الباب الرابع عشر

شيانون

وجملته أربعة وأربعون فصلًا
(١٤–١) جاء «يوانشيان»١ إلى كونفوشيوس، وسأله عمَّا يجلب الخزي والعار، فأجابه: «لئن كان من الطبيعي في وقت ازدهار الأمة أن يلتحق المرء بوظيفة رسمية، وأن يوسع على نفسه في العيش، يهنأ بما تدر عليه من دخل ومكانة طيبة، فإنَّه من غير الطبيعي؛ بل من المخزي، أن يظل المرء متمتعًا بنفس الوظيفة والراتب والمكانة في ساعة المحنة، عندما تضيق الحال وتتدهور البلاد.» ثم سأله «يوانشيان» ثانيةً: أيمكن أن يُشهد للرجل بالمروءة إذا تجنَّب البغضاء، والتكبر، والأنانية والجشع؟ فأجابه كونفوشيوس: «مثل هذا المسعى يستحق التقدير على كل حال!»

(١٤–٢) قال كونفوشيوس: «لا يليق بالمثقف الحقيقي (طالب المعرفة … أيضًا!) أن ينعم برغد العيش، ولا أن يلتذ بحياة سهلة مترفة.»

(١٤–٣) قال كونفوشيوس: «ليس على المرء حرجة في ظل دولة رشيدة طامحة، أن يتحرَّى الحقيقة والصراحة في الرأي والشجاعة في السلوك، أمَّا في دولة الظلام والفساد، فلئن كانت الاستقامة مسلكًا فاضلًا، إلَّا أنَّ كلمة الحق ينبغي لها أن تتلمس الطريق في حذر بالغ.»

(١٤–٤) قال كونفوشيوس: «من الجائز أن يقول الرجل المهذب حكمةً بالغةً أو حقيقةً دامغةً، لكن ليس لزامًا أن يكون كل مَن قال حكمة أو حقيقة رجلًا مهذبًا، ولئن كان المخلص الشريف يتصف بالجرأة والشجاعة، فليس كل جرئ بالضرورة مخلصًا شريفًا.»

(١٤–٥) جاء «نانكون» — أحد الدارسين — إلى كونفوشيوس، وقال له: «كان الملك «يوانغ»٢ بارعًا في الرماية، وكان الحاكم «ياو»٣ مقاتلًا بحريًّا من الطراز الأول، ومع ذلك فقد مات كلاهما ميتةً بشعةً؛ أمَّا الإمبراطور «يو»٤ والسلطان «جي»٥ اللذان بدآ حياتهما مزارعَيْن متواضعَيْن، فقد بلغا صولجان الحكم وعرش الأباطرة! فكيف تُفسر لنا تلك الأحجية التاريخية الغريبة؟ ثُمَّ إنَّ كونفوشيوس سكت ولم يرد بشيء، فلمَّا قام السائل وخرج، تحدَّث عنه المُعلم بإعجاب شديد ممتدحًا أخلاقه واتجاهه المنادي بالمنافسة الشريفة (كوسيلة مشروعة للوصول إلى كرسي الحكم بدلًا من الانقلابات الدموية!)

(١٤–٦) قال كونفوشيوس: «ربما أتوقع أن أجد بين المهذبين بعضًا ممن قست قلوبهم، لكني لا أتوقع أبدًا أن أجد بين الحمقى الجهلاء واحدًا مهذب الخلق.»

(١٤–٧) قال كونفوشيوس: «كيف يُمكنك أن تزعم إخلاصك لشخص، دون أن تبذل له النصيحة، وكيف تقدر أن تدعي الحب لإنسان دون أن تحثه على الكد والاجتهاد والعمل.»

(١٤–٨) قال كونفوشيوس: «كانت صياغة اللوائح والقوانين في مملكة «تشنغ» مسألة تجري في غاية الدقة والضبط، فقد كان بيشن٦ هو الذي يتولى الصياغة الأولى للقواعد القانونية المبدئية، ثم يتسلمها «شيشو»٦ فيتفحصها ويُبدي ملاحظاته المحددة، ثم يناولها إلى «زايو»٦  الذي يقوم بتنقيح الصياغة وضبط المتن بنصوص وهوامشه، وأخيرًا، يأتي «زيشان»٦ فيحرر ويوثِّق النسخة المعدَّة للاعتماد الرسمي كنسخة نهائية ومضبوطة وصالحة للعمل العام. وقد كان من النادر، في ظل هذا الإشراف الرباعي المشترك، أن تشوب تلك النسخة أيَّة أخطاء.»

