الاعتدال

١

ما حازت «الطبيعة» اسمًا إلَّا بما أفاضت عليها السماء من أسماءٍ، وما صار «الطريق» طريقًا، إلَّا لأنَّه حذا حذو الطبيعة.

وليس طلب العلم إلَّا السعي على هدى الطريق، واستقصاء أسراره.

ليس للسائر أن يزل عن جادة الطريق طرفةَ عينٍ؛ فمَن حاد به الدرب، وزاغت منه الخطوات، فلا طريقًا مشى، ولا مشى به الطريق؛ فمن ثمَّ وجب على العاقل أن يلزم الحذر، حتى لو توارى عن أعين الرقباء، وليتجنب الهفوات [يعصم لسانه من الزلل]، حتى لو تناءى عنه السامع، وصُمَّت دونه الآذان.

لا تتسلط الأضواء إلَّا على أحلك المكامن، ولا يتعرَّى تحت شعاع النور إلا أشد البقاع ظلامًا.

ليس أظهر للعين من كمين منصوب في الخفاء، ولا يتجلى لنظر الرقيب سوى ما توارى — بِدَهاءٍ — في الزوايا والأركان؛ ولذلك، فينبغي للعاقل ذي الكياسة أن يتبصَّر الأمور، ويلزم جانب الحذر حتى وهو في كنَف العزلة، منفردًا بنفسه عن الدنيا كلها مِن حوله.

عندما تتوارى طي الجوانح بهجة الفرح، وسَوْرة الغضب، ومرارة الألم، ولذة السرور، فذاك هو حال «الاعتدال»، وإذا تبدَّت أمارات تلك الأحوال على نحوٍ ملائمٍ ومعقولٍ، فذلك هو ما يُطلق عليه «المواءمة»؛ فالاعتدال هو أصل كل الموجودات [التي تحت السماء]، والمواءمة هي المبدأ النافذ في أنحاء الكون كله، وحينما تبلغ الأمور جميعًا حد «الاعتدال والاتفاق»، وينبسط بساط الأرض، وتسمو أقطار السماء، [تلزم الأرض موضعها، والسماء قباءها] ويفيض الوجود على الكائنات حياةً ونماءً وفيرًا.

[ذلك هو الباب الأول، وقذ ذكر فيه «زيس» — أحد روَّاد الكونفوشية — بعض أقوال وآراء كونفوشيوس، على سبيل الاستدلال بالحجة والبرهان، زاعمًا أنَّ للطريق صفاتٍ سماويةً أوليةً لا تتبدَّل، وأنَّ جوهر معناه قائم في نفوس الناس، مرتبط بها أشد الارتباط، ثم يتطرَّق من هذه النقطة إلى مسألة «تهذيب النفس وترويض الذات»، وصولًا إلى تبيان حدود «الرياضة الذاتية المقدسة» التي تهدف إلى محاسبة الذات؛ بغرض التعرُّف على اتجاهات الطريق «الصحيحة والكامنة في دفائن النفس، وكشفًا وتمكينًا لما هو فطري وأصيل من التحقق والتبدي، ونبذًا لكل مكتسبٍ أو زائف أو مشحون بالغواية والتضليل. فهذا الباب — على حدِّ تعبيرِ السيد يانغ — هو المبدأ الأساسي الذي يُلخِّص الأفكار الأساسية التي ستدور حولها الأبواب العشرة التالية، والتي تُمثِّل، في الحقيقة، استطرادًا من المؤلف «زيس» في التعليق والشرح والتوضيح».]

٢

قال جوني [كونفوشيوس]: «العاقل يلزم حد الاعتدال، وذو الجهالة يتناءى عنه، فالعاقل يهتدي بما قد تحقَّق [في طبعه المعهود] من طلب أوسط المسالك وأنسب الغايات، وما كان الجاهل ليصد عن الاعتدال إلَّا بما اقترف من البطش والتغفل وقلة الاحتراز.»

[ذلك هو الباب الثاني]

٣

قال كونفوشيوس: «قد بلغ الاعتدال من البهاء مبلغًا عزَّت به جنباته، وارتفعت به فوق سامق المجد عروشه، حتى صار النفر القليل من الناس هم فقط الذين يُخْلصون لمبادئه ويثابرون على الاسترشاد بمنهاجه.»

[ذلك هو الباب الثالث]

٤

قال كونفوشيوس: «لئن شقَّ المسير على طريق الاعتدال، فلِأنَّ الأذكياء النابهين يتجاوزون فيه المدى، في حين ينكص الحمقى عن بلوغ غاية الشوط، ولئن تحوَّل عنه جلُّ السائرين، فلأنَّ الحكماء قد سبقوا به كل الخُطى، ولمَّا يزَل الجهلاء في بدء الارتحال إليه. ليس في البشر إلَّا مَن قد طعِم الطعام، وشرب الشراب، لكنَّ قليلين جدًّا أولئك الذين ساغت لهم النكهة وطاب لهم المذاق.»

[ذلك هو الباب الرابع]

٥

قال كونفوشيوس: «لا أجد لمذهب الاعتدال بين الناس أتباعًا، ولا أتوقَّع أن يجد هذا المذهب نصيبًا من الذيوع والانتشار.»

[ذلك هو الباب الخامس]

٦

قال كونفوشيوس: «ألم يكن الإمبراطور الأعظم «شون» فطِنًا ذكيًّا؟ [بلى قد كان، وبرغم هذا فقد اشتهر بأنَّه كثيرًا ما …] كان مولعًا بالاستفهام والسؤال عمَّا كان يعنُّ له من أشياء، ولم يكتفِ بأن يتلقى الإجابات؛ بل كان يُمحص ويُدقق ويستوثق، حتى في أبسط ما يتفوه به من كلمات؛ ثم لم يكن يتحدث إلَّا بما يُقيل به عثرة المخطئ، أو يثني به على مروءة الماجد. وعندما اجتمع في قبضته أقصى طرفي الخير والشر، نبذهما كليهما، واختار الحد الأوسط والمأخذ الأوفق وسيلةً لتحقيق النفع للناس والنهوض بما فيه مصلحتهم، فمن ثمَّ كان جديرًا بما حفظه له التاريخ من مجدٍ باقٍ على طول الزمان.»

[ذلك هو الباب السادس]

٧

قال كونفوشيوس: «الجميع يزعمون بأنَّهم نابهون أذكياء، ومع ذلك تجد مَن يقودهم [بأيديهم!] للوقوع في شَرَك ماكرة، لا يستطيعون تفاديها، ولا التبصر بمكامن أغوارها، الكل يرددون أنَّهم فاهمون ونجباء، وبرغم ذلك فإنَّهم يكادون لا يثابرون على المضي قُدمًا في طريق الاعتدال شهرًا واحدًا، حتى بعد أن تتبيَّن أمامهم ملامح الطريق ويشاهدون بأعينهم أوضح معالمه.»

[ذلك هو الباب السابع]

٨

قال كونفوشيوس: «كان «يان هوي» — أحد الأتباع — من ذلك الصنف من الناس الذي إذا رسخت خُطاه على طريق الاعتدال وثق قلبه بعهد المسير، وتوطدت في نفسه مشاهد اليقين، فحفظ الإيمان به مثل خصلة كريمة، أو طبع راسخ في جوهر الصفات، لا يضيع ولا يتبدَّل.»

[ذلك هو الباب الثامن]

٩

قال كونفوشيوس: «قد تنصاع الممالك للحُكم العادل، ويعمُّ النظام ربوع الدويلات والأقاليم، وقد تعف النفوس النبيلة عن قبول المنح والأوسمة والترقيات، ويتواضع الأَكْفاء ويشيح الفضلاء بأنظارهم عمَّا يُبسط لهم من موائد التكريم، وربما يقتحم الشجعان أبواب الرَّدى، ويطأ البواسل أسِنَّة الرماح في مشاهد من الشجاعة النادرة، لكن هيهات أن تقوم شواهد الاعتدال.»

[ذلك هو الباب التاسع]

١٠

أقبل «زيلو» على كونفوشيوس، وسأله عن معنى القوة، فأجابه: «أيَّة قوةٍ تقصد، ومن أيَّة ناحية: أهي القوة الجنوبية أم الشمالية.

