الباب الأول

ليانغ هوي

الجزء الأول

وجملته سبعة فصول

(١–١) التقى منشيوس بالملك «ليانغ هوي» (٤٠٠–٣٨٩ق.م.) (أحد أباطرة دولة وي في زمن الدول المتحاربة، تولى الحكم من ٣٦٩ إلى ٣١٩ق.م.) الذي ابتدره قائلًا: «ما أظنُّك قطعت كل هذا الطريق الطويل رغبة في خوض غمار السفر والترحال، فلا بد أنَّك جئتنا بشيء تجري علينا به الفائدة، ونتزود فيه منك، أنا وسائر المملكة، بالحكمة والخير العميم.» فردَّ عليه منشيوس؛ بما نصه: «ولماذا ينبغي أن نسعى دائمًا وراء النفع يا مولاي، أما يجدر بنا الاكتراث للإحسان وكرم الأخلاق؟! إنَّ الملوك إذا تساءلوا عمَّا يعود بالنفع والفائدة على عروشهم، راح المسئولون والوزراء، بدورهم، يتساءلون عمَّا يُحقق النفع والفائدة لبيوتهم، وراح الناس كلهم، كبيرًا وصغيرًا، يتساءلون عمَّا يعود بالنفع والفائدة على مصالحهم الذاتية المتواضعة؛ ويصير الكل باحثًا عن نفعه الذاتي ومصلحته الأنانية، حتى توشك البلد كلها أن تتداعى أركانها ويتحطم جوهر وجودها.

إنَّ مملكة تتكوَّن قوتها العسكرية من عشرة آلاف مركبة مقاتلة تصير مطمعًا لرجل طموح لا تزيد كتائبه على ألف مركبة حربية، وإنَّ إمارةً لا تتعدى قوتها ألف مركبة حربية تُغري قائدًا لا تزيد قواته على مائة عربة مقاتلة باحتلالها؛ فتأمل أولئك جميعًا … فكل واحد منهم يملك فقط عُشر ما يطمح إليه؛ فصاحب العربات الألف يتطلع إلى العشرة آلاف، وصاحب المائة يتشوَّق إلى الحصول على الألف … فهكذا لو جعلنا المنفعة أهم من الفضيلة، لما قنع أولئك (الذين أشرت إليهم توًّا) إلَّا بعد أن يقبضوا بأيديهم على مبتغاهم، ويصير كل بعيد عن متناول أيديهم محط آمالهم ومنتهى غايتهم؛ ثم إنَّه لم يحدث قط أن كانت الفضيلة مُفضية إلى أن يهجر الرجل أباه وأمه، ولا كانت المنفعة سببًا في أن يمهل المرء شئون بلده ورؤسائه، ليس للملك أن يدعو لشيء سوى الفضيلة، ففي ذلك الكفاية وبلوغ الغاية، وليس هناك ما يستوجب الالتفات إلى ما يُحقق النفع الفردي.»

(١–٢) التقى منشيوس بالملك «ليانغ هوي» وسار معه حتى وقفا عند بحيرة في إحدى الحدائق، فأخذ الملك يتأمَّل منظر البجعات والأيائل والطيور من كل صنف عند شاطئ البحيرة، ورأى صور انعكاسها في الماء يبهج الأبصار، ثم تحدَّث الملك قائلًا للفيلسوف: «هل يجد الفضلاء والحكماء في مثل هذه المناظر متعةً مثل باقي الناس؟»، فأجابه: «في الحق، فإنَّه لا يستمتع بمثل هذا المنظر سوى أهل الحكمة، ومن الناس مَن يقتني هذه الأشياء، فينعم بامتلاكها دون أن يجد فيها متعةً صافية، وقد جاء في كتاب «الشِّعر القديم» ما نصه:

«برج الأقداس،
روح الزمان الذي
وضع الملك صورته وهيكل بنيانه،
ولم تقصر في بنائه الهمم،
ولم يتأخر واحد من الرعية
عن تقديم يد المساعدة؛
فتمَّ البنيان في نصف نهار،
وقد كانت تقضي الأوامر
بألَّا يقسو الناس على أنفسهم
لإتمام البناء قبل الأوان؛
لكنَّهم بذلوا أرواحهم بكل تفانٍ،
فلمَّا ذهب الملك تجاه البحيرة يتنزَّه،
وجد الأيائل سائمة
بأعناقها المنثنية،
رشيقة وهانئة،
وكانت الأطيار بريشها المجلوِّ الناصع،
تغرد، نشوانة،
حتى الأسماك
تقافزت فرحًا ورضًا،
يملأ جوانح الكون،
ويغمر الآفاق.»

فهكذا ترى أنَّ الملك «جو» وجد الرضا والسرور في قلب رعيته، وهو يدعوهم لبناء «البرج السماوي» والبحيرة الواسعة، لدرجة أنَّ الناس صاروا يُطلقون على هذه البحيرة الضحلة اسم «البحيرة المقدسة»؛ بل صاروا يَعدُّون كل ما فيها من طيور وأسماك وبجعات وسلاحف كائناتٍ مقدسةً أيضًا، فمن ثم كان يُمكن لحكام ذاك الزمان أن يعرفوا معنى السعادة، وأن يلمسوا ذلك بأنفسهم مما يتجلى في مشاعر الناس نحوهم، وإن شئت أن أذكر لك مثالًا مناقضًا لذلك، فهاك ما سجَّلته صحف «طانغ شي» التاريخية … من أنَّ الناس كانوا يرددون في الأدعية مقولة مفادها: «… سحقًا لأنوار الشمس، سحقًا لكل الشموس، وليتبدَّد الضوء وتهلك كل النجوم، ونذهب كلنا إلى الجحيم … فقد جربنا في الدنيا كل النعيم!» (وقد كان الملك الطاغية «شياجي» يزعم بأنَّه هو شمس الشموس والضوء الغامر للكون كله!).»

(١–٣) وتكلَّم الملك ليانغ هوي مع منشيوس، فقال: «قد بذلت قلبي وعيني لأجل بلادي، فما قصَّرت في شيء، وكنت إذا نزل القحط بجانب النهر الغربي، مددت يد العون لشعبي وعبرت به إلى الشاطئ الشرقي، أو — إذا تعذَّر عليَّ ذلك — حملت لهم ما يُقيم أودهم من الطعام (فلا أدعهم يهلكون جوعًا)، فإذا نزلت النوائب بجانب النهر الشرقي، سلكت مع الناس هناك مثلما فعلت في المرة الأولى، وتأملت، بعد هذا، سياسات الممالك المجاورة مع رعاياها، وتكشف لي أنَّها لا تسير معهم مثلما أتصرف حيال مواطنيَّ، ومع ذلك، فما كان مثل ذلك الإهمال من جانب تلك الممالك ينقص من ملكها شيئًا، ولا كان اهتمامي بشئون الناس تحت سلطاننا يزيد مما نملك قيد أنملةٍ، فما تعليلك لذلك؟» فأجابه منشيوس قائلًا: «أما وإنَّ جلالتك تحذق فنون الحرب والقتال، فاسمح لي أن أستعير من تعبير الحرب وفنونها ما يوضح قولي … فإنَّه إذا دعا داعي القتال، وبرزت إلى الساحات الدروع والمغافر، ونشب الطعن وتعانقت الرماح، كان نفر من المحاربين تقاعست هممهم، فولوا الأدبار؛ فمنهم مَن أسرع بالفرار من الميدان (… مائة خطوة)، ومنهم مَن تباطأ في النكوص عن ساحة القتال، وصار على بُعد (… خمسين خطوة)، فحينئذٍ تجد هؤلاء المبتعدين خمسين خطوةً يسخرون من الفارين ويتهمونهم بالجبن والتخاذل … أفلا ترى أنَّ معهم الحق في سخريتهم تلك؟»

وأجاب الملك قائلًا: «كلا؛ بل إنَّ كليهما ليس على حق في شيء، فكلاهما متخاذلٌ جبان.» فقال الفيلسوف: «ما دام الأمر كذلك، فلماذا ترغب في أن يزيد تعداد الناس في الممالك المجاورة؟! إنَّه لولا التوازن القائم بين مواسم الزرع والحصاد لزاد الثمر عن الجني، ولو كانت شباك الصيد متينة الصُّنع دقيقة المسام لما بقيت في قاع البحر أسماكٌ، ولولا ضرب الفئوس في جذوع أشجار الغاب، حسب نظام مُحدد ومواسم فصلية معلومة، لما بقيت الأشجار قائمةً على وجه الأرض (فتأمل ذلك …)، واعلم أنَّ في الوفرة أمن وأمان رعاياك، وعليه تقوم حياتهم؛ بل تهنأ به أرواح موتاهم في القبور، فإذا ما أصبحت الحياة أمنًا ورخاءً، وصار الموت خاتمةً كريمةً بعد عُمر مديد لمواطني بلدك؛ فقد أقمت مملكة الخير الباقية أبد الدهر.

ما ظنك بحقل مساحته خمسة أفدنةٍ مزروعة بأشجار التوت، أما يُمكن لصاحب مثل هذا الحقل (ما دام ميسور الحال هكذا) أن يرفل هانئًا في الحرير والديباج، حتى لو كان كهلًا متقدم السن.

وما قولك في حظائر الدواجن والماشية مهولة العدد إذا روعيت فيها وسائل التدجين الصحيحة، أفلا يستطيع صاحبها — حتى لو كان شيخًا في السبعين — أن يتخذ طعامه من اللحوم، في كل وجبة كيفما شاء؟

وما رأيك في أرض مساحتها مائة فدان تقلب فيها الزرع، واحتشدت خطوطها بالبذور، أليس ذلك كفيلًا بأن يدفع عن المزارعين المقيمين بأطرافها شر الجوع وغائلة السغب؟

وكيف لو تأسَّست دور العلم على مبادئ الفهم وأسس الاحترام (… الطاعة)؛ أما كان ذلك حقيقًا بأن يؤدب النشء ويرحم الشيبة.

فتأمَّل ذلك كله، واعلم أنَّك (باتباع السبيل الصحيحة) واصل إلى غرضك، بالغ سبيل الحكمة والخير في مملكتك؛ فأمَّا إذا صارت دواب الأغنياء في بلادك، تمرح في الطرقات كيف شاءت، تخطف الخبز من فم رعاياك، وتتركهم يتضورون جوعًا في الشوارع، فيقعون في التهلكة، وأنت تنظر وتقول: ليس هذا شأني، بل هو القضاء والقدر! فأنت عندئذ مثل قاتل يزعم أنَّه لم يجنِ على أحد، مع أنَّه هو نصل السكين الذي أزهق روح الضحية؛ فالملك الذي لا ينحي باللائمة على الظروف والأقدار، هو الذي تقصد إليه الناس جماعات شتى من كل حدبٍ وصوبٍ.»

