات متناثرة هنا وهناك وسط الحوار قد تضيع دلالتها على القارئ المتعجل. فلننظر إلى هذه العبارات ولنعرضها في سياقها الزمني في القصة: يقول أبوه عن الزعبلاوي «فلتحل بك بركته … ولولاه لمت غمًّا»، ويقول البطل عن مرضه «أصابني الداء الذي لا دواء له عند أحد، وسُدَّت في وجهي السبل وطوقني اليأس … وتساءلت لم لا أبحث عن الشيخ الزعبلاوي». ويقول المحامي عنه «كنا نراه معجزة»، ويقول عنه بائع الكتب القديمة زعبلاوي؟ يا سلام؟ والله زمان. كان يقيم في هذا الربع حقًّا عندما كان صالحًا لإقامته … ولكن أين زعبلاوي اليوم؟ ويقول عنه شيخ الحارة: «على أي حال فهو حي لم يمُت ولكن لا مسكن له … وربما صادفته وأنت خارج من هنا على غير ميعاد، وربما قضيت الأيام والشهور بحثًا عنه دون جدوى … إنه يحير العقل …» ويقول عنه الرسام «أين هو اليوم؟ هو حي بلا ريب … وبفضله صنعت أجمل لوحاتي.» ويقول عنه الموسيقي «ترى أين أنت يا زعبلاوي؟ في وجهه جمال لا يمكن أن ينسى، زارني منذ مدة، قد يحضر الآن، وقد لا أراه حتى الموت». ويعلق على عذاب البطل قائلًا: «هذا العذاب من ضمن العلاج» ثم يعلق على صنعته الموسيقية قائلًا إن زعبلاوي: «هو الطرب نفسه، وصوته عند الكلام جميل جدًّا، ما إن تسمعه حتى ترغب في الغناء وتهيج أريحية الخلق في صدرك.» ويسأله البطل: «وكيف يشفي من المتاعب التي يعجز عنها البشر؟» ويجيبه: «هذا سره.»

هذه الإشارات ترفع من زعبلاوي كما قلنا إلى مستوى الرمز أي إنه لا يُصبح مجرد شخص أو ولي من أولياء الله الصالحين بل يصبح ممثلًا لقدرة الله التي تحيا أبدًا. فهو جميل الطلعة والصوت وهو «معجزة» وهو «خلاق» في الفن وفي الحياة … إلخ. ولكنه لا يقتصر في القصة على الإيحاء بهذا المعنى رغم غلبته ووضوحه فهو على أحد المستويات يمثل الأمل الذي يحيا أبدًا في صدور الأحياء ويحضهم على البحث الدائب عن السعادة (التي يرمز لها الشفاء من الأمراض) فالأمل حي لم يمت، وهو ملهم الفنانين والأحياء على السواء، واستمرار بطل القصة في البحث عن زعبلاوي يمثل الأمل الذي يتوهج في صدره بعد أن «طوقه اليأس» في البداية، إن مجرد اقتناع البطل بوجود زعبلاوي يهبه أمل الاستمرار في الحياة. وعلى مستوى أبعد يمثل زعبلاوي قوة الماضي السحرية التي تشد الناس إليها في ذكرياتهم، فزعبلاوي مرتبط دائمًا بكان وكنا، وبالاسترحام على الماضي؛ «والله زمان»، «كان أمره سهلًا في الزمان القديم»، «كان يا ما كان»، «الدنيا تغيرت»، وهلم جرًّا. ولكنه في الوقت نفسه المجهول الذي يشد كل هؤلاء إليه على اختلاف مستوياتهم الفكرية والاجتماعية، فهو القوة المجهولة التي نقصدها عندما يدهمنا المجهول، وبطل القصة بعد لا يعرف طبيعة دائه وأقصى ما يقول عنه إنه «الداء الذي لا دواء له عند أحد»، ومعنى هذا أن له دواءً ولو لم يكن عند أحد من الناس! ربما كان لديه رمز هذا الدواء؟ ربما استطاع إذا استبطن ذاته وغاص في أعماق نفسه أن يصل إلى الشفاء؟ إن لحظة النوم أو الغياب عن الوعي تكشف لنا هذا المعنى الأخير.

«حلمت بأنني في حديقة لا حدود لها، تنتثر في جنباتها الأشجار بوفرة سخية فلا ترى السماء إلا الكواكب خلال أغصانها المتعانقة ويكتنفها جو كالغروب أو كالغيم، وكنت مستلقيًا فوق هضبة من الياسمين المتساقط كالرذاذ، ورشاش نافورة صاف ينهل على رأسي وجبيني دون انقطاع. وكنت في غاية من الارتياح والطرب والهناء، وجوقة من التغريد والهديل والزقزقة تعزف في أذني، وثمة توافُق عجيب بيني وبين نفسي، وبيننا وبين الدنيا فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافر أو إساءة أو شذوذ وليس في الدنيا كلها داعٍ للكلام أو الحركة، ونشوة طرب يضج بها الكون، ولم يدم ذلك إلا لفترة قصيرة فتحت بعدها عيني.»

هل يمكننا أن نقول إن هذه الرؤيا تمثل المعنى الأول — المعنى الديني — باعتبار أنها الجنة بقدر ما تمثل المعنى الرمزي الأخير وهو صفاء النفس نتيجة للتوافق؟ وإذا لاحظنا أن البطل يجعل من نفسه كائنًا مستقلًّا عن ذاته (فهو يقول أنا ونفسي، وبيننا وبين الدنيا أي بيني أنا ونفسي من ناحية وبين الدنيا من ناحية أخرى) وجدنا أن رمزية التوافق واضحة ولا يمكن الشك فيها.

ولا شك أن القصة القصيرة من هذا النوع لن تُلقي بالًا إلى رسم الشخصية أو تصوير الإنسان الفرد. فنحن نشهد هنا لحظة وعي واحدة أو لحظة شعورية واحدة قد تأتي هذا الإنسان أو ذاك. والناس من حول البطل مجرَّد أسماء أو نماذج وسلوكهم نمطي، وهذا تقتضيه طبيعة القصة الرمزية؛ فالبطل الحقيقي هو فكرة زعبلاوي، أي فكرة وجود هذه الطاقة المعنوية التي ينشدها الإنسان وقد يدركها في أحلامه ولكنها تغيب عنه حين يصحو؛ حين يواجه دنيا الواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