أو القوة التي تضبط بها نفسك وتُزكِّي بها إرادتك؟ «على أيَّة حالٍ فاعلم أنَّ …» رجاحة العقل والحلم، والهداية بالحسنى، والصبر على مَن أساء إليك؛ كل ذلك من سمات القوة الجنوبية؛ فالعاقل مَن وطَّن نفسه على الأخذ بمفهوم تلك القوة، فإذا اخترت لنفسك أن ترقد على فراش من درع وسيف، ووسائد من رماح ونصال مُشْرَعة، فتبيت بعَتاد المقاتل، وتموت، إذا مت، غير آسفٍ ولا نادمٍ على شيء؛ فتلك هي القوة الشمالية، وهي ما يبتغيه كل قويٍّ جريء غير هيَّاب، فمن ثَمَّ كان الماجد الفاضل ليِّن الجانب من غير ضعف، متسامحًا دون خوفٍ.

وما أنبل القوة حين يكون التوسط بغير مَيل، والاعتدال دون شطط، وما أكرمه من عزم حين يكون هذا العزم سندًا للحق والأحوال رخاء، ما أبقاها من صلابة عندما تثبت إرادتك وتصمد في وجه الموت نفسه، حينما تعم الفوضى وتضل الأهواء، وتختلط الجهات، ويفقد الطريق الاتجاه، فتتفرق السُّبل في كل طريق.»

[ذلك هو الباب العاشر]

١١

قال كونفوشيوس: «إنَّ التفقه في الأمور الباطنية [السحر، التنجيم] والإتيان بالغرائب والخوارق (صنع العجائب)، يمكن أن يلقى الانبهار والإعجاب في قادم الأيام، عند أجيال المستقبل، لكنني لن أشغل نفسي بشيء من ذلك.

إنَّ العاقل مَن سار على هدى الطريق، والتزم جادة الصواب «وسأضع هذا الأمر نُصب عينَيَّ»، فلن ألتفت إلى مَن يتوقفون أو يتراجعون في منتصف الرحلة، ولن أتوقف؛ بل سأكمل وأواصل المسير.

إنَّ الفاضل مَن راض نفسه على نهج الاعتدال فقَبع في بيته، اعتزل الدنيا؛ فلم يُصِب مغنمًا ولا جاهًا، وهذه درجةٌ لا يبلغها إلا القديسون.»

[ذلك هو الباب الحادي عشر]

١٢

طريق العاقل واضح المسالك، واصل إلى المنتهى، لكنَّه، وبرغم ما اكتنف جنباته من أسرار، لا تخفى أدقُّ دروبه عن كل السائرين من رجال ونساء (من العامة) إلَّا موضعًا شريف الخُطى، لا يهتدي إليه سوى القديسين الحكماء.

يستطيع كل الناس الاهتداء إلى طريق العارفين الحكماء، دون أن يكون لهم نصيب من الحكمة، أمَّا المرتقى الأشرف من الطريق، فتدِق أسراره وتخفَى منعرجاتُه حتى عن أفطن العلماء والقديسين.

قد اتَّسعت أقطار السماء ورَحُبت مواطئ الأرض، وما زال بين الناس الطامع والمنهوم، «ومن ثم» فإذا وصف الفاضل الحكيم شيئًا ما بأنَّه «عظيم»، فلا بد أن يكون قد بلغ درجة لا تحدُّها حدود، في الأرض أو في السماء، وكذلك إذا قال عن شيء بأنَّه «ضئيل» فربما كان الشيء قد تناهي ضآلةً، فما عاد له منظر مرئي، أو حيز معلوم. وقد جاء في كتاب الشِّعر القديم ما نصه:

«تأبى النسور إلا أن تحلِّق عاليًا،
والفضاء مشهد معراج سماوي أعلى؛
 [بينما] تتسابق الأسماك
إلى أعماق سحيقة،
والبحر عالم مديد الأرجاء …
بغير قاع …»

والمعنى هنا يُشير، بالرمز، إلى ما يتسم به طريق الحكيم العاقل من جلال ووضوح، مع رحابة وبساطة، بما يشبه شموخ البُزاة وهي ترتقي أجواز الفضاء على مرأى من كل عين ناظرة؛ فكأنَّ طريق الحكماء يبدأ، في أول خطواته، سهلًا بسيطًا يدركه السائر عند موطئ قدميه، ثم يتدرج في معارج الرُّقِي حتى يبلغ عنان السماء.

(هذا هو الباب الثاني عشر، وهو من وضع «زيس» (أحد رواد الكونفوشية) … وفي هذا الباب، يحاول أن يوضح معنى ما ورد في الباب الأول بخصوص الالتزام بأُسُس المنهج الأصلي، خاصةً ما يتعلق فيه بوجوب التقيد بالمبادئ الصحيحة، حيث ينصح السائر بضرورة اتِّباع «جادة الصواب»، مستندًا، في ذلك، إلى شواهد وبراهين مما قاله كونفوشيوس بنفسه في هذا المضمار).

[ذلك هو الباب الثاني عشر]

١٣

قال كونفوشيوس: «إنَّ طريق الاعتدال لا يُقصي أحدًا عن مساره، فإذا ضلَّ الطريق طالب المنهاج القويم، حاد به الدرب، فلم يكن ذاك هو الطريق، وقد ورد في كتاب الشِّعر القديم ما نصُّه:

«اقطع الأعواد الجافة،
وانحت من الحطب مقابض للفئوس،
ضع في كل مقبض فأسًا صغيرة،
وتأمَّل الطريقة؛
فليس هناك سوى طريقة واحدة
لعمل آلاف المعاول.»

لكن جرِّب أن تأخذ فأسًا، لتقطع أعواد الحطب، التي تصنع منها مقابض للفئوس، وانظر بعين فاحصة، تجد الطرائق شتى، والفروق بغير حصْرٍ «ولنتدبر مليًّا، وبالمنطق نفسه، مهمة الحكيم ورسالته التي تنحصر في …» تطبيق المبادئ الإنسانية التي تنطوي عليها مفاهيم «طريق الاعتدال» في تدبر شئون الناس وإصلاح أحوالهم؛ حتى إذا ما اعتدل ميلهم، تمَّت مهمته واختتمت كلمته. مع مراعاة أنَّ «الإخلاص» و«التسامح» يندرجان في قائمة المبادئ وثيقة الصلة برسالة الاعتدال؛ ومن ثَم، فلا ينبغي أن نفرض — قسرًا — على الآخرين، ما لا نحب أن يجبرونا عليه، (وفي هذا الصدد) فإنَّ هناك أربع علامات على طريق الاعتدال ينبغي للعاقل أن يتدبرها، ويواظب على التخلق بها، ولا أزعم أنِّي استطعت تحقيق هذا المبدأ على الوجه الأكمل الذي يتطلب: أن يُعامل المرء أباه بمثل ما يود أن يُعاملَه به ولده، وأن يُعامل رجل الدولة المتنفذ جلالة الحاكم بمثل ما يريد أن يعامله به الوزراء والمساعدون، وأن يُعامل الرجل أخاه الأكبر بمثل ما يتمنى أن يعامله به أخوه الأصغر، وأن يُعامل المرء أصدقاءه بمثل ما يرجو أن يعاملوه به.

إنَّ المبادئ الطيبة، مهما كانت عاديةً وبسيطةً، فيجب أن تكون موضع تطبيق؛ أمَّا الكلمات، فمهما كانت مألوفة فينبغي أن تخضع للتأمل والمراجعة «ومع ذلك …» فإنَّني لم أستطع أن أفي هذه المبادئ حقها؛ فلذلك أسعى جاهدًا لتعويض ما فاتني منها. وحتى إذا كان في مقدوري أن أرأب الصَّدع وأسُد الثغرات، فلا أظنني أستطيع تبيان دلالة تلك الكلمات وصولًا إلى غاية القصد وتمام المعنى.

«وهكذا …» فالكلمات مرهونة بالأعمال، مثلما أنَّ العمل مشروط بما يبين من معاني الكلمات، فكيف للعاقل (والأمر على هذا النحو) أن يحيد عن الصدق والإخلاص؟!».

[ذلك هو الباب الثالث عشر]

١٤

إنَّ العاقل الحكيم يقوم بأعباء مسئولياته في نطاق الوقت والمكانة والمناخ المتاح له، وعليه أن يرد نفسه عن الانشغال بما يقع خارج ذلك المجال، فإن كان غنيًّا ذا ثروةٍ وجاهٍ أو أي مطمح آخر، فليفعل ما ينبغي للغني أن يفعله، وإن كان مُعدمًا ذا فقر وفاقة، فليتصرف حسب ما ينبغي للفقير في هذا النطاق. وإن كان مقيمًا — في حيز وقته وظروفه وإمكاناته — وسط قبائل همجية، فليعمل ما ينبغي على المقيم وسط أولئك أن يعمله، فإذا أحدقت به المتاعب ومنغصات العيش، فلينظر فيما يتوجب على من أحدقت به البلايا أن يفعله.

