الباب الثاني

كونسون شو

الجزء الأول

وجملته تسعه فصول

جاء كونسون شو (تلميذ منشيوس) إلى أستاذه الفيلسوف، وسأله:

(٣–١) «ماذا لو كنت يا سيدي تُدير دفَّة الحكم في دولة تشي، أكنت تُحيي مآثر كل من السيدَيْن الجليليْن: «كوان جون» و«يان تسي» [الأول كان يتولى منصب الوزير الأعظم في دولة تشي؛ والثاني تولى أحد المناصب الوزارية في الدولة نفسها خلفًا لأبيه المتوفى] وتحذو حذوهما؟» فأجابه الفيلسوف منشيوس قائلًا: «وإنَّك لجدير بأن تكون من مواطني دولة تشي؛ إذ لا يخطر ببالك سوى ما خلَّف هذان السيدان الجليلان من مآثر، وقد قيل إنَّ رجلًا سأل مرةً «سنغ شي» قائلًا له: «أيكما أكثر كفاءةً وحكمةً، أنت أم الحكيم الفاضل «زيلو» (تلميذ كونفوشيوس)؟» فأجابه سنغ شي، وقد استولى عليه القلق: «قد كان زيلو نموذجًا في الحكمة والخلق سار على نهجه آبائي وأجدادي!» فعاد الرجل يسأله: «فماذا عن كوان جون، أأنت أم هو الأكثر حكمةً وخلقًا؟» وهنالك اربدَّ وجه سنغ شي غضبًا، وأجابه: «لماذا تريد أن تضعني في مقارنة مع كوان جون؟ أما علمت أنَّه ما تولَّى المنصب ولا كان له النفوذ الذي تمتَّع به إلَّا بفضل ما أولاه له سيده وأميره هوان كونغ من ثقة، وما كان له قدم راسخة في شئون الحكم إلَّا بما أُتيح له من أن يشغل مواقع سياسية عُليا لفترة زمنية طويلة؛ وبرغم ذلك، فلم يكن له رصيد يُذكر من الإنجاز والمآثر الباقية، فكيف تقارن بيني وبينه، وماذا تقصد من ذلك؟» [ثم واصل منشيوس كلامه قائلًا:] فإذا كان سنغ شي يأبى أن يوضع في مقارنة مع كوان جون، فهل تراني — بعد ذلك — أغبط هذا الأخير على شيء، أو أراه محل تقدير واقتداء؟» فقال كونسون شو: «لكن التاريخ يذكر لكوان جون أنَّه أعان سيده على اعتلاء عرش إمبراطورية بسطت ظلها فوق الممالك؛ مثلما يذكر التاريخ أيضًا أنَّ يان تسي لم يتوانَ عن أن يبذل روحه كي يبني لسيده قواعد المجد ودعائم القوة، أفلا يدعوك ذلك كله إلى تقدير دور هذين السيدَيْن، وجدارتهما بالعرفان والثناء؟» فردَّ عليه منشيوس بقوله: «إنَّ الصعود بمكانة دولة تشي إلى مصاف الإمبراطوريات العظمى أمر في غاية السهولة، [حرفيًّا: أمر يبلغه المرء بيسر، مثلما يُقلِّب كفيه ذات اليمين وذات الشمال!]» فقال كونسون: «إنَّ كلامك هذا يا سيدي يُثير حيرة دارس متواضع الحظ من العلم مثلي؛ ذلك أنَّه، وحسب منطقك، فإنَّ جلالة الملك أون — من دولة جو — بكل ما عُرف عنه من سيرة حسنة وخُلق كريم وعلم غزير على مدى سنوات عمره، التي شارفت المائة، لم يقدر أن يبسط آراءه، ويمد رقعة التنوير بعلمه فوق مساحة هائلة من الدويلات الخاضعة لسلطانه؛ بل إنَّ الأمر تطلَّب جهودًا أخرى فوق جهوده قام بها خلفاؤه؛ مثل الملك «أو»، والنبيل «جو» اللذَيْن واصلا رسالته، فأتمَّا — ببالغ الجهد — ما بدأه، فنشرا أفكاره ومبادئه في كل الأنحاء، ثم ها أنت تقول بأنَّ سياسة شئون الممالك أمر في غاية اليسر، أفلا يعني، كلامك هذا أنَّ المَلك أون نفسه، بكل ما عُرف له من مكانة، لم يخلف لنا نهجًا جديرًا بالدرس والاقتداء؟»

