الفصل الثاني

الرواية

١

إذا كانت القصة القصيرة فنًّا صعبًا فالرواية أصعب الفنون الأدبية على الإطلاق وذلك للأسباب نفسها التي تجعلها تبدو سهلة وهي غياب الضوابط الشكلية أو التقاليد الثابتة التي تسهل على الكاتب مهمته، فلا هي تكتب نظمًا مثل الشعر ولا هي مقسمة إلى فصول ومشاهد تخضع لأعراف سائدة مثل المسرح. فالكاتب يسرد الأحداث دون أن يقيده الزمان ولا المكان ودون أن تحده حدود الطول ولا القصر! كما أنه ليس مقيد اليدين إزاء الوصف والاستطراد وعدد الشخصيات، فهو يستطيع أن يقدم أي عدد من الشخصيات وأن يتعدى وحدة الانطباع فيخلق العديد من الانطباعات وهلم جرًّا. أي إن الرواية الحديثة هي الفن الأدبي المنثور الذي حل محل القصة الشعرية الطويلة (وبخاصة الملحمة) عندما نشأت المدن وتحوَّل الأدب من الشكل المسموع إلى الشكل المقروء ونحن نقول إن الرواية بالمعنى الحديث صعبة لأنها تبدو سهلة!

ولكن ما ملامح الفن الروائي بصفة عامة؟ فلنبدأ منذ البداية كما نفعل دائمًا ونقول إنها قصة طويلة تتوافر فيها الخصائص الخمس الأولى التي ذكرناها بالنسبة للقصة القصيرة وهي أنها فن أدبي منثور، وهي خيالية (أي تختلف عن كتاب التاريخ مهما كان فيها من حقائق تاريخية) ويستخدم الكاتب فيها السرد (بدلًا من التعبير عن مشاعر آنية كما يحدث في الشعر وبدلًا من الحوار كما هو الحال في المسرح)، وتخضع الأحداث فيها (سواء الأفعال الإرادية البشرية أو الحوادث القدرية) لنوع من المنطق أو التسلسل سواء كان تسلسلًا زمنيًّا أو خاضعًا لقانون العلة والمعلول وسواء كان السرد يتبع خطًّا متقدمًا في الزمن أو متعرجًا يتردد بين الماضي والحاضر، وهي تحاول إبراز المعنى الكامن في هذه الأحداث البشرية ودلاتها. ثم نزيد على ذلك سمة أساسية في الرواية هي الشخصية، أو مجموعة الشخصيات التي تُبنى عليها الرواية والتي بدونها لا يمكن أن يكون للأحداث معنى ولا يمكن أن يكون دون ما أسميناه بالحبكة أو العقدة. (وسوف نفصل الحديث فيما بعد في هذا الموضوع الأخير لأنه أهم ما اختلفت فيه الرواية الحديثة عن الرواية في القرن التاسع عشر.)

أما موضوعات الرواية، والتي تغري بعض النقاد باعتبارها أساسًا لتقسيمها إلى أنواع مختلفة، فتكاد لا تحصى؛ إذ أثبتت الرواية قدرتها على التكيُّف والتطوُّع والتطوُّر بحيث أصبحت قادرة على معالجة أي موضوع وأثبتت قدرتها على البقاء في عالَم يواجهها فيه منافس قوي هو السينما (وأخيرًا التليفزيون) فالفيلم السينمائي أقرب الفنون المرئية إلى الرواية، وقد اجتذبت السينما بالفعل عددًا من كتَّاب الرواية، كما إن حلقات التليفزيون أو ما يُسمى بالمسلسلات وما يُسمى في الغرب «أوبرا الصابون» (وتفسير التسمية أن أوائل المنتجين كانوا من أصحاب شركات الصابون الذين استغلوا رواج المسلسلات للإعلان عن بضائعهم)، هذه المسلسلات تمثل صورة حديثة للفن الروائي وإن انحط مستوى معظمها إلى حدٍّ بعيد، فنحن نواجه كل يوم كتَّابًا جددًا للرواية وما زالت الرواية فنًّا تتجدد حياته بتجدد أساليبه وموضوعاته، رغم ما نسمع من حين لآخَر عن اقتراب موعد احتضار هذا الفن الأدبي!

٢

أما التقسيمات الشكلية فلا تهمنا كثيرًا، ويكفي أن نلقي نظرة سريعة على أهم الأنواع التي يتوافر تصنيفها حتى نتبين ذلك: رواية الرسائل أي التي تكتب في صورة رسائل متبادلة بين الشخصيات بحيث تتضمن الرسائل وصفًا للأحداث والأماكن والمشاعر من وجهات نظر متفاوتة، والرواية العاطفية أو الأخلاقية أي تلك التي تربط بين صدق العاطفة والخلق القويم انطلاقًا من أن قدرة الإنسان على الإحساس الصادق العميق تعني أن له وازعًا من ضمير، وأنه من ثم إنسان فاضل وهكذا تعلي هذه الرواية من شأن الفضيلة وتحارب الرذيلة وذلك بمكافأة الخير ومعاقبة الشر في النهاية. والرواية القوطية أو رواية الغموض والرعب الرومانسي وهي التي ازدهرت في أواخر القرن ١٨ وأوائل القرن ١٩ وتوسلت بأجواء العصور الوسطى من القلاع المهجورة والبيوت المسكونة بالأشباح ويكثر فيها سفك الدماء وتكثر الحوادث المفزعة تجسيدًا للمواجهة مع عالم المجهول والأقدار المتربصة بالإنسان. والرواية التاريخية أي الرواية التي تصور فترة تاريخية حقيقية بأحداثها الرئيسية وبعض شخصياتها المعروفة بعد أن يحول الكاتب هيكل المادة التاريخية أو ما هو معروف يقينًا منها إلى واقع حي بكل تفاصيله وذلك لاستقراء المعنى الذي يريده أو لإسباغ معنى جديد يهب حياة جديدة في نطاق الحاضر لا في سياق الماضي. والرواية الدعائية التي تكتب ترويجًا لفكرة ما وفيها يركز الكاتب على الفكرة ويعيد تشكيل المادة الواقعية حتى تبرز محاسن الفكرة أو مساوئها، وقد تختفي الفكرة إذا أحكم الكاتب صنعة الرواية فلا تطل علينا إلا من خلال الأحداث والشخصيات ولكنها (أي الفكرة) تظل هي الهدف الأول الذي يبرر لنا في النهاية. والرواية الاجتماعية أي الرواية التي تصور المجتمع في مكان محدَّد، وزمان محدَّد، عادة يكون وطن الكاتب، وعادة يكون الزمان هو الحاضر وعادة يركز الكاتب على إبراز العلاقات الاجتماعية وتحليلها ابتداءً من الأسرة وانتهاءً بالمجتمع الكبير الذي يعيش فيه. والرواية النفسية أي الرواية التي تركز على الحركة النفسية للشخصيات وتحلل انفعالاتهم ودوافعهم غوصًا وراء ما يختفي في غياهب النفس البشرية من عوامل قد تخفى على الفرد نفسه، وذلك على ضوء مكتشفات علم النفس الحديث. والرواية البروليتارية وهي الرواية التي تعلي من شأن طبقة العمال وتضفي عليهم من الجمال والجلال ما يرتفع بهم إلى مستوى أبطال الأعمال الأدبية الكبرى. والرواية الوثائقية وهي الرواية التي تأثرت بالعلوم الحديثة وبخاصة بالبرامج الإخبارية في التليفزيون والتي تهتم بتقديم الحقائق الخاصة بقضية من القضايا في قالب روائي، ومن ثم فهي تتطلب من الكاتب دراسة طويلة وبحثًا مستفيضًا وعادةً ما يستمد القارئ متعة من هذه الحقائق لا تقل (إن لم تكُن تزيد) عن استمتاعه بالرواية باعتبارها فنًّا أدبيًّا خالصًا. والرواية الشعبية التي يسميها البعض رواية اﻟ «ساجا» (أي الملحمة الشعبية) أو «رواية السرد الزمني» وهي تستمد جذورها من التقاليد والأعراف القائمة سواء في الريف أو في الحضر وتمتد في الزمان وعادةً ما تتابع الأحداث في أسرة ما أو في عدة أسرات مترابطة عبر السنين والأجيال دون فواصل زمنية. والرواية البيكاريسك أي رواية مغامرات البطل في المجتمع بهدف تصوير الشرائح الاجتماعية التي تشهد مغامراته.

وإلى جانب هذه الأنواع المألوفة يوجد ما اصطلح على تسميته الرواية المفتاح، وهي الرواية التي نشأت في فرنسا في القرن السابع عشر وتتخذ أبطالها من بين المشاهير بعد إخفاء أسمائهم وقد أسميت كذلك لأن «المفتاح» اللازم للتعرف على هؤلاء لا يقدم في الرواية ولا يعرفه القارئ إلا بعد أن ينتهي من القراءة. وأقرب رواية من هذا النوع إلى ذاكرتي هي كنيسة الكابوس للكاتب الإنجليزي «توماس لف بيكوك» والتي كتبها في أوائل القرن التاسع عشر ليسخر فيها من أبطاله الذين يمثلون معاصريه من الشعراء الرومانسيين «كولريدج» و«بايرون» و«شيلي». ثم الرواية الضد (أو ما يُترجم أحيانًا باللارواية) وفيها يعمد الكاتب إلى كسر عنصر الإيهام أو التصديق حتى يجعل القارئ واعيًا طول الوقت بأنه يقرأ فلا يندمج مع الشخوص والأحداث. وبطبيعة الحال يكسر الكاتب أيضًا كثيرًا من الأصول الفنية للرواية. ولا يفوتنا أن نشير إلى أنواع من الرواية لم يعترف بها النقاد باعتبارها أدبًا رفيعًا رغم شيوعها وانتشارها واستحقاقها للدراسة مثل الرواية البوليسية ورواية الإثارة، ورواية المغامرات، وأخيرًا رواية الخيال العلمي (مثل غزو الكواكب … إلخ).

