الباب العاشر

شيانغ دان

وجملته فصل واحد يقع في سبعة وعشرين قسمًا

(١٠–١) كان كونفوشيوس عندما يعود إلى مسقط رأسه يُقيم في مكان بسيط، ويجلس هادئًا صامتًا، لا يتحدث بشيء، كأنَّه نسي الكلام، فإذا ذهب إلى المعبد الجنائزي، أو إلى البهو الإمبراطوري، انطلق الكلام من فيه حلوًا طلقًا، كأنَّه امتلك ناصية البيان.

(١٠–٢) وفي لقائه مع صغار الموظفين في القصر الإمبراطوري، كان كونفوشيوس لطيف الحديث، رقيق الحاشية؛ أمَّا مع كبار الوزراء فقد كان يُبدي قدرًا من الجد والتوقير، فإذا جاء سيد المماليك (صاحب الجلالة الإمبراطور!) بدت على كونفوشيوس أمارات الإكبار والتبجيل (مع قدر ملحوظ من التهيُّب)!

(١٠–٣) وقد كان كونفوشيوس حريصًا على قواعد المظهر اللائق والسلوك القويم؛ فكان إذا ما كلفه الملك باستقبال الوفود الأجنبية أظهر الجد والاهتمام، ثم مشى بكل تؤده «كما يقضي البروتوكول!» نحو بهو الاستقبال الكبير، ويُشيع في الجو روح الود والاحترام بوجه صافٍ ولسانٍ طلقٍ، ومنظر متأنق، فإذا ما انتهت المراسم وغادر الضيوف، عاد إلى الملك بتقرير وافٍ عن المقابلة، فلا يدع كبيرة ولا صغيرة إلَّا أحصاها.

(١٠–٤) كان كونفوشيوس وهو يدلف من بوابة القصر الإمبراطوري الكبير يتصرف طبقًا للقواعد المتبعة في حرص بالغ، فإذا مرَّ أمام منصة العرش، اتخذ ملامح الجد، وأسرع قليلًا في مشيته، وغضَّ من صوته. فإذا ارتقى السلم المؤدي إلى المنصة، أمسك بجانب ردائه وأشاح به قليلًا، وصارت أفعاله تصدر في غاية الهدوء واللباقة. ثمَّ إذا عاد أدراجه، نزل السلم في خطوات سريعة صوت، وقد بدت عليه علامات ارتياح، ثم ينطلق إلى مكانه المخصص له، فيجلس هادئًا رزينًا.

(١٠–٥) في المهام الرسمية التي أُوفَد فيها كونفوشيوس خارج البلاد، كان يرفع الجوهرة الملكية في الصندوق بكلتا يديه، ويعرضها حسب ما تقضي به المراسيم على جمهور الحاضرين، فيرفعها عاليًا بإجلال، ثم يخفضها منحنيًا باحترام، كأنَّه يتأهب لتسليمها ليد ضيف كريم، بينما تنطق ملامحه أثناء ذلك بالفخر والاعتزاز، فإذا مشى في الردهة الطويلة، اتَّخذ مسارًا مستقيمًا، كأنَّه يمشي على خيط رفيع. وكان يحرص على إظهار الحفاوة والبهجة أثناء حفلات تقديم الهدايا، ثم كان إذا جلس إلى مائدة المفاوضات مع أعضاء الوفود الأجنبية، ظلَّ محافظًا على مظهر يفيض بالود والثقافة.

