المقدمة

هو واحدٌ من أهم أقطاب المدرسة الكونفوشية (إذ الروجية هي المذهب الكلاسيكي الصيني)، صحيح أنَّه جاء بعد قرن كامل من وفاة كونفوشيوس؛ لكنَّه صار أعظم فيلسوف صيني في المدرسة الكلاسيكية منذ إنشائها، حتى نهاية عصر أسرة تشينغ الإمبراطورية، أي حتى مطلع القرن العشرين الميلادي (١٩١٨م)؛ حيث كانت مادة كتابه الأشهر «كتاب منشيوس» هي النص المعتمد ضمن المحتوى العام للامتحان الذي يُعقد كل عام للمرشحين في الوظائف العليا للبلاط الإمبراطوري.

اسمه «منغ كي»، (أمَّا منشيوس، المعروف به في العصر الحديث، فهو النطق اللاتيني الموضوع له في الترجمات الأولى الصادرة للكتب الأربعة في القرن السابع عشر الميلادي تقريبًا في أوروبا)، والتقدير الغالب لسيرة حياته يُحدد الفترة الزمنية التي عاشها من عام ٣٧٢ إلى ٢٨٩ق.م. (هناك مَن قال بأنَّه عاش من ٣٩٠ إلى ٣٠٥ق.م. وهو قول له وجاهته حسب حجمه وبراهينه، لكن القليلين يأخذون به)، وعلى أيَّة حال، فهي فترة معاصرة لزمن الدول المتحاربة؛ حيث كان الصراع على أشده بين الدويلات الصينية.

وقد وُلد منشيوس في إحدى تلك الدويلات (وهي دويلة تشو، التي كانت تقع في الشمال الشرقي من الصين، وكان قد تصادف أنَّها في الجوار من الدولة التي وُلد بها أستاذه وشيخه الأكبر كونفوشيوس)، ومثل أستاذه، أيضًا، فقد عاش متنقلًا بين البلاد ينشر تعاليمه وأفكاره، وانتهى أيضًا نفس نهايته! إذ جرَّب مرارة الفشل الذريع، فانعزل آخر أيام حياته يُملي أفكاره على تلاميذه ويؤلف الكتب.

منشيوس ابن عائلة لها قدْرها، كانت إحدى ثلاث عائلات بسطت سيادتها ونفوذها في ولاية «لو» — ويُقال بأنَّه ليس هناك تأريخ يشهد بذلك، وإنَّما هي مجرد أخبار تناقلتها الكتب! — وأيًّا ما كان، فلم يكن الرجل يحب ويحترم أحدًا في حياته مثل كونفوشيوس، وقد كان يأسف لأنَّه لم يكن معاصرًا له ولم يتعلَّم على يديه شخصيًّا، ولم يخفف من أسفه كونه تلقَّى العلم على يد حفيد كونفوشيوس «زيس».

وإن كان يُقال بأنَّه لم يلتقِ بذلك الحفيد في حياته، وإنَّما أخذ العلم عن تلاميذه، إلَّا أنَّ الشيء الثابت هو أنَّه كان يذكر كونفوشيوس دائمًا بعبارات التبجيل والإكبار حتى لقد نقلت كتب التراث عنه مقولته الشهيرة: «إنَّ كونفوشيوس أعظم مَن أنجبت الإنسانية!»

لا تذكر كتب التاريخ الكثير من تفاصيل سيرة حياته سوى أنَّ أسرته لمَّا ضاق بها الحال، بعد زوال المجد والجاه القديم، انتقلت إلى دولة تشو؛ حيث مات والد منشيوس وهو في الثالثة من عمره، فقامت الأم على تربيته وأخذته بالشِّدَّة والرقابة الصارمة، فلمَّا كبر تلقَّى العلم على يد زيس — حفيد المعلم الأكبر — وراح يجوب البلاد، داعيًا إلى المذهب الكونفوشي، وشملت جولاته الدعائية العديد من الولايات: تشي، جين، سونغ، تنغ، ليانغ. وكان قد ذهب إلى ولاية تشي مرتين، وقام بالتدريس في قصر «جيشيا» (وهو المقر الرسمي لأول أكاديمية لتدريس العلوم في تاريخ الصين!)، واستطاع أن يرتقي إلى منصب حكومي مرموق لم يصل إليه أستاذه، كونفوشيوس، في حياته؛ إذ عمل لفترة رئيسًا لوزراء إحدى الولايات؛ لكنَّه لم يكن مَنصبًا تنفيذيًّا؛ بل مجرد وظيفة ذات صفة استشارية دون تكليف بواجبات وسلطات الوزير المسئول أمام مجلس وزراء رسمي؛ مما جعله يرفض تقاضي أي مرتَّب طوال فترة بقائه في العمل، ويُقال بأنَّه كان يمتنع عن الترقِّي في ذلك المنصب الكبير دون أن تكون يده مطلقة التصرُّف في إدارة جهة اختصاصه بما تُمليه عليه مبادئه وأفكاره، وهو الأمر الذي كان يُلام عليه من جانب تلاميذه وأتباعه مع أنَّ السبب في عدم توليه أيَّة وظيفة تنفيذية كان يرجع، في الحقيقة، إلى حكَّام الولايات أنفسهم الذين ما كانوا ليقبلوا أن يمنحوه ما يشترطه عليهم من صلاحيات تجاوزت — من وجهة نظرهم — حدود الممكن أو المقبول. ومن ثم، كان سعيه الدائم وتجواله في البلاد، وانتقاله هنا وهناك، بحثًا عن حاكم يؤمن بمبادئه، ويتبنَّى آراءه.