فأجابه منشيوس قائلًا: «تلك مسألة لا تستدعي أيَّة مقارنة بالملك أون من قريب أو بعيد؛ وعندما نُطالع الأحوال منذ تولي الملك طانغ سُدة الحكم حتى ولاية الملك «أودينغ» [في ظل أسرة شانغ الملكية] نُلاحظ أنَّه كان هناك ستة أو سبعة ملوك ذوو حلم وعلم وحكمة، أسهموا في ترسيخ سلطة أسرة «يين شانغ» الحاكمة فوق الممالك، فلمَّا طال أمد الحكم تضاءلت أسباب التغيير، في حين استطاع الملك «أودينغ» أن يفرض سلطانه ويُخْضِع أمراء الدويلات تحت نفوذه حتى مَثلوا بين يديه صاغرين، وانقادت له الممالك، فقام على سياستها بأيسر من تقليب كفيه ظاهرًا وباطنًا، (وتعالَ نتناول — على سبيل المثال — سيرة حاكم آخر على سبيل تبيان الفروق الدالة بين الحكَّام بعضهم بعضًا)، وهناك حاكم مشهور في التاريخ مثل الطاغية الجبار جو [آخر ملوك أسرة شانغ]، الذي كان يتولى العرش في فترة زمنية لا تبعد كثيرًا عن الفترة التي حكم فيها الملك الفاضل الحكيم أودينغ، وكانت أسرة شانغ الحاكمة تعيش — آنذاك — زمان مجْدِها وأوان ازدهار مآثرها، وتألُّق أنوار الأصالة القائم على أسس من التقاليد العريقة، والشموخ الذي كان يُميز روح عاداتها وأساليب الحياة الراقية تحت ظلال عزها، وكانت عروش ملوكها — كالعادة — مثالًا باقيًا للرحمة والإنسانية والحكم الرشيد؛ ثم كان هناك، إلى جوار الملك «جو» المشار إليه آنفًا، خمسةٌ من أشْهَر ذوي الحلم في عهده، وهم: النبيل «وي»، وابنه «ويجون»، وصاحب الرفعة الأمير بيكان، نجل الملك نفسه، والنبيل «جينتس»، و«جياوكي»، فكانوا يؤازرونه ويبذلون له الرأي والمشورة، فاشتدَّت أركان مجده ودام له الملك زمنًا طويلًا، (أمَّا بالنسبة للطاغية جو) فقد كان كل شبر من الأرض في تلك الفترة ملكًا له، وكل فرد من الرعية رهن إشارته، تابعًا مخلصًا لعرشه، وهو ما لم يستطع تحقيقه الملك أون، برغم أنَّه استطاع بالكاد أن يقتطع لنفسه منطقة نفوذ لا تتجاوز مائة لي مربع؛ مما جعل مواطني دولة تشي يتناقلون فيما بينهم حِكمةً سائرةً مفادها: أنَّ «الحيلة لا تغني عن اغتنام الفرصة، ولا فائدة تُرجى من الفأس والمحراث لمَن لا يقتنص مواقيت الزرع والحصاد.» (وأرى أنَّ هذا الأوان مناسب تمامًا …) فاقتنص فرصة إقامة إمبراطورية على أُسس من المجد، ولقد سعت من قبل الممالك لتأسيس عروشها (مثل دول: شيا، وشانغ، وجو) فوق أرض لم تكن تزيد مساحتها، في أحسن الأحوال، على ألف لي مربع، في حين كانت أرض دولة تشي تزيد أضعافًا مضاعفةً، يقطنها عدد هائل من السُّكان، تسمع في جنباتها أصوات الطير والداجن. (إنَّ بلدًا كهذا …) لا ينبغي له أن يسعى لتوسيع نطاق حدوده، ولا لزيادة عدد سكانه (لكي يؤسس مشروع إمبراطورية …) ذلك أنَّه إذا أقرَّ سياسة تقوم على الإنسانية خضعت الممالك تحت سلطانه، واتَّحدت جميعًا تحت لوائه، وتخاذلت خصومه عن مناوأته، (واعلم أنَّه …) لم يشهد الزمان عهدًا بعدت به الشقة عن الحكم الرشيد القائم على المبدأ الإنساني، مثل هذا العهد، ولم يسبق أن جرَّب الناس ظلمًا حاق بهم، أورثهم البؤس والسقام، مثلما جربوا في أيامنا هذه، حتى لقد تقلَّصت البطون جوعًا، ويبست الشفاه عطشًا (فما عاد الجائع ينتقي ما يأكل، ولا عاد الظامئ يتأفف من فساد الماء … وفي هذا الصدد ﻓ…) قد قال كونفوشيوس: «تنتشر الفضائل بين الناس في زمن الحكم الرشيد بأسرع ما تنتشر وتذيع الأوامر الملكية نفسها.» وفي ظل الأحوال الماثلة، فإنَّ السعادة التي يُمكن أن يتمتَّع بها شعب في ظل حكومة قوية تُطبِّق المبادئ الإنسانية لا تُدانيها إلَّا مشاعر السعادة لدى مَن تحرَّرت أعناقهم من أغلال العذاب والقهر، ومن ثم، فإنَّ اتباع منهج الأقدمين، ولو بنصف طريقهم ومسلكهم الرشيد، حقيقٌ بأن يقود إلى نتائج شديدة التفوق؛ بل قد تتجاوز أضعاف ما أنجزه الأقدمون أنفسهم، وهو أمرٌ سهل المنال حينئذٍ.»