(١–٤) قال الملك «ليانغ هوي» للفيلسوف: «يسرني أن أستمع إليك يا سيدي وأنت تعظني وتنير بصيرتي.» فردَّ عليه منشيوس بقوله: «هلَّا ذكرت لي الفرق بين القتل بسكين حادة والقتل بعصا غليظة؟» فأجابه الملك: «لا فرق هناك.» فسأله منشيوس: «فما الفرق، إذن، بين القتل بسكين حادة والقتل بواسطة القهر الذي تُمارسه السلطة السياسية؟» فأجابه: «لا فرق في هذا أيضًا!» فقال الفيلسوف: «ومع ذلك، فبينما يعمر مطبخك بأزكى الطعام، وتمتلئ حظائرك بأحسن الخيول المطهمة، يُعاني الناس في بلدك من الفقر والجوع، حتى استلقوا في الطرقات هياكل محطمة، كجثث افترستها السباع. وإذا كان الإنسان مجبولًا على كراهية منظر الوحوش وهي تنهش وتتعارك وتلتهم فرائسها، فكيف تسكت (… وأنت في مكانة الأب) وتدع لحم رعاياك في أنياب السباع الضارية، وقد قال كونفوشيوس ذات مرة: «إنَّ مَن يصنع للناس توابيت الدفن يمُتْ بغير ذرية تخلِّد اسمه بين الأحياء.» وذلك لمجرد أنَّ هذه المهنة تعتمد على التفرغ لطقوس الدفن وإقامة مراسم الجنائز ومواراة رفات الموتى. فما ظنك (لو كان كونفوشيوس حيًّا قائمًا بيننا الآن، ويرى الأمر متعلقًا ﺑ) أولي الأمر الذين يحاصرون رعاياهم بالجوع والحرمان؟»

(١–٥) قال الملك ليانغ هوي، وهو يُحادث منشيوس: «كانت دولة «وي»، كما تعرف، أقوى مملكة على ظهر الأرض، أمَّا اليوم فقد تغيَّر الحال كثيرًا، والمملكة التي كانت يومًا إمبراطورية متسيِّدة تحت السماء صارت نهبًا ممزقًا بين دولة «تشي»، التي احتلَّت حدودنا الشرقية وسلبت الأرض والكرامة في حرب مات فيها أكبر أبنائي، ودولة «جين» التي احتلَّت سبعمائة «لي» (ثلث الميل تقريبًا) من الحد الغربي (غرب النهر)؛ بينما لقينا ما يهين الشرف ويندى له الجبين على يد مملكة «تشو» في الجنوب، ولا أُخفي عليك أنِّي — وأنا القائد — أشعر بالخزي والعار في قرارة نفسي، وكم أتوق إلى الثأر لكرامتنا، وللشهداء … ولكل مَن حارب ببسالة في بلادنا، فقل لي ماذا أفعل؟» وأجابه منشيوس قائلًا: «تستطيع أن تصير إمبراطورًا متوجًا للأرض الصينية كلها، حتى وأنت في هذه المملكة التي لا تزيد على مائة «لي» مربع؛ وذلك بأن تطلق يدك في الحكم على النمط العالي الشريف، ملتزمًا بالأصول والمبادئ الأخلاقية والإنسانية، بغير أعباء تثقل كاهل رعاياك؛ من ضرائب باهظة أو عقوبات ظالمة.

وتسير فيهم بسياسة رشيدة، ترعى شئونهم وتغل بالخير حصادهم، وتلهم قلوبهم — العامرة بعنفوان الحياة — معاني تفيض بالبر والإخلاص والتفاني والتبجيل «حتى يصير كل واحد منهم رحيمًا بمَن يقيمون تحت سقف بيته، عارفًا بقدر ومكانة كل الناس تحت سماء الدنيا الواسعة، وحينئذٍ فقط يستطيع رجالك أن يصدوا كيد مبغضيك وأسنة رماحهم، ولو بالعِصي وأغصان الشجر الطرية، فيردوا عنك غارة قوات دولتي «جين» و«تشو»؛ ذلك بأنَّهما قد استولتا على أراضي رعاياك وحقولهم، فحالتا بين الناس وإعالة ذويهم، وفرقتا شمل الأُسر والعائلات وأذاقتاهم شر البلاء، حتى كاد الناس يفضِّلون الموت على الحياة، لذلك أرى أنَّك لو أرسلت بمَن يصلح الأمور ويرد صولة المعتدي لما قام في وجهك أدنى اعتراض. ولا تنسَ الحكمة القديمة التي تقول: «لا غالب لمَن غلب بالحسنى، ولا عدو لمَن أعدَّ عتاد الفضيلة»، فالطريق أمامك، فالعزمَ العزمَ، وحذار من التردد!»»

(١–٦) التقى منشيوس بالملك «ليانغ شان» [ابن الملك ليانغ هوي] فلمَّا خرج من عنده بدت عليه علامات الاستياء، وقال: «قابلت جلالته، والغريب أنَّني كنت أتطلَّع إليه من بعيد فلا أجد عليه سيماء رجل الدولة المسئول، ثم التقيته وجهًا لوجه، فما وجدت له سمة الملوك، ولا أمارات المهابة، ثم إنَّه ابتدرني — بغير مناسبة — بسؤال مباغت؛ قائلًا: «كيف يتحقَّق السلام على الأرض؟»، فأجبته: «يتحقَّق السلام إذا توحَّدت الممالك»، فسألني ثانيةً: «فمَن يستطيع تحقيق الوحدة؟» فقلت له: «أي واحد ليست هوايته قطع رقاب الناس وإزهاق أرواحهم»، فسألني: «فمَن يتبعه أو ينصره إذن؟» فأجبت: «لن يتخلَّف عن نصرته مخلوقٌ واحد على وجه الأرض، وقد بلغني أنَّ جلالتكم تعرف الكثير عن الأرض والزرع والحبوب والغلال، فما ظنك لو حدث مرةً أن امتلأت صفحة السماء بالسحب الكثيفة أثناء شهور القحط، خصوصًا شهرَيْ يوليو وأغسطس، ثم هطلت السماء مدرارًا حتى ارتوت الأرض، أما يطيب ذلك للبذور والثمر، فيتجدد النمو وتزكو الخضرة، وهو الأمر الطبيعي الذي لن تقف دونه أيَّة موانع، ومَن يتأمَّل أحوال زماننا — يا مولاي — ينظر حوله فلا يجد إلَّا راغبًا في إزهاق أرواح الناس، عازمًا على سفك الدماء. حتى لقد ظننت أن لو ظهر بين الناس رجل رشيد يبغض القتل، لصار الجميع خلفه ولتجدَّدت به الآمال، وتطلَّعت إليه الأفئدة، وتبعته الخُطى أينما سار، كما تطاوع المياه سيل النهر الجاري. وتلك أمور في الطبيعة تدركها البديهة؛ فمَن ذا يملك الوقوف في وجه تيار عارم!»»

(١–٧) التقى منشيوس بالملك تشيشوان (تولَّى الحكم من ٣١٩–٣٠١ق.م.)، فسأله الملك: «ألا يُمكن أن تقص عليَّ قصة الأميرين «تشيهوان» و«جيون» وحكاية تورطهما فيما جرَّ عليهما ما اشتُهر عنهما من ظلمٍ وطغيان؟» فأجابه الفيلسوف قائلًا: «لكن المشكلة أن أحدًا من تلاميذ كونفوشيوس لم يترك لنا خبرًا عن هذين الرجلين؛ لذلك لا أجد من آثار الأقدمين شيئًا يُفيدنا في معرفة تفاصيل ذلك الأمر. وما دمت جلالتكم قد تطرقت إلى ذكر هذا الموضوع الليلة، فإنِّي أستأذنكم في أن يدور الحوار حول المغزى الحقيقي لممارسة الحكم في الممالك، وبشكل خاص حول الكيفية التي ينبغي أن يكون عليها الحكم في ظل العرش الإمبراطوري المجيد»، فردَّ الملك قائلًا: «فقلْ لي، إذن، ما هو الركن الأساسي والقاعدة المُثلى التي يرتكز عليها العرش الحاكم وتنتظم بها أمور الممالك؟» فأجابه منشيوس: «إنَّ وحدة الممالك التي تقوم على قلوب يؤلف بينها جلالة الملك بالحب والتفاني، لا يُمكن أن تنال منها قوةٌ أو أن تعترض طريقها عقبةٌ أبدًا»، وهنا سأله الملك: «فهل تنقاد لي قلوب الناس عندئذٍ بالحب والأمن والتفاني؟» وردَّ الفيلسوف بالإيجاب، فسأله الملك عن السبب فيما دعاه إلى الرد بهذه الثقة، فأجابه: «كان السيد «خوهي» أحد مستشاريك قد حكى لي مرةً حكايةً موضوعها أنَّ جلالتك كنتَ جالسًا في شرفة القصر ذات يوم فرأيت رجلًا يسحب ثورًا في الطريق، فسألته إلى أين يمضي بذلك الثور؟ فأجابك قائلًا بأنَّه يريد أن يذبحه وفاءً بنذرٍ، فنهرته وقلت له بأن يدع الثور وشأنه؛ لأنَّك لا تحتمل منظره وهو منكمش في نفسه جزعًا مما سيلقاه من الذبح، وأبديت استغرابك من أن يقدم الرجل على قتل ثور من دون ذنب جناه! وعندما سألك عمَّا إذا كنت تقصد بذلك الامتناع عن الوفاء بالنذور، أجبته بالنفي، وأوضحت له أنَّ قصدك من هذا أن ترفع السكين عن رقبة الثور، وتذبح بدلًا منه كبشًا أو عَنزة صغيرة، ذلك هو ما بلغني يا مولاي، ولا أدري إن كان صحيحًا.» فأكَّد له الملك صحة الواقعة، فقال منشيوس: «فهذا المعنى الكامن في روح الشفقة والتراحم يكفي للتأليف بين قلوب الناس، وبرغم ما قد يُشير إليه تصرف جلالتك من دلالة على التقتير أو الشح أو الإقلال؛ لكني واثقٌ من أنَّك قد صدرت في قولك عن مشاعر حقيقية وأصيلة، مهما اختلف الناس حول تأويلها.» فقال له الملك: «نعم، هو كذلك حقًّا، لكن الشيء الغريب هو أن يُفكر الناس على هذا النحو، فما الذي يدعوني أن أبخل بذبح ثور، وبلادنا — كما ترى — ليست ضئيلة الموارد والمساحة «بالدرجة الملحوظة»؛ فكل ما في الأمر، هو أني تأثرت لمرأى الثور وهو مُساق إلى الذبح، وتخيَّلت منظر أحد الأبرياء وهو يُقاد إلى ساحة الإعدام بغير جناية، فلذلك طلبت أن يُذْبح كبش بدلًا منه»، فقال منشيوس: «ومع ذلك فلا تلم الناس أن ظنوا بجلالتك البخل، فكيف لهم أن يدركوا نوايا قلبك الباطنة، ثم إنَّ منطق العطف ومشاعر التأثر لمنظر ثور يُساق إلى الذبح بغير ذنب ينطبق أيضًا على كبش الأضحية الذي سيلقى مصير الذبح نفسه، بغير إثم، أليس كذلك؟» وضحك الملك بسخرية قائلًا: «عجبًا للأفهام التي تحيَّرت طويلًا في مسألة بسيطة كهذه! المسألة، يا سيدي، لا تتصل من قريب أو بعيد بالبخل الناتج عن شدة الحرص على ممتلكات ذات قيمة، أيَّا ما كانت، لكنَّها، ببساطة شديدة مجرد إحلال كبش بدل ثور … لا أكثر ولا أقل!»

فقال الفيلسوف: «لا تشغل نفسك بهذا التقدير كثيرًا، فقد كان موقفك، إجمالًا، يصدر عن نية طيبة ومشاعر مرهفة، وعمومًا، فأنت لم ترَ بعينيك سوى الثور، لكن الكبش لم يكن هناك.