قلت إن هذه التقسيمات لا تهمنا كثيرًا إذ يتداخل بعضها مع البعض، ولأنها تعتمد في الغالب على التصنيف حسب الموضوع لا حسب الشكل (إذ فباستثناء رواية الرسائل تعتمد جميع الأنواع الأخرى على السرد مع فقرات تطول أو تقصر من الحوار) وأما التداخل فواضح من تعريفاتنا المقتضبة لكل نوع فالرواية النفسية يمكن أن تشمل عدة أنواع أخرى إذا نزعت إلى تحليل الشخصيات على أسس نفسية، بل إن بعض النقاد يذهبون إلى أن ثمة أنواعًا مركبة مثل الرواية النفسية التاريخية التي يميل الكاتب فيها إلى تحليل الحادثة التاريخية على أسس نفسية، كما يذهب البعض إلى جمع عدد من الأنواع في باب واحد إذا كان ثم مبرر مثل غلبة الفكرة، ولذلك يدرجون الرواية البروليتارية والرواية الدعائية ورواية القضية في باب رواية الفكرة، وهكذا فقد تتناول رواية القضية فكرة مناقضة للرواية البروليتارية تمامًا إذ ربما ذهبت إلى الحط من شأن العمال وإعلاء شأن أصحاب العمل — على سبيل المثال — ولكنها تشترك في الحقيقة معها آخر الأمر في أنها تقوم على فكرة تبغي الترويج لها بدلًا من أن تقوم على تجربة إنسانية تتخطى حدود الفكرة الآنية أي الفكرة التي ولدت في زمن ما، وربما اختفت أو تلاشت معالمها بعد انقضاء هذه الفترة. وربما اشترك نوعان في بعض الخصائص الشكلية واختلفا في الموضوع أو في المادة الإنسانية فرواية البيكاريسك تشترك مع رواية المغامرات في هيكل بنائها ولكنها تختلف من حيث هدف الكاتب، إذ ينزع في الأولى إلى تصوير المجتمع في عصره وربما قصد في الثانية إلى التركيز على المثل العليا التي ينشدها بطل المغامرات، وبالمعيار نفسه نجد أن البيكاريسك تشترك مع الرواية الاجتماعية في جانب واحد مثلما تشترك معها الرواية الشعبية فيه، وهلم جرًّا.

ولا يعني ذلك أنه ليس ثمة أسس أخرى للتقسيم إذ يستطيع الناقد إذا ربط بين الرواية والفنون الأخرى في عصره أو بين الرواية وأحداث العصر أن يستن سننًا أخرى وقد رأينا من النقاد مَن يجمع بين الروايات الاجتماعية التي تركز على العلاقات العاطفية من حب وكراهية وغيرة وطموح وانتقام، وما إليها على مستوى قلب الفرد الواحد وبين الروايات القوطية التي تزخر بالأحداث الغامضة وأجواء العصور الوسطى والمشاعر الملتهبة التي تخرج في إطار أحداث الرعب والفزع وذلك استنادًا إلى أن النوعين يمثلان النزعة الرومانسية، أو صورتين من صور الرومانسية يجمع بينهما رفض الأسس القائمة للمجتمع «العاقل» وأنماط السلوك المتعارف عليها، أي إن النوع الأول يكسر هذه الأنماط بالولوج في عالم الإحساس والمشاعر الدفاقة في قلب الفرد، والنوع الثاني يكسرها بإثارة كل ما هو غير معقول بل وكل ما هو غير موجود! وقد استدل النقاد على هذا بإقبال القراء على النوعين معًا وفي الوقت نفسه، وبأن النوعين قد كتبا في فترة الثورة الرومانسية في بداية القرن التاسع عشر في أوروبا.

٣

ولا أعتقد أنه من المفيد في كتيب مثل هذا أن نرصد تطور الفن الروائي في العالم عبر العصور إذ لن يفيد القارئ العربي شيئًا … ولكن يجمل بنا أن نشير إلى أن المصريين القدماء عرفوا هذا الفن في الألف الثاني قبل الميلاد وبالتحديد في عهد الأسرة الثانية عشرة إبان الدولة الوسطى في مصر القديمة. وقد وصلت إلينا نصوص كُتبت عام ١٢٠٠ قبل الميلاد (أو ما يقرب من ذلك التاريخ) يمكن أن نطلق عليها اسم الرواية وأشهر ما ترجم منها إلى اللغات الأوروبية وذاع بل وتحول إلى فيلم سينمائي هو رواية سنوحي (وكان اسم الفيلم «المصري») وهناك روايتان أيضًا كتبتا في نفس الفترة، وليس لدينا من الأدلة ما يثبت استمرار هذا الفن في العصور التالية إذ إن النصوص ضاعت وأصبح من الصعب الحكم على مصير هذا الفن في مصر، غير أننا نشهد بعد ما يقرب من أربعة عشر قرنًا روايات كتبها الرومان بعد ازدهار اللاتينية ورسوخها باعتبارها لغة الأدب المنثور فالروايات التي وصلتنا من تلك الفترة (القرن الثاني للميلاد) وهي في معظمها رومانسات (أي روايات حب ومغامرة) تدل على استمرار للشكل الفني ولو بلغة مختلفة في حوض البحر الأبيض المتوسط. وكان إلى جانب هذه الرومانسات روايات دعائية أو روايات حب رعوي تفتقر إلى الخصائص المعروفة للرواية الحديثة وتقترب من الشعر في مواضع كثيرة، ويذهب بعض المؤرخين إلى أن فترة الجاهلية (القرون السابقة لنزول الإسلام، قل من القرن الثالث حتى السادس الميلادي) ثم العصور الوسطى، لم تشهد من الفن الروائي إلا صورته المبسطة أي صورة الحكاية، وكانت الغلبة فيها للسرد والحادثة الغريبة. ولكنه في نهاية الألف الأول للميلاد شهدت اليابان صورة بدائية من الفن الروائي تعتمد أيضًا على الحكاية وهي مجهولة المؤلف ثم تطورت صور الفن الروائي في اليابان حتى اتخذت صورة الرواية الحديثة بأحداثها وشخوصها في القرن الثالث عشر. أما ألف ليلة وليلة العربية فكانت على الأرجح قد ذاعت في العالم العربي منذ القرن العاشر الميلادي — كما سبق أن ذكرنا — ولكنها لم تجمع وتتخذ شكلها الحالي باعتبارها مجموعة من الحكايات (وقد تطورت «الحكاية» إلى «الرواية» لا إلى «القصة القصيرة») إلا في القرن الرابع عشر في أقرب تقدير أي ربما ظل المؤلف الشعبي يزيد فيها وينقح حتى اكتملت صورتها في القرن السادس عشر. ويجمع الدارسون على أن هذا المؤلف المجهول كان مصريًّا (استنادًا إلى اللغة ومواقع الأحداث وما إلى ذلك) ومن ثَم ترجمت وانتشرت في أوروبا. ولكن هذه البذور الأولى لفن الرواية لم تكن مقصورة على مصر، إذ مع بداية عصر النهضة انتشرت «الحكاية» وذاعت في جنوب أوروبا وأيضًا في حوض البحر المتوسط ثم انتقلت شمالًا فلدينا قصص ديكاميرون للكاتب الإيطالي بوكاشيو في القرن الرابع عشر ورواية دون كيخوته (أو دون كيشوت) للكاتب الإسباني سيرفانتيس في مطلع القرن السابع عشر، ثم بدايات الرواية الإنجليزية في بريطانيا في القرن الثامن عشر مع نشر رواية: التخفي أو التوفيق بين الحب والواجب للكاتب وليام كونجريف وتعود أهميتها إلى المقدمة التي أرفقها بالنص وحاول فيها التفريق بين الرومانسية والرواية، والملحوظ أن اللفظ المستخدم في اللغات الأوروبية ليدل على الرواية وهو «رومان» مشتق من رومانس، ويحتفل النقاد بهذه التفرقة لأنها تحدد لأول مرة في تاريخ الأدب الأوروبي الملامح التي سادت فيما بعد للرواية وهي ابتعادها عن حياة الملوك والأمراء وعن تصوير مفارقات القدر ومآسيه والخوارق والأبطال والبطلات وما إلى ذلك وتركيزها على الحياة العادية أي على الإنسان العادي وعالم الواقع. ولا داعي للخوض في نشأة الرواية الإنجليزية وتطورها ففي العربية كتب تتناول ذلك كله وتفيد من يريد الاستزادة وإن لم يكن متخصصًا، كما لن نتعرض لنشأة الرواية العربية ابتداءً من رواية زينب للدكتور محمد حسين هيكل وانتهاءً بجيل ما بعد نجيب محفوظ فهناك أيضًا كتب متخصصة تفي الموضوع حقه، ولكننا في الصفحات الباقية سوف نلقي الضوء على أهم تطور شهدته الرواية الحديثة في العالم منذ ازدهارها الذي لم يسبق له مثيل في القرن التاسع عشر وحتى الآن، ألا وهو تطور مفهوم الشخصية على ضوء علم النفس (أو على الأصح بدايات علم النفس الحديث) في أوائل القرن العشرين.

