المقدمة

في النسخة المحققة للكتب الأربعة، من التراث الصيني القديم، والتي أقوم بترجمتها إلى العربية يرد كتاب «المعرفة الكبرى» — برغم ضآلة محتواه، بدرجة تجعل منه مجرد رسالةٍ أو أُطروحة فلسفية قصيرة — في مفتتح المتون كلها. وهو، في الحقيقة، ليس كتابًا مستقلًّا بموضوعه، وإَّنما مجرد فصلٍ واحدٍ من فصول كتابٍ آخر قديم جدًّا اسمه: «كتاب الطقوس»، لكن هذا الأخير، هو أحد كتب التراث القديمة التي فُقدت تمامًا ولم يُعثر لها، حتى الآن (٢٠٠٨م) على أيِّ أثرٍ، سوى شذراتٍ ونصوصٍ متفرقةٍ مبثوثة في ثنايا كتب التاريخ أو السِّيَر والتراجم القديمة.

يرجع تاريخ كتابة نصوص «المعرفة الكبرى» إلى زمن «الدول المتحاربة» (٤٧٥–٢٢١ق.م.) وتم الانتهاء من كتابته إبان زمن توحيد الصين على يد دولة تشين (٢٢١–٢٠٧ق.م.) أو، ربَّما، بعد ذلك بوقتٍ غير بعيدٍ. أمَّا مؤلف الكتاب فغير معروفٍ، وإن كانت مادته تنتمي إلى التراث الفكري لما يُسمى بالمدرسة «الكونفوشية»، ويتطرق موضوعه إلى مبادئ متنوعةٍ تشتمل أساسًا على مجموعة رؤًى فلسفيةٍ ومبادئ نظريةٍ في الأخلاق، ووجهات نظرٍ في شئون المجتمع والسياسة والاقتصاد، كعادة النصوص الفلسفية الصينية، ثم هو بجانب كل ذلك، يُعد واحدًا من أقدم المقررات العلمية للدارسين الصينيين في مراحل التعليم العليا؛ حيث كان من المعتاد أن يلتحق أبناء القادرين والأرستقراطيين بالتعليم الأساسي عند تمام السنة الثامنة من أعمارهم، وبعد اجتياز تلك المرحلة من التعليم، التي كانت تتضمن معلوماتٍ أساسيةً في الثقافة العامة وفنون القتال، فقد كان لزامًا على الدارسين استكمال دراستهم العليا في الأكاديميات المتقدمة، فيدرسون فيها موادَّ تتعلق بالنظريات السياسية وشئون الحكم «… فقصارى ما يمكن أن يتطلع إليه الدارس الصيني القديم، في الفترة التي ظهر فيها الكتاب، هو أن يلتحق بالعمل في البلاط الملكي واحدًا من كبار موظفي القصر!».

والكتاب بأبوابه الأحد عشر، ينقسم إلى جزأين رئيسيين؛ أولهما: الباب الأول، بوصفه «المتن الأصلي» الذي يعرض للفكرة الأساسية التي يقوم عليها محتواه العام؛ أمَّا الأبواب العشرة الباقية فتُشكِّل جميعًا الجزء الثاني منه ويُطلق عليها «المرويَّات»؛ وهي عبارة عن مجموعة المتون التي تستفيض في الشرح والتعليق على الباب الأول، الذي هو النص الأساس كما أسلفت. وترتيب الكتاب بأبوابه وأجزائه من وضْعِ «جوشي»، وهو أحد أهم رواد «الكونفوشية الجديدة» «… ذلك الاتجاه الفلسفي الذي ظهر في زمن أُسرة سونغ الملكية (٩٦٠–١٢٧٩م)؛ حيث تساندت الفلسفتان الكبيرتان: الكونفوشية والطاوية في جبهة واحدة، بوصفهما عقيدة وطنية و«رسمية»، ذات قداسة، في مواجهة البوذية الوافدة من الهند!».