وكثيرًا ما تتأثر مشاعر أفاضل الناس وكرماء الخلق بأحوال الطيور والحيوانات بمختلف أنواعها؛ حتى إنَّهم لا يطيقون رؤيتها ميتة، ومنهم مَن يُقسم بألَّا يقرب لحومها إذا ما ترامى إلى سمعه صوت أنينها وصراخها الحزين؛ لذلك تجد الكثير من هؤلاء الناس يجعلون مطابخهم في أقصى ركنٍ من المسكن، إن لم يباعدوا بينه وبين بقية المنزل بمسافة.»

وتهلَّل الملك قائلًا: «إنَّ قولك هذا ذكَّرني بعبارة في «كتاب الشِّعر القديم» مفادها:

«… ومهما تكن عند امرئ من خفايا،
وإن يظنها تخفى عن الناس، تُعلم …»

وما ذكَّرني بهذا القول إلَّا ما لمسته فيك من فطنة ومقدرة على فهْم ما يجول بخاطري من أفكار، كنت أنا نفسي لا أدركها على هذا النحو، حتى عندما كنت أخلو إلى نفسي وأحاول أن أجد رابطة منطقية بين هذه الأفكار … لكن، قُل لي، على أيَّة حال، ما علاقة ذلك كله بتحقيق النموذج الأكمل للحكم في المملكة؟» فأجابه: «ماذا لو جاءك واحد وأبلغك أنَّه قد أدرك من القوة قدرًا يُمكنه أن يرفع ثقلًا مقداره ألفَيْ وزنةٍ، ثم تكشَّف لك أنَّه لا يصمد تحت ثقل ريشة دجاجة؟ أو زعم لك أنَّه قوي البصر، حاد العينين، يرى أدقَّ الأشياء؛ ثم إذا به يعجز عن رؤية عربة تحمل أطنانًا من الحطب، فهل كنت تصدق مثل هذا الرجل لو جاءك بخبر؟» فردَّ الملك بالنفي القاطع. فلمَّا جاء الرد كما كان يتوقع الفيلسوف، انتهز الفرصة وقال لمحدثه:

«لا أرى من المفهوم أو المنطقي، يا مولاي، أن تقصر رحمتك على الدابة التي لا تعقل شيئًا، وتضِنَّ بذلك على الآلاف المؤلفة من أبناء شعبك، فلا فرق، من ثم، بين مَن احتمل أثقالًا أو ريش دجاج؛ بل قد يتقاعس المرء عن حمل ريشة عصفور، ما دام العصفور نفسه أهم عند الملك من الآدميين، ويعجز المرء عن رؤية عربةٍ محملة بالحطب والخشب؛ إذ لا فائدة تُرجى حينئذٍ من إعمال العين المبصرة بعد أن صارت والعمى سِيَّيْنِ؛ مما يعوق العدل والحكم الملكي القويم، فيضيع الأمن ويتبدد السلام، لا لصعوبة تحقيقهما، بل لعدم الجدية في اتباع الطريق المؤدي إليهما.» وهنا، سأله الملك شيوان: «فما الفرق بين العجز والتقاعس، حسب ما سُقْتَ من أمثلة؟» فأجابه: «إذا قلتَ للناس إنَّك لا تقدر على أن تعبر النهر بوثبة واحدة وأنت تحمل على كتفيك أثقالًا في وزن الجبال، صار قولك مقبولًا، والعجز مفهومًا؛ أمَّا إذا قلتَ بأنَّك لا تقدر على أن تُدلِّك جسد رجل مريض أقعدَته الشيخوخة؛ فذلك تقاعس يصدر عن فتور، لا عن عجز قهري ألجأتك إليه الظروف، فلهذا أرى أنَّ الحال الذي يشهد بعدم تقديركم للحكم الملكي العادل على نحو ملموس لا ينطبق على مثال عابر النهر بأثقاله الضاغطة، وإنَّما ينطبق أكثر على المتثاقل عن تمريض الكهل المتعلل بأوجاعه المتوهمة.

ثم إنَّ العطف على الكبير والضعيف سلوك ينبع من داخل جدران بيتك ليشمل الكبار والكهول، ويحفظ لهم مكانتهم، ويشمل أيضًا الصبية الصغار، عطفًا وحنانًا، وهو السلوك الذي سينتشر خارج إطار أسرتك الصغيرة، فيدخل كل بيت في مملكتك؛ وبهذا وحده تتقلَّد صولجان الملك وتصير الآمر الناهي في شئون بلادك، على النحو الذي تقرره بكل إرادتك، وقد جاء في «كتاب الشِّعر القديم» ما معناه:

«ليس للإمبراطور «أون» نظير ولا مثيل؛
بجملة ما شرَّع لأهل بيته،
وما فرض على إخوته
أبناء أمه وأبيه،
وكان مضرب المثل،
في الشرف والسؤدد بين قومه،
فانقادت له الممالك
في خاتمة المطاف.»

والمعنى هنا واضح؛ إذ يُشير إلى تعميم نطاق الخير بالتطبيق الأمثل للمبدأ الصحيح، فمن ثم كان لزامًا أن تمتد آفاق الخير لتشمل القريب والبعيد؛ بالدرجة التي تُحقق الأمن تحت السموات السبع والبحار الأربعة (أي في كل الأنحاء …) وإلَّا تعذَّر على المرء أن يضمن الأمن والسلام، حتى لامرأته التي تسكن بيته. وإذا تأمَّل الواحد منَّا سيرة قدامى الحكماء والقديسين، أدرك السر في تقواهم واتضحت أسباب سعيهم الدءوب في توسيع نطاق الخير والفضل والخلق الكريم، فماذا حدث للناس في زماننا إذن؟! إنَّ ما حدث، ببساطة، هو أنَّك يا مولاي، تُولِي أهمية فائقة للعطف على الطير والحيوان، دون أن تمد يد العون للإنسان. والأمور تقاس بالتبصر وإمعان النظر [حرفيًّا: الموازين بأثقالها، والأطوال بمقاييسها …] فهذا ينطبق على تقدير الجِرم المادي الملموس والمعنى الذهني المدلول عليه؛ وكذلك الأمر فيما يتعلق بالمعقول في الذهن، والمجبول في فطرة الوجدان والضمير؛ فتأمَّل ذلك واعلمه! ولا أدري إن كنت دعوت داعي الحرب والقتال، وجمعت ألويتك وفرسانك، وألقيت البغضاء في قلوب جيرانك؛ سعيًا للفخار أو اختيالًا باستعراض قوتك؛ مجلبةً للرضا والزهو وهدوء البال؟»

فقال الملك: «كلا … لم أرد هذا؛ إذ ليس فيه ما يدعو للسعادة، إنَّما هو أمل يحفز الخيال، وطموح يدعو إلى التفوق.»

فردَّ عليه منشيوس قائلًا: «فهلَّا تفضَّلت جلالتك بأن تذكر لي هذا الطموح وذلك الأمل»، فلم تصدر عن الملك نأمة، سوى ابتسامة ارتسمت على محياه، لكنَّه سكت ولم ينطق بشيء. فواصل الفيلسوف كلامه قائلًا: «أيكون دافعك لذلك بطنًا لا تشبع من نبت وافر وخير عميم، أم جسدًا لا يكتفي بما عليه من السندس والديباج الموشَّى، أم عينًا لا تقنع بلون الحياة رائقًا بديعًا فتطلب المزيد؟ أم آذانًا ما عاد يشنفها أعذب الألحان؟ أم تراه أملًا في إعداد حاشية من رجال أكثر طاعة وأسلس قيادًا وأكرم خُلقًا؟ وهو احتمال بعيد؛ لأنَّ رجالك ووزراءك هم أشد الرجال طاعة وتفانيًا وإخلاصًا … أيكون شيء من ذلك هو ما تطمح إليه جلالتك؟!» … فأجابه الملك: «كلا … ما أردت شيئًا من ذلك قط.» فقال الفيلسوف: «قد عرفت، إذن، مبتغى جلالتك، ولا أظن الأمر يزيد على كونه تطلعًا إلى توسيع حدود الإمبراطورية، وذلك بضم أراضي كل من دولتي «جين» و«تشو»، وإرغام رجالها وأمرائها على الرضوخ لكم وتقديم واجب الطاعة والإذعان لقراراتكم، ليمتد سلطانكم فوق الربوع كلها، برغم تحقيق الأمن والسلام فوق تلك الأراضي التابعة، لكني أقول لك إنَّك كنت تسعى جادًّا، بالفكر، لتحقيق هذا الطموح، فلست إلَّا صائد أسماك فوق أغصان الشجر.» فدُهش الملك متسائلًا: «أو ترى الأمر هكذا؟ (سيئًا إلى هذه الدرجة).»، فأجابه: «بل أسوأ مآلًا وعاقبةً، فصائد الأسماك فوق أغصان الشجر، قد ينأى عن الضرر برغم فشل المسعى، إلَّا أنَّ جلالتك لن تتمكَّن من تفادي الكوارث ما دمت عقدت العزم على المُضي في طريق آمالك وأحلامك.» فسأله الملك: «ألا تزيدني تفسيرًا وشرحًا لكلامك هذا؟» فاستدركه الفيلسوف بما نصه: «فأنت، فقل لي — إذن — أي الجانبين ينتصر إذا ما تصارعت مملكتا «تشو» و«تسو» معًا؟» فأجابه: «مملكة تشو، بالطبع!»، فقال له: «فمعنى ذلك، إذن، أنَّ دولة صغيرة لا تهزم أخرى كبيرة؛ ودولة ضعيفة لا تصمد أمام أخرى قوية، ومجموع مساحة الممالك — كما تعرف — يبلغ ألف «لي» مربع، تنقسم إلى تسع مناطق، ويبلغ نصيب مملكة «تشي» فيها مقدار التُّسع تقريبًا (من المناطق جميعًا)، ولو قام في ذهن أحدنا أن تتغلَّب دولة «تشي» بهذا الحجم على المناطق الثمان الباقية وتقهرها، فما الذي يمنع هذا التصوُّر نفسه من أن يضع مملكة «تسو» في مواجهة مع دولة تشو (بالصراع المسلح …) فلماذا نغفل جذر الأمر وأصل الموضوع. والحق أنَّه لم يعد أمامك إلَّا أن تُصدر قرارًا عاجلًا بتطبيق المبادئ الإنسانية: التراحم، الإخاء، الفضائل. وعندئذٍ، سيقصدك أصحاب الكياسة والفطنة من الملوك والوزراء والمسئولين، من أقصى أطراف الأرض، وتمتلئ مزارعك بكل يد تفلح وتبذر النبات، ويتكدَّس في أسواقك الباعة والتجار من كل جنس ولون، وتصير الطرقات المؤدية إليك مزدحمةً بأصناف من البشر، بكل أهل الدنيا، حتى المقهورون سيهرعون إلى أبوابك يسألونك العدل والإخلاص، فمَن ذا يجسر على أن يصد زحفهم؟»

وهنا قال الملك: «إنَّ ذهني قد تبلَّد بعض الشيء، ولست أفهم مقاصدك، فهلَّا تفضلت بتفصيل الأمر وزيادة الشرح، وأرجو ألَّا يضيق صدرك بما يعسر عليَّ فهمه.» فقال له منشيوس: «ليس سوى أماجد الناس وأكرمهم أخلاقًا هم الذين يقدِرون على احتمال شظف العيش والرضا بما قُسم لهم. أمَّا عامة الناس فلا أظنهم تطمئن نفوسهم وسط الفقر المحيط بهم من كل ناحية، ويصير الاحتمال الأقوى أن تتكدَّر أحوالهم؛ فيعيثون في الأرض فسادًا، ولا يتورعون عن اقتراف الآثام، ثم إنَّك لو حاسبتهم وأخذت على أيديهم إعمالًا للقانون، وحفظًا للنظام، كنتَ كمَن ينصب مكائد لعمَّاله ومواطنيه، يريد الإيقاع بهم من حيث لا يفقهون، فكيف يستقيم — في نظرك — التخطيط لسياسة رشيدة تقوم على النزاهة والأخلاق الفاضلة؛ بينما تبحث يد القانون عمَّن تُوقع به في مصائدها تربصًا بالناس، ثم تطلب إليهم تصديقها والانصياع وراءها في طريق الإنسانية والخير والسلام! لذلك يلزم الأميرَ الفطِن الداهية أن يضمن لشعبه حياة رغد وهناء، يعم فيها الخير على الآباء وينعم فيها بالجود والكرم أحفاد الأحفاد، فتقر العيون وتشبع البطون في وقت الرخاء، وتتصل القلوب بنبض الحياة أوان الشدة والبلاء، وعندئذٍ يُصبح من الممكن الحديث عن مبادئ التراحم والفضائل والأخلاق، وحض الناس عليها، وستجد الجميع، بعد ذلك، آذانًا صاغية، وحشودًا طائعة؛ أمَّا اليوم، وقد غابت مملكة الرخاء، فلا يجد المرء ما يُقيم به شأن بيته بعد أن امتنع الخير وعمَّ القحط، حتى صار مجرد البقاء حيًّا قصارى ما يستطيعه أو يتمناه إنسان، فإنَّ الحديث عن الأخلاق والمبادئ والفضائل يعد لغوًا من القول أو حديث أحلام وساعات ضائعة.