(٣–٢) ذهب كونسون شو إلى منشيوس وسأله: «أترى يا سيدي، لو تولَّيتَ حقًّا وظيفة مرموقة في مجلس الوزراء، أكنت تضع وجهات نظرك ومبادئك السياسية موضع التنفيذ، دون أن تدهش لما قد يؤدي إليه ذلك من دعم قواعد الحكم الملكي، أو حتى تعاظم الهيمنة الإمبراطورية (فوق الممالك) وطغيان السلطة الحاكمة، أترى لو وقفت حقًّا مثل ذلك الموقف، أمَّا كان يصيبك ارتباك وتتسرب الحيرة إلى قلبك؟» فأجابه منشيوس: «كلَّا، ما كان ليصيبني شيء من ذلك وقد جاوزت الأربعين من عمري»، فسأله كونسون شو: «فأنت، إذن، أقوى إرادة وأصح عزمًا من السيد «منغ بن»»، فأجابه: «ليس الأمر بالشيء الصعب، وقد رأيت السيد الفاضل «كاوتزي» بعينَيْ رأسي، وهو في أتم رباطة جأش وشدة بأس»، فسأله كونسون: «فما الوسيلة لكي يُصبح المرء راسخ الإرادة، موفور الثقة بالنفس؟» فأجابه: «ينبغي — أولًا — أن يتحلى المرء بما أوتي السيد «بيكون يو» من التحلي بالشجاعة؛ بحيث لا يتألَّم إذا ما انغرس في لحمه الشوك والإبر، ولا يرمش بعينه إذا ما وُخزت أجفانه بالمخاريز؛ وكلَّما عرضت له المتاعب والنكسات، تاقت نفسه إلى الخلاص منها، كأنَّه يتخلص من عار أو فضيحة انتقصت من قدره على مرأى من الناس أو مسمع من ذوي النفوذ والسلطان؛ إذ إنَّه يأبى إلَّا أن يتعرَّض لأدنى قدر من إهانة، سواء صدرت عن زَرِيٍّ حقير، أو عن أمير أو بطل صنديد (يقود عشرة آلاف عربة عسكرية)، ثم إنَّه لا يهاب أن يأخذ بناصية أمير مثلما لا يرى بأسًا من أن يحزَّ عنق صعلوك حقير، «لا يخشى امرأً ذا منصب رفيع، ولا يهاب رجلًا تدنَّت منزلته!» لا يتورع عن أن يرد الإهانة بأقبح منها، حتى لو صدرت عن كبير الولاة.