وأيًّا ما كان الحال التي يمر بها الماجد الكريم، فلا ينبغي أن يكون هناك ما يعوقه عن أن يتصرف في هدوء وبساطة دون تكلفٍ؛ فإذا كان وجيهًا فلا يحتقرنَّ مَن هم دونه، وإن كان وضيعًا فلا يتمسحنَّ بأذيال ذوي القدر الشريف، وليصلح المرء من شأن نفسه دون إلقاء التبعة على الآخرين، وحينئذٍ تنمحي من النفوس أسباب الاستنكار والشكوى. ولا يعود ثمة مرموقون يشتكون أقدار السماء، ولا مغمورون ينددون بظلم البشر.

فمن ثَم ينعم العاقل بوقته هانئًا يتأمَّل صفحة أقداره، بينما يخوض الأحمق في مسارب الغفلة والخطر، ويُمنِّي النفس (برغم ذلك) بكل السعادة والخير والحظ الطيب. قال كونفوشيوس: «إنَّ أخلاق السادة المهذبين أشبه ما تكون بآداب الرماية؛ ذلك أنَّه ما طاش السهم عن قلب المرمى، وعاد الرامي يُراجع نفسه ويصحح وجهته ليصوِّبَ من جديدٍ.»

[ذلك هو الباب الرابع عشر]

١٥

السالك في طريق الاعتدال كالمسافر في رحلة بعيدة؛ حيث لا ينبغي له أن يبدأ الترحال إلَّا عند أقرب نقطة من الطريق «وإنَّ السائر في طريق الاعتدال» كالمتسلق جبلًا عاليًا، فلا ينبغي له أن يشرع في الصعود، إلَّا عند أسفل موطئ قدم.

وقد جاء في «كتاب الشِّعر القديم» ما نصه:

«… ترفرف السعادة فوق أفراد عائلة متحابَّة،
كصوت أوتار متآلفة،
أو رنة عيدان متناغمة،
ما أسعد إخوةً متآزرين،
قلوبهم عامرة،
وأرواحهم صافية،
ما أجمل أن تكون لك أسرة هانئة،
وشمل عائلة موصولة بالسعادة.»

قال كونفوشيوس (مستطردًا): «بهذا، يتحقق رجاء كل أب وأم.»

[ذلك هو الباب الخامس عشر]١

١٦

قال كونفوشيوس: «ما أعظم عالَم الروح، وما أدقَّ طلاسمه واحتجاب أسراره؛ فلا هو شكل يبصره البصر، ولا هو صوت تدركه الأسماع، «فهو عالم الروح الذي» خلق المخلوقات كافةً، وأنشأ كل حي، فلم يغفل عن أحد ولا أهمل شيئًا، قد أوجب على البشر طهارة القلب من الإثم بالموعظة، وإمساك الفم عن الطعام بالصوم، وارتداء أجمل الثياب لأداء الشعائر وإقامة أزكى وأبهى الطقوس والمراسم «حتى شملت الروح دنيا البشر من كل صوبٍ، فكانت …» تحيط بهم من فوقهم وعن شمالهم ويمينهم. وقد ورد في كتاب الشِّعر القديم ما نصُّه:

«ما من أحد يحيط علمًا بموطئ الروح،
«ومع ذلك» فهل هناك حقًّا …
مَن يملك أن يتجاهل قدرها؟»

وهكذا، فلا يمكن إسدال حجاب الغفلة فوق معدن الإخلاص، بعد إذ خرجت مادة وجوده من خفاء الغيب إلى ساطع المشهد المبين.»

[ذلك هو الباب السادس عشر]

١٧

قال كونفوشيوس: «ما أكرم أخلاق الملك الحكيم «شون» وما أعظم سجاياه؛ فلا غرو أن يُضرب به المثل في الوفاء والإخلاص، قد كان ملكًا وقديسًا؛ ففاز ببهاء المُلك وأنوار الحكمة، ملأت خزائن أمواله ما بين البحور الأربعة «من أقصى الأرض إلى أقصاها»، وغمرت قرابينه كل المعابد، وصار ذلك دأبه، حتى جاء أولاده وأحفاده على شاكلته، فأكملوا مسيرته وحافظوا على أمجاده، فخلد ذكره على مرِّ السنين؛ فمن ثم كان لزامًا أن يتبوأ الماجد الأكرم مكانةً رفيعةً، وأن تكون له العزة والجاه والمال الوفير، وكان حتمًا أن يصيب شهرةً ذائعةً، باقيةً على مرِّ الأجيال.

ولذلك، كانت السماء عندما أنبتت الأشجار والأوراق والزهور، قد حفظت للأشياء طبائعها وعلَّمتها أسرار العناية والبقاء، فنبت من الغرس ما شبَّ ونما، وسقط من ذابل الأوراق ما جفَّ ونثرته الرياح، ونجد شيئًا من ذلك المعنى في «كتاب الشِّعر القديم»، وحيث ترد هذه الأبيات:

«ما أنبل السيد الماجد،
وما أكرم سجاياه؛
إذ بسط فوق الجميع رداء الوئام والسعادة،
فورِث ميراث العزة،
وحفظته السماء،
ومدت فوقه أياديها،
وجعلت له المكانة العالية، تبجيلًا له وتقديرًا،
وبصَّرته بأقدار، موعظةً ونذيرًا.»
فلذلك، كان محتَّمًا أن تؤازر السماء كل كريمٍ ذي خلقٍ عظيمٍ.»
[ذلك هو الباب السابع عشر]

١٨

قال كونفوشيوس: «لم يكن في الدنيا كلها رجلٌ سلِم قلبه من الهموم سوى جلالة الملك «أون»، وهو واحد من أشهر الملوك جميعًا؛ فأبوه هو الملك «وانغ جي»، وولده هو الملك «أو»، والمعروف عنه أنَّه سليل أُسرة ملكية ذات مآثر عظيمة، شهدت الكثير من مجدها أيام الملك الأب، ودامت أيام عزها إلى ما بعد الملك الابن، ذلك أنَّ جلالته لما ورث المجد الملكي عن آبائه: الملك الأكبر، الملك وانغ جي، الملك أون؛ فقد آلى على نفسه أن يحفظ في سجل الزمان صفحات سجَّلها أجداده بالفخار، ثم أضاف إليها بحروف ساطعة بالنور أمجاد حملاته العسكرية التي أحرز فيها نصرًا مؤزرًا على أعدائه، فاتسعت أطراف مملكته، ودانت له كل ممالك الأرض بالخضوع، فذاعت شهرته وطار صيته في الآفاق، واستحق — عن جدارة — لقب «ملك الملوك ابن السماء»، وصار له المال والجاه العظيم فيما بين البحور الأربعة (من أقصى الأرض إلى أقصاها)، وأقيمت له المعابد وهياكل القرابين المقدسة، وظل أبناؤه وأحفاد أحفاده يعظِّمون ذكراه، ويقيمون في ضريحه المزار المقدس والقرابين جيلًا وراء جيلٍ بغير انقطاعٍ.

وقد تولى الملك «أو» الحكم، في عمر يناهز سن الشيخوخة. وقام الوالي «تشو» بإكمال الأفضال الجليلة لكل من الملكين «أُو» و«أون»، وأوصى لكل من «جي» و«تاي» بجدارة استحقاق اللقب الإمبراطوري الأفخم، وقدَّم القرابين للملوك الأقدمين طبقًا للمراسيم الإمبراطورية؛ بل قام بتعميم تلك المراسيم الجنائزية لتشمل النبلاء وكبار الموظفين والوجهاء والعامة أيضًا، وكانت تقضي بأنَّه إذا كان الوالد من كبار الموظفين والابن من الوجهاء (الطبقة الوسطى) فإنَّ طقوس دفن الوالد المتوفَّى تُجرَى وفق المراسيم الجنائزية لكبار الموظفين؛ أمَّا شعائر تقديم القرابين، فتقام حسب المراسيم الخاصة بالوجهاء؛ أما إذا كان الأب من الوجهاء والابن من طبقة كبار الموظفين، فإنَّ طقوس دفن الأب المتوفَّى تقام حسب المراسيم الجنائزية لطبقة الوجهاء، بينما تتم شعائر تقديم القرابين حسبما يتوجَّب على كبار الموظفين إقامته في مثل هذه الظروف، وقد نصَّت على وجوب حراسة جثمان المتوفَّى مدة عام كامل، هذا — فيما يتعلق بطبقة كبار الموظفين — ومدة ثلاث سنوات للملوك والأباطرة، وبالنسبة لما يختص بطقوس حراسة جثمان المتوفَّى من الآباء والأمهات فقد نصَّت اللوائح على إلزام جميع الأبناء — على نحوٍ متكافئٍ — بوجوب القيام بها، دون أدنى فرق بين غني وفقير أو شريف ووضيع.»