ولئن كنتَ، يا مولاي، تتطلَّع إلى حكم قوي الأركان، تُحقق فيه معاني الفضيلة والخير والإنسانية، فلماذا لا ترجع إلى المبدأ الأصلي الواضح والمعهود. وقد بلغني أنَّ عندك حديقة هائلة المساحة، فازرعها أشجار توت، فلعلك بعد برهة تتيح للشباب من الذكور فرصة ارتداء أثواب حريرية، وابذل اهتمامك وعنايتك بتربية الحيوانات واحفظ مواسم تكاثرها، فسيعود ذلك عليك بالخير الواسع؛ إذ تُطعم مِن لحمها العجائز والكهول، وابذر أرضك، فإنَّ خمسين فدانًا يُمكن أن تغل ما يدفع غائلة الجوع عن ثماني عائلات كثيرة العدد، وافتح أبواب معاهد العلم والدراسة أمام الجميع، واجعل مواد الأخلاق والفضائل موضوعات دراسية مقررة ليشب النشء على احترام الوالدين وتبجيل الكبار؛ فلا يعود شيخ أو كهل يمشي في الطرقات وعلى ظهره أحمال ثقال [هكذا]، وتأمَّل معي بلدًا يرتدي فيه الناس الحرير، وتعمر موائدهم باللحوم الطازجة، وينعمون بحياة هانئة بغير فقر ولا فاقة؛ ألا يصبح من السهل على الحاكم في مثل ذلك البلد أن يُقيم إمبراطوريةً إنسانيةً على أركان من المجد، مدعومةً بالخُلق والرحمة والفضيلة؟»

الجزء الثاني

وجملته ستة عشر فصلًا

(٢–١) في لقاءٍ بين وزير الدولة «جوانباو» والفيلسوف منشيوس، قال الوزير للفليسوف: «كان جلالة الملك قد استدعاني وأخبرني بمدى حبِّه للموسيقى، وأخذ يتكلم ويفيض دون أن أفهم مغزى شغف جلالته بالموسيقى والألحان، فهلَّا أفدتني بشيء مما عندك؟»

فأجابه منشيوس: «ما دام البلاط الملكي لدولة تشي قد تعلَّق بالموسيقى إلى هذا الحد، فهذا دليل على مدى ما ينتظر المملكة من نهضة ورقيٍّ.»

وفي أحد اللقاءات التي جمعت بين منشيوس وملك تشي، سأله الفيلسوف قائلًا: «أصحيح ما بلغني على لسان «جوانباو» من أنَّ جلالتك تهوى سماع الموسيقى هذه الأيام؟» فعندئذٍ تغيَّر وجه جلالته، وأجاب قائلًا: «ما قلتُه يومها بالضبط هو أنَّنا ما كنَّا نميل أبدًا إلى سماع الموسيقى الإمبراطورية القديمة تلك التي عفا عليها الزمان؛ وإنَّما نحب الاستماع إلى الألحان (الشعبية) البسيطة الذائعة في كل مكانٍ.» وهنا قال له الفيلسوف: «ما دام الأمر كذلك فلا بد أنَّ مستقبلًا راقيًا ومجيدًا ينتظر دولة «تشي»، وعلى أيَّة حال، فالموسيقى الشائعة في أيامنا هذه ليست إلَّا درجة متطورة من فنون النغم القديمة.» فقال له الملك: «فهلَّا شرحت لي ذلك، بقْدرٍ من التفصيل»، فردَّ الفيلسوف قائلًا: «بل قل لي أنت، أي الأمرين أدعى للبهجة وأسعد للنفس، أن تسمع الموسيقى وحدك أم بصحبة الآخرين؟» فأجاب: «مع الآخرين طبعًا»، فسأله ثانيةً: «وأيهما تفضِّل وأنت تسمع الموسيقى؛ أن تكون بصحبة نفر قليل من الناس، أم جمهرة كثيرة منهم؟» فأجابه الملك: «في جمهرة كثيرة بالطبع!» فانتهز منشيوس فرصة إجابة الملك بهذا المعنى، وقال: «فاسمح لي جلالتك — إذن — بتبيان حقيقة ما يدعوه الناس شغفًا بفنون النغم والألحان، فمثلًا لو أقمت جلالتك حفلًا موسيقيًّا صاخبًا في قصرك، وضجَّت الألحان حتى تناهت إلى أسماع الناس دقات الطبول الهادرة وصفير الأبواق، وبلغ درجة من الصخب ضجر منها الناس، وصار يُقبل بعضهم على بعض وهو يتساءلون مستنكرين قائلين: «إذا كان مليكنا يُحب الموسيقى إلى هذه الدرجة، فما له يوجع رءوسنا ويؤذي أسماعنا، فالواحد منَّا لم يعد يجِد صاحبًا يُجيد الإنصات، ولا زوجة، ولا أخًا يتحدَّث إليه وسط هذا الضجيج.» ولو أقمت جلالتك — مثلًا — حفلة صيد داخل أسوارك الملكية، وأخذت العربات تهرع بالجلبة المعتادة في كل الأنحاء، حتى تناهى ذلك إلى الناس خارج القصر وصاروا يُشاهدون مراسم الصيد من بعيد، والبيارق الملوَّنة الصاعدة في السماء، فلا بد أنَّهم سيتكدرون للغاية، وينطق ناطق أحوالهم بما فحواه: «… لئن كان الملك يهوى الصيد على هذا النحو، فما ذنبنا نحن وقد كدَّر صفونا، وبدَّد هناءة عيشنا بما جلب علينا من تلك الأحوال، حتى بلغنا مبلغًا سهونا فيه عن أهم الأمور والغايات.» … والعلة في كل ذلك، يا سيدي هي عدم مشاركة الناس فيما عنَّ لك من متعة التذوق الفني الجمالي؛ أمَّا إذا أقمت حفلًا موسيقيًّا فخمًا، فصدحت فيه الألحان حتى بلغت عنان السماء، والناس حولك فرحون متهللون، يقول أحدهم للآخر: «ما أنبل روح جلالة الملك وما أعظم خلقه وأبلغ تقديره الفني الرفيع، بما جُبِل عليه من إحساس مرهف بالأنغام والموسيقى.» … فإذا دعوتهم إلى حفل صيد عام، وأريتهم عرباتك الفخمة، وجعلت بأيديهم شارات المجد الملكي مشرعةً، لرفعوا إليك وجه الابتهاج، ولتحدثوا فيما بينهم قائلين: «ما أبهى جلالة الحاكم، وأتمَّ حلمه، وأبلغ مقدرته على تسيير دفة الأمور في البلاد.»

والسبب وراء ذلك يكمن في مشاركتك إياهم مظاهر الفرح والابتهاج. فإذا استطعت أن تبلغ بهم تلك الحال، دانت لك قلوبهم، ورضخت لك أعناقهم، وبلغتَ بهم جلال السؤدد والشرف الذي لا مزيد عليه.»

(٢–٢) تساءل جلالة الملك شيشوان قائلًا: «أصحيح ما بلغني من أنَّ المَلك «جوين» (مؤسس دولة جو) كان يملك مزرعةً للصيد تجاوزت مساحتها سبعين ألف لي مربع؟» فأجابه منشيوس: «ذلك ما ذكرَتْه سجلات التاريخ!» فعاد الملك يسأله: «وهل كانت مزرعته على هذا النحو من الفخامة حقًّا؟» فردَّ منشيوس، قال: «أنت، يا مولاي، تراها فسيحة الأرجاء، هائلة المساحة، لكن الناس — وقتئذٍ — كانوا يرونها أضيق من كوةٍ وأضأل من حجرٍ.» وهنا سأله الملك: «فما بال الناس يرون حديقتي أفسح وأكبر من كل ما سواها، بينما لا تكاد تزيد مساحتها على أربعين لي مربعًا؟» فأجابه منشيوس: «كانت حديقة الملك «أون» على اتساعها، يقصدها الصيادون والبستانيون وقاطعو الأخشاب، وكل عابر طريق، فلم يحدث أن أغلقت أبوابها مرةً دون أحد من هؤلاء، فلمَّا غصَّت جنباتها بالواردين وامتلأت طرقاتها بالزائرين أصبح الجميع يرونها ضيقة تكاد لا تنفسح دروبها لمسعى الزائرين؛ ثم إنِّي أردت الدخول من أسوار مملكتك فلم يتيسَّر لي ذلك إلَّا بما أُملي عليَّ من مواثيق مغلظة، وما أُرغمت عليه من إجراءات مشددة تفرض الالتزام الصارم بما درج عليه الناس هنا من عادات وطرائق حياة. وقد قال لي القائل بأنَّ هناك مزرعة صيد هائلة تبلغ مساحتها أربعين لي مربعًا تقع في قلب بلادكم، لكنِّي أُبلغت بأنَّ اللوائح تنص على أنَّ مَن يُطلق سهامه على أيل واحد من أيائلها فيرديه جاثيًا يُقتل قصاصًا، فتؤخذ رقبة إنسان برقبة دابة، فمَن يريد أن يجلب على نفسه الهلاك باقترابه من أسوار المزرعة؟ فمن ثم خَلَتْ كل تلك المساحة من الزائرين وصارت بَلْقَعًا واسعًا مترامي الأطراف، وأضافت الرهبة مساحة أخرى فوق وحشة المكان فبلغت أضعافًا فوق أضعاف.»