وقد وُجِّهت إليه الانتقادات الشديدة، ذات مرة، بسبب ما يُمكن أن يُعد إسرافًا من جانبه وهو يجوب البلاد تتبعه عشرات العربات ومئات الرجال، متنقلًا من قصر حاكم إلى آخر، وكان الحكَّام يغدقون عليه ويطلبون رأيه في كثير من الموضوعات، ويبذلون له من التبجيل ما لم يحظَ به كونفوشيوس نفسه، أمَّا هو فقد راح يُدافع عن أسلوب حياته بأنَّه «جدير بما يتكبده، ما دام يعمل على إحياء مبادئ الحكماء الأقدمين» وبأنَّه يلتزم بقاعدة ألَّا يقبل الهدايا، بل يقبل — فقط — بالحصول على ما يكفل له تلبية أقل حاجاته الضرورية.

لكن زمانه كان يموج بصراعات واضطرابات، وحروب بين الدويلات، التي جنَّدت كل طاقاتها لصالح الحرب، ولئن وجد منشيوس مَن يستمع إليه وسط تلك الأجواء، فإنَّه لم يعثر، حقًّا، على مَن ينصت إليه في جدية (راجع شيئًا من أحوال فترة الدول المتحاربة، في مقدمة ترجمتي ﻟ «كتاب سياسات الدول المتحاربة»، المجلس القومي للترجمة، القاهرة).

فانصرفت عنه القصور الحاكمة لما هو أهم، حيث تحالفاتها البينية هي شغلها الشاغل، وسط دوامة الصراعات القائمة. فلمَّا لم يجد الرجل آذانًا صاغية، أقام في عزلة اختيارية بمنزله؛ ليؤلف — مع تلميذَيْه: وانجان، وكونسون شو — الكتب الفلسفية.

وعلى الرغم مما تناهى إلينا من معلومات من الموسوعات الفلسفية الصينية، وأوساط الدارسين للفكر الصيني القديم، عن المكانة البارزة لذلك المفكر الكونفوشي، إلَّا أنَّه لم يكن يحظى في حياته، ولو بقدرٍ ضئيلٍ من الشهرة التي ظفر بها بعد انقضاء زمانه بمئات السنين.

قضى منشيوس آخر أيام حياته بائسًا منعزلًا، ومات دون أن يحقق ما كان يصبو إليه، فهو واحد ممن انطفئوا في عزلة من الزمن، ثم لمعوا في أحقاب تالية من التاريخ.

ولم تكن مكانته وسط الكونفوشيين، في بداية الأمر — أمر سعيهم لتأسيس ونشر أفكارهم وسط الولايات والدويلات — تضارع مكانة «يان هوي»، وهو أحد روَّاد المذهب الكلاسيكي ممن ظلوا حتى أوائل دولة خان (٢٠٦ق.م.–٢٢٠ ميلادية) يمثلون المكانة الأولى في المدرسة الكلاسيكية، ولم تتغير المكانة حتى عصر تانغ؛ بل حتى عصر دولة سونغ (٩٦٠–١٢٧٩م)، ومن المعلوم أنَّ الكونفوشية انقسمت إلى مذاهب كثيرة، تزعَّمها عدد من الروَّاد، ومعظمهم من تلاميذ كونفوشيوس، مثل: زيجانغ، زيس، يان شن، شيدياو، منشيوس، جونليان، شون تسو، يوجن … لكل من هؤلاء مذهبه وموقعه وفهمه الخاص للمبادئ الخمسة الكبرى (الإنسانية، العدل، الفضائل، الإخلاص، الحكمة)، وبتطور الكونفوشية، اتَّسعت الهوة بين الآراء المذهبية، فظهرت الانحيازات للمدرسة الكبرى … وأشهرها، في نطاق الكونفوشية، مدرستان: الأولى تُنسب إلى منشيوس، تحت مقولة الطبيعة الخيِّرة للإنسان، والثانية تُعزى إلى شون تسو، وتنادي بالتعليم؛ لدرء طبائع الشرِّ المتجذِّرة في أعماق البشرية.