٤

سبق أن قلت إن أهم ما تتميز به الرواية ليس فقط عن القصة القصيرة بل أيضًا عن سائر الأنواع الأدبية على الإطلاق يتمثل في الحرية التي يتمتع بها الكاتب في وصف الشخصية من الخارج ومن الداخل وتحليل مظاهر سلوكها وحديثها في الأماكن والأوقات التي يختارها، وعلاقاتها مع الشخصيات الأخرى وهلم جرًّا، دون أن تحده حدود الطول أو اللحظة الواحدة (مثل القصة القصيرة) أو حدود وجهات النظر مثل المسرح، فالكاتب المسرحي مقيد بما يمكن للشخصية أن تقوله عن نفسها أو بما يمكن للشخصيات الأخرى أن تقوله عن تلك الشخصية أي إنه لا يستطيع أن يتحدث إلينا مباشرةً وإذا استطاع ذلك إما بالحديث من خلال شخصية تمثل وجهة نظره أو بالحديث عن طريق الراوي فلن يستطيع أن يسهب ويطيل لأنه أيضًا محكوم بالوقت الذي يستغرقه تمثيل المسرحية على المسرح.

وهذه الحرية الظاهرة هي مشكلة المشاكل، نقول الظاهرة وإن كان الأحرى بنا أن نقول «الظاهرية» لأنها حرية خادعة. فالكاتب الحديث لا يتمتع إلا بقدر يسير من الحرية فهو في أحيان كثيرة لا يستطيع إيقاف الأحداث ليصف لنا الشخصية وصفًا مسهبًا على مدى صفحات وصفحات، مهما كان الوصف ممتعًا وأقصى ما يستطيعه هو تقديم الملامح الأساسية للشخصية كما يراها (أو كما تراها شخصية أخرى إذا كان يراوح بين وجهات النظر في السرد) وذلك إما أثناء الحدث (أي الفعل) أو قبله أو بعده، بل إنه أحيانًا ما يستغني عن الوصف المباشر تمامًا ويركز على الحدث أو الحادثة سواء على المستوى المادي أو النفسي لإبراز دوافع الشخصية أو ردود أفعالها بحيث نستطيع أن ندرك منها طبيعة الشخصية. وهذا يعني أن على الكاتب الحديث أن يضع ميزانًا دقيقًا بين ما يمكن أن يتقبله القارئ من الوصف المباشر طال أم قصر وبين ما يمكن أن يدركه بطريق غير مباشر من خلال الحادثة. ونحن نذكر قول هنري جيمس، الكاتب الروائي الأمريكي الكبير «إن الشخصية هي التي تحدد نوع الحادثة والحادثة هي التي توضح لنا طبيعة الشخصية»، وعلى أية حال فكما ذكر غيره من الكتاب نرى أن الحادثة لا تنفصل عن الشخصية مثلما لا تنفصل الشخصية عن الحادثة إذ قد تكون الحادثة حدثًا نفسيًّا خالصًا لا يخرج عن نطاق النية والسريرة ويظل كامنًا لا يدري به إلا الله وصاحبه (بل ربما لم يدركه صاحبه كل الإدراك!)

ومنذ أن «بلغت الرواية سن الرشد» — كما قال أحد النقاد — عندما نشر دانيل ديفو روايته المعروفة روبنسون كروزو (في مطلع القرن ١٨) واهتمام الكتاب بالشخصية يتزايد، والنظرة السريعة إلى الروايات الأولى في الأدب الأوروبي سوف تكشف لنا مدى اهتمام الروائيين بالشخصية المحورية، فإذا وصلنا إلى القرن التاسع عشر وجدنا الكتاب يهتمون ليس فقط بالشخصية المحورية بل بإخراج أعداد هائلة من الشخصيات التي لا تنمحي صورها من الذاكرة. يمكننا أن نتخطى كتاب العقود الأولى من القرن ١٩ وأهمهم السير والترسكوت وجين أوستن حتى نصل إلى كتاب العصر الفكتوري في أواسط القرن (نسبة إلى الملكة فكتوريا) مثل أنطوني ترولوب والأخوات الثلاث آن وإميلي وشارلوت برونتي (وأشهر رواية للأولى هي أجنيس جراي والثانية هي مرتفعات وذرنج والثالثة جين إير) وثاكري وجورج إليوت ومسز جاسكل ثم تشارلز ديكنز عملاق الرواية في ذلك العصر وصاحب التأثير الأكبر في الرواية العربية حتى نجيب محفوظ.

قلنا إن الشخصيات التي تزخر بها روايات العصر الفكتوري شخصيات يصعب نسيانها، فهي شخصيات حية يصعب عليك أن تصدق أنها من نسج الخيال وحديثها ممتع بل إن وجودها نفسه ممتع. وقد اهتم هؤلاء الكتاب بشخصياتهم فخصصوا لها الصفحات مهما كانت الشخصية «ثانوية» بالمعنى الفني أي لا تتصل بصلب الحدث الرئيسي. فلنضرب مثلًا من رواية أوليفر تويست (من تأليف تشارلز ديكنز) وهو تصوير السيدة كورني الأرملة التي تشرف على الملجأ الذي يحل به أوليفر الصغير. إنها ليست شخصية هامة في ذاتها وعلاقتها بالمستر بمبل علاقة «ثانوية» إذا وضعت في سياق الحدث الرئيسي أو الأحداث الرئيسية. ولكن ديكنز يُفرد لها صفحتين من الوصف التفصيلي بحيث نتصورها في غرفتها ونعرف مشاعرها إزاء زوجها الراحل وآمالها في زوج المستقبل! كما نراها وهي تعد الشاي وما إلى ذلك. وكما نجح ديكنز نجح ترولوب وغيره حتى لقد أسمى أحد النقاد رواياتهم «المعارض الممتعة للشخصيات المنوعة!»

ولكن كيف نجح الفكتوريون فنيًّا في إبداع هذه الشخصيات التي لا تنسى؟ يذهب بعض النقاد في تحليلهم — محقين — إلى أن الكاتب الروائي في العصر الفكتوري يعمد إلى انتقاء السمات المميزة لكل شخصية ويتكئ عليها وحدها ولو ضحى في سبيل ذلك بسائر الصفات البشرية لها. فنجد لكل شخصية خصيصتين أو ثلاثًا تعرف بهما أو بها ولا يزيد الكاتب عنهما. أي إنه يحاول إخراج صورة متبلورة واضحة كل الوضوح ترسخ في الذاكرة، فإذا أحس في الشخصية تناقضًا أو تغيرًا يمكن أن يؤثر في هذا الوضوح أبعده على الفور حتى لا تهتز الصورة. فالمستر ميكوبر في رواية دافيد كوبرفيلد دائمًا متفائل، وأحيانًا تنزع الشخصية إلى ترديد عبارة تلتصق بها وتصبح علامة عليها، ليس فقط مدخلًا لسلوكها بل أيضًا لمنطقها وإحساسها إذ دائمًا ما تقول زوجة ميكوبر «إنني لم ولن أهجر مستر ميكوبر»، ولا تكاد في سائر حديثها في الرواية نفسها تخرج عن هذا المعنى، مما جعل أحد النقاد يسميها «الدمية الناطقة».

وقد قرأت رأيًا حديثًا مفاده أن شخصيات العصر الفكتوري أقرب ما تكون إلى «الطباع» (أو «الأخلاط») التي صورتها مسرحيات العصر الإليزابيثي. إذ يمثل كلٌّ منها جانبًا من جوانب الطبيعة البشرية دون أن يمثل أي منها جميع الجوانب. بل إن ناقدًا سليط اللسان شبَّه تلك الشخصيات بالكاريكاتير؛ أي بالصور الهيكلية التي تبالغ في جانب من الجوانب لإبرازه وتهمل الجوانب الأخرى.

وثَم سبب آخر هو أن شخصيات الرواية في القرن التاسع عشر، بصفة عامة ومع استثناءات هامة، لا تتطور، بمعنى أن الشخصية التي تطالعنا في بداية الرواية هي نفسها التي تطالعنا (مع تعديلات لا تكاد تذكر) في آخرها. أي إنها تتميز بالثبات ولو أنها تغيرت لما أصبحت تتمتع بالحيوية والوضوح اللذين تتمتع بهما ولما استطعنا أن نذكرها بمثل هذا الوضوح. ولهذا وصفها أحد النقاد بأنها شخصيات ساكنة (ستاتيكية) أي غير متحركة، (ديناميكية).

