المقدمة

«محاورات كونفوشيوس» هي مجموعةٌ من التسجيلات الكتابية لتعاليم كونفوشيوس وتعليقات تلاميذه، وقد تمَّ تدوينها بوصفها أقوالًا ومواعظ مناسبةً لحلقات الفكر والدراسة، وكان هذا هو السبب وراء اختيار عنوان الكتاب «المحاورات»، وكان واحدًا من تلاميذه (تسنغ شن) هو الذي جمع الأقوال المتناثرة وضمَّها بين دفتي كتاب، وذلك أثناء فترةٍ مهمةٍ في التاريخ الصيني، هي عصر الدول المتحاربة (٤٧٥–٢٢١ق.م.)، وكانت القاعدة العامة في المدارس والاتجاهات الفكرية والدراسية حينئذٍ تلجأ إلى تدوين الأفكار كتابيًّا، إلَّا أنَّ كونفوشيوس، وهو صاحب اتجاه فلسفي (الكونفوشية)، رفض التدوين الكتابي لأفكاره زاعمًا أنَّه مجرد «وسيط» وليس «مبدعًا»، مجرد «مجتهدٍ» وليس «مكتشفًا»، وكان ذلك صحيحًا إلى حدٍّ بعيدٍ!

فقد كان الزمن الذي ظهر فيه كونفوشيوس يشهد الانتقال من نظام الإقطاع العشائري (أسرة يين الإمبراطورية) إلى نظام الملكية الأوتوقراطية (الدول المتحاربة)، وبطبيعة فترات الانتقال المفصلية الحادة، وسط ظروف تعج بفوضى إعادة الترتيب، من نظامٍ قديمٍ انهارت دعائمه إلى نظامٍ جديدٍ لم تثبت جدرانه، فقد برزت الكونفوشية نتيجةً وليست سببًا ومن وجهة نظر ما. قُل إنَّها كانت المشعل الحضاري الذي عبر متوهجًا بالروح الحضاري الصيني التقليدي من أطلال عصر «أسرة يين جو» ليضم أطرافه وينثر أنواره في جنبات كيانٍ جديدٍ على هدى أفكارٍ ارتأت أنَّ المجتمع الإنساني عبارةٌ عن جسدٍ جمعيٍّ نمطيٍّ يتحدَّد سلوكه بمعيار الأخلاق والتراحم؛ سعيًا للسلام والرفاهية لكل الناس، ويتشكل قوامه من معايير قيميَّة يلتزم بها الفرد، تتمثل في ثقافةٍ أخلاقيةٍ متجردة بالإخلاص والولاء والتراحم والاحترام والتبجيل والإيمان والحكمة والشجاعة والصبر … تلك التي صُبَّت جميعًا فيما عُرف بالمنهاج، الطريق … «الطاو» الذي امتدَّ عبر الأفق في مسارَيْن أساسيَّيْن: الإيمان، والصبر.

تلك، بتلخيصٍ أو تركيزٍ شديدٍ، هي الكونفوشية … قلب الثقافة الصينية، نواتها كما كانت قديمًا، وهي أيضًا الأساس لما عُرف في ملفات الحضارة الصينية ﺑ «المدرسة الكونفوشية»، اﻟ «روجيا» العتيدة العريقة، بلفظها الحيِّ في اللغة الصينية، التي انقسم … أو انشطر مبحثها النقدي العام، مع طول التجربة وعمق المجرى وثقل الوزن الحضاري، قسمَيْن: أحدهما انتقاديٌّ، يراجع بالبحث والدراسة، موضوعيًّا، مقولاتها، منتقدًا عنصرها الإقطاعي البارز. والآخر مذهبيٌّ، يعترف ويُسلم بجوهرها الثقافي الأصيل ورمزها الباقي للتقاليد التاريخية الصينية، ودار الجدل على محاورَ كثيرةٍ:
  • في المحتوى النظري للكونفوشية: كان الفكر الإقطاعي والاستبداد موضع انتقادٍ؛ بينما التلميحات القليلة إلى التقدمية والتنبؤ بالديمقراطية موضع إشادةٍ.

  • في الجانب السياسي: انتقد الباحثون الاستعلاء المكي السيادي، والسلطة الملكية (الكاريزمية)، وهتف المذهبيون لإشاراتٍ تحترم الرأي العام وتنادي بالمساواة.