لم ينل منشيوس الشهرة التي كان يستحقها إلَّا عندما جاء الدارس الكونفوشي الأشهر «جوشي» في عصر دولة سونغ الجنوبية (١١٢٧–١٢٧٩م)، وجعل من كتاب منشيوس مؤلفًا مقدسًا، ضمن المتون الأربعة، أو الكتب الأربعة، التي تمثِّل النصوص الكونفوشية الأساسية، وهي الكتب التي بقيت تُدرَّس في الأكاديميات العلمية الصينية، باعتبارها المادة الرئيسية في امتحانات التأهيل للمناصب الرسمية العليا؛ وذلك إلى أن قامت الحركة الثقافية الجديدة في الرابع من مايو ١٩١٩م، ولو أنَّ هناك مَن يقرر بأنَّ كتاب «منشيوس» قد عُدَّ، ضمن النصوص المقدسة، مادةً للامتحان التأهيلي لتولِّي المناصب العليا في الدوائر الحكومية، وذلك في عصر دولة شونغ الشمالية (١٠٧١م)، فلمَّا حلَّ زمن أسرة يوان الملكية (١٣٣٠م) أُطلق على منشيوس لقب «القدِّيس الثاني»؛ باعتباره جديرًا بمرتبة تالية للقديس الأول كونفوشيوس، بل قُرِنَت آراؤه بأفكار المعلم الأول، وأُطلق عليهما معًا اسم «مبادئ كونفوشيوس ومنشيوس».

أمَّا كتاب منشيوس، ذلك النص الذي صار، كما أسلفت، أحد المتون المقدسة، للكونفوشية، فهو أغزرها محتوى (أكبر حتى من كتاب المحاورات، الكتاب العمدة في المذهب الكلاسيكي)، ويقع في سبعة أبواب، ينقسم كل باب إلى جزأين؛ الباب الأول: «ليانغ هوي» يشرح طرائق الاقتراب الممكن بين الحاكم والشعب، والباب الثاني: «كونسون شو»، يتحدَّث عن مشاعر التعاطف والرحمة، ويؤكِّد على اتساع دائرة الخير، لتشمل ما يتجاوز حدود الإقليم وسكَّانه؛ فالخير لا يعرف الحدود، كما يعرض هذا الباب لسلوكيات الترفُّع عن الجشع، وضرورة الإخلاص التام للواجب، وفي الباب الثالث «تنع وان» يعرض منشيوس للجانب المحوري من أفكاره وهو «الطبيعة الإنسانية» وأصالة النزعة إلى الخير، ويُجادل أفكار الفيلسوف الشهير «موتسي» حول علاقات الحب الإنساني، مؤكدًا اختلاف درجات الانغماس العاطفي بين الناس، وأنَّ الحب ظاهرة ترابط مجتمعي شامل وليست مشاعر عبثية، واستعرض في هذا الباب أيضًا اتجاهات القيم في أشكال السلوك الاجتماعي القائم على علاقات الحب الإنساني، وفي الباب الرابع «ليلو» يتناول معايير السلوك الأخلاقي، ويضع مرجعية الضبط الأخلاقي في يد المجتمع؛ فالاحترام المتبادل بين الناس، والتراحم والمساواة، كل ذلك يُشيع أجواء التفاهم والسلام، وفي هذا الباب يطرح منشيوس أفكاره حول فلسفته السياسية التي تدعو إلى الحكم السياسي القائم على مبادئ الإنسانية؛ باعتباره الأسلوب الأمثل لإقرار حكم قائم على العدل، فالخير يحتاج إلى مَن ينشره، ويُذيعه بين الناس ويعمل على الدعوة إليه، لتأسيس مجتمع إنساني تتحقَّق فيه الفضائل، وفي الباب الخامس «وانجان»، يتكلَّم عن أهم عنصر في البناء الأخلاقي الكونفوشي، وهو الطاعة ومبادئ إقامة العلاقات الودية بين الأصدقاء وأصول أداء الواجبات الوظيفية، ثم إنَّه في الباب السادس «كاوتزي»، يتطرَّق إلى أعماق النفس البشرية، مؤكدًا على بداهة نزوع النفس الإنسانية إلى الخير، مما يُمهِّد الطريق أمام محاولات تشكيل السلوكيات الأخلاقية، وفي الباب السابع «جين شين»، ينتقل من المسائل المتعلقة بالطبيعة البشرية وأشكال السلوك الأخلاقي، مبينًا العلاقة بين أوجه اجتهاد الإنسان في تهذيب النفس، وأشكال السلوك الأخلاقي. وتنتهي معظم جهود تحقيق النص الأصلي للكتاب إلى أنَّ هذا النص لا يُثير الكثير من المشاكل المتعلقة بصحة التدوين ونسبته إلى مؤلفه الأصلي، ونادرًا ما تصادف مثل هذا التعليق عند كثير من محققي النصوص التراثية الصينية (حتى إنِّي حرصت على كتابة أسماء المحققين الصينيين في صفحة العنوان في النسخة المترجمة عن الصينية لمحاورات كونفوشيوس؛ وذلك توخيًا لأفضل عناصر الدقة الممكنة في توثيق المادة الترجمية، ثم اكتشفت أنَّ الدفاع عن صحة ودقة النصوص التراثية قضية خاسرة، لا محالة!).

