الباب الخامس عشر

ويلينغ

وجملته اثنان وأربعون فصلًا

(١٥–١) ذهب الأمير «لينكون» أمير دولة «ويقو» إلى كونفوشيوس، وسأله عن أمور تتعلق بالخطط القتالية والتجهيزات العسكرية. فأجابه المُعلم قائلًا: «أستطيع أن أبحث معك أيَّة مسألة تختص بقواعد الأخلاق وأصول المعاملات، فذلك هو الموضوع الذي أفقهه وأدرسه؛ أمَّا الحرب وشئونها، فذلك ما لا قِبل لي به.» ثم إنَّ كونفوشيوس قام في اليوم التالي ورحل عن المملكة.

(١٥–٢) بينما كان كونفوشيوس في إحدى جولاته البعيدة مع مريديه في أنحاء الممالك المختلفة، نفذت منه أجولة القمح، وأشرف على المجاعة والهلاك — وذلك عند حدود مملكة «تشنقو» — وتساقط تلاميذه بين مريض ومحتضر. وحدث أن تقابل مع «زيلو»، فشكا إليه هذا الأخير سوء الحال، وسأله: قل لي يا سيدي، أترى الماجد الشريف يُجرِّب في حياته مثل هذا الضنك وقلة الحيلة؟ فأجابه المُعلم: «نعم، لكنَّ الماجد الشريف يُثابر ويصبر في وقت المحنة، أمَّا الدنيء فيقترف الآثام والمفاسد، وينكص على عقبيه (متراجعًا عن مبادئ الأخلاق) باسم الضائقة شديدة الوطء، متعللًا بالظروف بالغة القسوة.»

(١٥–٣) كان كونفوشيوس يتحاور ذات مرة مع «تسيكون»، فقال له: «أوتظن أنِّي أعتمد على ذاكرتي للأحداث أو مذكراتي وحفظي لقواعد العلوم؟» فاستغرب «تسيكون» ونظر إليه مندهشًا مستنكرًا، فراح كونفوشيوس يُفسر له الأمر بقوله: «المسألة عندي لا ذاكرة ولا مذاكرة، وإنَّما فقط فكرة أساسية، ومبدأ أصيل ثابت، أُقيم عليه تصوراتي، وأنظم به شتات الأفكار.»

(١٥–٤) تحدث كونفوشيوس إلى أحد أتباعه قائلًا: «ما أقل الناس الطيبين في هذه الدنيا، يا جونيو.»

(١٥–٥) قال كونفوشيوس: «لم نعرف — فيما نعهد — حاكمًا استتبَّ له الأمر، ورضخت له الممالك طائعةً راضيةً، إلَّا الإمبراطور «شون»، هو وحده الذي كان يستطيع أن يجلس إلى عرش إمبراطورية عظمى هادئ البال، مطمئن النفس، تاركًا للمقادير أعِنَّتَها.»

(١٥–٦) جاء زيجانغ إلى كونفوشيوس، وسأله: كيف للمرء أن يصير مسموع الكلمة، نافذ الرأي؟ فأجابه قائلًا: «يصير المرء كذلك بأن يخلص في القول والعمل، فهي مفتاح الصدق في كل مكان وزمان، مهما تناءت الأصقاع أو قدمت العهود، وإيَّاك والغش أو التهور الأخرق، فإنَّها تسد عليك أبواب بيتك، وتذهب عنك الجار والصديق، فاحفظ تلك الكلمات «واحفرها» في قلبك، وفي عقلك، وفي مخيلتك، وأمام ناظريك طوال الوقت، مخلصًا صادقًا، يستقِم مسعاك ويفُز رجاؤك.» ثم إنَّ زيجانغ أخذ يكتب هذه الكلمات على قميصه (في الأصل: على حزامه!) ليقع عليها بصره في كل حين.

(١٥–٧) قال كونفوشيوس: «ما أعظم استقامة «شيو» (مسئول ومؤرخ بمملكة «ويقو»)؛ فقد ظلَّ ثابتًا على مبادئه، مستقيمًا، نزيهَ اليد والذمة، إبان ازدهار المملكة وانتكاستها، وما أنبل الكريم الأمثل «تشيبوي»؛ فقد كان فارسًا وشهمًا وكريمًا، سواء وهو يؤدي عمله باقتدار أيام مجد الإمبراطورية، أو وهو يعتزل ويتوارى بلباقة، عندما دالت دولة الجاه، وعمَّت الفوضى في كل مكان.»