(١٠–٦) العاقل مَن يدقق في أناقته ومظهره العام، واختيار المناسب من الثياب؛ ففيما يخص الملابس اليومية العادية (غير الرسمية) فليُعرض عن الحُلل ذات الحواف الرمادية أو البنفسجية أو الحمراء الوردية، فكلها لا تليق، أمَّا في شهور الصيف القائظ، فليس أكثر من الثياب الكتَّانية غير المبطنة، على أن تليها صديرية خفيفة. أمَّا الثياب الثقيلة (المناسبة للشتاء!) فأفضلها المبطَّن أو المزيَّن بالفراء، بشرط أن تتوافق درجات الألوان بين الأردية الظاهرة وما يبطنها من الفراء؛ فالمعطف الجلدي الأسود من جلود الضأن، يناسبه فراء أسود. أمَّا السترة الجلدية البيضاء، التي من جلد الغزلان، فبطانتها من الفراء الأبيض كذلك، والصفراء بطانتها فراء أصفر، من الفصيلة الثعلبية، ويفضَّل أن تكون الملابس اليومية فضفاضة وطويلة، على أن يقصر الكم الأيمن قليلًا إلى ما فوق الرسغ. ثم إنَّ مقدار طول بطانية النوم لا بد أن يكون بحساب طول الشخص مرة ونصف المرة. ويُفضَّل أن تبطن حشايا متكأ الجلوس، بأجود فراء الثعالب، وفيما خلا فترة الحداد، يستطيع المرء أن يرتدي ما وافق رغبته، فلا ينبغي أن يزيد طول المئزر أكثر من المعتاد، وذلك باستثناء ثياب العمل الرسمية. وليس لعاقل أن يذهب للمواساة بثياب جلدية سوداء مبطنة بفراء ولا بقبعة سوداء أيضًا، ويفضَّل أن يذهب السادة المهذبون إلى القصر الإمبراطوري في أوائل الشهور القمرية بثيابهم الرسمية الكاملة.

(١٠–٧) ومن الآداب القويمة، أثناء فترة الصوم، أن يرتدي الصائم لباس استحمام قطنيًّا، وألَّا يقرب الخمر أو اللحوم مطلقًا، كما ينبغي ألَّا يُقيم الرجل مع امرأته في غرفة واحدة أو يمسها طوال فترة الصوم.

(١٠–٨) لا ينبغي أن يغسل الأرز حتى يبيض لونه، ولا يقطع اللحم حتى يصير نتفًا بالغة الصغر، ولا يأكل طعامًا تحلَّلت أجزاؤه، أو تغير لونه، وأنتنت رائحته، وحذار من طعام نيئ أو أكلة قليلة لا تشبع، ويتعفَّف عن ذبيحة مرَّت برقبتها السكين — على غير ما أقرته الشرائع المعهودة — ولا يأكل لحمًا بغير توابل. وإذا جلس إلى مأدبة فليكن طبقه المفضل هو الأرز وليس اللحم، فتلك من آداب المائدة. وأن يشرب من الخمر بالقدر الذي لا يضيع منه عقله، وليحذر ما تبيعه الأسواق العامة من لحوم أو خمور (فاسدة، غير مناسبة للاستهلاك!). واعلم أنَّ القليل من الأعشاب العطرة بعد الأكل، يشد اللثة ويروق النكهة، ويلطف اللعاب، ويذهب برائحة الطعام من الفم.

(١٠–٩) كان كونفوشيوس يُشارك الأباطرة في الأعياد الرسمية لتقديم القرابين، فكان إذا منحوه قطعةً من اللحم، تناولها فأكلها في اليوم نفسه، فلا يدع منها شيئًا في خزانة مطبخه، وقد اعتاد ألَّا يقرب لحوم القرابين، إذا مرَّت عليها ثلاث ليالٍ كاملة.١

(١٠–١٠) لم يكن كونفوشيوس يُحرك لسانه بالكلام عند الطعام وعند النوم.

(١٠–١١) كان كونفوشيوس مواظبًا على تقديم القرابين؛ ينتقيها مما تيسر له من الطعام، ومن أطايب المائدة، مُتْبِعًا ذلك بفروض الاحترام الواجبة.

(١٠–١٢) بلغت بكونفوشيوس عزة النفس والأنفة، أنَّه لم يكن يجلس على كرسي لم يُعَدَّ له حسب قواعد الآداب العامة.

(١٠–١٣) كان كونفوشيوس يختلف إلى مآدب السمر في قريته، يتحدث ويشرب مع الفلاحين، ولم يكن يغادر مجلسه، حتى يسبقه أكبر الناس سنًّا (مبالغة في الاحترام!)