[ذلك هو الباب الثامن عشر]

١٩

قال كونفوشيوس: «إنَّ أعظم مَن أدرك معنى البر والوفاء للأسلاف هما الملك «أُو»، ووالي دولة «تشو»؛ ذلك أنَّهما واصلا مسيرة آمال أجدادهما واستكملا ما تأسس قبلهما من قواعد المجد، وقاما بإمداد المعابد بما يلزم في الأوقات المخصصة للعبادة، وارتديا الملابس الدينية وأطعما الطعام الشعائري المقدس، وقربا القرابين ورتبا صفوف المتعبِّدين، وأقرَّا مبدأ تقسيم المصلين في أداء العبادات حسب الدرجة الاجتماعية، ليُعْرف الوجيه من الوضيع، وكذلك أخذا بالتقسيم حسب الدرجة الوظيفية؛ ليتميز الماجد عن السفيه، ويلزم كلٌّ مكانه ومكانته؛ حيث يرفع الشباب للشيوخ كئوس الشراب، ويحظى الشبيبة بشرف الحضور في مجلس قام فيه الملوك على قدم. وكذلك كان الجلوس على المآدب حسب السن؛ لأنَّه لا يستوي الصغير والكبير، «ومن دلائل البر عند الملك والوالي أنَّهما …» قاما حيث كان يجب عليهما القيام، وقدَّما من القرابين ما كان يلزم من التقدمة، وعزفا من الألحان ما جرت به الطقوس، قدَّسا من الأسلاف ما قدَّس أجدادهما الملوك الأولون، وترفقا بما أوصى به آباؤهم أن يُترفَّق به من الرعية؛ فكان العمل لأجل الحي في قداسة العمل بوصيَّة الميت، وكذلك كانت مراعاة حق الراحل الغائب واجبةً وجوب مراعاة حقوق الباقين على قيد الحياة، فذلك هو أسمى معنًى للبر وأرفع ركن من أركانه.

إنَّ إقامة شعائر «الأرض والسماء» إجلالٌ لقداسة السماء، مثلما أنَّ تقديم القرابين في ساحات المعابد تبجيل لروح الأسلاف الأقدمين، فمَن أدرك دلالة طقوس «تقديم القرابين» و«تمجيد الأرض والسماء» عرف كيف ينظر في شئون الممالك وأحوال البلاد بيسر وسهولة (كأنَّه ينظر في راحة يده!).»

[ذلك هو الباب التاسع عشر]

٢٠

ذهب «آيكون» والي دولة «لو» إلى كونفوشيوس، وسأله عن الطريقة المثلى لإدارة الأمور السياسية، فأجابه: «كان الحكيمان العظيمان «أو» و«ون» يأمران بتدوين القرارات الرسمية في السجلات الحكومية «ومع ذلك، فلم تكن تلك السجلات تغني عن الرجال المسئولين عن القيام بأعباء الحكم؛ ففي …» وجود الحكماء، ضمان للعمل بمقتضى اللوائح والقيام بالمسئولية التنفيذية، فإذا لم يُوجد هؤلاء الرجال، اندثرت كل المدونات التي بذل فيها الملوك العظماء غاية الجهد والدأب. إذا استقام شرع البشر صلحت أمور السياسة، وإذا سلمت طبيعة الأرض أينع الزرع والشجر، «ولقد كانت السياسة التي طبَّقها ذلك الطراز من الحكام، مثل «ون» و«أو»، تؤتي ثمارها وتطول فروعها ويتناثر ظلها في كل مكان»؛ فلا صلاح للسياسة إلا بالحكماء، ولا سبيل إلى ذوي الحكمة إلَّا بتهذيب النفس، ولا مجال لتهذيب النفس إلَّا باتباع نهج الطريق، ثم لا مسير إلى الطريق إلَّا بالفضائل الإنسانية، و«الإنسانية» معنًى مشتق من لفظ «الإنسان». إنَّ المودة بين ذوي القربى لهي أعظم درجات الإنسانية.

إنَّ «الحق» قرين «اليسر» «النزعة الطبيعية للتشكل حسب مقتضى كل ما هو إيجابي» واحترام الحكماء هو أكبر دلالة على انتهاج «الحق».

في المودة بين ذوي القربى، هناك فرق بين القاصي والداني، وفي تبجيل ذوي الرأي والحكمة لا بد من ملاحظة ما بينهم من تفاوت في المكانة والدرجة، فهي كلها ضرورات تفرضها شروط المعاملات المقررة.

فمِن ثَم، كان لزامًا على العاقل أن يروض نفسه على الفضائل، ولكي يُحسن إلى أهله، فلا بد من أن يحيط علمًا بشريعة البشر، ولكي يعلم شريعة البشر فلا بد من أن يعي مبادئ الأرض والسماء.

إنَّ القاعدة الكبرى السائدة بين الناس، على الأرض تشتمل على خمسة بنود لا يتم تطبيقها إلا عبر ثلاث وسائل؛ فأمَّا البنود الخمسة الكبرى، فتتناول العلاقة بين الحاكم وشعبه، والأب وولده، والزوج وزوجته، والأخ الأكبر والأصغر، والصديق وصاحبه؛ أمَّا الوسائل الأخلاقية الكبرى (التي يُمكن، بواسطتها، تحقيق أفضل علاقة ممكنة في البنود الخمسة المذكورة …) فهي الحكمة والإنسانية والشجاعة.

من الناس مَن يولدون وقد تنزَّلت في قلوبهم معرفة ذلك المبدأ الأكبر، ومنهم مَن يتلقاها بالدرس والتحصيل، ومنهم، كذلك، مَن يدركون معناها عبر دروب المحن والتجارب القاسية؛ فالجميع، في آخر المطاف، يتوصلون إلى دلالة واحدة للقاعدة السائدة تحت السماء.

بعض الناس يعملون في هدوء ويُسر وفق ما تتطلبه قواعد المبدأ الأكبر؛ بينما يطبق البعض الآخر تلك القواعد استجلابًا للنفع ودفعًا للخسارة، وهناك البعض ممن يجهدون في العمل بها في عسر ومشقة؛ فالوسائل مختلفة لكن النجاح واحد في النهاية.»

قال كونفوشيوس: «طلب العلم يُقرِّب طريق الوصول إلى الحكمة، والاجتهاد في العمل بها يُوصل إلى البر والتراحم، ومَن عرف الخزي والجبن، أوشك أن يقتحم أسوار الشجاعة، فمَن أدرك كنه تلك الثلاثة، عرف الوسيلة التي يروض بها نفسه ويُهذِّب ذاته، فمَن تأدَّب عرف كيف يسوس الناس، ومَن بلغ تلك المقدرة، فقد عرف كيف يقوم على أمر البلاد وحكم الممالك.

إنَّ كيفية حكم البلاد وسياسة الممالك تتدرج، بوجه عام في تسعة مبادئ أساسية، وهي: تهذيب النفس، وتوقير الحكماء، وصلة ذوي القربى، وتبجيل كبار الوزراء ذوي الرياسة، وتقدير مكانة صغار المسئولين والكتبة والموظفين (برغم تواضع أدوارهم؛ تشجيعًا لهم على الترقي)، والتودد إلى العامة والبسطاء، والتقرب إلى الحرفيين الجائلين وأصحاب المهن البسيطة، وإيواء الغريب ابن السبيل، والطاعة بإخلاص وثِقةٍ للأمير.

فتهذيب النفس يهدي المرء بكل ثباتٍ وإرادةٍ نحو الطريق، أمَّا توقير الحكماء فيصدُّ عن الزيغ والضلال عند النظر في الأمور كافةً، ثم إنَّ صلة ذوي القربى لا تدع في قلب الآباء والإخوة أي مجال للتبرم والشكوى، وتبجيل كبار الوزراء والمسئولين يصون النفس من الحماقة ويهدي إلى الرشاد، وتقدير مكانة صغار الموظفين عونٌ لهم على إقامة أبهى وأنبل قواعد المعاملات؛ فأمَّا التودد إلى العامة والبسطاء فيحثهم على التفاني في العمل، والتقرب إلى أصحاب الحرف البسيطة باعث على الربح والكسب والخير العميم؛ وإيواء الغريب ابن الطريق يُخْضِع رقاب الناس في شتى أنحاء الأرض بالطاعة.