(١٤–٩) جاء رجل إلى كونفوشيوس، وسأله عن أخلاق «زيشان»، فأجابه: «هو جواد شريف الأخلاق.» ثم سأله عن «زيشي»، فأشاح كونفوشيوس بوجهه بما معناه أنَّه دنيء لا يستحق الذكر، ثم سأله عن كوانجون — المتحدث الرسمي لدولة تشيقو — فأجابه: «لقد كان شديد البأس؛ فقد استولى على ثلاثمائة منزل من إقطاعية تخص أسرة «بوش»، مما نتج عنه تخريب هائل في مستوى المعيشة في الإقطاعية، إلَّا أنَّ شيخ الأسرة تكتَّم الأمر بلباقة ولم ينله بسوء حتى تُوفِّي.»

(١٤–١٠) قال كونفوشيوس: «من السهل على الغني الميسور أن يُعرض عن الخيلاء والزهو والمباهاة بمظاهر الثروة والترف، لكن من الصعب جدًّا على الفقير ألَّا يئن بالشكوى تحت وطأة الحرمان والفاقة.»

(١٤–١١) قال كونفوشيوس: «لعلي لا أتجاوز إذا قلت إنَّ رجلًا مثل «منكونشو» — مسئول كبير بمملكة «لوقو» — يصلح لمنصب المستشار الخاص لإمارتَي «جاو» و«وي» في دولة «جينقو»، لكني أتجاوز كثيرًا؛ بل أبالغ بما يفوق طاقة المعقول، إذا قدَّرت أنَّه يصلح للعمل وزيرًا لأي من الإمارات الصغيرة، مثل: «تانغ» أو «شيوي».

(١٤–١٢) جاء «زيلو» إلى كونفوشيوس، وسأله: كيف يحوز الرجل تمام الأخلاق؟ فأجابه: «يحوز المرء عظيم الصفات وأتم السجايا، إذا اجتمعت له حكمة «زانوشون»٧ — مسئول كبير بمملكة «لوقو» —، وورع «منكونشو»، وشجاعة «بيانشوانزي»، وذكاء «رانيو»؛ فإذا تمَّ له ذلك اتخذ من الموسيقى والفنون والآداب الراقية وسيلةً لتهذيب النفس، وترقية الحس.» ثم إنَّه صمت قليلًا، وعاد يقول: «إلَّا إنَّ هذه الصفات لا تُعد شرطًا لازمًا في كل زمان، فيُمكن أن يُعد الرجل مهذبًا فاضلًا في أواننا هذا، إذا استطاع أن يقاوم غواية الفحش والجشع والفساد، كما أنَّ المعيار الأساسي للإنسان الكريم الحر يبقى دائمًا في استعداده للتضحية بنفسه لأجل المبدأ، وفي وفائه لأمل الحياة، مهما كان شظف العيش.»

(١٤–١٣) ذهب كونفوشيوس إلى «كونمين جيا» — أحد الدارسين — وسأله عن «كوانشونز» — مسئول كبير بدولة تشيقو — قائلًا: «أصحيح أنَّ سيدك لم يكن يتكلم أو يضحك أو يخالط أحدًا من الناس؟» فأجابه الرجل بقوله: كلا … هذا افتراء عليه، وقد كذب مَن أبلغك بهذا؛ فقد لزمت سيدي «كونمين» دهرًا، فما وجدته يتكلم إلَّا لضرورة؛ لئلا يتزيد. ولا يضحك إلَّا لسبب يوجب الضحك؛ لئلا يبتذل ويذمم. ولم يكن يأخذ شيئًا من أحد إلَّا بحقه، ولا يُعطي شيئًا إلَّا لمَن يستحقه. ثم إنَّ كونفوشيوس تطلَّع إليه، قائلًا: «ما دريت أنَّ الأمر هكذا!»

(١٤–١٤) قال كونفوشيوس: «كان «زانجون» — وزير بدولة «لوقو» — قد تحايل على الأعراف والتقاليد ودفع أحد الأمراء بدولة «لوكو» لأجل إصدار مرسوم يقضي بتولي أولاده مناصب رسمية عظمى في المملكة، وقد أُشيع أنَّ هذا التصرف لا يُعد استغلالًا للنفوذ، فهل هذا معقول؟!»