(١٥–٨) قال كونفوشيوس: «إن تدع الحديث مع عاقل متفتح الذهن، فتلك هي الفرصة الضائعة، أمَّا أن تطول حواراتك مع سفيه سقيم الفكر، فتلك هي الأوقات الضائعة. والعاقل لا يُضيِّع الفرص ولا الأوقات.»

(١٥–٩) قال كونفوشيوس: «إنَّ النبيل، صاحب المبادئ والمُثل، لا يُضحي بالفضائل حرصًا على حياته، وإنَّما يُضحي بحياته نفسها لأجل الخير والفضيلة.»

(١٥–١٠) ذهب تسيكون إلى كونفوشيوس، وسأله عن كيفية تحقيق المبادئ الفاضلة، فأجابه: «تأمَّل الصانع وهو يشحذ عدته ويُجهز أدواته، قبل أن يشرع في عملية إنتاج معقدة وطويلة لكنَّها ناجحة. واتخذ لك أصدقاء من أكرم الناس وأفاضلهم، إذا استقر بك المقام في أرض بعيدة (تجد ما أردت)!»

(١٥–١١) جاء «يان يوان» إلى كونفوشيوس، وسأله عن أفضل كيفية لحكم البلاد، فأجابه قائلًا: «إذا أردت أن توطد أركان سلطانك فعليك بتعميم استخدام التقويم الزراعي الذي وضعته أسرة «شيا» الملكية، وأن تستعمل العربات المصممة إبان حكم أسرة «إينشو»، فتلك أبسط الطُّرز وأمتنها، وأن تأمر الناس بارتداء الزي الرسمي لأسرة «جوشاو» الملكية بفخامته وجاذبيته، وأن تعزف في دور الموسيقى مقطوعات من مؤلفات اﻟ «يو» واﻟ «شاو» الراقصة، وأن تنأى بمواطنيك عن مهازل موسيقى مملكة «تشنكو» ورجالها المنافقين، فموسيقاها مبتذلة خليعة، ومنافقوها أخطر الكوارث الداهمة.»

(١٥–١٢) قال كونفوشيوس: «مَن لم يمد بصره بالتأمل الواعي والتخطيط الذكي على المدى الطويل، وجد عند كل خطوة عَثْرة، وعند كل مفترق عقبةٍ كَأْداء.»

(١٥–١٣) قال كونفوشيوس: «لقد بحثت عبثًا بلا طائل، بحثت ولم أجد أحدًا يُفضِّل حب الخير على عشق الجمال.»

(١٥–١٤) قال كونفوشيوس: «دلائل كثيرة تُشير إلى أنَّ زانوشون١ كان يستغل منصبه أبشع استغلال، من ذلك مثلًا أنَّه أحجم عن تعيين السيد «هويليوشيا» — موظف عظيم بمملكة «لوقو» — برغم علمه بكفاءته وجدارته لشغل منصب رسمي.»

(١٥–١٥) قال كونفوشيوس: «مَن أراد أن يتقي كيد الكائدين، فليكن متسامحًا، لينًا مع الناس، متشددًا وقاسيًا مع نفسه».

(١٥–١٦) قال كونفوشيوس: «وأنا أيضًا لا أملك أن أفعل شيئًا لمَن لا يقدرون على كيفية التصرف الواعي في الطوارئ والأزمات.»

(١٥–١٧) قال كونفوشيوس: «لا فلاح لمن كان جُل همه طوال يومه أن يثرثر قيما لا يُفيد، ولا نجاح لمن لم يقل حسنًا و«ينبذ» الحكمة من فمه.»

(١٥–١٨) قال كونفوشيوس: «الماجد المهذب مَن اتخذ الاستقامة سلوكًا أصيلًا، وسار على مبادئ الأخلاق الكريمة، فسلك بين الناس بالتواضع والإخلاص.»

(١٥–١٩) قال كونفوشيوس: «لا يضير العاقل أن يصير مجهولًا وسط الناس، وإنَّما يضيره بالغ الضرر أن يجهل قدراته الذاتية ومواضع كفاءته، فيفقد ثقته بنفسه.»

(١٥–٢٠) قال كونفوشيوس: «ينبغي للعاقل أن يخلف على الأرض اسمًا طيبًا بعد موته (أن يتدبر سيرة صالحة يتداولها الناس بعد موته)!»