ولكن هذه الأسباب التي تفسر لنا حيوية شخصيات الرواية آنذاك لا تعني الحط من قدر الروايات أو مؤلفيها. ولكنها توضح فحسب ما كان الفكتوريون يرمون إليه ومن ثم توضح وضع المحدثين. إننا لا نرى مثل هذا الحشد الحاشد من الشخصيات التي يصعب نسيانها في روايات المحدثين، في روايات فيرجينيا وولف وجيمس جويس أو الدوس هكسلي ود. ﻫ. لورنس، ليس لأنهم لم يعودوا يهتمون بالشخصية بل على العكس لأن اهتمامهم بشخصية الإنسان الفرد تزايد إلى حد لم يسبق له مثيل! إنهم لا يهدفون إلى تقديم «معارض ممتعة للشخصيات المنوعة» ولكنهم يريدون أن يعرفوا بدقة كل ما يدور في نفس الإنسان الفرد. فكأنما انصب اهتمامهم على البحث النفسي. والروائي الحديث يكتشف أثناء بحثه أن الإنسان ليس كائنًا بسيطًا وأنه أكثر تعقيدًا مما تصوره الرواية الفكتورية. فالشخصيات الفكتورية يسهل تصنيفها لأن الكاتب يرجح كفة عناصر الخير أو عناصر الشر إما بالتدريج أو منذ البداية بحيث لا يساور القارئ أي شك في «لون» أو طبيعة الشخصية التي يقدمها، أما في الرواية الحديثة فالكاتب يجعلنا نحس أن ترجيح إحدى الكفتين ليس دائمًا بالأمر اليسير. وإذا صدق علم النفس الحديث فإن النفس البشرية لا تتكون من عناصر «كمية» يمكن تسميتها بالخصائص أو الصفات. فالإنسان الذي يصوره الكاتب الحديث أقرب إلى النهر الجاري المتغير منه إلى مجموعة صفات ثابتة إذ إن النهر النفسي يتدفق مسرعًا آنًا ويبطئ آنًا آخر، ويكثر الطمي فيه حينًا، وتصفو مياهه حينًا آخر، وهكذا يظهر لنا في صور متفاوتة بين الحين والحين. إنه قادر على التضحية والفداء في لحظة ما، فكأنما هو بطل أسطوري، مثلما ينزع في لحظة أخرى إلى الجبن والتردد وما ينطبق على الأفراد ينطبق على العلاقات فيما بينهم: فالرجل في الرواية الفكتورية حينما يبدأ علاقة مع فتاة ما يكون عادةً واحدًا من اثنين لا ثالث لهما فهو إما صادق في عاطفته شريف المقصد أو هو كاذب مخادع ينشد المتعة وتزجية الوقت فحسب. ولكن الكاتب الحديث يقول لنا إن كل علاقة تتضمن «الذهب والطين، وتضيء بنور الحضارة مثلما يحكمها قانون الغاب»، أي إن التفرقة بين الموقفين المفترضين لم تعد واضحة لأن لونًا ثالثًا بل عدة ألوان بدأت تظهر إلى جانب الأبيض والأسود.

وهكذا فإذا كان الكاتب يريد تجسيد شتى الحالات النفسية والانفعالات المتناقضة التي يتكون منها الفرد خاصة في علاقاته مع أفراد يتسمون بالتكوين نفسه فإنه لن يستطيع إخراج قصة ميسرة تلعب فيها الشخوص الواضحة أدوارها المرسومة لها بدقة والتي تمثل طبائعها وخصائصها المعروفة سلفًا بحيث تكون متوقعة محددة من البداية إلى النهاية. «فالحكاية»، أي ما نسميه بالعامية «الحدوتة»، لن تكون ذات أهمية كبرى ولن تلتصق شخصياتها بالذاكرة فلا تنمحي، إذ إن الفرد العادي — كما يقول أحد النقاد — ليس «شخصية لا تنسى»، والكاتب يضحي بالصفة الأخيرة في محاولته الوصول إلى الحقيقة. أضف إلى هذا أن القارئ نفسه لم يعد يكترث كثيرًا للوضوح في التقسيمات البشرية ولم يعد يعتقد أن تسجيل ما يفعله الناس أهم ما يستطيع الروائي أن يقدمه. إنه يريد «الحياة» كما هي دون تنميق أو تزويق، ودون أن يقدم لنا الكاتب أحكامه على الشخصيات، أي يريد الشخصيات بكل ما فيها ويطلب من الكاتب عدم التدخل، أي عدم تقسيمها إلى معسكرَي الخير والشر مقدمًا! وهكذا بدأ ما يسمى بالتيار النفسي في الأدب واتخذ صور التجارب المختلفة وكانت أولها تجربة الرواية البيوغرافية أي التي تختص بسيرة حياة فرد ما كأنما تترجم له.

٥

وأول ما تخلص منه الكاتب الحديث في هذه الرواية الجديدة هو «الحبكة». ولقد حان الوقت لنتساءل عن معنى ما أسميناه بالحبكة. قلنا في تحليلنا لإحدى القصص القصيرة أن الحبكة في أبسط صورها هي الحتمية التي تربط بين الأحداث والمحافظة على التشويق في الوقت نفسه. وهذا صحيح وينطبق على شتى أنواع الفنون الأدبية التي تشتمل على أحداث سواء كانت قصصية أو درامية. ولكن الصورة المبسطة تخفي وراءها بعض الملامح التي لا بد من الإحاطة بها إذ إن معنى الكلمة في اللغات الأجنبية يعني «التخطيط» أو «الخطة»، وهذا هو المعنى الأعم والأشمل. والواضح إذن أنك إذا أردت أن تخطط لقصتك أو لأي شيء فعليك أن تكون على علم مسبق وواضح بكل ما فيها من شخوص وأمكنة وأزمنة … إلخ، بحيث تستطيع أن ترسم خطة قائمة على معلومات كمية محددة. وأول ما عليك أن تفعله إذن هو أن تقول مقدمًا إن عندي عددًا من الشخصيات هم فلان وفلان أما الأول فطَموح ودوافعه كذا وكذا وأما الثاني فقَنوع ودوافعه كذا وكذا وتفعل الشيء نفسه إزاء الثالث والرابع والخامس! ولذلك فالكاتب التقليدي الذي يجهز حبكته مقدمًا يحافظ على طبائع هذه الشخصيات ولا يسمح لأي منها أن يتصرف «خارج حدود طبيعته» (والتعبير الإنجليزي هو أن فلانًا يتصرف إما طبقًا لطبيعة شخصيته أو ضدها)، وهكذا تكون الأفعال الإرادية في الرواية، والتي تؤدي بالضرورة إلى نتائج «طبيعية» تتفق مع معطيات الشخصية أفعالًا متوقعة و«مفهومة»، وكذلك يكون التفاعل بين الشخصيات متمشيًا مع هذه الخصائص المسبقة. وكذلك أيضًا يلجأ الكاتب إبقاءً على عنصر التشويق وإحياءً لرغبة القارئ في الاستمرار في القراءة، إلى إخفاء بعض المعلومات عنه أو عن بعض الشخصيات، وقد تتضمن هذه المعلومات حقائق «أساسية» عن الشخصية يخفيها الكاتب متعمدًا حتى يبقى على خيط من الغموض يشد القارئ إليه. وقد يسمح لشخصية أخرى أن تحيط بهذه «الحقائق» وتتصرف على هديها فيبدو سلوكها غريبًا وغير مفهوم، ولكن الكاتب في النهاية يفصح عنها ويميط اللثام عما اختفى فتتضح الصورة ونصل إلى لحظة التكشف حيث نرى معنى كل شيء، ونرى كل شخصية وقد سارت وفق نهجها المرسوم سلفًا، فنصل إلى ما يسمى بالحل (أو التكشف)، وما الحل بالنسبة للحبكة أو العقدة إلا لحظة تبين أن كل شيء في موضعه وأن ما كان يبدو غريبًا ومتناقضًا ليس في الحقيقة كذلك وإنما نحن ظنناه كذلك لأننا لم نكن نحيط بالحقائق جميعًا.

ولهذا فعندما قلنا إن الكاتب الحديث قد تخلص من الحبكة كنا نعني أنه تخلص من بناء «الخطة» على أسس معلومة سلفًا. فالرواية البيوغرافية التي تروي حياة فرد ما تقدمه لنا في صورة متتابعة من المهد إلى اللحد. فهو رضيع يتحدى المربية ويحب أمه ويكره أباه، ويذهب إلى المدرسة ثم إلى الجامعة ويهفو قلبه إلى فتاة ما ويتزوج ويطلق ويتزوج مرة أخرى ويفشل في العمل أو ينجح ثم يموت!

فهذه الرواية التي استهلت التجارب النفسية توحي بأن ما يحدث في الحياة يمكن أن يحدث، بل لا بد أن يحدث في الأدب! وشتى الانطباعات والأحداث التي تتضمنها الرواية لن ينتظمها خيط الحبكة بالمعنى المفهوم فالشخصية تتطور وتتغير ويصعب التنبؤ بما سوف تفعله. وقد ازدهرت هذه الرواية في السنوات السابقة مباشرةً للحرب العالمية الأولى، وأهم كتابها هم ج. د. بيريسفورد (الذي كتب ثلاثيته الشهيرة جاكوب سطال) وكومتون ماكنزي (الذي كتب شارع الشر) وهيو والبول (الذي كتب رواية الاصطبار). وفي الأدب العربي أقرب ما يرد إلى ذاكرتي هو رواية من أجل ولدي للمرحوم محمد عبد الحليم عبد الله.