(١٤–١٥) قال كونفوشيوس: «كان الأمير «أونكون» بدولة «جينقو» سقيم الضمير، ولم يكن على خلق مستقيم بأي حال، أمَّا الأمير «هوانكون» الذي بإمارة «تشيقو» فهو كريم النفس، سليم الطوية، غير خبيث ولا مخادع.»٨

(١٤–١٦) جاء «زيلو» إلى كونفوشيوس، وقال له: لما قتل الأمير «هوانكون» أخاه الأكبر «زيشو» تأثر واحد من أتباعه، فقتل نفسه ومات منتحرًا؛ أمَّا ذلك المدعو «كوانشون»، وبرغم كونه الخادم المخلص ﻟ «زيشو»، فلم يكترث لما حدث، ولم يتأثر لفقده سيده؛ بل سرعان ما هرول نحو الأمير «هوانكون» وصار من خُدَّامه، فيا له من متلبد، غشوم، غليظ القلب، أيكون هذا الرجل إنسانًا مثل الآدميين حقًّا؟! فأجابه المُعلم بقوله: «أما تذكر أنَّ الأمير «هوانكون»، كثيرًا ما جمع الأمراء والقادة وألَّف بينهم حقنًا للدماء؟ لقد فعل ذلك بفضل مجهود «كوانشون» نفسه، الذي لولاه، لدبَّت الحروب ونشبت الصراعات، فكيف نغمطه حقه؟ إنَّه هو الإنسان بكل معنى الكلمة.»

(١٤–١٧) جاء «تسيكون» إلى كونفوشيوس، وقال له: أيُمكن أن يُقال بأنَّ «كوانشون» إنسان ذو ضمير حي؟ لقد رأى سيده يُقتل أمام عينيه، فلا هو دافع عنه، ولا هو قتل نفسه وفاءً لسيده وصديقه؛ بل الأدهى من هذا أنَّه بذل نفسه لخدمة القاتل وصار طوع يده. فأجابه كونفوشيوس قائلًا: «نعم، هذا صحيح، لقد أصبح طوع يدِه وواحدًا من أتباعه؛ ولكنَّه ما فعل ذلك إلَّا ليوحِّد به الصف ويجمع به كلمة الأمراء، ويوحِّد الدويلات والبلدان كلها على قلب رجل واحد، ولولاه لما صار الناس يرفلون في هذا النعيم الذي تراه اليوم، ولأصبحوا كقطعان الماشية، أو الخراف الضالة تهيم في بوادي الهمجية والتخلف، ترسل شعورها على الأكتاف، وتضم قمصانها إلى اليسار [الزي القومي للأقليات الصينية قديمًا!]، هل كان مطلوبًا منه ليصبح إنسانًا في نظرك أن يُلقي بنفسه في أخدود جبلي مجهول، ليُدق عنقه ويموت ميتة تعسة مثل جرذان الجبل، بغير ضجة أو قيمة أو شرف؟!»

(١٤–١٨) كان السيد «تشوان» في أول أمره وكيلًا لشئون أسرة «كونشوانز» الملكية، فلمَّا رشحه أميرها الأكبر لمنصب الوزارة، انتشر الخبر حتى بلغ كونفوشيوس، فعلَّق على ذلك، قائلًا: «هو يستحق الترقية، ويستحق قبل أي شيء أن يُمنح لقب «رجل دولة من الطراز الأول».»

(١٤–١٩) كان كونفوشيوس شديد الانتقاد لسياسة الأمير «لينغ» في مملكة «ويقو»، فكلَّمه «جيكانزي» في هذا الأمر، وسأله: فما دام الأمير يسلك سبيل الحماقة، كما ترى، فكيف إذن بقي عرشه قائمًا للآن ولماذا لم يَزُلْ مُلكه، وتتبدَّد مملكته؟ فأجابه المُعلم قائلًا: «من المستحيل أن تسقط مملكة يقوم على شئونها الخارجية واحد في مثل عبقرية «جونشيو»، ويتولى إقامة طقوسها وشعائرها الدينية الزاهد الورع «جوتو»، ويترأَّس ألويتها المحاربة قائد محنك داهية، مثل «وانسون جيا».»