واعلم أنَّ ثقتك بالأمراء تثبت لك المهابة والإجلال في نفوس الكافة. إنَّ تنقية النفس من الأوضار، وردَّها عن غواية الحاجة وذل الطلب، وستر البدن برداء الوقار، واجتناب الحماقة وسوء الأدب؛ كل ذلك من الأسباب التي يتأدَّى بها تهذيب الخلق؛ أما الترفع عن الخسة والصَّغار، والتأني عمَّا يفتتن به المرء من الخليلات وذوات الحُسن من النساء، والزهد في المال والمتاع، وابتغاء الخُلق الكريم؛ فذلك كله ممَّا يتوصَّل به المرء إلى الحكمة والفضل، ثم إنَّ احترام المكانة الاجتماعية لعشيرتك، والسخاء فيما تبذل لهم من مال، وعونك لهم في السراء والضراء؛ كل ذلك اجتهاد في الإخلاص والود لذوي القربى.

وفي إمداد الوزراء وذوي الرياسة بالأكفاء من الموظفين والعمال عونٌ على إنجاز الأعمال، وكذلك في إجزال العطاء لمَن أبدى الإخلاص والأمانة من المسئولين تشجيعٌ للأكفاء والموهوبين «على التفاني بعزمٍ صادقٍ».

واعلم أنَّ في اتخاذ المزارعين للعمل في الأراضي حسب مواسم الزرع مع تخفيض المستحق من العوائد والرسوم تعزيزًا لدافع العمل والإنتاج لدى الكافة، وفي المتابعة اليومية والمراقبة الشهرية لنشاط ذوي المهن والصنائع مع توفير ما يلزم كل طائفة منهم من الحبوب والغذاء حافزٌ على الإجادة والإتقان، ثم في الترحيب بالضيف وتوديع المسافر، والثناء على ذوي المهارة وإقالة عثرة ذوي التقصير سندٌ ومئونة للوافد من أقصى البلدان.

وكذلك في دعم الأواصر بين العشائر، وصلة ما انقطع من نسل القبائل، ودعم ما تهالك من الممالك، وضم ما انفرط من عقدٍ، وما تحلل من عهدٍ، وفي إغاثة المنكوب، وسد حاجات المكروب، وتحديد ميقات معلوم لزوَّار القصر الحاكم، مع تغطية قيمة العطايا المهداة وتخفيض رسم الضريبة المقررة — في كل ذلك — تبيانٌ للثقة الممنوحة للأمراء «وهكذا»، فتلك هي المبادئ التسعة المقترحة لإصلاح أحوال البلدان والممالك، غير أنَّها جميعًا تتبع نمطًا واحدًا في التطبيق.

«واعلم أنَّه …» لا يخرج إلى حيز النجاح إلَّا ما رتَّبه الفكر وهيأه التدبير، والفشل قرين الارتجال والإهمال، فلا ينطلق اللسان مفوهًا بالعبارة إلَّا بسابق التبصر في المعاني، ولا انتكاسَ لعمل أعدت عدته التدابير، ولن يندم أمير قد حسب لخطته السياسية الإصلاحية ألف حساب، وكذلك لا تسقط مادة الأفكار في هُوة الفشل الذريع، إذا ما كان التطبيق مسبوقًا بوافر التبصر والحَيطة والاستعداد.

إذا عجز صغار المسئولين عن الفوز بثقة كبار المتنفذين وذوي الرياسة، فلن يتمكنوا من «ضبط الأمور، بمعنى …» إصلاح أحوال العامة على النحو الأكمل، «ومع ذلك، ﻓ…» هناك من الوسائل ما هو كفيل بالحصول على ثقة كبار المسئولين؛ ذلك أنَّه إذا لم يستطع المرء أن يحوز ثقة أصدقائه، فلن يستطيع بالطبع أن يحظى بثقة رؤسائه، فإذا ما أراد المرء أن يحظى بثقة أصدقائه فهناك من الوسائل ما هو كفيل بتحقيق مطلبه؛ ذلك أنَّه إذا لم يكن المرء بارًّا بوالديه فلن يصدِّقه أصحابه، ثم إنَّ هناك من الطرق ما هو حقيقٌ بأن يؤدي بك إلى البر بوالديك علمًا بأنَّ مَن خلا قلبه من الإخلاص، غير أنَّ امرأً استغلق عليه معنى الخير لن يفلح أن يستنهض في قلبه دلالة الإخلاص.

إنَّ الإخلاص مبدأ قدسي (سماوي)، وهو المبدأ الأسمى الذي يحاول الإنسان السير على هداه مسيرة حياته.

إن حاز جوهر الإخلاص بفطرة قلبه فقد استقام بغير جهد، واستوعب المغزى بغير محاولة للفهم، وهذا أقرب شيء لطبيعة القديسين. إنَّ مجاهدة النفس لتطويعها لنوازع الإخلاص تقتضي انتقاء أشرف الغايات والالتزام بحدودها، بالإضافة إلى التعمق في العلم والاطلاع واستقصاء سبل المعرفة. والاستغراق في التأمل وجلاء البصيرة والعزم الصادق على إتيان كل مواطن للإخلاص.

فإذا لم يجد العاقل وسيلة للعلم والاطلاع، أو إذا طالع العلوم ولم يفقه منها شيئًا فلا يقعدن عن طلب العلم، وإذا لم يجد وسيلة لاستقصاء سُبل المعرفة، أو حتى إذا لم يبلغ في الاستقصاء الحد الذي يُمكِّنه من الفهم والدراية، فلا يقعدن عن البحث والتقصي في سبيل المعرفة، وإذا واتته الفرصة للتأمل أو إذا لم يصل — بعد التأمل — إلى ما يبتغيه، فلا يصرفنَّ النظر دون أن ينقدح لديه زناد الرأي وثاقب البصيرة، فلا يتراجعنَّ عن المحاولة بدأب ومثابرة، وإذا لم يتيسر له أن يسلك في مواطن الإخلاص أو إذا سلك بعض الطريق وتعثرت به الخطوات، فلا ينكص عن مسعاه.

وإذا نجح الناس في مسعاهم عند أول محاولة فينبغي على العاقل أن يثابر ويصمد لمئات المحاولات، وإذا نجح بعض الناس في مسعاهم بعد عشر محاولاتٍ، فينبغي على الحكيم أن يثابر ويعكف على آلاف التجارب.»

[ذلك هو الباب العشرون]

٢١

إنَّ الفهم النابع من الإخلاص موهبةٌ من مواهب الفطرة والطبيعة؛ أمَّا الإخلاص الناتج عن الفهم والوعي، فهو نتاج العلم والتربية، والتوجيه، «وعلى كل حالٍ فإنَّ» الإخلاص هو التحصيل الواعي بالفهم، والوعي هو شفافية الحس الفطري المخلص «والإدراك الطبيعي الصادق».

(ذلك هو الباب الحادي والعشرون، وهو خلاصة ما استوعبه «زيلو» — أحد رواد الكونفوشية (المذهب الكلاسيكي) — وما أخذه عن أستاذه — كونفوشيوس — من آراءٍ حول «الفطري» و«المكتسب» (طريق السماء، وطريق البشر — حرفيًّا، وعلى التوالي —). والأبواب الاثنا عشر التالية هي أقوال زيلو التي تدور كلها حول هذا المبحث).

[ذلك هو الباب الحادي والعشرون]

٢٢

إنَّ أشد الناس إخلاصًا هم القادرون على شحذ قرائحهم واستخدام أقصى مواهبهم الطبيعية، وبموجب ذلك؛ فإنَّهم يقدرون أيضًا على حفز الهمم، والطاقات الكامنة في أعماق الناس، فإذا ما استطاعوا أن يبعثوا همم الآخرين، فلا بد أنَّهم يقدِرون كذلك على إيقاظ نفوس البشر أجمعين، وإذا تحقق أنَّهم يملكون تلك المقدرة حقًّا، فهم سندٌ لهداية السماء ونصرةٌ لرسالتها بين البشر، فإذا حازوا تلك المكانة، فلهم أن يتبوءوا منزلةً قدسيةً بعد السماء والأرض.