(٢–٣) توجَّه الملك شيشوان إلى منشيوس، وسأله قائلًا: «هل هناك أُسس راسخة للعلاقات مع الدول المجاورة؟» فأجابه: «نعم يا مولاي، فالكريم الفاضل هو وحده الذي يُدرك أصول العلاقات مع الدويلات الصغيرة، بعقل واعٍ وقلب مفتوح، فلا يستنكف من أن يضع نفوذه الإمبراطوري ومكانته السامية في خدمة دويلة مجاورة، وهناك أمثلة تشهد بصدق ذلك من التاريخ؛ إذ تحفل السجلات التاريخية بما قام به الملك «تانغ» (مؤسس أسرة يين الملكية) من خدمات جليلة للأمير «كيه»، ومنها كذلك ما قام به جلالة الملك أون (حاكم دولة جو الكبرى) لأجل العشائر القبلية المجاورة بمنطقة «كوني». ثم إنَّ الحكيم العاقل، يا سيدي، هو الذي يعرف كيف يوظِّف إمكاناته لمصلحة الدول الكبرى، وأشهر نموذج لذلك هو الملك «طاي» (أحد أحفاد ملوك أسرة جو الملكية)؛ حيث أدرك وفهم الشروط التي أملتها الظروف المحيطة، والتي تجعل من الحكمة الإذعانَ لمصالح القوميات الشمالية الكبرى ذات النفوذ البالغ إبان فترة حكمه، ومن ذلك أيضًا ما انتهجه «كوجيان» (حاكم دولة «يوي») في علاقاته مع «فوتشاي» (حاكم دولة «أو» — كما تنطق في كلمة «أورشليم» —)، وكان هذا الأخير قد هزمه في إحدى المعارك، وفرض عليه شروط الاستسلام المهينة، فصدَّ كوجيان، وظلَّ ينتهز الفرصة إلى أن سنحت له بعد سنوات، فلم يتوانَ عن الانتقام.»

إنَّ الجبابرة الذين خفضوا جباههم كرامةً لجيرانهم الأدنى منزلةً، ارتفعت هاماتهم بالرضا السماوي المجيد، فنالوا السلام والأمان. أمَّا الأذلة الجبناء، الذين انسحقت رءوسهم مرضاة لعروش أباطرتهم، فقد أدركوا بواطن الفطنة والعقل الراجح بما أكبروا من ملكوت الجلال السماوي ونافذ سطوة الأقدار، فالذين أقاموا مجد الرضا السماوي تمجَّدت عروشهم، وصاروا فوق الممالك هامات عالية بالعزة والجلال.

فأمَّا المطروحة راياتهم إذعانًا ورضوخًا لقدر السماء فقدت تجلَّت بالعزة أقدارهم وتقدَّست بنور المعرفة قلوبهم، فصانوا أوطانهم، ودام بقاؤهم الدهر الداهر. وقد ورد في كتاب «الشهر القديم» ما نصه:

«أقم مجد السماء،
واحفظ في قلبك عظيم سطوتها،
إجلالًا ومهابةً.
تتبدَّد غيوم الرهبة مي عينيك،
ويشخص بك في كل طرف،
شاهد سلام وأمان».

وهنا قال الملك شيشوان: «لا فُضَّ فوك، قد قلت فأوضحت المعنى وأبدعت المقال، غير أني إذا تأمَّلت خصالي — على ضوء ما ذكرت آنفًا — ألفيتني أشد ميلًا إلى التفاخر بما نلت من حظوة، وما امتلكت من قدرة تفوق مثلها لدى الآخرين. وأدرك أنَّها نقيصة لا تليق بالخلق الأتم، إلَّا أنِّي قادر على مغالبة ما استقر عليه الطبع وركز في خصالي.» وقال منشيوس: «لا تدعن مظاهر القوة الساذجة تَعْلق بنياط قلبك، يا مولاي، ولا تكن كمَن يجرد سيفه القاطع في وجه الناس، ويصيح متهددًا متوعدًا بقطع رقاب مَن يجرءون على منازلته؛ فمثل هذا الفخر لا يليق إلَّا بالعامة والدهماء، ولا ينبغي لجلال منزلتك وعظيم بهائك إلَّا أن تسمو بمعنى الرفعة إلى آفاق المجد والشرف الملكي التليد.

وقد جاء في كتاب «الشِّعر القديم» ما مفاده:

«قد اجتاحته ثورة غضب ملكي،
واستقرت في قلبه مجمرة من عزة وإباء شريف،
فأصدر أمرًا إمبراطوريًّا
بحشد حشود وصد جحافل الغزو الغشوم،
فصدعت بالأمر أرتال ومواكب،
وانعقد للرايات،
خير الرجاء،
وعمرت بالفرح القلوب.
وقد بزغ نجم النصر المبين».»

ففي هذا المعنى ما يُمثل الفخر الشريف الذي يحث النفس على غضبة تثأر لنفسها من الذل الجبان وتُهيئ للناس — من حولك — أسباب العيش الكريم في أمان ودَعة وسلام! ولعلي (… أجد الفرصة الآن، مناسبة ﻓ…) أُذكِّرك يا مولاي، بما جاء في «شوجين» (كتاب التاريخ) من أنَّ «السماء التي وهبت الحياة لكل الناس، وخلقت الدنيا للجميع، وجعلت للناس أربابًا من فوقهم في دنيا معاشهم، فأولئك هم الملوك الذين اصطفاهم رب السماء ليكونوا مثال فضل وقدوة صالحة ليحتذي الناس حذوهم ما دام رضا السماء مبتغى جهدهم، وما دام حب الخير للناس هو قبلتهم التي لا يحيد عنها قصدهم. إلا إنَّ الملكوت الأعلى يظل بظله المشارق والمغارب، (وهو) فوق كل آثم فاجر وكل بر عفيف، وبيده القضاء في المثاب والعقاب (الكل رهن مشيئته)، قد مضى حكم القضاء وقام حد القدر؛ بيد أنَّ واحدًا من الناس (ألا وهو الأمير الفاسد «تشو» … «أواخر أسرة شانغ الملكية، القرن الحادي عشر قبل الميلاد») انتقض سُنَّة الملوك السابقين، فطغى واستبدَّ وعاث فسادًا، وسار في الناس سيرةً أحفظت عليه قلب العاهل الأكبر الإمبراطور «أو» [تنطق كما في «الأورمان»] الذي ثارت فائرة غضبه في إباء شريف، أطاح بالطغيان، وأقرَّ العدل في ربوع الممالك، فكانت تلك إحدى صولات الاندفاع الجريء، التي ما إن ينتفض بها عزم الملوك حتى يسود الأمن والأمان تحت السماء، مما يحدو بالناس إلى القبول بشيء من رعونة الحاكم وصلابة جرأته على النحو الذي ذكرت لك.»

(٢–٤) التقى الملك شيشوان، في «القصر الجليدي» بالفيلسوف منشيوس، وقال له: «هل ينعم الحكماء والفضلاء برغد العيش على نحو ما تجد حولي، في هذا القصر؟» فأجابه: «نعم يا سيدي، فالناس (الحكماء) إن لم تجد نعيم الحياة وتتمتع بألوان من رغدها، ألقت اللوم على الملوك والأمراء. ولئن كنت أنكر على اللائمين لومهم، إلَّا أنِّي لا أقر الولاة على الاستئثار بكل مجالات الاستمتاع بمباهج العيش دون العامة والبسطاء؛ فالحاكم الذي يجد في الحياة الكريمة لرعاياه هناءةً ورخاءً، لزم على مواطنيه أن يروا فيما يحظى به من ترف ودعة جدارةً واستحقاقًا وقسطاس عدلٍ، وكذلك إذا تكدَّر قلب الملك لما أصاب رعيته من كرب وضيق، فسوف تحزن لمصابه قلوب الناس أجمعين. واعلم، يا سيدي، أنَّ ملكًا تقاسم مع شعبه حلو الحياة ومرَّها لن يعدم وسيلةً للحكم الرشيد، أو منهاجًا سياسيًّا يقوم على العدل والتراحم.

وقديمًا، التقى «تشي جينكون» (حاكم دولة تشي) بالوزير الحكيم «يانزي» وطلب إليه الرأي والنصيحة حول أحد الموضوعات التي كانت تشغل باله، قائلًا للحكيم: «ها أنا ذا قد أزمعت السفر إلى منطقتَي «جوانفو» و«جاوو» (مناطق تلال جبلية)، ولعلي أنطلق من هناك، بعد استراحة قصيرة، مسافرًا بمحاذاة شاطئ البحر قاصدًا الجنوب، باتجاه منطقة لانغي، فبماذا تُشير عليَّ كي أجعل هذا السفر ترحالًا شريفًا مقدسًا، كدأب الحكماء الأقدمين؟» فأجابه الوزير يانزي قائلًا: «قلتَ فصدقتَ، فسألتَ فأحسنتَ السؤال يا سيدي، ولئن طلبت إجابتي فإنِّي قائل لك: إنَّ الإمبراطور الأعظم ابن السماء ذهب ذات مرة في رحلة تفقدية إلى الإمارات التابعة، والمقصود بالرحلة التفقدية القيام بزيارة إلى الإقطاعيات التي تحت سلطانه؛ ليقف على أحوال الأمن في المناطق الحدودية.

وذهب الأمراء للقاء جلالة الملك (خلال رحلته) في طقس رسمي يُعرف ﺑ «تقرير المهام الوظيفية». والغرض من هذا الإجراء أن يقوم كل أمير بعرض تقرير مفصَّل أمام الإمبراطور عمَّا قام به من أعمال أثناء توليه منصبه، ولم تكن الرحلة تخلو من مهام تفقدية متنوعة؛ ففي الربيع تجري مراقبة أحوال الزرع والحرث [فيستقيم ما اعوجَّ من الأمور ويوسع على الفقير، فيدفع عنه ما يجد من ضيق وشظف عيش]، وفي الخريف، يأمر جلالته بمراقبة أحوال الحصاد [حيث يُصدر أوامره بتعويض الأُسر التي تُعاني من نقص الغلال]، فكان الحال مثالًا لما نطقت به الحكمة الباقية من عهد الملوك الأقدمين، تلك الحكمة التي تناقلتها الأجيال، ومفادها: «مَن ذا يقعد ويهنأ له بال، إن لم يأتِ الملك ليتفقد الأحوال» … «مَن يرَ الملك وهو يسعى لمراقبة سير العمل يشهد بأنَّه خير مثال يُحتذى به من جانب الأمراء والدَّهماء معًا» … أمَّا اليوم، فقد تغيَّر الأمر كثيرًا؛ إذ أُفرغت الغلال في أفواه المحاربين فلم تبقَ حبة من محصول إلَّا أُنفقت لأغراض القتال، حتى هلك الناس جوعًا، وكلَّت سواعد العمَّال، وضجَّ الكل بالشكوى، واكفهرَّت الآفاق بأوخم العواقب، [وعلى الرغم من مثل تلك الرحلات الاستطلاعية] فالأمور تسير في غير ما ترضاه إرادة السماء؛ حيث يُمارس الملوك ألوانًا من الغش والخداع والبطش، تدفعهم أهواء الترف والتبذير سراعًا إلى المجون والانحلال مثلما يتسرَّب تيار الماء في النهر الجاري، وهم على هذا النحو، تتلاطم الأمواج والتيارات نحو دوامة من الضياع، مما أوقع الخوف في قلوب النبلاء الذين باتوا يتطلعون إلى تلك الأحوال ولا يملكون حيالها شيئًا، (ولئن قلت بأنَّ الأمواج تتقاذفهم، فلأنَّهم …) ينزلون مع تيار الماء الجاري إلى منحدرات البذخ والدعة، (أو …) يعاندون اتجاه المجرى بركوبهم تيار المجون والاستهتار، وهو ما لم يكن معهودًا في مسلك الأباطرة من قديم؛ حيث لم يُعرف عن أحدهم أنَّه قد أسلم قياده لمجرى يقوده نحو الهاوية، أو أنَّه انقلب ضد الاتجاه القويم مُوَلِّيًا صوب الخطر، فمن ثَم لم يتهمهم أحد بالخلاعة أو الاستهتار إلَّا قليلًا من الأمراء الذين أساءوا إلى أنفسهم بما جنت عليهم أيديهم.»