(١٤–٢٠) قال كونفوشيوس: «مَن وعد بالمستحيل تعذَّر عليه الوفاء!»

(١٤–٢١) لمَّا تآمر «شن هنز» على قائده الأمير «جانكون» وقتله غدرًا وغيلةً، بلغ الأمر كونفوشيوس، الذي كان يتعبد، وقتئذٍ، في محرابه، فقام وذهب إلى «أيكون» أمير «لوقو» فأخبره بما حدث، وقال له: «أرى أن ترسل حملةً عسكرية لتأديب ذلك المارق الغادر!» فأجابه الأمير، ووافقه الرأي، وطلب إليه الذهاب إلى الوزراء الثلاثة الكبار، فيبلغهم — على لسانه وباسمه — ضرورة اتخاذ اللازم، وصار كونفوشيوس وهو خارج من عنده يقول بين نفسه: «لولا سابق عملي وخبرتي كوزير مسئول لما قدَّرت خطورة هذا الوضع.» ثم إنَّه قصد إلى الوزراء الثلاثة الكبار: جيسون، وجون شن، وفنغون، لكنَّهم رفضوا، ثلاثتهم، القيام بتلك الحملات التأديبية. فنظر كونفوشيوس إليهم، وقال: «قد عرفت من رصيد تجربتي الفعلية مدى خطورة الأمر، فكان لزامًا عليَّ أن أحضر إليكم وأشعل فتيل الخطر.»

(١٤–٢٢) جاء «زيلو» إلى كونفوشيوس، وسأله: «كيف للمهذب أن يُرضي قائده الأمير؟» فأجابه: «بأن يبذل له الإخلاص، فلا يخدعه، ويبذل له النصح الأمين، ولو كان كوخز الشوك، فلا يمالئه ولا يتملقه.»

(١٤–٢٣) قال كونفوشيوس: «لا يعز المرء إلَّا إذا اشتغل قلبه بمبادئ العدل والإنسانية والمُثل العليا، ولا يذل إلَّا إذا جعل المنفعة والتربح والثراء الفاحش جُلَّ همِّه.»

(١٤–٢٤) قال كونفوشيوس: «ما أقبلَ القدماءُ على أبواب المعرفة إلَّا طلبًا للحكمة، وسعيًا لأجل مكارم الأخلاق وإشراق الهداية في مكامن الوجدان؛ أمَّا أهل زماننا فيتخذون مظاهر العلم زينةً وزخرف حياة، تشد إليهم إعجاب الناظرين.»

(١٤–٢٥) كان «شوبوي» — مسئول عظيم بمملكة «لوقو» — قد أرسل رسولًا إلى كونفوشيوس يبلغه تحياته، فاستقبله المعلم بترحاب شديد وأجلسه إلى جواره، ثم سأله عن سيده، وماذا يفعل، فأجابه المبعوث قائلًا: هو بخير، وما يزال يراقب أخطاءه ويحصيها على نفسه متمنيًا أن يعصم نفسه من الزلل، فهذا هو حاله في كل أوان. ثم إنَّ الرجل قام ومضى، وكونفوشيوس يرنو إليه بإعجاب، قائلًا: «أكرِم به من مبعوث ذكي فطن، فهكذا ينبغي أن تكون أخلاق الرجال نحو سادتهم الأجلاء.»

(١٤–٢٦) قال كونفوشيوس: «لا ينبغي للعاقل أن يتورَّط في شئون حكومية متخصصة لا يملك مسوغ البت فيها، ولا مسئولية القيام بأعبائها.»

(١٤–٢٧) قال كونفوشيوس: «ليس في الدنيا خصلة تأباها أخلاق الرجل الفاضل الشريف مثل أن تكون أقواله أكثر من أفعاله.»

(١٤–٢٨) قال كونفوشيوس: «ثلاث خصال كريمة، فشلتُ في أن أتخلق بها، وهي: سماحة الكريم، ثقة العارف الخبير، جرأة الشجاع ذي البأس.» ثم إنَّ «تسيكون» علَّق على ذلك قائلًا: لئن قال أستاذنا ذلك، فإنَّما كان على سبيل التواضع وكسر أنَفة النفس المباهية الجموح.»