وأنصح لمَن يتعرَّض لترجمة أي نص من التراث الصيني، سواء من العرب أو الدارسين الأجانب من غير الصينيين — أو حتى من الصينيين أنفسهم — بمراجعة آراء المحققين وهوامش الشروح والتعليقات المصاحبة للنصوص، كلما أمكن، ومع ذلك، فليس هناك ما يُمكن أن يصل إلى مرتبة اليقين فيما يتعلَّق بنسبة النصوص الصينية إلى أصحابها، وهكذا، وبرغم ما قيل من أنَّ منشيوس نفسه قد وضع الكتاب، فيبدو (بدرجة ما من التأكيد!) أنَّ بعضًا من تلاميذه هم الذين قاموا بتجميع مادته، بالإضافة إلى مخطوطة أخرى بعنوان «الكتاب الآخر»، وكان يحتوي على أربعة أبواب، إلَّا أنَّه فُقِد تمامًا، ويُنسب إلى «هوشيه» — أحد ألمع المعلقين على الفلسفة الصينية القديمة من أجيال الحركة الثقافية الجديدة —: «إنَّ كتاب منشيوس، إمَّا أنَّه صحيح تمامًا، أو أنَّه مزيَّف من أوله إلى آخره.» وتؤكِّد آراء نقدية باحتمال أن يكون جزء يسير من الكتاب مدسوسًا على نصوصه، وعلى أيَّة حال، فهناك بعض العبارات، في أماكن متفرقة، تنحو — على غير المعهود — من آراء رجل يُقال بأنَّه ثاني أعظم الكونفوشيين بعد كونفوشيوس نفسه … فهناك آراء أقرب ما تكون إلى طبيعة الفكر الطاوي منها إلى صحيح المدرسة الكلاسيكية، وهناك ما يعتقد بأنَّه «تحريف يُساير اتجاه ما يُسمى بالفكر «التشريعي»» (وهو مذهب متفرع عن الكونفوشية يرى في القوانين مادةً صالحةً لتهذيب وضبط أحوال المجتمع الإنساني)، ونستطيع أن نتفهَّم بعضًا من أسباب ما يُمكن أن يكون قد تعرَّض له النص الأصلي لمنشيوس، من تبديل أو حذف أو تعديل أو زيادة، وذلك عندما نعرف أنَّ مادة الكتاب كثيرًا ما أثارت ردود فعل غاضبة لدى رؤى سياسة محافظة في فترات متعاقبة من تاريخ الصين، حتى لقد صدرت عن بعض العروش الحاكمة «فرمانات» بمصادرة الكتاب، وتردَّد في بعض المصادر أنَّ نصوصًا بعينها أُقحمت بدل عبارات كانت تُثير أجواءً من الاضطراب؛ بل ربما كان التدخل في النص الأصلي متزامنًا مع فترة لمع فيها نجم منشيوس بشدة، خصوصًا إبان انتشار البوذية في الصين أواخر دولة خان؛ إذ رأى المؤمنون بالديانة الجديدة فيما طرحه منشيوس من نزوع الطبيعة الإنسانية إلى الخير ما يُساعد على تمهيد جسور الاتصال مع مقولات البوذية وهو ما مهَّد فيما بعد للاعتراف بما سُمي ﺑ الكونفوشية الجديدة، حتى ليُقال بأنَّ ازدهار الكونفوشية المثالية، في ذلك الزمان، كان حقيقته تجديدًا لأفكار منشيوس، ولعل جهود التبشير البوذي أخضعت من نصوصه — بالتأويل — ما صادف اتفاقًا مع مبادئها الروحية، أو ربما، أُلحق التأويل بالنص مثلما حدث في مناسبات أخرى كثيرة مع نصوص مختلفة!