هنالك أحسَّ النبيل «جينغ» ببالغ السرور، وقام باتخاذ كل الاحتياطات الضرورية من أقصى البلاد إلى أقصاها، وذهب ليُقيم بأطراف الضواحي، ثم أصدر قرارًا بفتح كل صوامع الغلال؛ تلبية لحاجة الفقراء والمنكوبين، وجمع إليه كبار الفنانين والموسيقيين قائلًا لهم: «اعزفوا ألحانًا تبتهج بها قلوب الكبار والصغار [الأمراء والوزراء …].» فعزفوا له الأغنيتين المعروفتين باسم «جيجاو» و«جوكا جويتشاو»، وتذهب بعض مقاطعها إلى القول بما معناه:

«يهون كل الصعب
فداءً لأمير البلاد.»
ولو أنَّ المعنى الحرفي لذلك المقطع يُفيد بأن:
«لا ضير من إسداء النصح للأمير …
برغم ألفة الصحبة … وغلبة المحبة …»»

(٢–٥) تساءل الملك شيشوان [أي الملك شيوان حاكم دولة تشي] قائلًا: «الجميع يريدون أن أهدم مقصورة «مينتانغ» [تلك التي أقامها حاكم «جو» فوق جبل «تايشان» لاستقبال الأمراء بها]، وقد تردَّدت مرارًا، وألمَّت بي الحيرة، ولا أدري أأهدمها أم أُبقيها كما هي؟» فأجابه منشيوس: «إنَّ «مينتانغ» قد أُقيمت لتكون مقرًّا للشئون الملكية، فإذا كنت عازمًا على ممارسة سلطاتك بوصفك حاكم البلاد، فلا داعي لهدم منشأة رسمية تابعة للبلاط الملكي.» فقال له الملك: «فهلَّا تفضلت بشرح المقصود من مسألة ممارسة السلطة الملكية؟» فأجابه: «عندما كان الملك «أون» يُهيئ أسباب الاستقرار لمنطقة تشي، فقد أخذ ضريبة الأطيان من المزارعين بواقع التُّسع من قيمة الأراضي، وسمح للموظفين الرسميين بتوارث المنصب الوظيفي، وقصر مهمة المراقبين في الأسواق والمعابر ونقاط المرور على التفتيش دون تحصيل أيَّة ضرائب أو رسوم، وأزال الحظر المفروض على الصيد في البحيرات والمسطحات المائية، وقصر تنفيذ العقوبة على المُذنب دون أن تشمل أحدًا من الأهل والأقارب [فلا يحمل البريء وزر الجاني].

إنَّ أربعة من الناس يُعانون أسوأ مصير يُمكن أن يلم بأحد من البشر (وهم): الأرمل الذي ماتت عنه زوجته، والأرملة التي فقدت الزوج في سِني الضعف والمرض، والشيخ الأبتر الذي بغير ولد، واليتيم الذي مات عنه أبواه في طفولته. ولمَّا كان الملك «جو» [أي الملك أون، حاكم دولة جو] حريصًا على تطبيق سياسة تقوم على الرحمة والإنسانية، فقد أولى عنايةً فائقة بأولئك الأربعة المذكورين سلفًا [وبهذه المناسبة ﻓ…] قد جاء في كتاب «الشِّعر القديم» ما معناه:

«يهنأ ذو المال في رغد من العيش،
فليس من جدير بالإشفاق
سوى شيخ، ويتيم، وامرأة،
وكهل بغير ذرية …»»

وهنا قال له الملك شيوان: «فنِعم القول ما قلت إذن»، فردَّ عليه منشيوس قائلًا: «فلئن كان كلامي قد أعجبك حقًّا، فلماذا لا تُبادر إلى العمل به؟» فأجابه الملك بقوله: «لكني ابتُليت بحب المال»، فقال له منشيوس: «قد كان النبيل الأمجد ليو (أحد مؤسسي عرش دولة جو) من قبلك نهمًا إلى الثروة والمال، (فلا عليك)، ومما يُذكر في هذا الشأن من قصائد «كتاب الشِّعر القديم» أبيات مطلعها:

«في عهده [النبيل ليو] امتلأت الحواصل بالحبوب،
وعمرت المخازن بالغلال،
وأحيطت الأسوار بالحرس والأقفال،
فلما فاضت لديه المؤن
عبأ الذخائر،
وكدس أكداسًا من الأجولة،
وسار على رأس الفيالق غازيًا،
وقد شبعت البطون، وارتفعت الهامات عزيزة،
والرايات خفَّاقة.
خلَّف وراءه أرض بلاده،
وسار على كتائب
رامحة كثيفة الدروع،
مشرعة السيوف، واترة الأقواس،
تمضي وتضم إلى الأرض
ممالك وبلادًا جديدة.»

ومن ثم ترى جلالتك أنَّه ما كان يستطيع أن يتقدَّم في حملته بكل تلك الثقة لولا ما خلفه وراءه في بلاده من مخازن متخمة بالزاد الوفير، بالإضافة إلى ما كان يحمل فوق ظهور الخيل من أكداس الطعام وعدة الحرب. فما أجدرك بعرش الملك العظيم؛ إذ لا يحول حبك للمال دون انتهاج سياسة العدل والرحمة بين الناس.» ثم قال له الملك ثانيةً: «فما العمل وقد استولى على قلبي حب النساء من المحظيات والجواري في القصور؟» فأجابه منشيوس قائلًا: «قد كان الملك «طاي» [أحد ملوك أسرة جو الإمبراطورية، وهو جد الملك أون] أيضًا مولعًا بحب النساء؛ إذ وقع في حبائل محظياته … (فما الغريب في ذلك …)، وقد قيل في «كتاب الشِّعر» ما نصه:

«قام الملك طاي مي أول الفجر،
وانطلق بجياده،
فسار مع شاطئ النهر الغربي،
حتى بلغ سفح جبل تشي،
وكانت إلى جواره محظيته
الحسناء «جيايغ»،
فابتنى هنالك قصرًا حسب مشورتها.»

لكن الجدير بالذكر هنا يا مولاي، هو ما يذكره الناس لهذا الملك من مآثر؛ حيث قيل: «إنَّه لم يوجد في زمانه فتاة عانس ولا رجل عازب؛ حيث لم تشهد فترة حكمه حالة عنوسة أو عزوبية واحدة؛ ذلك أنَّ الجميع — ذكورًا وإناثًا — قد ارتبطوا برباط الزوجية، ولا أرى تناقضًا بين أن تميل بكل قلبك إلى النساء وأن تتوفر فيك مقومات الحكم الملكي الرشيد ما دمت تتقاسم مع شعبك هناءة العيش ومتعة الحياة».»

(٢–٦) تكلَّم منشيوس مع جلالة الملك شيوان، قائلًا: «لو علمت أنَّ أحد وزرائك قد أَوكل إلى أوفى أصدقائه مهمة رعاية بيته وأولاده ريثما يسافر في بعثة رسمية عاجلة إلى دولة تشو، ثم إذا به يجد أهل بيته، بعد عودته، قد أصابهم الجوع وعضَّهم البرد، فماذا ينبغي للرجل أن يتصرَّف حيال صديقه؟» فأجاب الملك: «عليه أن يقطع ما بينه وبين صاحبه»، فسأله منشيوس ثانيةً: «فكيف تفعل مع القاضي الأكبر لو علمت أنَّه تهاون مع مساعديه وقصَّر في أداء عمله «برغم حساسية منصبه»؟» فأجابه: «أعزله من منصبه على الفور»، فسأله منشيوس: «فماذا لو تردت القصور الحاكمة وفسد الملوك وتراجعت سياسة الممالك؟» وهنالك بدا الارتباك على جلالته وأخذ يلتفت إلى جانبه، ثم أدار دفة الحديث في اتجاه آخر.

(٢–٧) التقى منشيوس بالملك شيوان حاكم تشي، وقال لجلالته: «لا يحق لأيَّة دولة أن توصَف بأنَّها إمبراطورية عريقة لمجرد أنَّها تملك مساحة أرض شاسعة، تغمرها الغابات وتظلها الأشجار؛ بل لأنَّ رجال الدولة فيها من ذوي المآثر الجليلة كابرًا عن كابر، فما لي أراك في عزلة عن وزرائك، ثم إنَّك، يا سيدي، قد أقصيت الكثير من رجال الدولة الذين كنت رشحتهم بنفسك لمناصبهم، فتفرقوا عنك ولم تعد تدري من أحوالهم شيئًا»، فسأله الملك: «وما وسيلتي لمعرفة غير الأكفاء كي أستبعدهم من الترشيح؟» فأجابه منشيوس:

«[وكأنِّي بك تقول إنَّ وسيلتك الجاهزة تقوم أساسًا على اختيار غير المؤهلين!] إذا كان الملك (وهو سيد الممالك) يقف موقفًا يجد نفسه فيه مدفوعًا بحكم الاضطرار إلى ترشيح الأكفاء من ذوي الموهبة والذكاء والخُلق الكريم، فهذا أمر عجيب سينجم عنه في آخر المطاف أن يعلو شأن الوضيع فوق الرجل ذي الشرف الرفيع، ويتفوق فيه النائي البعيد على القريب السديد؛ فهو أمر يتطلب منك غاية الدقة والحذر! (ومن ثم ﻓ…) لا يكفي أبدًا أن يقول لك ثقاتك الذين عن يمينك وعن شمالك: إنَّ فلانًا هو أكثر الناس حكمةً وعلمًا واقتدارًا. ولا يكفي أن يقول لك كبار المسئولين «الوجهاء» عن أحد من الناس: إنَّه الأقدر الأكفأ. فإذا اتفقت آراء الناس جميعًا بشأن ما يملكه شخص ما من جدارة وعلم وخلق، فابحث الأمر واعمل على استجلاء الحق في ذلك، وعندما تتأكَّد من صدق ما جرت به تقديرات الناس، تستطيع أن تُسنِد إلى مثل ذلك الرجل أرفع المناصب؛ أمَّا إذا حدَّثك خلصاؤك الذين من حولك بأنَّ فلانًا من أسوأ الناس، فلا تركن إليهم، وإذا أكَّد لك كبار الوجهاء أنَّ ذلك الشخص المشار إليه هو أقبح الناس، فلا تُصغِ إليهم؛ أمَّا إذا اجتمعت كلمة الناس كلهم بأنَّ الشخص المقصود هو بالفعل الأقل جدارة، والأحط شأنًا، والأدنى قيمة، فليكن ذلك موجبًا لتقصي حقيقة أحواله، فإذا ثبت لديك صحة التقديرات، فاعزله من وظيفته. وقد يجيئك خاصتك من الملتفين حولك عن يمين وشمال يطلبون إليك توقيع حكم الإعدام في واحد من الناس، فلا تلتفت إلى ما يطلبون، حتى لو أقرَّهم على رأيهم كبار المسئولين والوجهاء لديك؛ بل حتى إذا توجَّهت إليك الأمة برجالها ونسائها تطلب إليك الأمر ذاته، إلَّا أنَّ تفحص الأمر مليًّا، وترى الرأي الحق بإعدامه، فيمضي فيه الحكم بذلك ساعتئذٍ؛ حيث يشيع القول بأنَّ الناس جميعًا هم الذين أنفذوا حد القتل بملء إرادتهم.