(١٥–٢١) قال كونفوشيوس: «العاقل المهذب يفرض على ذاته التزامات قاسية، ويُطالب نفسه بالكثير؛ بينما الجاهل الدنيء يفرض على الآخرين ما لا يُمكن تبريره، ثم يجأر بالشكوى والتذمر في كل مكان!»

(١٥–٢٢) قال كونفوشيوس: «العاقل ثابت الجنان، مهيب الجانب، مع لين طبع، وسماحة صدر، يُخالط الناس، كل الناس، لا ينعزل ولا يتخذ عصبة أو جماعة، ولا يتحزَّب مع نفر دون آخرين.»

(١٥–٢٣) قال كونفوشيوس: «المهذب العاقل لا يُحابي منافقًا ذَرِبَ اللسان، فيبذل له المال والجاه بغير حق، كما أنَّه لا يذل رجلًا تكلم بالحق، حتى لو كانت الكلمات ثقيلة غليظة.»

(١٥–٢٤) جاء «تسيكون» إلى كونفوشيوس، وسأله: ألا تدلني يا سيدي على كلمة تهديني على مدى الأيام؟ فأجابه المُعلم قائلًا: «إنَّها كلمة «الرحمة» بمعناها الواسع! إذ لا ينبغي أن نضع على كاهل الآخرين ما لا نتحمَّله من أعباء.»

(١٥–٢٥) قال كونفوشيوس: «ليس من عادتي أن أذم أحدًا من الناس أو أمدحه بغير داعٍ، فما مدحت أحدًا إلَّا إذا كان تفوقه ومثابرته جديرَين بذلك، فهناك دائمًا الاختبارات والقواعد المحايدة التي تُحدد درجة استحقاق التفوق، ولست وحدي المبتكر لهذه «المعايير»! وإنَّما كان الحكَّام السابقون في الأُسر الإمبراطورية الثلاث: (شيا، شانغ، جو)، هم الذين ساروا على هذا المبدأ فدانت لهم الشعوب بالطاعة، وحسنت سيرتهم.»

(١٥–٢٦) قال كونفوشيوس: «كثيرًا ما صادفت في كتب التاريخ مسائل تُثير التشكك أكثر مما تقود إلى التسليم بصدق المرويَّات، من ذلك مثلًا: (تقرأ ما مفاده): أنَّ الرجل الذي كانت عنده خيول كثيرة، لم يكن يبخل ببعض منها على٢ جاره، الذي لا يملك منها شيئًا … (وهو الأمر الذي لم يعد قائمًا اليوم)!»

(١٥–٢٧) قال كونفوشيوس: «إنَّ كلمة مدح بسيطة (مجاملةً أو نفاقًا) قد تُفسد صرحًا هائلًا من الأخلاق، ولربما لحظة تهور عابرة تخرب ما عمَّره الزمان بطوله.»

(١٥–٢٨) قال كونفوشيوس: «مسألتان تستحقان المزيد من البحث والاستبصار: أن يكون المرء محبوبًا جدًّا، أو أن يكون مكروهًا للغاية بين الناس.»

(١٥–٢٩) قال كونفوشيوس: «إنَّها إرادة الإنسان هي التي تدعم الحق والإيمان (مبدأ «الطاو») وليس العكس.»

(١٥–٣٠) قال كونفوشيوس: «إنَّ أفحش الخطأ هو ما لم يزل يقع فيه المرء بالتكرار دون محاولة جادة لتجاوزه أو تصحيحه.»

(١٥–٣١) قال كونفوشيوس: «هناك الكثير من الأمور والقضايا لا تجديها نفعًا كثرةُ السهر، وعذاب التفكير المتواصل، والتأمل المستمر ليل نهار؛ إذ ليس مثل التعليم والتحصيل والدرس وسيلة وهداية لكل ما استغلق فهمه، أو تعذَّر الوصول إلى منطق أحكامه.»

(١٥–٣٢) قال كونفوشيوس: «العاقل من شغل نفسه بالعلم والتحصيل، وتناءى قدر الإمكان عن مشاغل المأكل والملبس وزخرف الحياة، ولئن كان الزارع يملك الأرض والثمر، إلَّا أنَّ الفيض والقحط قدَران مسلطان على الأعناق، أمَّا طالب العلم فيرتقي مكانته اللائقة، ووظيفته الرسمية (التي هي راتبه ومكافأته الدائمة!)، فلا يليق أن يلهيه فقر أو غنًى عن آفاق الغاية العالية الشريفة.»