وإذا تأملنا هذه الرواية الأخيرة قليلًا وجدنا ما أسميناه بغياب العقدة أو الحبكة فالكاتب يتبع خطى بطله من البداية إلى النهاية ويلقي في طريقه بالشخصيات التي ما نكاد نذكر لها أية ملامح في سبيل تصوير شيء واحد ألا وهو ما يسمى في علم النفس بعقدة أوديب أي تعلق الابن بوالدته تعلقًا مرضيًا (أي غير صحي) فالكاتب يضع البطل في مواقف متعاقبة ولكنها لا تخضع لقانون العلة والمعلول الذي أشرنا إليه فهي تتوالى بحكم تقدم البطل في السن لا بحكم إرادته. ولهذا نجد أن هذه الرواية لا تحتفل برسم الشخصيات والكاتب يمر بها مر الكرام لأن همه هو متابعة الرحلة النفسية للبطل لا تصوير البشر من حوله.

٦

وثاني التجارب بعد الرواية البيوغرافية محاولة تسجيل كل شيء أو محاولة رصد الحياة بشتى تفاصيلها دون إغفال أي شيء بدلًا من تطبيق مبدأ الانتقاء الذي عمل به الفكتوريون. ولهذا وجد الكتاب في أوروبا منذ سنوات الحرب الأولى (وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية) أن رواية واحدة لا تكفي لرصد حياة شخص فأفرد بعضهم لها عدة روايات، ونذكر الكاتبة دوروثي ريتشاردسون على سبيل المثال التي أخذت على مدى سنوات طويلة في نشر سلسلة روايات باسم الرحلة ترصد فيها حياة بطلتها التي أسمتها ميريام هندرسون، وفي الرواية التاسعة لم تكن هذه البطلة قد تخطت مرحلة النضج، وفي الرواية الحادية عشرة ١٩٣٥م كانت ما تزال على أبواب الكهولة ولم تصل إلى النهاية إلا في الرواية الثانية عشرة ١٩٣٨م. وقد دافعت فيرجينيا وولف عن هذا المنهج دفاعًا مجيدًا، ونقتبس من أحد كتبها عبارة تحدد فيها الخصائص المميزة لكاتب مثل جيمس جويس فهي تقول إنه يحاول الاقتراب كل الاقتراب من الحياة وذلك بتسجيل «الذرات وهي تتساقط في ذهنه بالترتيب الذي تتساقط به أي برصد النسق الذي تنتظم به في الشعور وتجسيدها في المشاهد والأحداث مهما بدت في ظاهرها مشتتة وغير متجانسة».

والحق أن جيمس جويس يفعل ذلك في رواياته، وأقرب الأمثلة إلى القارئ العربي هي رواية يوليسيس (ويشار إليها أيضًا باسم أوليس وعولس) ورواية صورة الفنان في شبابه (وهما مترجمتان ومنشورتان). وفي الرواية الأخيرة (التي أبدع ترجمتها ماهر البطوطي) نرى مشهدًا يصور لنا هذا المنهج بوضوح: إنه يقدم لنا مجموعة من التلاميذ يناقشون موضوعات منوعة وأثناء ذلك يصف جويس ما يفعله كرانلي وهو أحدهم حين يأكل التين ويستخرج بذوره المحشورة بين أسنانه وينظر إليها، والحقيقة أن عملية أكل التين ومضغه واستخراج البذور تسير جنبًا إلى جنب مع المناقشات التي تعلو في مستواها فتصل إلى الدين أو تنحط فتتناول الخمر والنساء؛ والكاتب يرمي هنا إلى تصوير التجربة الإنسانية تصويرًا شاملًا أي تقديمها بكل ما تحفل به من ثراء في التفاصيل المادية والنفسية وكذلك حين ينتقل جويس لكتابة يوليسيس فهو يحشد في الرواية تفصيلات لا يبدو أن القارئ يهتم بها، أولًا: لأننا نفعلها بطريقة تلقائية، وثانيًا: لأنها لا تختلف من فرد إلى فرد ولا يمكنها من ثم أن تصبح علمًا على فرد دون آخَر (أي شخصية دون أخرى)، خذ هذا المثل البسيط:

«كان الماء قد بدأ في الغليان: ريشة من البخار صاعدة من فم الإناء على النار. أمسك بالبراد الفخار ووضع فيه بعض الماء المغلي لينظفه ويدفئه ثم رمى الماء في الحوض. ووضع أربع ملاعق من الشاي وأمال الإناء حتى يصب الماء المغلي. ثم تركه جانبًا حتى «يخرط» وأزال الإناء من على النار وضرب بالطاسة الجمر المتقد ثم وضع فيها قطعة من الزبد وأخذ ينظر إليها وهي تنزلق فيه وتنصهر.»

وقد اختلف النقاد في مزايا هذا المنهج وظهر له أنصار وأعداء وإن كانت الغلبة في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية للأنصار. ولذلك فلا بأس من تقديم نبذة مقتضبة من كتابات أحد الأعداء قبل أن نرد عليها: يقول جيرالد جولد في كتابه الرواية الإنجليزية:

«إن المستر جويس يجهد نفسه أيما إجهاد ولكنه ما زال أبعد ما يكون عن تسجيل كل شيء. لقد بلغني أن روايته يوليسيس تهدف إلى تقديم الأفكار والمشاعر والأفعال التي يقوم بها فرد واحد في يوم واحد، ومع ذلك فهناك استطرادات توسع من النطاق الزمني للرواية دون جدال. ولكن حتى لو بلغت من الضخامة حجم أربعة وعشرين دليل تليفونات فلن تستطيع تسجيل جميع الأفعال والأفكار والمشاعر التي تشغل حيزًا من الزمن لا يزيد على ساعة واحدة وليس أربعًا وعشرين. إن دليل التليفونات يعتمد على مبدأ الانتقاء الصارم والضغط الشديد وهو لذلك يعتبر عملًا فنيًّا إذا قورن بسلة المهملات. ورواية يوليسيس سلة مهملات» (ص٢٠-٢١).

وقد تعمدت أن أورد هذه الفقرة المثيرة لأبرز مدى الجدة التي اتسم بها عمل الكتَّاب الجدد في فترة ما بين الحربين. والحقيقة أن جولد ظالم ومتعنت فالهدف الذي وضعه جويس لنفسه يتضمن إلى جانب «تسجيل كل شيء» رصد الحياة النفسية الخصبة بكل دقائقها وتفاصيلها وهي الحياة التي يستعصي تصويرها على الروائيين المولعين بالترتيب والتبويب والتصنيف ثم بالتصحيح والتنقيح والتحقيق والتنميق والتشذيب والتهذيب! وفيرجينيا وولف هي المدافع الأول عن هذا المذهب وملهمة النقاد الذين أيدوه. فهي تنتقد أرنولد بنيت بسبب نزعته الفكتورية (فهو الاستثناء الواضح من بين كتاب القرن العشرين). وفي مقال آخر عن تعقيد النفس البشرية الذي تراه في كتابات الكاتب الفرنسي «مونتاني» تدعونا إلى أن «نفحص قليلًا ذهن الإنسان العادي في أي يوم عادي» قائلة:

«إن الذهن يستقبل آلاف الانطباعات، منها التافه ومنها الخيالي ومنها سريع الزوال ومنها ما ينطبع على الذهن بحدة الفولاذ وتنهال الانطباعات من كل حدب وصوب، منهمرة كأنها أمطار متواصلة من ذرات لا تُعد ولا تحصى وفي انهمارها تتخذ أشكالًا هي جوهر حياتنا في أي يوم عادي، الاثنين أو الثلاثاء. ولكنها تتفاوت في دلالتها وأهميتها، فتتحول الدلالة من لحظة إلى لحظة ومن مكان إلى مكان.» وتختتم مقالها قائلة: إن على الروائي أن «يصور روح الحياة الطليقة المجهولة والمتفاوتة في الشكل والاتجاه، مهما بلغت درجة تعقيدها وانحرافها.» ومن هنا كان الاتكاء على الحياة النفسية ومحاولة الكتاب الوصول إلى دقائقها وتفاصيلها مهما بلغت درجة غرابتها. ولكن قصتنا لم تنتهِ هنا والخطوة التالية في تطويرها ذات أهمية كبرى.

٧

أما الخطوة التالية فتتمثل في إيمان الروائيين باستحالة الوصول إلى الحقيقة أو الحقائق الخاصة بالنفس البشرية لا من طريق تتبع حياة الفرد ولا بدراسة أفكاره وتطورها ولا برصد حالته النفسية ولكن بإدراك عدد من اللحظات النفسية ذات الدلالة الخاصة وذلك تأثرًا بما شاع عن علم النفس آنذاك وهو اكتشافه أن الفرد ليس شخصية واحدة بل عدد من الشخصيات. وينبغي أن نستدرك بسرعة فنقول إن علم النفس الحديث لا ينكر وجود الشخصية، كل ما هنالك أن بعض المدارس النفسية التي شاعت في تلك الآونة (مثل مدرسة السلوكيين) تقول إن مفهوم الشخصية مجرد افتراض ورثناه عن الأسلاف في العصور الوسطى ولا يمكن إثباته في ذاته. وتفصيل ذلك أن فكرة وجود الشخصية تحتِّم افتراض وجود كيان آخر داخل الإنسان وهو الوعي أو الشعور الذي يعبره تيار الحالات النفسية والرغبات والأهواء وما إلى ذلك وهذا الوعي كيان دائم ومستمر يتلون بلون ما يمر به ويتغير باستمرار ولكنه يظل على الدوام كائنًا منفصلًا ومستمرًّا إذ يضم كل التغييرات التي تحدث له أو تحدث فيه، ومن ثم فإن هذا الوعي أو الشعور يمثل الخيط الأساسي لشخصية الفرد فكأنما هو نهر لا يتغير اسمه مهما أسرع أو أبطأ، ومهما علَت شطآنه أو انخفضت ومهما تسرب ماؤه وانداح في القيعان المجاورة لمجراه! أو كأنه خيط المسبحة الذي ينتظم حباتها أو خيط القلادة الذي ينتظم ألوانًا من الدر تمثل الحالات النفسية المختلفة. فالوعي هو الخيط الذي لا بد من افتراض وجوده وهو أساسي وجوهري، لأنه يربط الحالات النفسية المنفصلة جميعًا لينشئ وحدة متكاملة هي التي نسميها «الأنا» أو الشخصية، وهذا هو ما تنكره بعض المدارس النفسية أو الفلسفة أو النقدية الحديثة.