[ذلك هو الباب الثاني والعشرون]

٢٣

ثم يأتي من بعد أولئك (المشار إليهم آنفًا) نفرٌ من العوام يجتهدون في الاستقامة «يردون أنفسهم عن الميل»، فإذا ما استقاموا فقد بلغوا حد الإخلاص، وإذا بلغوا حد الإخلاص صاروا متفردين واتضحت سمات شخصياتهم، فإذا برزت سمات شخصياتهم عُرِف الإخلاص في سيماهم، فإذا ما تجلى سيماء إخلاصهم أشرقت أنوارهم، فإذا لمع بارق سناهم طاف أثرهم على الأشياء من حولهم، فإذا انطبعت آثارهم على الدنيا من حولهم، تبدَّلت من أحوالهم القلوب والأفكار، فإذا كانت لهم مثل تلك المنزلة في القلوب، انعقدت لهم ألوية الهداية بين الناس، وهي درجةٌ لا يبلغها إلَّا مَن ترقَّى إلى أسمى مراتب الإخلاص.

[ذلك هو الباب الثالث والعشرون]

٢٤

لن يعجز المخلص الذي بلغ في إخلاصه أرفع الدرجات أن يستشرف آفاق المستقبل، فتتكشف لبصيرته صفحة القادم من الأيام، وفي صفحة المستقبل تبدو بشائر نهضة الممالك، مثلما يبين فيها نذير خراب الدول وشؤم طالع الزمان؛ مما يمكن مطالعته في رموز التنجيم وطلاسم الكهانة وملامح وتصرفات البشر من نبوءاتٍ ونُذُرٍ؛ ذلك أنَّ امرأً صحيح الإخلاص يمكن أن تنكشف لبصيرته سعود الأيام ونحوسها، وحتى يصبح كالآلهة سواءً بسواءٍ.

[ذلك هو الباب الرابع والعشرون]

٢٥

الإخلاص هو استيفاء طلب النفس لغاياتها، أما الطريق فهو رشاد النفس بزمام الهدى. الإخلاص يستغرق الأشياء كلها من البدء إلى المنتهى؛ فلا وجود بغير إخلاص، ومن ثم يتحلى به العاقل ويتحقق بصفاته، ولا يقتصر الإخلاص على استيفاء غاية النفس لذاته؛ بل يتعدى ذلك إلى استقصاء أشرف الغايات للناس جميعًا وللدنيا كلها، ولئن كان السعي لتحقيق أغراض النفس طبعًا إنسانيًّا، فإنَّ استقصاء غايات الناس جميعًا بابٌ من أبواب الحكمة، وخلقٌ نابع من الفطرة الأصيلة تجتمع فيها فضائل الأرض والسماء، وأوضح مقاصد كل ما هو باطني من دخائل النفس، وخارجي من شئون الغير؛ ولهذا فإنَّ العاقل يجد الأوقات كلها مواتيةً والظروف مناسبةً لتحقيق هذا المبدأ.

[ذلك هو الباب الخامس والعشرون]

٢٦

ولهذا يُقال إنَّ الإخلاص ليس له حد ينتهي عنده، ولأنَّه لا ينتهي عند حدٍّ، فهو باقٍ على مر الزمن، ولمَّا كان باقيًا على مر الزمن، فهو نافع، ولكونه نافعًا فهو بعيد الأثر، ثابتٌ على المدى، ولأنَّه بعيد الأثر، فهو واسع المعرفة، وبما أنَّه واسع المعرفة، فهو عظيم المهابة سامق النور، فأمَّا كونه واسع المعرفة، فهذا دليل على عظيم قدرته التي تحيط بالأشياء كافةً، وأمَّا أنَّه سامق النور، فلأنَّه قد أسبل ستره فوق كل شيء هو بعيد الأثر، ومن ثم، تفيض عنه الأشياء كلها وتتوالد كثرتها، وهو (الإخلاص) واسع المعرفة كامتداد صفحة السماء، وجلي النور، كجلاء مشاهد الأرض، متناهٍ بغير حصرٍ، ممتد بغير مدًى، بادٍ للعيان دون أن يتجلى للأبصار، ظاهر الفعل دون أن تصدر عنه نأمةُ حركة، بالغ مبتغاه في يسر دون أن تسعى به الجوارح. إنَّ طريق السماء والأرض يتضح معناه في عبارة واحدة وهي: أنَّه الدرب البسيط الذي لا شبيه له ولا مثيل، وهو الطريق الذي لا يُسبر غوره ولا يعرف كُنهه. وهو ذو طاقة مبدعة قادرة على الإتيان بما لا حصر له من المخلوقات.

إنَّ طريق السماء والأرض بالغ الرحابة والعمق، عظيم المهابة، جليُّ النور، بعيد المدى، قويم المنهاج.

إنَّ السماء، إذا تحدثنا عنها في حاضر الحال، فهي فضاء من نور، فضاء ممدود، تدلَّت منه ثُرَيات من أقمار وشموس تترامي كغطاء علوي، من أقصى الكون إلى أقصاه.

والأرض، إذا تحدثنا الآن عن طبيعتها، فلن نتجاوز القول بأنَّها ليست سوى تراب منثور؛ لكنَّها — برغم ذلك — خلاءٌ رَحْب، وجِرم واسع الأرجاء، يحمل فوق سطحه جبل «هواشان» بكل ثقله، فلا تنخسف به الأركان، وتتفرع لمسيل بحاره وجداوله قنوات وشطآن مترامية، دون أن يزيل قطرة من لُجَّة بحرها، «فالأرض» موطئ لكل شيء، وقد رصنت بحمل أثقالها وتجالدت لم تزُل.

وأمَّا الجبال، إذا تحدثنا عنها الساعة، فلن يسعنا إلا أن نقول بأنَّها لا تكاد تزيد على تلال من أحجار مبعثرة، لكنَّها (مع هذا) سلاسلُ متعرجة وتلال ممتدة آلاف الأميال، قد نبت بواديها العشبُ، وسكن بقفرها الوحش والطير، وقرَّ بباطنها الكنز الدفين.

ثم إذا تطرقنا إلى «الحديث عن» الماء، لألفيناه «مجرد» شربة ظامئ، أو غرفة كف ضئيل، ومع هذا فمسيل قطره موج متلاطم، وحدود بحره بغير مدى، وفى باطنه تتزاحم السلاحف والتماسيح، وينفث «تنين الماء» من فمه طوفانًا يغرق الشطآن (في الأساطير القديمة)، في أسماكه ثروة لا تفنى، وفي أحيائه الدر الثمين، وقد جاء في «كتاب الشِّعر القديم» (في هذا الخصوص) ما نصه:

«… إنَّ أمر السماء محفوظ بطيِّ القدر،
وليس لأقدار السماء حدود.»

فربما كانت تلك الإشارة إلى السماء، في ذلك السياق، هي السبب في تدبر طريق السماء، «وقد جاء في نصوص «كتاب الشِّعر» أيضًا، ما نصه:»

«… ما أبهى وأطهر وأقدس
ما تحلى به الملك «أون» من أخلاق وفضائل.»

وقد تكون تلك العبارة، هي السبب فيما أُطلق على الملك «أون» من صفات جليلة؛ لما تميز به من سمات عظيمة، ظلت مضرب الأمثال على مدى الأجيال.

[ذلك هو الباب السادس والعشرون]

٢٧

ما أعظم ما سلك القديسون من سُبل، وما أرحب ساحتهم وأصفى موردهم، وقد زادت بهم الدنيا جلالًا، وفاضت بهم الموجودات كثرةً، حتى تمجدوا مجدًا بلغوا به عنان السماء. ما أوسع حلمهم، وأوفر ما اتسعت له صدورهم من الرحمة، «ولقد قيل»: إنَّ أصول المعاملات في ثلاثمائة مسألةٍ، والدرجة الرفيعة من الهيبة والجلال في ثلاثة آلاف «قاعدة مذهبية»، لا يتحقق منها شيء إلا على يد قديس؛ فمن ثم قيل: إنَّ أحدًا لن يبلغ أشرف غاية إلَّا إذا تزود بأرفع منزلة من الأخلاق، هكذا يتجه الفاضل الحكيم صوب أنبل الخلق، ويسلك طريقًا يطلب فيه العلم والمعرفة، ويدقق في أصول الأشياء، فإذا ما بلغ في مسيرة بحثه الحدود العامة للمعرفة، راح يستقصي أغوار التفاصيل؛ وإذا اهتدى إلى صفوة الحكمة، اجتهد في التزام حد «الاعتدال» الأوسط فهو، بذلك، يرسِّخ مبادئ قديمة قد سبق له مطالعتها، ويفيد معرفة جديدة عرضت له في طريقه، هنالك ينشرح صدره لأصول الآداب في بساطةٍ وعمقٍ وإخلاصٍ.