وأحسب أنَّك لو تصرفت على هذا النحو لصرت جديرًا حقًّا بأن تكون، للأمة كلها، الأبَ الحاني، والأم الرءوم.»

(٢–٨) تحدَّث الملك شيوان حاكم تشي إلى منشيوس، وسأله قائلًا: «هل نصدِّق الرواية التي تقول بأنَّ الملك «طانغ» قام بنفي الملك المستبد «جيه» [آخر حكَّام أُسرة شيا] خارج البلاد، وأنَّ الملك «أو» قام بالقضاء التام على الملك «جهو» [أشهر الطغاة القدماء، آخر حاكم في أسرة شانغ]؟» فأجابه منشيوس: «هذا ما ذكرته سجلات التاريخ»، فسأله الملك: «وهل يصح أن يقوم أحد الوزراء بالقضاء على الملك؟» فأجابه:

«مَن يهدم معنى الإنسانية، يُسمى بالمخرِّب، ومَن يُضيِّع مبادئ الاستقامة، يُسمى باللفظ القاسي القلب، فأمَّا المخرب غليظ القلب الذي يهدم الإنسانية ويضيع الاستقامة، فلا يُمكن أن يوصف إلَّا بالطاغية. [وقد بلغنا] أنَّ أحد أولئك الطغاة — مثل الملك «جهو» — قد صدر ضده حكم بالإعدام، لكنَّا لم نسمع قط عن قيام الوزراء بقطع رقاب الملوك.»

(٢–٩) التقى منشيوس بالملك شيوان [حاكم دولة تشي]، فخاطبه قائلًا: «إنَّ بناء قصر كبير يستلزم تكليف المشرف على العمال بنقل وإعداد قطع هائلة من الأخشاب، فإذا ما قام الموظفون العاملون عندك بما أمرتهم به أعجبت بهم ووثقت بكفاءتهم ودربتهم، فإذا جاء النجارون وعجزوا عن تقطيع الأخشاب على النحو الصحيح غضبت وأسأت الظن بمهارتهم. [وكذلك] فالإنسان يدرس المهارات ويتعلَّم الأشياء في صغره، وعندما يكبر فهو يحاول جاهدًا في التدرب على ألوان من التطبيقات لاكتساب المقدرة على ما تعلَّمه وهو صغير، فإذا مَثلَ أمام جلالتك طلبت إليه أن ينسى كل ما تعلَّمه وأن يتبع أوامرك، حرفًا بحرف، فهل يُمكنه ذلك حقًّا؟ [هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى] هب، الآن، أنَّ لديك قطعة من اليشب [حجر كريم] لم تُصقل بعدُ، فهي لن تصير جوهرة — ولو بلغت قيمتها أثقالًا من المال — إلَّا إذا قام على صقلها خبير عليم بمهارات حرفته، فإذا أدرنا الحديث إلى شئون البلاد وحكم الممالك، فها أنت يا سيدي تستدعي وزراءك وتخاطبهم بقولك: «اطرحوا جانبًا كل ما تعلمتموه، واعملوا حسب أوامري!» فهلَّا تأمَّلت لو قلت لخبير المجوهرات أن يطرح جانبًا كل ما تدرَّب عليه وأجاده ليعمل حسب ما تأمره به في صقل الماسات؟!»

(٢–١٠) قامت دولة تشي بغزو دولة يان وانتصرت عليها [وذلك في عام ٣١٥ق.م، حيث أراد الملك كواي، حاكم يان، التنازل عن العرش لرئيس وزرائه، فثار رجال الدولة والأمير ودبَّروا لخلع الملك … ووسط الاضطرابات انتهزت تشي الفرصة فجاءت وهاجمت وانتصرت]، وراح الملك شيوان يُخاطب مَن حوله بقوله: «كان البعض منكم يختلف معي حول مسألة غزو دولة يان، والبعض الآخر يؤيد ويتحمَّس؛ بل يحثني على الإسراع بالهجوم. إنَّ قيام دولة تمتلك عتادًا حربيًّا قويًّا [حرفيًّا: عشرة آلاف عربة حربية] بمهاجمة دولة أخرى تُساويها في القوة فتتغلَّب عليها فيما لا يزيد على خمسين يومًا (فهذا في حد ذاته) أمر يتجاوز طاقة البشر؛ ثم إنِّي — وقد نجحت في ذلك — أرى أن أتقدَّم للاستيلاء على البلاد، وإلَّا نزلت على رأسي الكوارث والمصائب من السماء، فأشيروا عليَّ بما ترون.»

فأجابه منشيوس: «إذا كان دخولك البلاد جالبًا على أهلها الخير والسعادة، فامضِ ولا تنكص، وقد كان في سيرة الأقدمين، كالملك أُو — حاكم دولة جو — مَن فعل ذلك قبلك؛ أمَّا إذا كان اقتحامك أرضهم سببًا في الخراب والبؤس، فارجع عمَّا انتويت، وإنَّا لنجد في تاريخ القدماء من آثر التراجع عن الهجوم في مثل تلك الحال، كالملك أون، وإنَّ دولة تملك قوة هائلة تُهاجم أخرى مناظرة لها في مثل قوتها لن تجد مبررًا لدخول أرض عدوتها أقوى وأوقع من أن ترى الناس قد أسرعوا لاستقبال جنود الفاتحين وبأيديهم صحائف الطعام وأقداح الشراب في ترحيب ولهفة، لا لشيء إلَّا رغبة في الخلاص من «ضيق الأحوال وعسر الأيام» [حرفيًّا: ماء غائر ولهب فائر]، فإذا اقترن ذهابك إليهم بمزيد من العسر والضيق، فسيتحوَّل الناس بحثًا عن طريق آخر للخلاص [في هامش التحقيق يُشار إلى أنَّ بعض التأويلات تذهب إلى أنَّ المعنى الحقيقي للعبارة هو «إذا اشتد العُسر بالناس فإنَّما قد تحوَّلوا من حاكم إلى حاكم نظير»، أي يصير الحكام عندهم نماذج متكررة لصورة واحدة من الطغيان!].»

(٢–١١) قامت دولة تشي بمهاجمة يان واستولت عليها، وهنالك راحت بعض الدويلات والإمارات المجاورة تتخذ التدابير لمساندة يان؛ أملًا في الخلاص من الاحتلال، فجمع الملك شيوان إليه رجاله، وقال لهم: «ها هي ذي الإمارات والدويلات تسعى لمحاربتي، فبماذا تُشيرون عليَّ للوقوف في وجه تلك المحاولات؟» فأجابه منشيوس: «قد بلغني يا سيدي أنَّ بلدًا تبلغ مساحته سبعين لي تملك سلطة إملاء قراراتها على الآخرين، وهذا ما فعله — مثلًا — الملك طانغ، إبان حكمه، (وفي ظروف هيأت له ذلك)؛ لكنِّي لم أسمع قط أنَّ دولة تمتد أرضها فوق ألف لي مربع ترتعد قط خائفة من جاراتها، وقد ورد في كتاب «شانغ شو» [كتاب التاريخ] ما نصه: «لمَّا بدأ الملك طانغ طريق زحفه، فقد بدأ بالإغارة على دولة «كي» لتكون عِبرة لباقي الممالك، ثم إنَّ الناس في مشارق الأرض ومغاربها منحوه ثقتهم واعتقدوا في صلاح حكمه، حتى إنَّه لمَّا كان يتجه بقواته ناحية الشرق، فقد كان أهل الجهات الغربية يندبون حظَّهم ويتمنون لو كانت بلادهم تحت سلطانه، وكذلك إذا تحوَّل بجيوشه صوب الجنوب، فقد كان الشماليون يتساءلون: أي قدَرٍ تعس حال بين بلادهم وبين أن تكون أول ما ينبسط تحت ملكه العادل، فالكل كان يتطلع إليه كأنَّه ديمة تصب الغيث فوق أرض شقها الجدب، فازدهر البيع والشراء وكسب التجار معاشهم، وظلَّت الأراضي تُعطي غلتها كالمعتاد بعد أن قضى الحاكم الجديد على الطغاة الذين كانوا يسُومُونهم سوء العذاب، فوقعت محبته في القلوب مثلما يقع المطر على أرض موات فيُحييها، فعمَّت الفرحة أرجاء الممالك والبلدان.» وذكر «كتاب التاريخ» أيضًا ما نصه: «(وقد هتف أهل الممالك جميعًا في وقت واحد أن …) كم تطلعنا إلى سيدنا، سيد البلاد، فما جاء حتى نهض ناهض العز والمجد بعد طول هوان» … ولا يخفى على أحد، الآن، ما يصنعه حاكم دولة يان بشعبه من عسف وجَور، فامضِ إليه وجرد عليه سيفك، فتتطلع إليك عيون الناس هناك بوصفك مخلِّصهم وحاميهم الذي سيخرجهم من الشدة إلى رخاء العيش وبهجة الحياة، فيخفون لاستقبال جيشك بأطباق الطعام وكئوس الشراب؛ فإذا قابلت ذلك بضرب رقاب آبائهم وحبس أبنائهم وهدم مقدساتهم ومعابدهم ونهب ثروات بلادهم، أيكون ذلك صوابًا؟ لا تنسَ يا مولاي أنَّ كل البلاد تخشى سطوة تشي، فإذا بادرت إلى توسيع مساحتها وضم الأراضي إليها دون أن تمد سلطانها بقواعد تقوم على الحكم الرشيد والسياسات الإنسانية فستثور ضدك كل الممالك، وتزحف إليك كل الجيوش المدفوعة بالثأر والغضب والاستنكار. وأرى — يا سيدي — أن تُسارع بإصدار أمر ملكي يقضي بإعادة الأسرى من العجائز والأطفال إلى ذويهم، وإيقاف كل أنشطة نقل ثروات ومقتنيات الغير إلى البلاد، على أن تبدأ فورًا في مباحثات مع دولة يان بهدف تنصيب حاكم جديد للبلاد، والبدء في سحب قواتك من هناك؛ فتلك هي وسيلتك لوضع حد ممكن (لأيَّة عواقب قد تنشأ بسبب الأزمات).»

(٢–١٢) وقعت الحرب بين دولتَي «تزو» و«لو» [تُنطق كما في «يتساءلون»]، و(في غمرة الأحداث …) ذهب الوالي «مو» — أحد الوجهاء، ذوي الألقاب والوظائف المرموقة بدولة تزو — إلى منشيوس وسأله قائلًا: «إنَّ ثلاثة وثلاثين رجلًا من أفضل الضباط في قواتي لقوا حتفهم أثناء الاشتباكات، ولم يُحاول أحد من المواطنين أن يُظهر روح البذل والفداء لإنقاذ الضباط الشجعان، (وقد بدا لي أن أعمل السيف في رقابهم جزاء تخاذلهم، ولكن …) إن قضيت على المتخاذلين بالقتل فهذا مستحيل؛ لأنَّهم الكثرة بحيث لا يحصيهم العد، وإن نحيت عنهم السيف، فسأظل أبغضهم لقعودهم عن نصرة وإنقاذ المقاتلين البواسل، فقل لي، كيف أسلك معهم؟ فأجابه منشيوس قائلًا: «في سنوات المحنة والشدة، تسقط أجساد الأطفال والشيوخ من شعبك على حواف الوديان وقد أنهكها الجوع والحرمان، ويرحل الفتية والقادرون إلى الآفاق المترامية بحثًا عن الرزق، وهؤلاء المنكوبون يزدادون كثرة على مر الأيام، في حين تمتلئ حواصلك بالحبوب وتعمر خزائنك بالمال، ويحول رجالك بينك وبين الإلمام بالوقائع (حرفيًّا: يتقاعسون عن إبلاغك بالأحوال)، فذلك هو ما يُشار إليه — عادة — من تجاهل المسئولين الكبار لشقاء الناس والتحامل عليهم بمزيد من الضغوط وصنوف المحن والآلام، ومما يؤثر عن «الحكيم» سنغ تسي قوله: «فليسمع الجميع عني وليصغوا جيدًا … مثلما تصنع مع الناس يصنعون معك؛ وكيفما تعامل الناس يُعاملوك بمثله»، وقد عرف الناس كيف يثأرون لأنفسهم إذ تقاعسوا عن إنقاذ جلَّاديهم، وليس لك أن تؤاخذهم بشيء؛ بل إذا استطعت أن تسلك معهم بسياسة قائمة على الرحمة والإنسانية، فستجد منهم كل التفاني لك ولكبار المسئولين، وستهون أرواحهم فداءً لقادتهم».»