  • في الجانب الاجتماعي: انتقدت بوصفها دفاعًا عن الأوتوقراطية الملكية، قُبِلت كقيمةٍ نظريةٍ وفلسفيةٍ تحتل موقع الصدارة في التاريخ الثقافي للصين، وبوصفها موضوعًا للدراسات التراثية ذا قيمةٍ بحثيةٍ عاليةٍ.

كان لكونفوشيوس مكانته الشخصية ومركزه في الثقافة الصينية الكلاسيكية من حيث إنَّه:
  • حافظ على الإرث الثقافي الصيني من الضياع، وذلك بتحقيقه وتصويبه لأهمِّ كُتب التراث في الصين القديمة، مثل: «كتاب الأغاني»، «كتاب التاريخ»، «كتاب التغيرات».

  • ولأنَّه كان الأول في التاريخ الصيني كله الذي دعا إلى إتاحة فرصة التعليم للعامة والبسطاء؛ ليكسر احتكار الموظفين والوجهاء للعلم، وكانت دعوته الشهيرة لأن «يكون التعليم كالماء والهواء للجميع دون أيَّة فروقٍ طبقيةٍ»، و«أن يراعى التخصص في التعليم بحسب استعداد الطالب وميوله وقدراته الشخصية، وأن يكون التنوع والترفيه وسيلةً لاكتساب المعرفة» … وغيرها من مبادئ ترسَّخت في التربويات الصينية العريقة، والتي يضمها جميعًا «كتاب المحاورات»، وهو أشهر وأهم الأوراق الكونفوشية على الإطلاق.

ففي أسرة «الهان» الإمبراطورية — زمن المجد القديم — كانت هناك ثلاثُ طبعاتٍ من الكتاب اتُّخذت مادةً أساسية للدارسين في كل مراحل التعليم، وفي عهد أسرة «نانغ» الملكية سُجلت نسخةٌ من الكتاب رسميًّا بوصفها واحدة من أهمِّ اثنتي عشرة مدوَّنةً تراثيةً في التاريخ الثقافي الصيني، وفي عهد أسرة «جين الغربية» الحاكمة (٢٨٥ ميلادية) دخل الكتاب إلى اليابان، وقيل فيما بعد (بمبالغةٍ واضحةٍ) إنَّه كان أول كتاب يقرؤه اليابانيون في حياتهم!

والنسخة التي اعتمدتُها للترجمة إلى العربية هي نسخة أحد النبلاء الصينيين في العصر القديم ويُدعى «جانيو»، وهي النسخة التي حققها بنفسه في أواخر عهدة أسرة هان الغربية الإمبراطورية (٢٠٦ق.م.–٢٤ ميلادية).

ومحتوى كتاب «المحاورات» يُسجِّل بوضوحٍ ما تبقَّى في ذهن كونفوشيوس من رؤًى تتعلق في جوهرها — وربما هذا هو دافع كثيرين لتصنيفها في إطار الموضوع الديني — بالتدبير الإلهي المتحكم في مصير البشر والعالم كله، والمتسبب في بلائه، أو مجازاته خيرًا وشرًّا … يعني فكرة الإيمان بالقدر السماوي، لكن من المهم الانتباه إلى أنَّ رؤية كونفوشيوس للسماء/الإله لم تكن قاطعةً محددةً، فهو أحيانًا يراها غير قادرةٍ على التفريق بين الخير والشر أو السعادة والشقاء «تزيد الأشقياء شقاءً، وتمنح السعداء كل الخير!» وأحيانًا أخرى يراها عادلةً مقسطةً، تُعطي لكلٍّ بحسب ما يستحق.

وفي خلاصةٍ، لم تكن رؤى كونفوشيوس متجاوزةً للإطار الفكري السائد في الإقطاع العشائري، ومن ثم جاءت موعظته تحثُّ على الرضوخ الاتكالي ليد القدر، والقبول — سلبًا — بنمط الإخلاص والقيم الاجتماعية السائدة، وكان هدفه الأساسي هو التوجُّه بأفكاره إلى المثقفين والدارسين، الذين تجاوزتهم فرص الانتخاب المناسب للترقي والتقدم، فبقُوا في أسفل السُّلَّم الاجتماعي مع القطاع العريض من الشعب الصيني تنتظر مصيرها تحت سيف القدر المسلط على الأعناق، ولقد فقدت نظرية القدر وظلالها الدينية قيمتها عند المدارس الكونفوشية اللاحقة.