(١٤–٢٩) اعتاد «تسيكون» أن يسخر من زملائه، وأن يلغو بسيرتهم، فقال له كونفوشيوس: «أراك تسخر من الناس، وكأنَّك وُلدت بغير عيوب، أمَّا وأنِّي لا أجد متعةً في ملاحقة نقائص الناس، فلست مستعدًّا لإضاعة وقتي في هذا العبث الدنيء.»

(١٤–٣٠) قال كونفوشيوس: «لا عليك بمَن لا يُقدِّر كفاءتك حق قدرها، فالعبرة بما تملكه من مهارة حقيقية ومعرفة واعية.»

(١٤–٣١) قال كونفوشيوس: «ليست الفطنة أن تنظر بعين الشك إلى الآخرين طوال الوقت، ولا أن ترميهم، جزافًا، بالغدر والنفاق، وإنَّما الفطنة والكياسة في أن تتحقَّق من نواياهم الخبيثة — إن وجِدَت — في الوقت المناسب (قبل أن يطولك أذاهم)!»

(١٤–٣٢) جاء «ويشن مو»٩ إلى كونفوشيوس، وقال له: ما الذي يدعوك إلى التنقل في أنحاء الأرض هكذا، لا تَقَر بمكان، ولا تهدأ لك حال، ففيمَ كل هذا التعب؟ لعلي بك تبغي أن تمد شهرتك وتتباهى بفصاحتك في الآفاق! فأجابه المُعلم: «لا هذا ولا ذاك، فما ظننت قط أني جدير بشهرة أو كفء لفصاحة، وإنَّما هو سعي دائم وجهد مقيم، أملًا في رقي الفكر، ودرءًا لضلالات الجمود والتعصب.»

(١٤–٣٣) قال كونفوشيوس: «ليست الخيل بقوة أجسادها أو متانة سيقانها، وإنَّما بطيب عنصرها وأصالة منبتها.»

(١٤–٣٤) جاء رجل إلى كونفوشيوس، وسأله: ما رأيك فيمَن يرد على الإساءة بالإحسان؟ فقال المُعلم: «فكيف ينبغي إذن أن نرد على الإحسان نفسه؟ (ما الذي يتبقى للرد على المعاملة الحسنة؟) فاعلم ألَّا راد للإساءة إلَّا بتمكين من نزاهة العدل (لرد الاعتبار) وشرف الاستقامة، ولا يكون جزاء الإحسان إلَّا الإحسان نفسه!»

(١٤–٣٥) قال كونفوشيوس: «لم أجد أحدًا من الناس يفهمني!» فسأله تسيكون: لماذا تقول ذلك يا سيدي؟ فأجابه: «لست أقصد أن ألقي اللوم على أحد؛ وإنَّما أقصد أنِّي تعمَّقت في علوم أهل الأرض (في دنيا البشر!) وحلَّقت في علوم السماء، فبلغت جذر الحق وأصل الحقيقة، فلست أجد طريقًا موصولًا بالفهم إلَّا بالسموات العُلا.»

(١٤–٣٦) كان «كونبولياو» قد تحدَّث بما يُسيء إلى «زيلو» في حضور السيد «جيسون»، ثم إنَّ الأمر كله بلغ أسماع «زيفو جينبو» — مسئول عظيم بمملكة «لوكو» — فذهب إلى كونفوشيوس، وأخبره بذلك قائلًا: يبدو أنَّ السيد «جيسون» قد صدَّق كل ما زعمه له «كونبولياو»، لكنَّي أؤكد لك أنِّي أستطيع أن أقتُل هذا الأخير، وأُمثِّل بجثته، وأجعله عبرةً لمن يعتبر! فأجابه كونفوشيوس، قال: «مهما أبديت من آراء واقتراحات في هذا الموضوع، فسيكون للقدَر اليد الطولى دائمًا، فلست أملك مقالة تُفيده أو تضره بشيء إلَّا إذا كان القدر سابقًا من قبل ومن بعد، فأين يفر المرء مما هو مُقدَّر وكائن!»

(١٤–٣٧) قال كونفوشيوس: «هناك البعض من أهل المروءة والفضل، من الدرجة العالية الشريفة، يعتكفون في بيوتهم، يعتزلون الدنيا كلها، اتقاءً لشر الناس. وهناك مَن هم أدنى درجةً: الذين يُهاجرون إلى ديار في جوار الخير والصلاح. أمَّا الأدنى درجةً، فهم أولئك الذين يضربون صفحًا عن النظر في وجه الناس، ويليهم الأقل منهم: أولئك الذين يُعْرِضُون عن سماع المسبَّة الفاحشة وبذيء القول.» ثم إنَّ كونفوشيوس زاد على ذلك بقوله: «… ولقد عرفت١٠ سبعة رجال فقط على هذه الشاكلة.»