ولئن قلت إنَّ الكتاب ينتمي إلى ما يُسمى ﺑ «المذهب الكونفوشي»؛ فذلك لأنَّ أفكاره الأساسية مستقاة من التصورات الكلاسيكية للمبادئ «الإنسانية» التي صاغها كلٌّ من كونفوشيوس وتلميذه النجيب «منشيوس»، الذي جاء بعده بنحو مائة عامٍ من الزمان (والأحرى، أن نقول: المبادئ الأساسية التي استخلصها أو استنبطها كونفوشيوس)؛ لأنَّه — في الحقيقة — لم يضع أو يخترع شيئًا من عنده؛ بل كان واحدًا من جامعي التراث بوصفه مشايعًا للمدرسة الكلاسيكية، التي صارت تُنسب إليه فيما بعدُ، سواء داخل الصين أو خارجها، ولو أنَّ الصحيح أن يُطلق عليها اسم «المدرسة الكلاسيكية» أو «المذهب الفلسفي القديم» وهي ترجمةٌ أراها مناسبةً تمامًا لمصطلح «روجيا» كما عُرفت به في اللغة الصينية، قديمًا وحديثًا، وذلك بدلًا من التسمية الشائعة ﺑ «الكونفوشية» التي تقصر عن الوفاء بتأدية دلالات المصطلح علميًّا وتاريخيًّا؛ بل تبدو تسميةً محرَّفةً ومنحرفةً عن الطابع العام لفلسفةٍ عريقةٍ نشأت وازدهرت قبل مجيء كونفوشيوس نفسه إلى الدنيا بزمانٍ طويلٍ جدًّا.

وقيمة الدور الذي قام به تتمثل في أنَّه استطاع التعبير عن مضمون ذلك التيار الفكري القديم، وأنَّه نشر لواءه وساهم بنصيب ريادي في الدعوة إليه وتعميم مبادئه، ولو أنَّه كان يشعر في قرارة نفسه، ويتصرف وكأنَّه يُلبي نداءً سماويًّا يُطالبه بإيقاظ العقول، وأنَّه جاء برسالةٍ لتوعية البشر … مثلما كان سقراط يُفكر أيضًا بأنَّه مبعوث العناية الإلهية إلى أثينا للغرض نفسه؛ ولذلك، فليس صحيحًا أنَّ كونفوشيوس لم يتجاوز الادعاء بأنَّه مجرد ناقل للأفكار. وعلى أية حال، فقد بقي اسمه عَلمًا على أعرق اتجاه فكري في الصين، وإن كانت شهرته الآن تنتقل عبر ترجمات تصرُّ على إضافة علامة التذكير الصوتية إلى اسمه الذي أصبح يُنطق حسب قواعد اللغة اللاتينية، بالصياغة المشهورة في الدنيا كلها، لكنَّه — في اللغة الصينية — يُنطق هكذا: كونفوتس «… أو «كونزي»، وأحيانًا … «جوني»!»

لكن، ما الذي يقوله أو يتناوله كتابٌ صغيرٌ بهذا الحجم، لا يزيد على كونه مجرد رسالةٍ أو مقالٍ قصيرٍ؟ والإجابة — بإيجاز — أنَّ الكتاب يعرض لفكرة من التراث القديم، يُطلق عليها: المبادئ الأساسية الثلاثة (بالصينية: سان كانغ) والدرجات الثماني (بامو)؛ فالمبادئ الثلاثة هي: الخُلق الأزكى، الروح الوطني الجديد، الخير الأسمى؛ وهي أسس الخُلق الكريم التي يرى الكتاب أنَّ الإنسان — منذ الأزل — يتحلَّى بها على نحوٍ فطريٍّ، فإذا اندمج في المجتمع الإنساني الكبير، اندثرت تلك الأخلاقيات تحت ركام العلاقات اليومية، فيلزم عندئذٍ تجديد الصلة عن طريق تحصيل علوم «المعرفة الكبرى» لابتعاث كوامن الفضائل الدفينة، واستصراخ الضمائر وتجديد ما أصابته يد البِلى، وصولًا إلى تمام الخلق وفائق الخصال، وهكذا يبلغ المرء — بصيغة الكتاب — إلى الدرجات الثماني (البامو) وهي: التعلم من الطبيعة، إتقان المعارف، الإخلاص، استقامة الضمير، السلوك القويم، القيام على أمر العائلة، إصلاح أحوال الوطن، نشر السلام في ربوع العالم.

والأساس الذي ينبني عليه كل ذلك هو الالتزام بتهذيب النفس، على أنَّ الدرجات الأربع الأولى من «البامو» هي وسائل تحقيق ذلك التهذيب الذاتي المشار إليه؛ أما الدرجات الثلاث الأخيرة فهي الأهداف المطلوب بلوغها لتكتمل أركان التهذيب الذاتي.