لكن، كان يُمكن لفكر المدرسة الكونفوشية أن يستمر ويؤثر ويلاحق — تاريخيًّا — مجتمعًا صينيًّا معاصرًا، فلم يكن في جوهره فكرًا دينيًّا متساميًا ومستقلًّا عن العالم الدنيوي (مثل المسيحية) — راجع فشل الاختراق التبشيري للصين! — ولم يكن نمطًا فلسفيًّا للتأمل الفني الجمالي — بمعناه المطلق! — لكنَّه «نظام عقيدةٍ يمتزج بالجمالي والمعرفي معًا» لذلك، لم يكن غريبًا أن يزدهر البعث الكونفوشي في صين التسعينيات، رغم أنَّ صين أول القرن العشرين (٤ مايو ١٩١٩م) أسقطت الثقافة الكونفوشية من حسابها، وهي تخطو إلى عتبات القرن في تيار التحديث العنيف (العلم، الديمقراطية) إلَّا أنَّها تعود الآن، فكيف ذلك؟!

الحق، أنَّ موقف النقد الظاهري للكونفوشية، كان — ربما في باطنه — مصحوبًا باعترافٍ ضمنيٍّ ثابتٍ بقيمته الروحية، وكانت هناك في خلفية مفكري الاستنارة الصينية جذور تعليمٍ قديمٍ تنهل من الجذر الكونفوشي، فكان من السهل عليهم — تقريبًا — انتقاد مقولات كونفوشيوس، لكنَّه لم يكن سهلًا أبدًا نبذ التقاليد الكونفوشية … والفرق واضح!

والحقيقة، أنَّ الصين المعاصرة، تفتح — بطريقٍ غير مباشرٍ — الباب واسعًا للبعث الكونفوشي، فالظرف التاريخي الآن يشهد طغيان مظاهر العصر الدنيوي: أضوائهِ الباهرة، سرعةِ تقدمه الخاطفة، تحولاته العنيفة، أسعاره، أوراقه المالية، أبراجه السكنية العملاقة، سياراته، نجوم غنائه … إلخ، وهو يعني فاصلًا آخر بين عصرَيْن، يُهدد الروح الصيني ويضغط على انسجامه الداخلي، ويسمح بإعادة إنتاج ظروف الكونفوشية الأولى، ويستدعيها من مكمنها.

والشائع، أنَّ البعض يردد بأنَّ الكونفوشية حقَّقت تطبيقًا جزئيًّا في إحداث نقلةٍ تطوريةٍ هائلةٍ في اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وجنوب الشرق الآسيوي بنموره وسلاحفه … ومظاهر تطوره الهائل، لكن … هذه بالذات مسألة معقدة جدًّا تحتاج لتفصيلات أوسع لا تفي بها مساحة المقدمة العاجلة هذه.

والموضوع كله أصعب مما يُطرح عرضًا واستسهالًا … ذلك أنَّ عودة الروح للمدرسة الكونفوشية كانت مرهونةً دائمًا بمدى ملاءمة شروط التعبير العصري في خلفيةٍ ثقافيةٍ وتاريخيةٍ جديدةٍ تمامًا، تجعل من البحث عن نقطة بدايةٍ جديدةٍ واعدة بالاستمرار والنضج عملًا شاقًّا، لأنَّ الخطر والتحدي الحقيقي يأتي من تفاصيل الحياة ذاتها وليس من النقد التنظيري (التعميمي) المريح، ثم إنَّ مواجهة التحدي والتغلب على الخطر لا يعني تمكين الكونفوشية من استعادة مكانتها الفريدة أو اعتلائها مسرح الأيديولوجيا مرةً أخرى، فالمسألة تكمن في تفعيل دور الكونفوشية بوصفها مرجعًا روحيًّا قادرًا على الحياة والتواصل والتأثير إيجابيًّا وسط ظروفٍ ثقافيةٍ متعددة الروافد وعناصر التلقِّي، ولكن.

هل صحيح أنَّ الكونفوشية ستنتعش وتملك ناصية القرن الواحد والعشرين؟

• الكونفوشيون الجدد يتنبئون بأكثر من ذلك؛ بل ويريدون تأسيس المملكة السماوية الثقافية والفكر الإنساني كله على النمط الكونفوشي، وحجتهم أنَّ مستقبل الثقافة العالمية سينهض على تعميم تيار العلم الكونفوشي الذي تتكون عناصر معادلته من:

•  واشتط البعض منهم معللًا بأنَّ الفكر الإنساني على النمط الكونفوشي يستطيع التوافق مع الديمقراطية والعلوم الغربية، ويصلح كمحدد اتجاه إنسانيٍّ جديدٍ يدفع تقدم الحياة الثقافية «كذا».