(١٥–٣٣) قال كونفوشيوس: «اعلم أنَّ الحكمة وحدها لن تُمهد لخطو طريق، أو تحكم قبضتك على زمام الحقيقة، ما لم تجعل معها، الرحمة والإحسان. واعلم أنَّ الحكمة والرحمة في يد صاحب السلطة الرسمية لن تغنيا عن الشدة والحزم ليسلس له قياد رعيته، ثم إنَّ الحكمة والرحمة والحزم والاستقامة بغير قواعد المعاملات الإنسانية يُمكن أن تُصبح جميعًا حُكمًا بغير حكمة، وشرعًا غير مشروع!»

(١٥–٣٤) قال كونفوشيوس: «لا يُعرف معدن الرجال إلَّا في النازلات؛ فهي التي تسبر غورهم وتشد عزمهم.»

(١٥–٣٥) قال كونفوشيوس: «هناك مَن يظنون أنَّ الأخلاق والفضائل لون من الترف الفكري، والحق أنَّ الشعوب تحتاج إلى الفضائل كحاجتها إلى الماء والنار، أو ربما أشد قليلًا، وقد رأيت بعيني كوارث رهيبة بسبب فيضانات عاتية وحرائق متأججة، لشدة ما فاض من ماء أو لهب، ولكنِّي لم أرَ قط كوارث مفزعة نجمت عن مغالاة في التمسك بالفضائل.»

(١٥–٣٦) قال كونفوشيوس: «ليس هناك مقام أعلى من مقام الفضيلة، ولا حتى مقام المُعلم نفسه.»

(١٥–٣٧) قال كونفوشيوس: «العاقل مَن يصرف جُلَّ اهتمامه إلى الإخلاص للمبادئ، ويترفَّع عن الصغائر كلما أمكن.»

(١٥–٣٨) قال كونفوشيوس: «على مَن يعمل في البلاط الملكي تحت قيادة صاحب الجلالة أن يضع الأولوية المطلقة للمسئولية الرسمية قبل أي اعتبار آخر، بما في ذلك حق الحصول على الراتب النقدي المعين له.»

(١٥–٣٩) قال كونفوشيوس: «الكل في حق التعلم، سواء.»

(١٥–٤٠) قال كونفوشيوس: «لا ينبغي على مَن ينتهجون انتماءات سياسية متباينة مذهبيًّا أن يتبادلوا التشاور والأفكار في شئونهم المختلفة.»

(١٥–٤١) قال كونفوشيوس: «الأساس الصحيح للغة في كل مكان وزمان هو قدرتها على نقل المعاني بسلاسة ووضوح.»

(١٥–٤٢) ذهب «شيميان» (أحد كبار الموسيقيين) إلى كونفوشيوس في زيارة ودية، فاستقبله، وأخذه بيده وقرَّبه إلى عتبات السلم (وكان شيميان كفيفًا، مثل معظم الموسيقيين قديمًا!) وهو ينبهه إلى موضع الدرجات ليرتقيها، فلمَّا وصل به إلى مقعده أجلسه، فلمَّا استقر جميع الحاضرين جلوسًا أخذ كونفوشيوس يقترب من أذن ضيفه ويُبلغه بأسماء الحضور وأماكن جلوسهم واتجاهاتها، ثمَّ لمَّا انتهت الزيارة، وغادر الجميع خارجين، راح زيجانغ يسأل كونفوشيوس: لمَ تكلَّمت هكذا مع الموسيقي الضرير هذه الليلة؟ كيف تهمس له وتناجيه منفردًا هكذا؟! فأجابه: «تلك هي الطريقة الملائمة التي تناسب فنانًا عظيمًا مثله!»

١  زانشون: (؟–٦١٧ق.م.)، وزير شئون الدولة في «لوقو».
٢  تتفق معظم اتجاهات التفسير التراثي الصيني على صعوبة إيجاد التخريج الترجمي المناسب لدلالة لهذا الفصل، الذي يحمل في تركيبه الظاهر (جزئيًا) قدرًا من الخلل، يفصل المقدمة عن متنها، فيحرمها الرابط السببي المناسب. وبعد، فهذه محاولة متواضعة للتفسير في طيات الترجمة العربية التي بين يديك. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