ومن ثم، فلا يتكبرنَّ كريم «ذو مكانة»، ولا يتمردنَّ لئيم «وضيع»، وليجتهدنَّ في انتهاج السبيل القويم، إذا ما كانت الأحوال العامة تحض على أشرف المسالك، أو لينعزلنَّ خلف ستار الصمت، إذا فسد الزمان وانمحى الطريق، وتأمل هذا البيت من «كتاب الشِّعر القديم» حيث يرد بما نصه:

«إنَّ المرء، من فطنته،
وجلاء بصيرته
حصنٌ يلوذ به ووجاء.»
ألا تجد، هنا، غاية المعنى المشار إليه ودلالة مغزاه!
[ذلك هو الباب السابع والعشرون]

٢٨

قال كونفوشيوس: «لا تحيق النكبات إلا بغبيٍّ يَدَّعي الحكمة، وبليد يستبد برأيه، وابن حاضر الزمان، الذي ينكر يومه الماثل ليعيد سيرة الماضي بغير طائل.

واعلم أنَّه لا ينبغي لك — إن لم تكن إمبراطورًا — أن تضع معايير للأخلاق والآداب العامة، ولا أن تسنَّ القوانين، ولا أن تطالب حتى بتحسين خطوط الكتابة وضبط الحروف والأرقام، «ولحسن الحظ» فهناك الآن معايير موضوعة لتقدير أحجام العربات على نحو قياسي، وهناك أيضا قواعد قياسية لضبط الإملاء وهجاء الكلمات (كان ذلك في زمن توحيد الصين حيث قام الإمبراطور «تشين شيهوان» بوضع تلك القواعد العامة). وكذلك فإنَّ أسس الأخلاق والمعاملات تتبع نظامًا صارمًا ومعلومًا للكافة.

ثم إنَّه لا ينبغي لمَن حاز سلطة ونفوذ الإمبراطور أن يضع قواعد الآداب (ولا الموسيقى، بوصفها تعبيرًا عن القانون والنظام في أدق صوره الفنية الجمالية) ما لم يتحلَّ بالأخلاق الملكية الشريفة، وبالمثل أيضًا، فليس لمَن تخلق بأخلاق الملوك، دون أن يكتسب نفوذهم وسطوتهم، أن يقرر أيَّة مبادئ للأخلاقيات العامة، ولا يتدخل في قواعد الفن والموسيقى.»

وقال كونفوشيوس: «لئن كنت أستطيع أن أقوم بشرح وتحليل قواعد الأخلاق الباقية من أسرة «شيا» الملكية (٢٢٠٥–١٧٦٦ق.م.) فلا أستطيع الزعم بأنِّي أملك المقدرة نفسها على تحليل وثائق أرشيف دولة «تشي»؛ «ذلك أنِّي …» بذلت اهتمامًا شديدًا في دراسة آداب أسرة «يين» الإمبراطورية، وهي آداب المعاملات نفسها التي ما زالت ساريةً، حتى الآن، في دولة «سونغ»، كما أنَّني تعمَّقتُ في دراسة وتحليل آداب معاملات أسرة «جو» الملكية، والتي بقيتْ حتى وقتنا هذا نمطًا سائدًا للأعراف والمعاملات، وهي مجموعة المبادئ التي ألتزم بها وأسير على منهاجها.»

[ذلك هو الباب الثامن والعشرون]

٢٩

عندما نتحدث عن حكم الممالك، فهناك ثلاثة مبادئ أساسية على درجة كبيرة من الأهمية، لا تستقيم الأمور إلَّا بها؛ ذلك أنَّك إذا كنتَ تتولى منصبًا ذا شأن وأحسنت قيامك بواجبات العمل، دون أن تكلف نفسك عناء التثبت والفحص والمراجعة لنتائج عملك، فسوف تفقد مصداقيتك، وإذا فقدت مصداقيتك، وسقطت في عين الناس «هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى، ﻓ…» إذا كنت واحدًا من العامة أو البسطاء وتسلك سلوكًا حسنًا «في كل ما تقوم به من تصرفات» دون أن تنال شيئًا من المجد وتصيب درجةً من الرفعة؛ فسوف تفقد مصداقيتك أيضًا، وعندئذٍ، فسيزدريك الناس ويزلقونك بأبصارهم، ويحيدون عن سبيلك، لهذا يسلك العاقل طريقًا واضحًا، وتصير أفعاله تحت رقابة الناس أجمعين، فيشهدهم على دقائق الأمور ويتخذ الحجة على نزاهته من أفواههم، وإذا ما وازن بين أفعاله وما خلد الحكماء الأولون من مآثر رجحت كفته، ولمس الناس صدق مقالته، وإذا أقيم له مجلس يُحصي عليه أفعاله على ملأٍ، بين السماء والأرض، ولم يتذمر أو يتخاذل، وإذا ما تجلَّت له روح أسلافه العظام تُسائله وتحاسب ضميره، صمد في ثبات وثقة، وإذا قيل له إنَّ حكيمًا يظهر بعد مائة سنة من الزمان أقام ينتظر ظهوره بغير كلل.

فإذا أقبلت عليك روح أجدادك تحاسبك، فصمدت لها إيمانًا وثقة، فقد أدركت ما خفي من أمر السماء، وإذا أقمت في انتظار حكيم يظهر بعد مسيرة أجيال، فقد سبرت غور الإنسان؛ ولذلك، كان العاقل يأتي من الأفعال ما يسبق به الناس قرونًا من الزمان، وكان يحوز من الفضائل ما حفظته الأيام قاعدةً راسخةً في أصول المعاملات. وهكذا يتمجد الفاضل، حتى إذا نأت به الديار اشتاقت إليه النفوس، وتطلَّعت إلى عظيم أدبه وشريف خصاله، وإذا دنا به المكان راقت صحبته، وطاب بجواره المقام، وقد جاء في «كتاب الشِّعر القديم» ما نصه:

«عندما غاب، مَن غاب،
لم تحجبه أستار الكراهية،
ولمَّا حضر،
لم يغمض للعين جفنٌ وهي ترنو إليه،
ففي كل وقتٍ،
وفي كل ساعةٍ،
تعقد له من المديح هالات
من النور … حواليه.»

وهكذا، فإن لم يحظ السيد الكريم بمثل هذا، فلن يتيسَّر له الفوز بالمجد بين الناس. [ذلك هو الباب التاسع والعشرون ]

٣٠

كان كونفوشيوس يترسَّم خطى الحكيمين القديمين «ياو» و«شون»، وكان يقتدي في سلوكه بالملوك الحكماء من أمثال «أون» والملك الحكيم «أو»؛ فمن ثم تمجدَّت ذُرا خصاله مثلما تمجدَّت السماء في سامق علوها، وصارت تتراوح معها في مراتب شرفها وطبائع جريانها في الفصول والأزمنة، ورسخت في كونفوشيوس سماته الأصيلة مثلما نبتت في الأرض رواسيها وتحدرت في الوديان أنهارها، واتحد كل ذلك في طبعه كما اتحد في طبع الأرض والسماء كل عالٍ وخفيضٍ، وامتدت فيه ظلال السماء ستارًا علويًّا فوق ساحة الوجود، فكأنَّه فصول الأوقات في جريانها، أو مدارات الشموس والأقمار في فلكها.

والكل دفق جريان ونماء وكثرة، يحذو بعضها بعضًا، بغير تنافر أو نزاع؛ فكلٌّ يدور دورته، وكلٌّ يسلك طريقه المرسوم؛ حيث أدنى الجريان أنهار سابحة، وأعظم ما جرى به الزمان، واستصفته الأيام، نفوس تطهرت بالصدق والبساطة والإخلاص فمن ثم، كانت السماء والأرض أجل من كل وصفٍ، وأعظم من كل بيانٍ.