• وآخرون من ورثة التقاليد الكونفوشية يؤكدون على فائدتها التطبيقية؛ انطلاقًا من أهمية استخدام الفلسفة في الممارسة الاجتماعية.

وربما كان من المبالغة كثيرًا أن نردد مع الآخرين نبوءةً تجعل من القرن الواحد والعشرين بكامله قرنَ الكونفوشية وأوان ازدهارها الموعود، صحيحٌ أنَّها ليست مجرد أيديولوجية مجتمعٍ إقطاعيٍّ، وبالتالي فهي ليست معرضةً للضياع أو التفكك، كما حدث للنظام الاجتماعي القديم الذي عاشت في داره سنين.

لكنَّها أيضًا ليست مثل الأديان السماوية المعهودة، وليست لها مرجعية تنظيمٍ اجتماعيٍّ خارج المجتمع الدنيوي، وليس هناك سوى النظرية/المقولات الكونفوشية بجناحيها في الفكر والروح الاجتماعي … ليس هذا فقط، بل لم تعد الكونفوشية المنسحبة خارج المجتمع هي نفسها الكونفوشية الأصلية، وإذا رُئِي — مثلًا — إنجاز الأعمال استنادًا إلى المُثل العليا لدى الكونفوشية، فسيتوغل الصينيون في مشكلة التقاليد التي لا تُحلُّ، ولن يصبح الطريق ممهدًا أمام مخرجٍ جديدٍ للاقتصاد الصيني الوطني وحياة شعبها، وتظل قدرة الفكر الأخلاقي على التوافق مع الحاجات المعقدة في الوقت الحاضر موضع شكٍّ كبيرٍ.

ورغم أنَّ هناك كثيرين يرون أنَّ «التفوق الداخلي» حالةٌ قائمةٌ باستمرارٍ في فكر المدرسة الكونفوشية، إلَّا أنَّ المشكلة هي أنَّ الروح في تلك المدرسة ترهَّلت للغاية، ولم تعد تناسب الجسد الاجتماعي الذي تغيَّر كثيرًا وما زال يواصل تغييره.

وربما تبدَّت في أحيانٍ مختلفةٍ، وفي بواطن الدلالات وليس في صدارتها، إشاراتٌ تومئ إلى مشاعرَ متضاربةٍ إزاء انهيار صرح القيم القديمة، استندت فيها ظواهر الاضطراب الفكري وضلال القيم إلى تعليلات من الحالة النفسية الحزينة «المتشردة» التي جابت أطراف العالم بحثًا عن صيغة موفقة تُعيد الدم إلى القلب الكونفوشي القديم، لتعود إلى التقاليد وعينها على التحديث … أو العكس!

ووجهة النظر الغالبة، هي أنَّ الكونفوشية، بجذرٍ تاريخيٍّ عميقٍ — لكنَّه بعيدٌ! — ووزنٍ ثقافيٍّ ضخمٍ، يُمكن أن تعود أو تبقى:
  • كونفوشية تقاليد تاريخية، بوصفها موضوعًا للتأمل الفكري والبحث النظري المجرد، وليس شيئًا آخر غير ذلك!

  • كونفوشية تدخل القرن الواحد والعشرين الميلادي بوصفها: «الروح القومي الشريد» معزولةً بأسوارٍ جغرافيةٍ ومنكفئةً على ذات تاريخيةٍ شديدة الحساسية، ومن ثَم تجد نفسها أقرب مزاجيًّا إلى التفاعل مع مركب الآلام: العزلة، تضخم الشعور بالذات، الاضطهاد، الشتات (بعض مدارس الكونفوشية تنشط في المهجر!)، الدياسبورا! وكثيرًا جدًّا مما يُمكن قراءته بين السطور!

  • حتى بأكثر التقديرات شططًا ومبالغةً، يصعب التنبؤ بعودة التيار الكونفوشي، بالمعنى الحقيقي له، وإنَّما يظل موضوعًا قابلًا للحياة في إطار الأدب الكونفوشي العجوز والدراسات التاريخية والأدبية القديمة.

مبالغة هائلة أن يُقال إنَّ القرن الواحد والعشرين هو قرن الفكر الكونفوشي وحده، وإن كان يُمكن القطع بأنَّه لن يطلع فجر قرنٍ آخر جديد بغير كونفوشية جديدة تلمع عند منبت النور في مشرقه الأقصى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