(١٠–١٤) ولطالما شارك المُعلم في المناسبات الدينية والعقائدية التي كان يقيمها أهالي قريته من الريفيين البسطاء؛ فكان يرتدي زيه الرسمي، ويقف عند المدخل الأيمن للمعبد، وهو المكان المخصص للضيوف والزوار.

(١٠–١٥) كان من عادة كونفوشيوس، إذا عهد إلى رسول بإبلاغ تحية أو إرسال خطاب إلى صديق بعيد، أن يرافقه حتى أول طريق السفر ثم يودعه وهو ينحني له مرتين، احترامًا وعرفانًا.

(١٠–١٦) تلقى كونفوشيوس، من السيد «جيكانزي» مجموعة من الأعشاب الطبية النادرة، فقبِلها منه، وانحنى له احترامًا، لكنَّه قال: «بالرغم من أنِّي قبِلت تلك الأعشاب الطبية؛ لكني لن أستعملها، وذلك لأنِّي لا أعرف شيئًا عن خصائصها ومدى نفعها وضررها، فليس كل دواء يشفي، ولا كل داء يُميت.»

(١٠–١٧) كان حريق هائل قد شبَّ في مذود للخيول، فهرع كونفوشيوس إلى مكان الحادث، وطفق يسأل: «هل أُصيب إنسان؟»، ولم يكترث لما أصاب الخيل، ولا سأل عنها في تلك الساعة.

(١٠–١٨) كان كونفوشيوس عارفًا بأصول الآداب مع أباطرة المماليك في زمنه، فكان إذا أرسل إليه الملك طعامًا، تناول منه شيئًا بسيطًا ليتذوقه، ثم يشكر سيده على الفضل والإنعام، فإذا جاءوا له من القصر بلحم نيئ، طبخه، وأخذ منه قدرًا يسيرًا ليقدمه قربانًا للموتى، فإذا أرسل إليه الأمير طيورًا نادرة أو حيوانات أليفة، على سبيل التحية، أخذها فترفق بها وأطعمها واعتنى بها غاية الاعتناء، وإذا دُعيَ إلى مأدبة ملكية بادر إلى الطبق الموضوع أمام جلالة الملك فأكل منه نزرًا يسيرًا، بحسب ما تقضي به الأعراف.

(١٠–١٩) ذهب جلالة الإمبراطور إلى كونفوشيوس، ليعوده في مرضه الذي ألمَّ به، وبالرغم من آثار المرض الذي أقعده ومنعه عن الحركة، فقد اجتهد المُعلم في تحية الزائر المهيب، فغطى نفسه وهو راقد بالزي الرسمي، وعقد حول جسده شارة التاج الإمبراطوري، وأدار وجهه ناحية الشرق، تعبيرًا عن الإجلال والإكبار.

(١٠–٢٠) أرسل جلالة الإمبراطور يستدعي كونفوشيوس في أمر عاجل، فذهب إليه، يهرول على قدميه، ولم ينتظر، حتى، ليسرجوا له الخيل ويعدوا له الموكب.

(١٠–٢١) كان من عادة كونفوشيوس إذا دخل معبدًا في مملكة «تشوغو» أن يتفقَّد كل الزوايا والأركان، مستفسرًا عن أدق التفاصيل، تلافيًا للوقوع في محظور، وتجنبًا للإساءة إلى مشاعر المصلين وطقوس العبادة.٢

(١٠–٢٢) كان كونفوشيوس إذا مات له صديق، ولم يجد كفنًا ولا أهلًا يشيعونه، تقدَّم فبادر بنفسه إلى القيام بكل أعباء الدفن والجنازة.

(١٠–٢٣) لم يكن كونفوشيوس يحب أن يحني رأسه، حتى وهو يستقبل هدايا أصدقائه الفاخرة الثمينة، إلَّا إذا كانت الهدية لحم قربان مقدس، فكان ذلك استثناءً فريدًا.