(٢–١٣) جاء الوالي «أون» — أحد الولاء بدولة «تنغ» — إلى منسيوش وسأله قائلًا: «إنَّ دولة «تنغ» ضئيلة المساحة، متواضعة القوة، وقد حكمت عليها الأقدار بأن يأتي موقعها محصورًا بين دولتي «تشي» و«تشو» [القويتين الجبارتين!]، فهل «يكون من الأفضل لها أن» تخطب ودَّ دولة تشي، أم تتقرَّب إلى دولة تشو؟» أجابه منشيوس: «ليس في مقدوري الحكم القاطع على الفكرة في مجملها، لكن إذا كنت تطالبني بإبداء وجهة نظرٍ وتقدير موقفٍ، فلست أرى لك إلَّا رأيًا واحدًا، وهو أن تحفر خندقًا كبيرًا حول بلدك وتغمره بالماء، وتبني أسوارًا حصينة تُحيط بكل ركن من أرضك، وتتحصن أنت وشعبك، مددًا ومنعة وراء الأسوار، على استعداد للتضحية والفداء، مهما كلفكم ذلك من مشقة، ولعلكم، بعد ذلك، بالغون شيئًا من الأمل في الصمود والنصر.»

(٢–١٤) جاء الوالي «أون» إلى منشيوس وسأله: «ماذا أفعل إزاء ما تقوم به دولة تشي من استعدادات وتحصينات بمنطقة «شيودي»، وما تثيره من أجواء مشحونة بالقلق، وتبعث مخاوفي مما تدبره لبلادي؟» فأجابه منشيوس: «يذكر التاريخ القديم أنَّ الملك «تاي» كان يُقيم بمنطقة «بين»، فلمَّا أغارت قبائل الشماليين على بلاده، اضطر إلى نقل مقر إقامته بعيدًا، حتى إنَّه لم يجد إلَّا أن يستقر عند سفح جبل تشي، ولم يكن ذلك المكان الذي أراده بملء إرادته؛ بل إنَّه اضطر إليه اضطرارًا، فإذا أقررتم في بلادكم سياسة تقوم على التراحم والإنسانية والمبادئ القويمة، فسوف يتسلَّح أولادكم وأحفادكم بالقدرة على تدبير شئون الممالك [سياسة أمور البلدان]، والسيد المهذب [الحاكم العاقل] مَن يورث أبناءه مآثر جليلة تتداولها أيدي الأجيال، أمَّا أن تكون تلك المآثر موضع تبجيل وتقدير حقيقيَّيْن، فذلك أمر بيد السماء وحدها، فإرادة السماء غالبة، وبخصوص سؤالك عمَّا ينبغي عمله إزاء دولة تشي، فلست أرى لك إلَّا الدأب والجد والمثابرة على تطبيق سياسات قائمة على مبادئ الرحمة والإنسانية.»

(٢–١٥) تساءل الوالي أون [من دولة تنغ] قائلًا: «ماذا أفعل، وبلادي الضعيفة محل أطماع جيرانها الأقوياء، وقد بذلت كل جهدي واستفرغت ما في وسعي لمخاطبة ود جيراني، زُلفى وتقربًا إليهم، فما استطعت أن أزيل المخاوف أو أقضي على أسباب الخطر؟» وأجابه منشيوس قائلًا: كان الملك «طاي» [من حكام أسرة جو] فيما سلف من الدهور، مقيمًا بأرض «بين» التي لم تسلم من غارات القبائل الشمالية عليها، فحاول الملك جاهدًا التقرب إلى رءوس وقادة تلك القبائل بأحمال وافرة وهدايا لا تُحصى ولا تُعد من الحرير والفراء والجلود الثمينة، ولم يغنه ذلك شيئًا؛ فأرسل إليهم بأمهر الجياد وأوفر الدواب، فلم يردهم عن خبيث نواياهم؛ فحمل إليهم الأحمال الزائدة من اليشب والياقوت واللآلئ، وبقي — رغم كل ذلك — لا يأمن غدرهم، فجمع إليه كبار قومه وحدَّثهم بقوله: «لا أرى إلَّا أنَّ البرابرة الشماليين طامعون بأرضنا، وقد علمت أنَّ الحكيم الفاضل [المستحق للملك والسيادة في قومه] لا ينبغي له أن يجعل من الأرض، التي هي منبت الزرع ومشتل البذور ومعاش الناس، سببًا في هلاك قومه، ولا أجد ما يدعوكم إلى اليأس إذا تنحَّيت عن منصب الحاكم، ثم إنِّي قد عزمت على الرحيل عن هذه الأرض التي تقطنون بها. وقام راحلًا عن أرض «بين» فعبر جبال «ليانغ» حتى بلغ تلال «تشي» فأقام في سفحها وأسس هناك مدينة جعلها مقرًّا لإقامته، فرأى ذلك أهل بين؛ فأثنوا جميعًا عليه بقولهم: «ما أكرمه من ملك، جمع بين الخُلق الكريم والفضائل الإنسانية»، وعزَّ عليهم فراقه، فلحقوا به، وأتوا إليه حشودًا دافقة، يجر بعضها بعضًا من كثرة التدافع والزحام.

وقد بلغتي أنَّ منهم أيضًا مَن قال: «لا تفريط في الأرض التي خلفها لنا الأجداد كابرًا عن كابر، ولا ينبغي لكائن مَن كان، بمفرد رأيه، أن يسلك فيما يؤدي إلى ضياعها، بل إنَّ الموت فداءً لها أهون علينا من الرحيل عنها شبرًا واحدًا.»

فهكذا رأى القوم، يا سيدي، رأيين مختلفين، فاختر لنفسك منها ما تريد.»

(٢–١٦) كان النبيل «بينغ» (أحد نبلاء دولة لو) خارجًا من قصره، فاستوقفه تابعه الأمين، «صانغ صان» — وكان أثيرًا لدية — وتقدَّم منه قائلًا: «قد جرت العادة أن تُحدد لقائد مركبتك، والوفد المرافق لسيادتكم، خط سيركم والجهة المزمع زيارتها، فها هي المركبة والحوذي ورجالك جاهزون جميعًا، فأبلغنا — لو تفضَّلت — أين تريد الذهاب، واغفر لي ثرثرتي (وتدخلي الزائد في التفاصيل!).» فأجابه النبيل «بينغ»: «أريد الذهاب لمقابلة منشيوس الحكيم.»

فسأله «صانغ صان» ثانيةً: «هلَّا ذكرت أسباب الزيارة من فضلك؛ إنَّك إذ تُبادر إلى زيارة رجل من العامة، فأنت — يا سيدي — تُقلل من مركزك الاجتماعي ومكانتك السامية، أوتظن أنَّه ذو خلق وفضائل وعلم غزير؟ إنَّ أهل الخلق والفضائل هم حقًّا الذين يعملون ويحافظون على الأعراف وأصول المعاملات. أمَّا المدعو منشيوس (فلا دراية له بتلك الأصول، إذ …) ارتكب خطأً جسيمًا (يتعلق بأقدس الأصول جميعًا، وهي أصول مراسم دفن الآباء والأجداد) في مراسم دفن والديه، فكانت مراسم دفن أمه تتجاوز في تكاليفها ما قام به عند تقديم قرابين الدفن في وفاة أبيه [وهكذا فإنَّ امرأً مثله ليس أهلًا للتعارف …] فلا يليق بجنابك الأفخم أن تسعى إلى مقابلته.»

فوافقه النبيل قائلًا: «فلن أذهب إليه، إذن.» وذهب يوجين (أحد كبار الموظفين) إلى مقابلة النبيل «بينغ» في قصره، فلمَّا التقى به ابتدره متسائلًا:

«لماذا لم تذهب لمقابلة منشيوس؟» فأجابه النبيل قائلًا: «قد ذكر لي أحدهم أنَّ منشيوس هذا قد تجاوز في تكاليف إقامة مراسم دفن والدته ما قام به في مراسم دفن أبيه؛ فمن ثم عدلت عن زيارته.»

فجادله «يوجين» بقوله: «ما الذي تقصده يا سيدي بقولك إنَّه «تجاوز» في تكاليف إقامة المراسم، أتقصد بذلك أنَّه لمَّا كان وقت وفاة أبيه في مرتبة اجتماعية أقل [… مرتبة يحصل عليها الدارس «شي»، معناها «الوجيه الأمثل»] فقد كانت الطقوس تجري وفق تلك الدرجة الأدنى، فلمَّا ارتقى درجة أعلى إبان وفاة والدته (وهي درجة «دايفو» = موظف عظيم) فمن ثم استطاع تقديم قرابين جنائزية أرقى قيمةً؟ بمعنى أنَّه في المرة الأولى قدَّم القربان الجنائزي على المرجل المقدس الثلاثي (ذي الأرجل الثلاثة)، وفي المرة الثانية قدَّم قرابينه على المرجل الخماسي؟» … فأجابه النبيل بينغ قائلًا: «لم أقصد شيئًا من ذلك، بل أردت القول إنَّ التوابيت والأكفان الجنائزية التي صنعها لوالديه كانت على درجة متفاوتة من الإتقان والجودة»، فقال له محدثه: «إذن، فلا يُمكن أن نُسمي ذلك «تجاوزًا» في التكاليف الجنائزية، وإنَّما الصحيح أن يُقال إنَّ الفارق الملحوظ بين طقوس الجنازتين كان سببه «ضيق ذات اليد» في المرة الأولى عنها في الثانية؛ فقد كان الرجل فقيرًا أول الأمر، ثم تيسَّرت حاله فيما بعد.»

فلمَّا التقى يوجين مع منشيوس قال له: «كنت أتجاذب أطراف الحديث مع النبيل بينغ بشأنك، وكان قد أعدَّ العدة لزيارتك، إلَّا أنَّ أحد رجاله، ويُدعى «صانغ صان» حال بينه وبين تلك الزيارة، فعدل عمَّا كان قد اعتزمه»، فقال منشيوس:

«قد يتم إنجاز عمل ما بفضل اجتهاد الناس ودأبهم، وربما تعطَّل أيضًا، لأنَّ الناس أنفسهم وقفوا حَجَر عثرة في سبيل تنفيذه، إلَّا أنَّ إنجاز الأعمال من عدمها، عمومًا، لا تقررها الإرادة الإنسانية وحدها؛ ذلك أنَّ عدم لقائي بالنبيل الأمثل بينغ، كان أمرًا قرَّرته إرادة السماء، أمَّا ذلك المدعو صانغ، فلم يكن يملك أن يمنع شيئًا بإرادته.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