[ذلك هو الباب الثلاثون]

٣١

لا توجد الحكمة والكياسة على الأرض، إلَّا في قلب قديس جليل القدر، رفيع المكانة، وستجده أقدر الناس جميعًا على تولى زمام الأمور كافةً، ذلك أنَّ القديسين بما حازوا من حلم وأناة وسعة صدر وهدوء طبع، هم أقدر الناس على طي الدنيا بأسرها في قبضة أيديهم، وقد أوتوا من الجلال والإيمان والاستقامة ما مكَّن لهم التقدير والتبجيل في النفوس، وكذلك أيضًا فقد أصابوا القدر العظيم من الدقة والفهم في مطالعة الوثائق ومعرفة دقائق تبويبها وأقسامها، حتى استنارت بصائرهم وصاروا يفرقون بين الحق والباطل، واعلم أنَّ القديس الحكيم هو ابن الوقت الذي يعيش فيه، وعليه تسري أحكام زمانه؛ فيدور في فلك الوقت بغير مدى، ويغوص في باطن الزمان بغير حد، ويسمو حتى يُجاوز أقطار السماء (حدود الأبصار)، ثم يدنو حتى يستقر في جوف الماء (غياهب الأسرار)، فإذا فعل شيئًا فقد بلغ تمام الإجادة وكان جديرًا بالتقدير والإعجاب، وإذا تحدَّث، أصاب القول السديد حتى أُخذت عنه فنون المقال، وإذا وليَ أمرًا من الشئون العامة، سار بالحسنى حتى انشرحت له صدور الناس؛ ولهذا، تجد مثل ذلك القديس الحكيم ذائع الشهرة بعيد الصيت، قد تحدث الناس جميعًا بأمره، سواء داخل الممالك العامرة أو بين أهل القفار، وعلى تخوم الأحراش. فما من أرض عبرت بها سفائن، أو مرت في دروبها قوافل ومواكب، أو أظلها سحاب، أو أشرق في نهارها النور، وتداعى فوقها الليل والقمر، وبلل وديانها الندى وهطل المطر، وإلَّا تمجَّدت به، وما من روح حي تنسم نسمة الحياة إلَّا أحبه وعظَّمه غاية التعظيم، فمن أجل هذا صار الحكيم القديس إلى مرتبة تحاذي جلال السماء.

[ذلك هو الباب الحادي والثلاثون]

٣٢

لا تقوم المُثل أو تتأسس دعائم الأخلاق إلا بيد أكثر الناس إخلاصًا، ومَن أنشأ دعائم الخير على الأرض أدرك أسرار الأرض والسماء وتعاقُب الأيام، ومدار الأمور كلها حتى استغنى عن العون والسند؛ فهو صافٍ كجوهر الإخلاص، مطمئن كغور بئر سحيق، رحب الساحة كصفحة سماء ممتدة، فمَن ذا يدرك سر ذلك الوصف سوى مَن أوتي القلب الزكي العامر بالخلق الأسمى.

[ذلك هو الباب الثاني والثلاثون]

٣٣

جاء في «كتاب الشِّعر القديم» ما نصه:

«… قد توارى الرداء الحريري الموشَّى
خلف عباءة باهتة،
تكاد ألوانها ألَّا تبين.»

والمعنى، هنا، يتطرق إلى ما فعلَته صاحبة الرداء من عدم اكتراث بإظهار مفاتن ثوبها الداخلي، تمامًا مثلما ينبغي للعاقل أن يواري كريم شمائله طي الكتمان؛ لأنَّه كلما زاد تواضعًا «وإخفاءً لخصاله» تجلَّت للناس أشرف خباياه؛ أمَّا الغبي الوضيع فيمعن في الظهور حتى تخفت أضواؤه، ويتلاشى جوهره؛ وقد يُثرثر الفاضل الكريم بنافل القول، لكنك تجد لكلماته مذاقًا لا تجده في كل الكلمات؛ فهو يفصح في إيجاز، ويجمع إلى بلاغة القول منطق العقل وقوة الحجة والبرهان، ويعرف مبتدأ المعنى وغايته، وكيف يمكن لأوهى الأسباب أن تؤدي إلى عظائم الأمور، وإنَّ امرأً يتسم بهذه الخصال لجدير بأن يترقَّى إلى مرتبة القديسين الحكماء. وجاء أيضًا في «كتاب الشِّعر القديم» ما نصه:

«… قد تغوص الأسماك
في بواطن أعماق سحيقة،
لكنها لا تخفى عن بصيرة المتأمل.»

ذلك أنَّ العاقل هو مَن استطاع أن يسبر غَور ذاته التي بين جنبيه دون ترددٍ أو مواربةٍ، ولئن كان هناك ما يرفع من قدر الفاضل الحكيم فوق الناس جميعًا؛ فهو ثباته وشجاعته في مواجهة نفسه بغية الالتزام القويم بأنبل المقاصد.

ونجد أيضًا في «كتاب الشِّعر» ما نصه:

«… كن في خلوتك
خلف جدران بيتك،
كما لو كنت بين الناس،
أو في محراب قدسي،
وقد سطعت عليك أنوار الألوهية،
وليس لك أسرار تخزيك،
ولا سوأة تداريها.»

وهكذا، فالعاقل مَن أشاع في نفوس مَن حوله دواعي الاحترام والتقدير، دون حتى أن يتحرك له ساكن، وتتضح في سيماه معالم الصدق والإخلاص، دون أن ينبس بلفظٍ. ومما ورد في «كتاب الشِّعر» أيضًا:

«… من قدَّم قربانًا
فليلزم الصمت،
وليحفظ لسانه في حضرة الأرواح القدسية،
فلا ثَمَّ جدل … ولا ثرثرة،
ولا صخب رديء.»

فمن ثمَّ قيل: إنَّ العاقل هو مَن سلك بالناس سبيلًا إلى الرشاد، دون أن يحثهم على ذلك بسخِيِّ العطاء، وكريم المكافأة، وهو أيضًا مَن يستطيع أن يوقع في النفوس مهابة الإجلال بغير أن يرفع عليهم سيفًا، أو يتهددهم بشَرِّ العاقبة.

وفي جانب من «كتاب الشِّعر» ورد هذا البيت:

«… لا تُرغم الناس على اتباع الفضائل؛
بل كن أنت نموذجًا يحتذى،
تتبعك المواكب،
ويترسم خطاك الملوك.»

ولهذا؛ فلم ينتشر السلام في ربوع الممالك إلَّا بما حاز الحكماء والقديسون من الإخلاص والصدق والتواضع.

وجاء في كتاب الشِّعر أيضًا:

«… أتأمل خصالك
التي تشيع في تصرفاتك،
دون كلماتٍ رنانةٍ،
أو استعراضٍ مظهري ساذج.»

وقد قال كونفوشيوس ذات مرةٍ: «ما أسخف المحاولات التي تستهدف حث الناس على الفضائل بالخطب والمواعظ الكلامية، والاستعراض الشكلي لمظاهر الخلق الكريم (دون تحقق جوهر الفضيلة ذاته)»، وهو المعنى الذي يبرُز فيما جاء ﺑ «كتاب الشِّعر» حيث يرد ما نصه:

«… الفضائل كالنسمات،
رقيقة، خفيفة،
مثل ريشة طائرة في الهواء.»
ثم إنَّ «الريشة»، أيضًا، لها مظهر شكلي واضح محدد …
«… قد أوجدت السماء كل الأشياء،
ولم يكن ثمة مَن يستمع إلى الصدى،
ولا مَن يتشمَّم عطر الكائنات.»
وكانت تلك، هي الفضيلة الكبرى في أتم وأرقى وأكمل معانيها.
[ذلك هو الباب الثالث والثلاثون]

وقد راح «زيس» — تلميذ كونفوشيوس — يُحلِّل الأساس الذي استندت إليه أطروحة الفضائل في الباب السابق، موضحًا أثر ذلك في استتباب دعائم الأمن والسلام المشروط بالتزام السادة النبلاء بالصدق والفضائل الكريمة، مع ضرورة تطبيقها على نطاقٍ واسعٍ، وبالدرجة التي يبلغون بها مصاف الأخلاق التي تقدَّست مثل أفضال السماء في جوهرها الأصيل؛ لكونها تندُّ عن عالم روحي يتَّسم بالصمت والخفاء. وهذا الباب — في جملته — يُلخص الغاية التي يقصد إليها «كتاب المعرفة الكبرى»، أمَّا الغرض من ترديد تلك المعاني فيتمثَّل في ترسيخ فكرة الفضائل وتوضيح دقائق معانيها للدارسين.

١  لم ترد في هذا الباب العبارة المعتادة، التي صيغتها [… هذا هو الباب …]، وذلك حسب ما هو وارد في النسخة الأصلية المترجَم عنها. (المترجِم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