وفي المحتوى الفكري للكتاب، نلاحظ أنَّ منشيوس — كغيره من فلاسفة الصين — يُمثل نموذجًا واضحًا لذلك الطراز الأخلاقي من المفكرين؛ ففلسفته تدور كلها حول الطبيعة الخيرة للإنسان (على عكس ثالث أقطاب الكونفوشية «شون تسو»، الذي يؤكد تأصُّل طبيعة الشر في البشر، ويؤكد أهمية التعليم في بث الاتجاهات الأخلاقية الطيبة عند الناس!) وعندما يتناول قضايا السماء والأرض، فإنَّ كل اهتمامه يتركَّز على ما يُمكن أن يسلك به الإنسان في الدنيا مع الآخرين من حوله، في المجتمع الإنساني الكبير، من تصرفات تهدف إلى الخير والفضيلة ونطالع، في مقولات منشيوس، عبارات تتحدَّث — مثلًا — عن: «إنَّ العاقل مَن استطاع أن يتعرَّف إلى طبيعة السماء بواسطة الإنسان» … أو ما إلى ذلك من إشارات بتعبيرات مختلفة، ولا بد — هنا — من ملاحظة أنَّ العبارة قد توحي بوجود نظرية معرفية ما تتناول مسائل تتجاوز حدود المجتمع الإنساني على الأرض، فإذا مثل هذا المعنى، أو حتى ظلال هامشية منه، فلا بد أن نتذكَّر — سيدي القارئ — دائمًا، ونحن نُطالع نصوص الفكر الصيني القديم مسألتين في غاية الأهمية (ولنقل، مبدأين مرشدين، في مطالعة الفلسفة الصينية عمومًا) تستحقان أن نوليهما قدرًا عاليًا من الانتباه، أولًا: إنَّ كل ما يتعلَّق بماهية السماء (أو ما وراء الطبيعة) لا يشغل موقعًا مرموقًا في اهتمام المذاهب الفلسفية الصينية القديمة كلها، بغير استثناء. ثانيًا: إنَّ مدار الأمر كله يتوقَّف على طرفي معادلة تبدأ بالإنسان وتنتهي بالمجتمع ككل، والاعتبار الأول للحشد الإنساني في مجتمع كبير؛ إذ الفردية ليست محل اهتمام كبير؛ ومن ثم فاستقصاء العدل، كخاصية اجتماعية، أهم كثيرًا من المقولات النظرية المعرفية بالمعنى الوارد في الفلسفة الغربية؛ فالحقيقة ليست غاية مهمة في الفلسفة الصينية بقدر ما تُمثِّله «الفضيلة» من مطلب ومسعى يستحق كل الاهتمام … (ولئن كان المثل الشعبي الدارج يقول بلسان العامة بأنَّ «الأدب فضَّلوه على العلم!» فضمير الجمع يعود تقريبًا إلى الصينيين في مقولة، ما، نريد بها تقريب المعنى … بنفس الدرجة من البساطة!)

والآن، وعلى ضوء هاتين النقطتين نستطيع، بكل سهولة، أن نفهم جوهر الفلسفة الصينية، ولا يبقى إلَّا أن نتكلَّم في تفاصيل.

وأوَّل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن قيمة ما قدَّمه منشيوس من أفكار، باعتباره ثاني اثنين في ريادة المذهب الكونفوشي كله، هو السؤال عن الجديد الذي أتى به هذا «القديس الثاني». صحيح أنَّه طوَّر وأوضح مفاهيم كثيرة جاءت مجملةً على لسان المعلم الأول، لكن أين تكمن بالضبط إضافته الحقيقية التي أعطته مكانته البارزة وقيمته التي لا تُنكر؟

واسمح لي، سيدي القارئ — وقد ترجمت كتابيهما، وتأمَّلت أقوالهما بكثير من الاهتمام — بالقول بأنَّ مناقشات كونفوشيوس مع تلاميذه كانت تهدف إلى التأمُّل والتعرف على حقائق الأخلاق والفضائل، بينما كان منشيوس حريصًا، طوال الوقت على الدفاع عمَّا يراه المبدأ الصحيح، وعلى نشر أفكاره وإقناع الناس بها بكل وسيلة ممكنة … وهو لم يقل، مرةً واحدةً، ولو من باب التواضع إنَّه قد يكون مخطئًا، أو أنَّ في كلامه ما يستحق المراجعة والتأمل، على عكس أستاذه، شيخه الأكبر. ومع ذلك، فقيمة ما أضافه منشيوس تتجلَّى فيما قام به من شروح وإضافات على جانب عظيم من الأهمية؛ من ذلك مثلًا: إنَّ كونفوشيوس كان قد دعا إلى الإيثار — وهو الأساس الأول للإنسانية — لكنَّه لم يقل لماذا ينبغي على الإنسان أن يسلك على هذا النحو، فلمَّا جاء منشيوس حاول تقديم إجابة، وفي معرض ذلك وضع أسسَ نظريةٍ حول الطبيعة الإنسانية الخيِّرة.