ولا بد من استدراك آخر. إن السلوكيين (وما أشبه ما يقولونه بما قاله دافيد هيوم في القرن الثامن عشر!) لا ينكرون أن المرء يعي أو يشعر بأفكاره ورغباته وما إلى ذلك، ولكن ينكرون وجود كائن منفصل مستقل اسمه الوعي أو الشعور، كأنما هو خزان نسبح فيه (مثل الأسماك) الأحداث والحالات النفسية، والرغبات … إلخ. بحيث يظل قائمًا حتى لو هجرته هذه الأسماك، وهكذا، فإذا افترضنا عدم الفصل بين المشاعر والشعور أو بين الأشياء التي نعيها والوعي نفسه كانت النتيجة أننا سنواجه سلسلة من الحالات النفسية بدلًا من الكيان الدائم المستمر الذي اسمه الوعي. وثَم اتجاه لدى الكثيرين من الفلاسفة (وليس لدى السلوكيين فحسب) إلى إنكار وجود «الأنا» المستمرة، بل إن برتراند رسل يعرف الشخصية بأنها «سلسلة من الحالات النفسية التي اعتدنا تعريفها بأنها حالات شخص واحد إذا كان هناك شخص واحد يمكن أن تنتمي إليه هذه الحالات». وقد قدم الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون تشبيهًا لهذه الحالات بالصورة الثابتة على الفيلم السينمائي التي تبدو لنا متحركة حين يدار الفيلم بسرعة.

هذا إذن هو جوهر ما أسميناه بالخطوة التالية بالنسبة لتطور الفن الروائي الحديث وهو بإيجاز اعتقاد الروائي أنه إذا أراد أن يجسد في القصة طبيعة الوجود «الواقعية» (لا المفترضة) فإن عليه أن يركز على اللحظات التي يبرز فيها هذا الوجود في صورة إحساس به أو وعي وإدراك له. ولما كانت هذه اللحظات منفصلة في الواقع (لأن الاتصال والاستمرار يفترض وجود الشخصية وهو ما ينكره الروائي) فإن عليه أن يركز على كلٍّ منها دون أن يعمد إلى تزييف الواقع بالربط فيما بينها في نطاق ما يسمى بالشخصية. ولذلك يركز الروائي الحديث على اللحظة النفسية ويضع فيها كل ثقله إما عن طريق «تسجيل كل شيء» وإما بتعميقها حتى يتأكد استقلالها وانفصالها. وقد أدت الخطوة التالية إلى نشوء ثلاثة اتجاهات حديثة أولها: رواية المشاهد غير المترابطة، وثانيها: الرواية التي تبدو فيها هذه المشاهد المستقلة (وهو التعبير المستعار من الدراما) في صورة أحداث لا يربط بينها إلا التقارب الزمني أو المكاني. وثالثها: الرواية التي تستخدم لغة غير مترابطة حتى تجسد انعدام الترابط بين المشاهد أو الأحداث. ولنقدم النموذج الذي يمثل النوع الأول من رواية غرفة جاكوب للكاتبة فيرجينيا وولف، فنحن نرى جاكوب وهو رضيع في كورنوول، ثم وهو صبي في سكاربره ثم في المدرسة ثم في جامعة كيمبردج، أو وهو في قارب بجوار جزر سيلي، وهلم جرًّا، فكل مشهد منفصل معزول عن الذي يليه ولا تقول لنا الكاتبة كم مر من الوقت بين هذا وذاك، كما لا تقول لنا أين نحن، وأحيانًا تكتشف بعد قراءة صفحتين أو ثلاثًا أنك قد تركت البروفسور «هكستابل» يقرأ في مكتبته وأصبحت في مصحة المدرسة أو في لندن أو في جزر سيلي وهلم جرًّا. وأحيانًا تطول المشاهد فتمعن في الطول وأحيانًا ما تقدمها الكاتبة في سطور قليلة.

انظر إلى هذا المشهد المتناهي في القصر:

«اغرورقت عيناها بالدموع فتراقصت في عينيها صور زهور «الداليا» وتحولت إلى موجات من اللون الأحمر، كما توهجت صورة البيت الزجاجي في عينيها، وبدا المطبخ وقد تلألأت فيه نصال السكاكين، وكانت السيدة جارفيز زوجة القسيس تقول في نفسها، في الكنيسة أثناء عزف الترانيم وقد انحنت السيدة فلاندرز على رءوس أبنائها الصغار، إن الزواج حصن حصين وإن الأرامل قد كُتب عليهن التيه وحدهن في الخلاء الفسيح والتقاط الأحجار وجمع أعواد القش الذهبية وحيدات دون مُعين يحميهن، أواه للمسكينات، وكانت السيدة فلاندرز قد فقدت زوجها منذ عامين.

ونادى آرشر «جاكوب! جاكوب!»

وكتبت السيدة فلاندرز على الظرف كلمة «سكاربره» ووضعت تحتها خطًّا ثقيلًا فقد كانت هي مسقط رأسها ومركز الكون!»

أو انظر إلى هذا المشهد:

«وفي هذه اللحظة مزقت الهواء ولولة تتمايل وتتهدج وتقطر حزنًا … كانت تفتقر إلى قوة الإفصاح عن نفسها ومع ذلك فقد تناهت إلى الأسماع ثم تراخت. وعندها فتحت الأبواب فتحًا وئيدًا في الشوارع الخلفية وتقدم من مصدر الصوت بعض العمال.

كانت فلورندا مريضة.

وكانت السيدة دورانت التي تعاني من أرقها المعتاد تقرأ فخطت خطًّا بالقلم الرصاص في الهامش بجانب بعض الأبيات في قصيدة «الجحيم». وكانت كلارا نائمة وقد دفنت رأسها في الوسائد. وكان على منضدة غرفة النوم بعض الورود المشعثة وزوج من القفازات البيضاء الطويلة.

كانت فلورندا ترتدي فوق رأسها قبعة المهرج البيضاء المخروطية الشكل. وكانت مريضة.»

إن بعض ما يحدث في كل مشهد لا علاقة له بالمشهد نفسه ولكنه يحتل مكانه فيه لأن له وجودًا زمنيًّا فيه ما دام قد حدث في تلك اللحظة. فنداء آرشر على جاكوب لا علاقة له البتة بالمشهد الأول ولكن النداء قد حدث في ذلك الوقت وقبل أن تكتب السيدة فلاندرز على الظرف «سكاربره»، ولذلك فقد وجد طريقه إلى المشهد. وكذلك مرض فلورندا، فهو لا علاقة له بالولولة، وهذا ما يجعل قراءة الرواية الحديثة أمرًا صعبًا فالقارئ يفترض علاقات أو يقيمها إذا لم يجدها، ولكن الكاتبة تتبع المنطق الذي يقول «أليست الرواية شريحة من الحياة؟ والشريحة الزمنية التي أقدمها تتضمن هذه الأحداث المنفصلة.»

ولنأخذ النموذج الذي يمثل النوع الثاني أي تقديم المشهد باعتباره مجموعة متعاقبة من الأحداث، من الرواية نفسها. هذا مشهد في مقهى:

«أنفقت عشرة بنسات على الغداء.

وقالت السيدة التي ترتدي ثوبًا مزركشًا وتقف في الصندوق الزجاجي بالقرب من الباب «تصوري. لقد نسيَت مظلتها»، كان المقهى هو أحد مقاهي شركة «إكسبريس ديري» وأجابتها ميلي إدواردز (الجرسونة) «ربما استطعت اللحاق بها». وكان شعر ميلي فاتح اللون ومضفرًا. وانطلقت تعدو خارجة من الباب.

وبعد لحظة عادت وفي يدها المظلة الرخيصة التي نسيتها فاني وقالت: «لم أستطع اللحاق» ومدت يدها إلى ضفائرها.

وغمغمت الفتاة التي تتولى محاسبة الزبائن «يا لهذا الباب!»

كانت يداها مغطاة حتى أطراف الأصابع بقفازات سوداء أما أطراف أصابعها التي كانت تسحب فواتير الحساب فكانت متورمة مثل النقانق.

«فطيرة مع الخضار. فنجان قهوة وقطائف دون حشو، بيض على الخبز المحمر، فطيرتان بالفاكهة».

وهكذا كانت الأصوات الحادة للجرسونات تتردد في اقتضاب، وكان الرواد يسمعون ترديد «طلباتهم» بصوت عالٍ فيشيع الرضا في نفوسهم ويتطلعون إلى الطعام على الموائد المجاورة فيعمر الأمل قلوبهم، وأخيرًا وصل الطلب، ها هو البيض فوق الخبز المحمر. لم تعد العيون تصول وتجول.