(١٤–٣٨) كان «زيلو» قد بات ليلة عند البوابة الحجرية الضخمة، فلمَّا أصبح اليوم التالي قام وقصد الدخول إلى المدينة، فأوقفه رجال الحرس وسألوه عن مبتدأ سفره وخاتمته، فقال بأنَّه جاء من البلد الذي يقطن به كونفوشيوس، فقال له الحارس: أأنت من عند ذلك الرجل الذي ينطح رأس أفكاره … بجلمود الصمت وصخر المستحيل؟!»

(١٤–٣٩) لمَّا كان كونفوشيوس مُقيمًا بمملكة «ويقو» ذهب ذات يوم لأداء الشعائر وإنشاد التراتيل في أحد المعابد، وتصادف أن مرَّ به رجل يحمل سلالًا خشبية، فرآه وهو يرتل، فتوقَّف وأخذ ينصت، ثم إنَّ الرجل قال لكونفوشيوس: أنت تنشد وكأنَّك تفكر بعمق، ويبدو أنَّ ما تفكر فيه لا يستحق هذا التأمل؛ لكأنِّي بك تتألم في صمت، تشكو عزلة أفكارك لنفسك، فلو كنتُ مكانك لاخترت اعتزالًا عاقلًا وشريفًا، فأنت كسابحٍ في بحر، يُصانع إذا عصف التيار، ويُسابق الريح مواتية.» فلمَّا انتهى من قوله، التفت نحو كونفوشيوس، وقال: ها هو ذا رجل حنَّكته أيام عمره، فكيف لي بمجادلته؟!

(١٤–٤٠) جاء زيجانغ إلى كونفوشيوس، وسأله قائلًا: ورد في كتاب «التاريخ» ما نصه: «إنَّ الأمير «كوزون» أقام في الحداد على سلفه مدة ثلاث سنوات، بقي أثناءها ساكنًا بقصر «شون لو»، فلم يقرب ديوان المملكة، ولم ينظر في شئون الحكم، حتى انقضت تلك المدة» فهل هذا صحيح؟ وأجابه المُعلم قائلًا: «لم يكن «كوزون» وحده يتبع هذا التقليد، وإنَّما كان القدماء كلهم كذلك؛ إذا مات بينهم الحاكم، وانتقل الصولجان إلى خلفه، أقاموا في الحداد ثلاث سنوات، تحت إمرة رئيس وزرائهم، بينما يظل الملك الجديد — احترامًا لذكرى سلفه — بعيدًا عن مباشرة مهام الحكم الرسمية.»

(١٤–٤١) قال كونفوشيوس: «يصير الشعب أسلس قيادًا، وأخلص طاعة، ما دام أولو الأمر يراعون الحقوق ويصونون القواعد الرسمية المقررة.»

(١٤–٤٢) ذهب «زيلو» إلى كونفوشيوس، وسأله: كيف يكون الحاكم مهيبًا عادلًا؟ فأجابه: «بعظيم فضائله، وجليل أعماله.» ثم إنَّ «زيلو» سأله ثانيةً: أفي ذلك كفاية؟! فقال له: «مَن عظمت فضائله وجلَّت أعماله، استضاءت أركان مملكته بالعدل والسلام.» فسأله السائل: أفي ذلك الكفاية؟ فأجابه المُعلم: «أليس تحقيق الأمن والسلام هو غاية المنى؟ أما تعلم بأنَّ الأباطرة العظام، أمثال: «ياو» و«شون» — بكل مثاليتهما! — لم يبلغها هذه الدرجة.»

(١٤–٤٣) دخل كونفوشيوس إحدى القاعات، فوجد «يوان ران»١١ — أحد شيعته — جالسًا بغير تأدب، واضعًا ساقًا على ساق! فنهره قائلًا: «يا لجرأتك، أما آن لك أن تتبصر وترعوي؟! قد كنتَ في صباك غرًّا لا تراعي حق الكبير، ولا تُلين قناتك للصغير، وأراك هرمت دون أن تعي من أصول المعاملات شيئًا، فلا أنت حي تفقه مبادئ استقرت من الأزل، ولا أنت ميت لتدرك قدَرًا محتمًا فتُريح وتستريح إلى الأبد.»