كانت إضافة منشيوس وقيمة أفكاره الإنسانية تتمثل في مقولة «إنَّ طبيعة الإنسان تنزع أساسًا إلى الخير»؛ لكنَّه لم يقل بالطبيعة الخيِّرة على نحو مطلق، فالإنسان أيضًا يشتمل على عنصر الشر (وهنا يُثار أيضًا تساؤل: ما دام الإنسان تنطوي نفسه على الشر، فلماذا لا نقول بأنَّ طبيعته تحتمل الخير والشر معًا؟) هنالك يُجيب منشيوس بأنَّ الخير هو العنصر الأساسي؛ لأنَّه نتيجة خالصة عن النفس، أمَّا الشر فهو «ناتج» اتصال أعضاء الجسم بالعالم الخارجي، فالنفس هي اﻟ «داتي» (الشأن الأكبر)، أمَّا أعضاء الجسم فهي اﻟ «شياوتي» (الشأن الأصغر)، ولكل الناس نصيب منها، لكن ما يُحدد طبيعة الإنسان هو الشأن الأعظم (ذو النفس الخيِّرة). وربما كان هذا هو أول اجتهاد في الفكر الصيني في تعيين وجود منفصل لكل من الروح والجسد؛ فمنشيوس صاحب ذلك التقسيم الثنائي، الذي تتغلَّب فيه المَلَكة الفعلية (للنفس الخيرة) على الجوانب السلبية بتغليب السلوك الأخلاقي (في شيء قريب مما قاله علماء النفس السلوكي بعده بزمان طويل!).

لكن منشيوس كان يعيش في مجتمع تتنازعه الصراعات السياسية بين الدويلات، وكان تجواله بينها يُبصِّره بكثير من الحقائق التي تبلورت لديه في مقولات فلسفية تتصل بالشئون السياسية، وقد قلنا من قبل إنَّ المجتمع الإنساني هو الطرف الآخر من معادلة تبدأ بالإنسان، فكانت نظرية منشيوس السياسية هي الامتداد الطبيعي والتطبيقي لأفكاره حول الطبيعة الخيِّرة.

من هنا، فقد اختمرت آراؤه حول الجانب الإنساني في السياسة، وكثيرًا ما كان يردد مقولتَي «طريق الحكماء الأقدمين»، و«طريق الطغاة المستبدين»، وهما تشيران إلى قاعدتَي سياسته الأخلاقية؛ فالقاعدة الأولى، تتمثل فيما انتهجه الحكماء القديسون من تغليب الجانب الخيِّر في الطبيعة الإنسانية؛ بينما القاعدة الثانية توضح فيما من سيرة الطغاة الذين فقدوا زمام طبائعهم تحت طوفان من إغراءات علاقات الواقع الخارجي.

كانت نظريته في السياسة الأخلاقية تضع مرجعية تقدير نجاح السلطة السياسية القائمة في يد أفراد المجتمع … أعضاء الحشد الإنساني الأكبر، الذي يُمثل قواعد المرجعية الأخلاقية التقليدية، فطبيعة المجتمع الإنساني هي الشاهد على المبادئ، ومجموع الحشد الاجتماعي هو الفيصل في إقرار قواعد الحكم الإنساني (ومثلما كانت أفكار كونفوشيوس تلقى ترحيبًا في أوروبا القرن السابع عشر، فقد كانت آراء منشيوس تُحدث دويًّا هائلًا في صفوف التنويريين الأوروبيين في القرن الثامن عشر، كلاهما كان له تأثره بنفس القدر … وعلى التوالي!)؛ بل إنَّ فكرة الإصلاح السياسي للدولة على النحو الذي ورد به في كتاب «المعرفة الكبرى» قامت أساسًا على أفكار منشيوس، لكن بصورة متطورة.

كان منشيوس يقول، مثل أستاذه، إنَّ المبادئ أربعة (الإنسانية، الأخلاق، العدل، الحكمة)، وأنَّ الحكمة لا تقوم إلَّا في قلب رحيم متواضع، يعرف الخير من الشر، ولكل إنسان نصيب منها جميعًا، تمامًا، مثلما أنَّ لكل إنسان قدمين ويدين، وهي مبادئ يُمكن تنميتها بحيث تصير جزءًا لا يتجزأ من العلاقات الإنسانية. ولئن كان صحيحًا أنَّ كونفوشيوس نصح باتخاذ الرحمة والفضائل سلوكًا أخلاقيًّا، إلَّا أنَّ ذلك كان داخلًا في حدود ما ينبغي على الفرد انتهاجه في نطاق علاقاته المباشرة بالناس من حوله، فلمَّا جاء منشيوس وسَّع نطاق التطبيق الأخلاقي ليشمل، في النظرية السياسية، حكم الممالك وإدارة الشئون السياسية. يبقى بعد هذا كله، ذلك الغموض الذي اكتنف مقولة منشيوس التي مفادها «إنَّ مَن يدرك كُنه طبيعته الذاتية تمام الإدراك يستطيع أن يعرف السماء»، وقد نوقش معنى هذه الفقرة في ساحات الفكر الصيني لمدة تزيد على ألف سنةٍ!