(١٠–٢٤) لم يكن من عادة كونفوشيوس وهو نائم، أن ينبطح أو يستلقي ممددًا على سريره مثل جثة هامدة. ولم يكن في حياته الشخصية (في بيته) يتصرف بمنتهى الحيطة والجدية اللتين اتسم بهما في مظهره أثناء العمل أو العبادة، وإنَّما كان يتبسَّط كثيرًا ويُلين عريكته.

(١٠–٢٥) لم يكن كونفوشيوس يتوانى عن مواساة محزون في ثياب حِداد، سواء أكان صديقًا له، أو من آحاد الناس، وكان يقف تحيةً للمسئول الحكومي الكبير، وللكفيف فاقد البصر، ولكل مَن يحمل كتبًا وصحائف «من الدارسين»، أو لنعشٍ في جنازة، فكان يميل برأسه نحوهم، أو يترجل إن كان راكبًا، فإذا دُعيَ إلى مأدبة فاخرة، حيَّا القوم بما يناسبهم من التقدير والاحترام، وكان إلى جانب هذا كله، رقيق الوجه والوجدان، تفزع ملامحه إذا عصفت الريح أو أرعد البرق في السماء.

(١٠–٢٦) كان كونفوشيوس شديد الحرص على قواعد السلوك، حتى وهو يصعد إلى مركبته؛ فكان يقف معتدل الجسد، ويقبض بكفيه على مقبض الأمان مستندًا إليه، ثم يصعد متمهلًا واثقًا، فإذا ما استوى قاعدًا، هدأت حركته، فلا يلتفت خلفه، ولا يصيح بصوته، ولا يُشير أو يلوِّح بيده كثيرًا … أو نحو ذلك من الأفعال المحظورة على الراكب.

(١٠–٢٧) كان «زيلو» وكونفوشيوس يتجوَّلان قريبًا من أحد الأودية، ففيما هما سائران، إذ دبَّت أقدامهما على أرض مليئة بالحجارة فتعثَّرت بها وأصدرت ضجةً صاخبة، فإذا أسراب من الطيور تخرج من بين الأغصان والأعشاش وتفرُّ هاربةً إلى ربوة عالية، فلمَّا هدأ الجو حلَّقت فعادت إلى مواضعها الأولى، فقال كونفوشيوس: «يا لذكاء تلك الطيور؛ ولَّت هاربةً عندما استشعرت خطرًا، وحطَّت عائدةً لمَّا أدركت الأمان، فلا بد أنَّ لديها عقلًا يُدرك ويُحلل ويستجيب ويتألف على نحو بالغ الدقة والإتقان!» ثم إنَّ «زيلو» اتجه نحو الطيور ملوِّحًا لها بالتحية، فتقافزت الأسراب ذعرًا، وحلَّقت عاليًا في السماء.٣
١  جرت العادة في الصين قديمًا، أن يصحب الوزراء ملوكهم أثناء حفلات تقديم القرابين «لروح الموتى»، فكان ينال الواحد منهم قطعة من اللحم المقدس، من باب المجاملة، ولمَّا كانت الأعياد تستمر مدة يومين كاملين، فقد اضطر بعضهم إلى تناول حصته في اليوم الثالث، وكان رأي المُعلم أنَّ اللحم يتلف، ولا يصلح طعامًا آدميًّا فوق ثلاث ليال.
٢  هذا الفصل تكرار لما جاء في متن الفصل الخامس عشر من الباب الثالث.
٣  تتفق بعض التحليلات التراثية الصينية على صعوبة تقديم اجتهاد تأويلي واضح لهذا الفصل، لذلك فقد بقي، بألفاظه الحالية، مستعصيًا على الفهم والشرح والتفسير لدى مختلف المدارس الكونفوشية، والسبب في ذلك يرجع — تقريبًا — إلى الأخطاء اللغوية الكامنة في بنية المتن الأصلي، أو لتسرب بعض الألفاظ إلى هذا المتن، سواء: بالنقد، أو الحذف، أو الإضافة، أثناء عملية الإملاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