(١٤–٤٤) قدم على كونفوشيوس فتى من إحدى مراحل القرى المجاورة، يرجو لقاءه بصفته مبعوثًا يحمل خطابًا رسميًّا، فلمَّا انتهت المقابلة، وغادر الفتى عائدًا، جاء واحد إلى كونفوشيوس، وسأله: ما رأيك في ذلك الفتى، أتراه ذكيًّا، طموحًا، ذا مستقبل يعد بالمجد؟! فأجابه المعلم: «قد رأيته يجلس إلى الأريكة الرسمية العالية، ويزوَرُّ عن الكرسي الخشبي البسيط، ثم لمحته يتودَّد كثيرًا إلى أصحاب النفوذ والسطوة، فهو إذن، وبالقطع، لا يطمح إلى المجد والتفوق، لكنَّه يسعى — وبأقصر الطرق — إلى بريق النفوذ، مفتونًا بمظاهر السبق والسطوة والسيطرة.»

١  يوانشيان: (٥١٥ق.م.–؟) أحد تلاميذ كونفوشيوس، وقد اعتزل المجتمع بعد وفاة أستاذه، ولزم بيته فيما بقي من عمره.
٢  الملك «يوانغ»: تروي السير أنَّه كان حاكم إقليم «يوشونغ» في عهد أسرة «شيا» الحاكمة، وكان بارعًا في الرماية، وقد قيل إنَّه بعد استيلائه على الحكم بالقوة من يد الملك «تايكانغ»، جرى اغتياله هو الآخر — بالغدر — على يد الوزير «هانجو».
٣  الحاكم «ياو»: تروي السير الشعبية أنَّه ابن «هانجو» — المتقدم ذكره — وكان مقدامًا جريئًا بارعًا في فنون القتال البحري، وقد قتل على يد الإمبراطور «شاوكان».
٤  الإمبراطور «يو»: كان — حسب النصوص التراثية — إمبراطورًا حكيمًا في زمانه، حقَّق إنجازات ضخمة في إقامة الخزانات والسدود المائية، وفي الإصلاح الزراعي بصورة عامة.
٥  السلطان «جي»: المؤسس الأول (المزعوم!) لأسرة «تشو» الحاكمة، وهو الذي علَّم الصينيين كيفية زراعة الحبوب، حتى اتخذه القدماء إلهًا للمزارع.
٦   بيشن، شيشو، زايو، يشان: كلهم وزراء بمملكة تشنغ.
٧  كان «زانشون» مسئولًا عظيمًا بمملكة «لوقو»، كان قد توقَّع، بتصوراته الدقيقة النافذة، سقوط أمير إقطاعية «شوانغ»، فقدَّم استقالته، واقترح سحب اختصاصات الإقطاعية منه، فما انقضت مدة من الزمن، حتى سقط الأمير مضرجًا في دمائه إثر عملية اغتيال، فاشتهر برؤيته الثاقبة.
٨  كان الأمير «أونكون» واحدًا من أشهر القادة في الفترة التاريخية المعروفة ﺑ «حقبة الربيع والخريف» في التاريخ الصيني القديم، وقد أجبر كل الأمراء على تقديس ملك دولة «جوكو»، لذلك اعتبره كونفوشيوس منافقًا؛ أمَّا الأمير «هوانكون» فهو أيضًا من أبرز رجال الفترة التاريخية نفسها، وقد قام بحملات تأديبية في المناطق النائية، وضمها تحت سيادة ملك دولة «جوكو» في شجاعة وتفانٍ، لذلك تحدَّث عنه المُعلم بإعجاب.
٩  «ويشن مو»: شخص غير معروف، يُرجح — حسب السياق — أنَّه رجل كبير السن.
١٠  الرجال السبعة هم: بواي – سوتشن – إيجون – آيي – جوجان – ليوشياوي – شاوليان.
١١  يوان ران: واحد من المقربين إلى كونفوشيوس، وكان مشايعًا للفلسفة «الطاوية»؛ ومن ثم فقد كان أكثر تحررًا وانبساطًا في سلوكه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