وكان قد طرح أيضًا مقولة أخرى نصها «أنا أهم الموجودات؛ فكل شيء في الدنيا موجود من أجلي أنا»، وهي مقولة غريبة على الفلسفة الصينية كلها. وربما كان الأساس النظري لرأي منشيوس قائمًا على فكرة أنَّ الكون هو الأخلاق، وأنَّ الطبيعة الإنسانية في جوهرها بالخير والفضائل ومن ثم، فمَن عرف طبيعة نفسه أدرك جوهره وعرف السماء، ومَن عرف السماء فقد تحوَّل من مواطن دولة إلى إنسان كوني عالمي، ومَن بلغ هذا الحد فقد عرف السماء (اتحد مع السماء) … وهي صياغة تبدو متأثرة بالبوذية إلى حد بعيد!

أمَّا السبب فيما أثير من جدل حول تلك المقولة فلعله يرجع جزئيًّا إلى ما يتبدَّى فيها من غموض أو خروج على صحيح الفكر الكونفوشي؛ فالاستبطان الذي يلمح إليه منشيوس من طرف خفي لم يكن من بين مناهج تلمس الحقائق عند الكونفوشية؛ بل إنَّ الشيخ المُعلم «كونفوشيوس» وصف التأمل الذاتي بأنَّه قاصر، وحثَّ تلاميذه على الاهتمام، والمشاهدة الفاحصة، والاختبار الدقيق لما يجري في العالم من حولهم.

بهذا القدر كانت إضافة منشيوس؛ وبهذا المعنى كان مختلفًا عن (وليس مع) أستاذه، ولو أنَّ الأجواء أملت ضرورة الاختلاف؛ فكونفوشيوس كان مؤسسًا، يحث على البحث والاطلاع، أمَّا منشيوس فكان مُريدًا ينشر ويقنع، الأول كان يُعِدُّ أجيالًا تواصل بعده المسيرة، أمَّا الثاني فكان رمزًا للجيل الذي أنيطت به مهمة الاستمرار، وكان تعدد المذاهب المتفرعة عن الكونفوشية، عاملًا من عوامل البحث عن الأصالة والتفرد، وكانت الوقائح المحيطة بمنشيوس، من صراعات سياسية ومذهبية، تدعوه للتصريح والكشف والتفصيل فيما أجمله أو سكت عنه كونفوشيوس.

لذلك، نأخذ على جوزيف نيدهام Joseph Needham وهو العالِم العلَّامة المتخصص في الشئون الصينية، وأحد أهم المراجع التي أنارت فكر العالم بشأن الصين خلال المائة سنة الأخيرة، ما قاله من أنَّ «منشيوس، وقد قضى معظم حياته في إسداء النصح لحكام ليانغ وتشي؛ فإنَّ تعاليمه لا تحمل من الجديد إلَّا القليل.» («موجز تاريخ العلم والحضارة في الصين»، الترجمة العربية، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٥٥م، ص١٤٠)، أيُمكن حقًّا، بعد ذلك كله أن يُقال إنَّ تعاليم منشيوس لم تحمل من الجديد إلَّا القليل؟!

وأرى أنَّ ذلك لن يصح أبدًا إلَّا بترجيح احتمالات تعرض نصوص الكتاب في مراحل تاريخية مختلفة للاضطراب؛ بسبب الزيادة أو الحذف أو التبديل أو إعادة الصياغة، وإلَّا فإنَّ الإقرار بصحة انتساب منشيوس للمدرسة الكونفوشية يفرض الإقرار بكل ما نما إلى علمنا من تفرده في تطوير الكثير من المبادئ الكلاسيكية الأصيلة، وبعد …

فهذه، فيما أظن، أول ترجمة لكتاب منشيوس إلى العربية، أو على الأقل، أول ترجمة من الصينية مباشرةً إلى العربية … ولا أدري كيف مرَّت السنوات الطوال وجسور الاتصال قائمة بين الحضارتين الصينية والعربية دون أن تتم ترجمة تلك النصوص الأساسية من التراث الكونفوشي! وحتى لو دريت، فلا أظنني أرضى إلَّا بأن تحظى المكتبة العربية، الآن، بعديد من الترجمات للتراث الصيني، وعلى قمتها النصوص الكونفوشية الكاملة، ولا أبالغ إذا قلت إنَّ بعضًا من هذه النصوص يحتاج أكثر من ترجمة (متزامنة أو متتالية، لا أقول ترجمة سبعينية، لكن ترجمة تُتيح عددًا من الرؤى والتصورات ومداخل الفهم، بمقدار ما يُمكن أن تُنتجه كل جهودها في النقل الترجمي من إضاءات للنصوص الأصلية، خصوصًا أنَّ طبيعة اللغة الصينية تسمح بذلك!).