وألقيت مكعبات رطبة من الفطائر في أفواه مفتوحة مثل الأكياس المثلثة. وكانت نلي جنكنسون — التي تعمل ناسخة على الآلة الكاتبة — تقطع فطيرتها دون أي اهتمام وكانت تدير رأسها لتنظر إلى الباب كلما فتح. ماذا كانت تتوقع أن ترى؟

وكان تاجر الفحم يقرأ صحيفة الديلي تلغراف دون توقف وقد شرد ذهنه فبدلًا من أن يعيد الفنجان إلى الطبق وضعه على مفرش المنضدة.

وأنهت السيدة بارسونز المناقشة قائلة «هل يمكن أن يكون الإنسان أشد وقاحة من هذا؟» نفضت بيدها ما علق بالفراء من فتات الخبز، وصاحت الجرسونة:

«لبن ساخن وفطيرة جبن، إبريق شاي، خبز وزبد» وفتح الباب ثم أغلق.»

هذه الأشياء — كما نري — تنم عن دقة ملاحظة ولماحية باهرة ولكنها غير مترابطة، إنها تحدث في المكان نفسه وفي الوقت ذاته، ولكن، فيما عدا ذلك لا يوجد ما يربط بينها، والأهم من ذلك أنها لا تمثل تيارًا من الشعور يكشف لنا عما يدور أو ما أسميناه بالحقائق أو الأحداث النفسية عند إحدى الشخصيات، ولكنه الولع الشديد بتصوير الواقع باعتبار أن الواقع هو الحياة وأن على الروائي أن ينقلها كما هي، وقد علق أحد النقاد أخيرًا على هذا قائلًا: «إن على الروائي أن يقول لنا ما معناه، إن كان له معنى!»

٨

وأما الاتجاه الثالث أي جعل اللغة تجسيدًا حيًّا لانعدام الترابط في الحياة فقد كان له أثره الكبير في الأساليب الأدبية للرواية الحديثة. إذ ولد وترعرع ما يسمى بأسلوب «المانشتات الصحيفة» أي تكوين جمل قد تكون «غير مفيدة» من الناحية النحوية الصرفة بمعنى افتقارها إلى بعض العناصر الأساسية مثل الأفعال أو الفواعل ولكنها توجز المعنى تمامًا كأنها «برقيات» تخشى إضاعة القروش في الكلمات المفهومة وقد ازدهر هذا الاتجاه في المسرح الحديث ازدهارًا كبيرًا وبخاصة على يد «هارولد بنتر» الذي اكتشف «ما ليس بجديد في الحقيقة» ألا وهو أن الناس لا تتحدث بعبارات تخضع لقواعد النحو وأن معظمهم لا يكملون عباراتهم لأن معناها عادةً يتضح من الموقف (بما في ذلك توقع السامعين ومعرفتهم) ولذلك فإن بنتر قد نقل إلى مسرح الستينيات ما فعله جيمس جويس وفرجينيا وولف ود. ﻫ. لونس وجرترود شتاين في رواية العشرينيات والثلاثينيات فالقاعدة المتبعة هنا وهناك هو أننا نضع أفكارنا في قوالب لغوية تضبطها قواعد النحو بغية تيسير فهمها للآخرين وذلك يتضمن قدرًا ما من التزييف. أما الصدق في تصوير الأفكار كما ترد في الواقع إلى الذهن فلا يقتضي الالتزام بالنحو!

خذ نموذجًا لهذا من رواية الجوع والحب من تأليف ليونيل بريتون:

«المساء، وقت الإغلاق، سرقة ورق التجليد وقطعة من الخيط من مكان تغليف البضائع.

الصباح، وقت فتح الحانوت، في دورة مياه عمومية مع لفة مغلقة بورق التجليد.»

أو خذ العبارات الثلاث التالية التي ينتهي بها أحد الفصول ويقف كلٌّ منها على سطر مستقل:
«وقفت الحضارة.
استمرت التجارة.
عاد للحب سلطانه.»

وينبغي أن نفرق هنا بين هذا الأسلوب الذي يعمد إليه الكاتب عمدًا وبين ما نرى في بعض الكتابات العربية من أساليب واهية أو عبارات ممزقة بسبب الضعف اللغوي لكتَّابها. ولذلك فليحذر المبتدئون من محاولة محاكاة مثل هذه الأساليب التي لا تأتي إلا بعد التمكن التام من اللغة التي يكتب بها الكاتب.

وقبل أن نختتم حديثنا عن الشخصية أعتقد أنه من واجبنا أن نشير إشارة عابرة إلى اتجاهين صاحبا هذا الاتكاء على تيار الشعور وتسجيل كل ما يدور في نفس الإنسان أولهما هو محاولة إخراج مكنونات اللاشعور (أو اللاوعي) وثانيهما هو ما يسمى بالحتمية الفيزيقية أي اعتبار الإنسان عبدًا للظروف الخارجية واعتبار نفسه عبدًا لجسده. أما الاتجاه الأول فيمثله د. ﻫ. لورنس ويبدي فيه تأثره الواضح الصريح بالتحليل النفسي — وهو منهج من مناهج العلاج النفسي وضعه فرويد — وأما الثاني فيمثله أولدوس هكسلي ويبدي فيه تأثره المباشر بمدرسة السلوكيين. وإلى جانب هذين التيارين ازدهرت تيارات أخرى في القارة الأوروبية. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر والرواية في ازدهار لم يسبق له مثيل. فنشأ في فرنسا ما يسمى بالمذهب الطبيعي وهو لا يختلف عن المذهب الواقعي إلا في نوع التفاصيل التي يقدمها ونوع الشخصيات فهي تنتمي عادة إلى ما يسمى ﺑ «النصف الأسفل» من الطبيعة البشرية أي تصوير الانحطاط والهبوط ماديًّا ومعنويًّا والاتكاء على ملامح الفقر والمعاناة والمرض ومواطن القبح بدلًا من مواطن الجمال ومن أشهر كتَّاب الرواية في فرنسا في تلك الآونة «جوستاف فلوبير» (مؤلف مدام بوفاري) و«فكتور هوجو» (مؤلف البؤساء) و«إميل زولا» (الذي ارتبط اسمه بنظرية الواقعية والطبيعة)، و«جي دي موباسان» و«أناتول فرانس». أما في أمريكا فأهم مَن يذكرون من نفس الفترة هم «هيرمان ملفيل» (مؤلف موبي ديك) و«ناثانيل هوثورن» مؤلف (الحرف القرمزي) و«مارك توين» (مؤلف مغامرات هكلبري فين)، أما في الثلاثين عامًا الأخيرة من القرن ١٩ فكان أهم كتاب الرواية في أمريكا هو «هنري جيمس» الذي قضى حياته متنقلًا بين إنجلترا وأمريكا وأشهر أعماله هي «ميدان واشنطن» — و«صورة سيدة» — و«أهل بوسطن» — و«أجنحة الحمامة» — و«السفراء» وقد نُشرت الأخيرتان في مطلع القرن العشرين.

وإذا كنا ركزنا على فيرجينيا وولف وجيمس جويس فلا يعني هذا على الإطلاق أن كتَّاب الرواية الآخرين أقل أهمية، كل ما هنالك هو أننا أردنا أن نركز على أهم ما تختلف فيه الرواية الحديثة عن الرواية التقليدية وقد وجدنا أن هذا الاختلاف يدور حول الشخصية وأنه وليد علم النفس الحديث. ولذلك فمن واجبنا أن نذكر كبار الكتَّاب الذين ذاعت رواياتهم في مستهل القرن وأهمهم «ﻫ. ج. ولز» و«أ. م. فورستر» و«جوزيف كونراد». وربما يذكر القارئ العربي هذه الأسماء إما للروايات التي ترجمت لهم أو لما تحول منها أفلام سينمائية وبخاصة روايات كونراد التالية: لورد جيم، نوسترومو، والعميل السري، وتحت أنظار الغرب، وقد سبقت الإشارة إلى «د. ﻫ. لورنس»، وهي إشارة لا توفيه حقه لأنه من كبار الكتاب، وعلى أية حال فلا بد من إضافة اسم «وندام لويس»، الرسام والكاتب الذي ظل يكتب منذ أوائل القرن وحتى عام ١٩٥٥م (حين صدر الجزءان الثاني والثالث من ثلاثيته الكبرى العصر الإنساني).