ويرى الكتاب أنَّ التعلم من الطبيعة هو أهمُّ وسيلةٍ للرقي الأخلاقي وإصلاح النفس، وهي النقطة التي أيدها، بقوة، محقق التراث الكونفوشي الشهير «جوشي»، وهو الاسم الذي سنصادفه كثيرًا عند مراجعة الجهود النقدية التي تناولت أعمال المذهب الكلاسيكي بالتعليق والشرح والتفسير؛ حيث قدَّم تفسيرًا مبتكرًا لنظرية التعلم من الطبيعة، فحواه:

«… إنَّ الإنسان يملك مقدرةً باطنيةً على استكشاف ينابيع المعرفة والإلمام بمنطق الأمور كلها، إلَّا أنَّ معرفته في هذا غير تامةٍ؛ ذلك أنَّ المعرفة التامة تتطلب استكناه جوهر الأشياء عن قرب، والتعامل المباشر معها بواسطة التجربة الذاتية.»

ويُعلق بعض الدارسين الصينيين على هذا التفسير قائلين: إنَّ «جوشي» هنا، لم يفلح في تقديم تفسيرٍ يتطابق مع المغزى الأصلي لكتاب «المعرفة الكبرى»؛ ذلك أنَّ المغزى الحقيقي للكتاب يتناول المعرفة بوصفها الإلمام التام بدلالات الخُلق الأسمى، ومعاني تهذيب السلوك، وأصول المعاملات، «ولنلاحظ أنَّ الأساس الذي تقوم عليه الفلسفة الصينية هو «المجتمع الإنساني» وليس «الكون الطبيعي»، (وترجمة المصطلحات هنا، مثلما هي في باقي المؤلفات الكونفوشية، أحاول بها تقريب المعنى، فهي ترجمةٌ تفسيريةٌ، وإن لم تكن، بالضرورة، حرفيةً جامدةً)، فموضوع اهتمام الفلسفة الصينية، أساسًا، هو الإنسان نفسه وليس الطبيعة، وهذا أحد الفروق الجوهرية بينها وبين الفلسفة الأوروبية، وسأعرض لهذه النقطة بمزيد من التوضيح في مقدمة كتاب «الاعتدال»؛ حيث المناسبة أوفق والسياق أنسب …» وإذن …

فالتعلُّم من الطبيعة — حسب كلام «جوشي» — هو وسيلة تحصيل المعرفة، لكن الكتاب لم يكن يُشير إلى الطبيعة بوصفها الظواهر المادية القائمة في الواقع الموضوعي؛ بل كان يُشير، في الحقيقة، إلى السلوك الاجتماعي الذي يمارسه الناس في حياتهم اليومية، ومن ثمَّ فالتعلم من الطبيعة لا يعني استقصاء أصول الأشياء في واقعها الطبيعي، ولا دراستها والتعمُّق فيها؛ بل يعني التوسُّل ﺑ «الإخلاص» و«الاستقامة» واحتواءهما داخل معايير السلوك الذهنية، وهكذا لا تعود المعرفة المشار إليها تنصبُّ حول ملاحظة القوانين الموضوعية، وإنَّما تُركِّز — أساسًا — على الطُّرق التي يجري بموجبها استعادة الفطرة الأخلاقية الأولى التي جُبلت عليها نفوس الناس.

التعلُّم من الطبيعة، في جوهره، يعني دعوة الناس إلى مناهضة الميول والرغبات الأنانية، والتخلي عن مشاعر الخوف والقلق سعيًا إلى تهذيب الأخلاق والارتقاء بالفضائل؛ ليتحقق الترابط المنشود في مادة تهذيب النفوس بين الأفراد بعضهم وبعض وبين السلطة الحاكمة، وهنا يتضح الدور المهم الذي يلعبه التهذيب الخلقي في تطور المجتمع.

ويجدر بالذكر، هنا، أنَّ الترجمة أوردت نصوصًا مصحوبةً بشروح «جوشي» بين قوسين مربعين، على النحو الذي وردت به في الأصل، وكان هذا الفقيه الكونفوشي قد أضاف إلى النص ملاحظاتٍ متفرقةً، واستكمل الباب الخامس من «المرويَّات» وأوضح الكثير من معميات المتن.

ويؤكد كتاب «المعرفة الكبرى» على أهمية حماية نظام المجتمع العشائري، باعتبار أنَّ الرباط الأسري والعشائري ذو أهمية بالغة في إقرار السلام في ربوع الممالك (أي على الأرض، في كل أنحاء العالم!) وفي هذا المجال، فالكتاب، وكالمعتاد في التراث الصيني القديم، يدعو إلى الطاعة والبر بالأهل والتعاون والتكافل بين الإخوة؛ فذلك هو الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الحميمة، وهو القاعدة التي تستند إليها كل الاعتبارات الأخلاقية التي تدعم أواصر العلاقة الطيبة بين العرش الحاكم، في الصين القديمة، وبين رعاياه، وهي علاقة تقوم على أساس الرباط العشائري، فكأنَّ الجميع بيتُ عائلةٍ كبرى، لها عميدها الأكبر، ورجالها الذين هم أعوان جلالة الملك ورجاله.