ولا أظن أنَّ ترجمتي، مهما حاولت أن أبلغ بها من الدقة والإتقان، تكفي لإضاءة الطريق أمام القارئ العربي، طريق الوصول إلى مكامن المعنى … (والصين في الذهنية العربية، طريق سفر شاق وطويل)!

وأقول: إنَّ مثل هذه الترجمات قد تأتي، حتى قبل أن تتضح ظروف الاستفادة التامة منها؛ إذ ليس في جامعاتنا العربية (كلها، فيما أعلم) أقسام متخصصة في تدريس علم الصينيَّات Sinology، ذلك العلم قديم النشأة، الذي يهتم بدراسة مختلف جوانب الحضارة الصينية، قديمها وحديثها: تاريخها، وجغرافياها، وسكانها، ولغاتها، وثقافتها، وآدابها؛ بتركيز خاص على المحتوى الفكري والفلسفي، وهو أيضًا العلم الذي تجده مدرجًا في قائمة مناهج الدراسات المتعلقة بالشرق الآسيوي في معظم جامعات العالم.

وأزعم أنِّي أعدُّ إنجاز ترجمة عربية لعيون التراث الصيني واجبًا نحو القارئ العربي، تأكيدًا لقيمة الصلات الحضارية والإنسانية بين العرب والصينيين؛ بل بينهم وبين الإنسانية بأسرها؛ بيد أنَّ التراث الصيني — في معنى ما — جزء من ميراث الحضارة الإنسانية (ولا أخفي أنَّ شغفي الخاص بترجمة ومطالعة تلك النصوص يأتي من خلفية الاهتمام بالمدخل الأنثروبولوجي والنفسي لدراسة المجتمعات الثقافية كما هو وارد في مقولات «الوعي الجمعي» عند كارل ج. يونغ، ومرغريت ميد، وجوستاف لوبون … وآخرين، لكن تلك مسألة أخرى!).

وإذا كان صحيحًا أنَّ الكتب الأربعة قد تُرجمت إلى الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية، إلَّا أنَّ عددًا من تلك الترجمات لا يستحق أحبار الطباعة التي كُتبت بها، وكم وددت أن أشير إلى أخطاء لا يليق حتى بطالب في السنة التمهيدية للدراسات الصينية المتخصصة أن يقع فيها، فما بالك بأسماء لامعة مثل: جيمس ليغ James Legge، وآرثر ويلي Arthur Waley ، وجايلز Giles، وغيرهم، إلَّا أنَّ مثل هذا الجهد يستحق مقولات مطوَّلة، سأعرضها لاحقًا، كلَّما سنحت الفرصة.

ولا أستطيع القطع بأنَّ هذه النسخة من الترجمة خالية تمامًا من الأخطاء (فهناك اصطلاحات كثيرة ما زالت تحتاج للضبط، واجتهادات في النقل ما زالت في حاجة إلى الدقة)، وقد اجتهدت في ترجمتها، لكني حتى قُبيل دفعها إلى آلة الطباعة لم أجد في نفسي الرضا التام عنها، وأؤكد للقارئ بأنَّني كنت حريصًا على تقديم أفضل ترجمةٍ ممكنةٍ؛ باعتبارها مادةً للاطلاع العام لجمهور القرَّاء، ولذلك فقد حرصت ألَّا أقطع السرد بالإحالة إلى الهوامش؛ بل اكتفيت بأن أضع بين قوسين هلاليين ما كان يستقيم النص بقراءته مما وجدته في الشروح المصاحبة للمتن، وبين قوسين مربعين، وضعت ما وجدته مفيدًا لتوضيح المتن من مواد مضافة إليه من خارجه، ويستطيع القارئ — الذي لا يريد أن يشغل نفسه بقراءة ما بين الأقواس — أن يتجاوزها دون أن يجد اضطرابًا في تسلسل الأفكار وترابطها.

أمَّا نسخة الكتاب المترجَم عنها النص الأصلي، فهي مودعةٌ بمكتبة الألسن، جامعة عين شمس، بالقاهرة، تحت رقم ٦٩٨٣ (الصفحات من ٣٣٩–٦٥٤)، بيد أنِّي استفدت من الشروح المصاحبة لعدد من النصوص المنشورة في كثير من المواقع على شبكة الإنترنت العالمية، ويظل بإمكان كثير من الدارسين العرب، تقديم ترجمات أوفى وأفضل، من اللغة الأصلية مباشرةً، في المستقبل.

المترجم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