وهنا ينبغي أن نضيف كلمة إلى ما ذكرناه بخصوص تيار الشعور واللون الجديد من الشخصية في الرواية الحديثة. إن هذا التطور لم يكن ظاهرة مؤقتة انتهت بتوقف هؤلاء الكتاب عن الكتابة. وأذكر عبارة لأحد النقاد يقول فيها: «إن الرواية بعد جيمس جويس لم تعد ما كانت عليه قبله.» وما أكثر الكتاب الذين بدءوا الكتابة قبل الحرب العالمية الثانية واستمروا حتى عهد قريب، وربما ذكر القارئ العربي منهم «إيفيلين وو» و«روبرت جريفز» و«جراهام جرين» الذي ترجمت له عدة روايات إلى العربية وقُدمت رواياته في السينما، مثل نهاية العلاقة ومندوبنا في هافانا والمهرجون و«آثر كوستلر» الذي انتحر هذا العام و«ﻫ. أ. بيتس» مؤلف كتاب «القصة القصيرة الذي ذاع في مصر في الستينيات». و«جورج أورويل» مؤلف مزرعة الحيوان التي نشرت في الصحف المصرية قبل صدورها في كتاب و«لورنس داريل» مؤلف رباعية الإسكندرية التي تحولت إلى فيلم سينمائي و«وليام جولدنج» مؤلف بعل الذباب التي تحولت إلى فيلم أيضًا، و«جون وين» و«كنجسلي إيمس» و«فلاديمير نابوكوف» مؤلف لوليتا (فيلم أيضًا) ومن السيدات «إيريس ميردوك» و«ميوريل سبارك» و«إدنا أوبراين» و«مارجريت درابل»، أقول رغم كثرة الكتَّاب (وكم من اسم أغفلناه!) فإن تأثير جويس واضح ومَن يقرأ أحدث روايات «إدنا أوبراين» أو «مارجريت درابل» يحس على الفور أن الحبكة التقليدية قد ولت إلى الأبد وأن الرواية لم تعد «معرضًا ممتعًا للشخصيات المنوعة». ولكن ما يصدق على الرواية الأوروبية لا يصدق بالضرورة على الرواية العربية أو الأمريكية أو غيرها (ولو أننا حين ننظر للتطورات اللاحقة هنا وهناك سوف نلمح بالضرورة هذا التأثير). فمثلًا نجد أن أشهر كاتب للرواية الأمريكية في القرن العشرين وهو «وليام فوكنر» يشبه «توماس هاردي» وهو من أعلام القرن التاسع عشر في بريطانيا في تحديد موضوعاته «مكانيًّا» أو إقليميًّا، ورغم ما ترجم له إلى العربية فشخوصه وأحداثه تظل بعيدة عنا لالتصاقها الشديد بالبيئة الأمريكية، وحتى في رواياته الحديثة نسبيًّا أي التي صدرت في الخمسينيات يصعب على القارئ أن يرصد منهج جويس ولكنه لا شك سوف يلمح الاتجاه نحو الدراسة النفسية التي تزيد من «حجم» الشخصية بإدراج المتناقضات فيها كما سبق أن ذكرنا والقارئ العربي يعرف أيضًا «ثورنتون وايلدر» و«جون شتاينبك» و«وليام سارويان» و«جون أوهارا». وربما تعجب القارئ لعدم الإشارة إلى مؤلف رواية مأساة أمريكية وهو «ثيودور درايزر» وهي الرواية التي لخصت واقتبست بالعربية وتحولت إلى فيلم سينمائي أو لعدم ذكر «سكوت فيتزجيرالد» مؤلف «الليل رقيق» (فيلم) وبالطبع «إرنست همنجواي» مؤلف العديد مما تُرجم إلى العربية وتحول إلى فيلم سينمائي مثل وداعًا للسلاح ولمن تدق الأجراس والعجوز والبحر والسبب واضح وهو أن رواياتهم لا تعين على توضيح ما نرمي إليه. والحق أننا لسنا بصدد تقديم أية قوائم للروايات أو الروائيين ولكننا نورد للقارئ العربي ما هو مألوف حتى يقرؤه أو يقرأ عنه كما أننا قد أغفلنا عن عمد الحديث عن الرواية العربية — وهي فن جديد حديث — اكتفاءً بما كتبه المتخصصون عنها.

٩

قلنا، إن نشأة النثر ارتبطت بالكتابة وكان النثر هو الوسيلة المقابلة للنظم إذ استخدم الأخير في الشعر واستخدم الأول في الكتابة العلمية بمختلف أنواعها ولكن النثر الفني قد وجد طريقه إلى الأدب مع ذيوع الكتابة إذ إن الكتابة أفقدت النظم امتيازه السابق ألا وهو قدرة الذاكرة على اختزانه بأقل جهد، فلم يعد من الضروري أن يكتب الإنسان نظمًا حتى يضمن له البقاء، ولكن الأسس الأولى التي بُني عليها الشعر (أقدم الأنواع الأدبية) كانت ما تزال قائمة، وأهمها أن اللغة هي فن القول. والقول يحتاج إلى مخاطب. ومثلما نجد في الشعر القديم ضمائر توحي بذلك نجد في كل الشعر الذي وصلنا رنة حديث توحي أحيانًا بالخطابة والخطابة فن أدبي لم نتعرض له لأنه اندثر مع اللغات القديمة وما بقي منه في العربية، سواء من العصر الجاهلي أو من العصر الإسلامي (من أمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة الأيادي إلى علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — والحجاج بن يوسف الثقفي) لا يكفي لتخصيص باب مستقل له خاصة لأن الخطبة الحديثة التي يذيعها الراديو والتليفزيون لم يعد بها أي أثر من آثار ذلك الفن الجميل. أقول إن المحادثة في الشعر القديم توحي أحيانًا بالخطابة وتوحي أحيانًا أخرى بالتخاطب أي المخاطبة التي تتوقع استجابة هادئة لا انفعالًا شديدًا من جانب السامع أو السامعين.

وقد ارتبطت هذه الخاصية باللغة العربية ارتباطًا وثيقًا حتى الآن وما زالت الأذن العربية تطرب لوقع الكلمات التي توحي بالخطابة أي التي توحي بأنها تُلقى في محفل كما يزيد من طربها تقسيم الكلام وتوقع انفعال السامعين بكلمة ما — يصفقون عندها أو يبدون استحسانهم بطريقة ما — وذلك لطول ارتباط اللغة العربية بالرواة، وطول اعتماد اللغة العربية على فن الإلقاء. ويستند أحد النقاد إلى هذه الخصيصة في تبيان سر غلبة فن الشعر في الأدب العربي على سائر الفنون الأخرى، وذلك حتى عصر الشعر الحديث (أو الجديد أو المرسل) حتى بعد أن أسماه الدكتور محمد مندور بالشعر المهموس أي الذي يتخلى عن افتراض الإلقاء في محفل ويُسِرُّ الشاعر به إلى قارئه، فهو الشعر المقروء وليد الكلمة المطبوعة.

والحق أن دخول الطباعة إلى مصر مع الحملة الفرنسية قد أثر في هذا التطور تأثيرًا غير مباشر أو قل تأثيرًا تدريجيًّا فمع مطلع القرن العشرين بدأت الفنون الأدبية المنثورة تدخل الأدب العربي عن طريق الصحافة، فنشأت صور من المقالة الأدبية التي كانت تتراوح طولًا بين الخاطرة (وهو المقال الذي يعتمد على صورة أو فكرة مثل القصيدة الغنائية ويُكتب نثرًا) وبين المقال القصصي أو المقال التأملي الذي كان يحاكي كتاب المقالات الأدبية من رومانسيي القرن التاسع عشر في أوروبا (وهو أيضًا يقترب من الشعر في أفكاره وصوره أو من القصة في جانبه السردي، ولكنه مكتوب بالنثر). وإلى جانب هذا أو من خلال هذا نشأت الرواية الطويلة التي لم تعد تفترض وجود محفل للإلقاء وبدأت بالتدريج تتخلص من رنة الخطابة.

ولكن ذلك لا يعني أن الكاتب أو القارئ لم يعد يستجيب لسحر الكلمة العربية فلها طرب وصفه أحد الأقدمين بأنه السحر الحلال «الذي يُسكر دون خمر» بل يعني أنها لم تعد مقصورة على التحادث فالكاتب العربي يستخدمها اليوم في السرد وفي الوصف وفي التحليل وفي الغوص في أعماق النفس وهو ما يستدعي القراءة المتأنية والتأمل وينفي الطرب المباشر لرنين كلمة أو لفظة ما مهما تكن «حلاوة» وقعها، إذ لم تعد للكلمة في ذاتها «حلاوة» بل أصبحت حلاوتها نابعة من علاقتها بسائر الكلمات وأهم من هذا بالمعنى الذي توحي به ويبدو أن هذا التأثير «الإيقاعي» أو «النغمي» قد انتقل إلى الشعر وإن لم يقتصر عليه، وأصبح قارئ الرواية لا يتوقعه إلا إذا كان الكاتب قد استهدفه ورمى إليه. فهناك من الروايات ما يقترب من منهج الشعر في إحكام بناء العبارة وإبداع جرسها حتى لكأنك تسمع أنغام كتَّاب الرسائل القدماء وأرباب النثر الفني الأوائل. ولكن تيار التطور جعل من هؤلاء قلة قليلة فأغلب الروائيين يستخدمون النثر مثلما يستخدمون لغة الكتابة العادية — بل لغة الصحافة نفسها — دون محاولة الصعود في مراقي الشعر.

لقد تغيرت اللغة العربية المستخدمة في الرواية وتطورت وكنا نظن أن الكاتب الكبير نجيب محفوظ وصل بها إلى آخر المطاف ولكن الجيل الذي تلاه ما فتئ يُدخل تجديدات وتعديلات في أسلوب الكتابة يصعب الحكم عليها الآن، وإن كانت تمثل تيارًا عامًّا يبتعد بلغة الرواية عن لغة الشعر ولغة الرسائل جميعًا. ولا بد أن نترك للمستقبل أية أحكام على مدى جدوى هذا التطور، وحسبنا الآن أننا رصدناه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