والكتاب وثيقةٌ تاريخيةٌ، بجانب كونه مدونة فلسفية؛ لأنَّه يُعد محاولةً تنظيريةً لتصور مبادئ وأسس يقوم عليها الحكم السياسي لنظام إقطاعي كان يتلمَّس طريقه إلى الوجود في ذلك الزمان البعيد؛ بحيث يصير الحاكم رمزًا للتقاليد الأخلاقية الراسخة، بوصفه المثل الأعلى والقدوة النموذجية في بناء أخلاقي يقوم على أساس أنَّ جلالته «… يُبجِّل كبار السن، ويحنو على الصغير والضعيف، والجائع والمحروم، يمنع ويمنح، بيده الخير، ومع ذلك فهو يَقدِر على الإيذاء وفعل الشر، لكنَّه في كل الأحوال، هو الأب الحامي والأخ الحاني على شعبه وعشيرته، وهو — برغم ما يتحلَّى به من رقة ورحمة — لا يلين حتى تذهب هيبته، وهو، مع القسوة، يعرف الحدود المعقولة التي ترده عن التنازع مع شعبه.»

ونحن إذ نقدِّم هذا الكتاب إلى القارئ العربي، مساهمةً في تعزيز جسور الصلات الحضارية بين الصين وثقافتنا العربية (الرائدة في التعرُّف إلى الصين، وفي رصد الملامح الإنسانية والثقافية لتلك الحضارة العريقة) فإنَّنا — وضمير الجمع هنا للاستئناس بروح الجماعة — على ثقة من أنَّ القارئ الكريم سوف يُطالع هذا النص على ضوء الظروف التي أنتجته، وحسب السياق الفكري والاجتماعي الذي ظهر فيه، ووفق ملابسات وعوامل رافقت دواعي تدوينه؛ ولئن كانت أفكار الكتاب تشتمل في أجزاء منه على ملامح وعي واستنارة وتفوق بارز، فهي في معظمها لا تزيد على مجرد اجتهاد نظري، في حدود زمان مرَّ وانقضى، وزمن صارت بقاياه عروضًا مَتحَفِيَّة، وعصر كان فيه هذا الكتاب أحد المقررات الدراسية للطلبة والدارسين، ثم تحوَّل إلى رؤية فلسفية دشَّنت دخول الصين إلى عهد طويل من الإقطاع «مع ملاحظة أنَّ شيئًا من تلك الأخلاقيات التي يدعو إليها الكتاب لم يتحقَّق أبدًا، لا في عصور الإقطاع، ولا في غيرها!» لكنه كغيره من المؤلفات التراثية والمتون الكلاسيكية، أدعى للمراجعة النقدية باعتباره وثيقة تاريخية تستحق الدراسة والتأمل، بمثل ما تثير الشك أيضًا «فالمؤلف مجهول، والمحققون وبعض الدارسين ينسبون مثل هذه النصوص القديمة، عمومًا، إلى أكثر من مؤلف، وعبر عصور متتالية، وبأقلامٍ كثيرة تداولتها حذفًا وإضافة وتعديلًا!».

وإذا كانت الكلاسيكية الصينية (الكونفوشية … يعني) قد ارتفعت فوق هامة الصين تاجًا من الحكمة والأخلاق، والإنسانية والعدالة، فقد تحمَّلت، على مر العصور، أوزار النكبات ونُسبت إليها كل ألوان النقائص؛ فقد اتهمتها الفلسفة الموهية بالكفر والإلحاد، وحمَّلتها الطاوية مسئولية الفساد والانحلال باسم الأخلاق «وفي ظنِّي أنَّ الصين ما كانت لتتصالح — طوال تاريخها، وحتى العصر الحديث — مع الكونفوشية، إلَّا لأنَّها تحفظ ميراثها الأقدس من قديم، ألا وهو تقديس وتبجيل الأحفاد للأجداد، واحترام أهمية ومكانة وروح الأسرة وتقاليد العشيرة؛ ومع ذلك فكثيرًا ما كانت الكونفوشية وبالًا على الصين وسببًا لكثير من المحن!».

وبينما كانت البوارج الإنجليزية تحيط بسواحل جنوب الصين في القرن التاسع عشر الميلادي، وتفرض عليها تجارة الأفيون، وتصادر حقها في السيادة، كان رجال القصر الإمبراطوري يتذرعون بالمسلك الكونفوشي القديم، معتصمين بالمبادئ وأصول المعاملات، تحدوهم الثقة بأنَّ أية قوة في العالم كله لن تجسر على خرق مبادئ العدل والإنسانية التي أقرها كونفوشيوس.

وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ إنجلترا تجاسرت وهدمت الصرح الكونفوشي، الذي كان يظن بأنَّه منيع، واستولت على هونغ كونغ، التي ظلَّت تحت الاحتلال حتى بضع سنوات مضت.

وكانت صدمةً لم تُفِق منها الصين إلَّا مع مطلع القرن العشرين؛ حيث طلعت عليها شمس الحضارة الحديثة واستضاءت جنباتها بأنوار المدينة. «قيل في تفسير سقوط الصين تحت الاحتلال، إبَّان حرب الأفيون، أسبابٌ ثلاثة — متناقضة:
  • (١)

    إنَّ التخلي عن التراث المحافظ القديم هو سبب هذا السقوط وليس التراث نفسه.

  • (٢)

    إنَّ الثقافة الصينية العريقة لم تخذل أهلها، لكن كان ينقصها التلاؤم مع روح العصر.

  • (٣)

    إنَّ التراث القديم والمواريث الكونفوشية وأنماط التفكير والحياة وواقع الصين المتردِّي، ذلك كله كان هو السبب في الكارثة التاريخية!».

وعندما خرجت مظاهرات الطلبة من الجامعات الصينية فيما عرف باسم حركة الرابع من مايو ١٩١٩م كان هتافها الرئيس ينادي بالعلم والديمقراطية، وبإلغاء تدريس الكتب والمؤلفات الكونفوشية، تلك التي كانت تَعُد التمرد والثورة والعصيان من المحرمات تحريمًا قطعيًّا. وشاع — وقتئذٍ — تصور لدى المستنيرين يرى أنَّ تطور البلاد وخروجها من مأزق التخلُّف كان مرهونًا بنبذ التقاليد الفكرية الكلاسيكية، التي لم تفلح في إمداد الصين بما كانت تحتاج إليه من وسائل الوعي بحقائق التطور في الدنيا كلها. «الطريف، أنَّ البعض من أعضاء اللجان المنظمة لاحتفالات أوليمبياد بكين ٢٠٠٨م عرضوا اقتراحًا بإقامة تمثال لكونفوشيوس فوق مسرح الاحتفالات وسط ساحة العرض الرئيسة، باعتباره الرمز التقليدي للحضارة الصينية!» … ولكن، عندما يحين موعد الاحتفال سنة ٢٠١٩م بمناسبة مرور قرن من الزمان على أكبر وأهم حدث في تاريخ الصين الحديث — بعد الأوليمبياد — ألا وهو الانقلاب الجذري في تاريخ الثقافة الصينية، فيما أُطلق عليه حركة الرابع من مايو؛ ستتجدد ذكرى تلك المرحلة في تاريخ أمةٍ عريقةٍ، وهي المرحلة التي عبَرت فيها الصين إلى ساحات العصر الحديث لتُخلِّف وراءها ظلام الكونفوشية بمعابدها ومراسمها وطقوسها العتيقة، وهي أيضًا المرحلة التي توقَّفت فيها أكاديميات التعليم الراقية عن مطالعة الكتب الكلاسيكية لتقرأ كتبًا أخرى حملت أسماء روَّاد عصرٍ جديدٍ: داروِن، نِيتْشه، ك. ماركس، إنغلز، فرُويد … إلخ.

لم تنبذ الصين ميراثها الفكري، لكنها ارتفعت بالتطور فوقه، وراحت تسلِّط عليه من الوعي الجديد كشافات تُضيء بها جنباته ذات الملامح التقدمية، ولعلَّ قراءةً مستبصرةً تكشف في تضاعيف المتون زوايا متفرقة تحمل وعيًا ما بحقائق التطور.

وأتمنى أن يكون قد حالفني التوفيق في ترجمة هذا الكتاب وفي غيره من كتب التراث الصيني، وبالطريقة التي تُساعد على التواصل مع محتويات الكتب الفلسفية الباقية من ذلك الميراث القديم، ولَكَم تمنيت أن تُساعد هذه الترجمة، مع غيرها، من الترجمات لعُيون الفكر الصيني في استكشاف دروب غاصت، منذ زمانٍ سحيقٍ، تحت ركام السنين وتكلَّست بدفائنَ في ماضي الوعي، وما زالت خطوطها وعلاماتها الغائرة تحمل أسرار تاريخ طويل من مسيرة العقل الإنساني عبر مراحل تطوره في أقصى الشرق القديم.

المترجم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