[وهناك وسيلةٌ أخرى، كتلك التي نجد مثالها الواضح عند …] «منغ شي شا»، ذلك الرجل المشهور بالشجاعة الفائقة، الذي يُؤْثَر عنه قوله: «يستوي عندي الجبَّار الذي لا قاهر له، والضعيف الذي لا خوف منه؛ إنَّ أولئك الذين لا يبادرون إلى قتال أعدائهم إلَّا بعد تقصي الأحوال ودراسة احتمالات النصر أو الهزيمة، يخشون كثرة القوات والحشود التي يتعيَّن عليهم مواجهتها، ولا أدري كيف يُمكن للمرء أن يضمن تحقيق النصر؟ إن كان ما يعنيني هو أن أتقدم بغير خوف.» وهذه الطريقة التي يسير على منوالها «منغ شي شا» تُشبه إلى حد كبير أسلوب سنغ زي [أحد تلاميذ كونفوشيوس]، أمَّا طريقة «بيكون يو» فتُماثل نهج زيشيا [أيضًا من تلاميذ المعلم الأكبر]، ولا أستطيع أن أحدد أي الأسلوبين في الشجاعة هو الأوقع والأجدى، وإن بدا نهج «منغ شي شا» أبسط كثيرًا وأشد وضوحًا وتركيزًا. وكان سنغ زي قد تحدَّت إلى زيشانغ فيما سلف من الزمان، فقال له: «أتحب الشجاعة حقًّا؟ كنت قد سمعت كونفوشيوس يتحدَّث في هذه المسألة»، فقال: «إذا حاسبت نفسي وراجعت ضميري ثم اكتشفت بأنِّي مخطئ، ولو في حق امرئٍ بسيط المكانة وضيع الشأن، فلن أجد في نفسي الشجاعة على مواجهته، فضلًا عن منازلته؛ أمَّا إذا أظهرت لي مراجعتي لنفسي بأنِّي على حق، فلن أتوانى عن مواجهة جيوش بكل عتادها وعدتها (حرفيًّا: ألف كتيبة وعشرة آلاف فارس).» … إنَّ موقف منغ شي شا، في هذا الشأن، القائم على مبدأ التشبث بالشجاعة المطلقة، أدنى كثيرًا من نهج سنغ زي في بساطته ووضوحه.»

(فقال له كونسون شو): «أتسمح لي بأن أتجرَّأ وأسألك، يا سيدي، عن الفرق بينك وبين «الفيلسوف» كاوتزي فيما تتحليان به من هدوء وثقة؟» (فأجابه منشيوس قائلًا:) «كنت سمعت كاوتزي، ذات مرة، وهو يقول: «إنَّ ما لا تجد وسيلة إليه بالكلمات، فلا تسعَ إليه في باطنك، فإذا لم تجد إلى معرفة الباطن وسيلة، فلا تبحث عنه في إحساسك (الإرادة والوعي والإدراك).» وهو قول صحيح في معظمه؛ ذلك أنَّ قوله بعدم جدوى البحث في الإحساس عمَّا لم يجد لمعرفته وسيلة بالكلمات يُعد صحيحًا تمامًا؛ أمَّا ما يقوله من الحيد عن البحث في باطن النفس عمَّا لم يجد إليه سبيلًا بالكلمات، فهو خطأ كبير. إنَّ نوازع بواطن النفوس هي التي تقود الإحساس، والإحساس (الوعي) بدوره هو مكمن الطاقة في الجسد كله؛ فالنوازع والتطلعات تأتي في المرتبة الأولى من الأهمية، أمَّا الإحساس فذو أهمية ثانوية؛ لذلك يُقال بأنَّه «ينبغي على المرء أن يكون ذا طموحات وتطلعات، دون التعويل على المشاعر والأحاسيس».»

ثمَّ تحدَّث كونسون شو، قائلًا: «قد التبس الأمر عليَّ، يا سيدي، فأنت تقول في الأولى: إنَّ «التطلعات ذات أهمية فائقة، والإحساس يأتي في درجة تالية لها» … ثم تقول في الثانية: «ينبغي على المرء أن يكون ذا تطلعات، دون تعويل على المشاعر والأحاسيس!» … فهلًّا زدتني شرحًا وتفصيلًا؟» (فأجابه:) «إنَّ التركيز الشديد على الطموح يؤثر في الوجدان (يزلزل أركانه)، مثلما أنَّ توجيه الاهتمام كله إلى المشاعر يُقلل من درجة الاستقرار المطلوبة لما يطمح إليه الإنسان، والأمر هنا أشبه ما يكون بما عليه المرء أثناء الجري أو إذا تعثرت قدماه ووقع في الطريق، فالمسألة، عندئذٍ، لا تزيد على محض حركة بدنية؛ إلَّا أنَّها تستدعي انفعالًا وجدانيًّا ما.»

وسأله كونسون شو: «معذرةً يا سيدي إذا تجرأت وطلبت منك أن توضِّح لي ما يجعلك متميزًا (عن كاوتزي) بخصالك هذه؟» فأجابه منشيوس قائلًا: «قد وعيت معاني الكلمات، وثابرت على الترقي في درجات التسامي النفسي واكتساب الخصال النبيلة ورحابة الصدر.»

فسأله كونسون شو: «هلَّا أوضحت لي معاني تلك الكلمات؟» فقال منشيوس: «هي أشياء يصعب شرحها؛ فهاتيك الخصال هي الأكرم مادةً والأعظم قدرًا، فالاستقامة غذاؤها الذي به تقوى وتشتد، فلا يخشى عليها بأس، بل يذيع أريجها بين السموات والأرض. هي الروح التي تلتقي مع العدل والعقل على طريق.

هي الروح التي لا طاقة للحياة بغيرها، خزائن العدل ذخرها الثمين، طريقها طريق العدل القويم الذي اقتضته النوايا وعُقد عليه العزم، لا طريق العدل الذي جاءت به المقادير، وحلَّت به المصادفات عفو الخاطر؛ هي الروح التي إذا اقتحمت النفس مواطن الزلل عصف بها الوهن وسقطت في إسار الذل؛ لذلك كنت أقول دائمًا بأنَّ كاوتزي لم يفهم معنى العدل على الوجه الصحيح، لأنَّه خرج به من مجال الإرادة الباطنية.

إنَّه لا معدل عن أن ندرِّب أنفسنا عليه (العدل)، ونسلك في طريقه حتى النهاية «بغير توقُّف في منتصف الطريق»، وقد انطبعت النفوس بطابعه، فلا يغشاها النسيان. «علينا أن نجاهد في إنماء ثمرته، لكن …» لا ينبغي أن «نخالف النمط الطبيعي للأشياء، و …» نجذب أوراقه وسيقانه لندفعها دفعًا كي تنمو رغم أنف دورتها الطبيعية في النمو والازدهار، وبمعنًى آخر، فلا يجب أن نتصرف، في هذا الأمر على نحو ما هو معروف عن أحد مواطني دولة سونغ؛ «إذ يُقال إنَّ رجلًا من سونغ» كان في قديم الزمان يزرع أرضًا، فلمَّا تأخر النبات عن النمو خاف أن يفقد محصوله، فراح يجذب الأعواد والأوراق وهو يظن أنَّ سعيه هذا يضمن للزرع سرعة الإنبات، وعاد إلى بيته آخر النهار مرهقًا لاهثًا، يجر قدميه من التعب، قائلًا لأهله: «كم لاقيت في يومي هذا من المشقة؛ إذ شددت من أزر المحصول كي أساعده على النضج قبل الأوان!» فقام أولاده وأسرعوا إلى حقله، فوجدوا الأوراق متساقطة، والسيقان ذابلة.

«فإذا تأمَّلنا كل ما تحت السماء جيدًا لوجدنا» أنَّ قليلين جدًّا هم الذين لا يجبرون زرعهم على النمو رغم أنفه «ولا يدفعون معنوياتهم إلى النماء والازدهار …» اعتقادًا منهم بأنَّ جهد الرعاية والمثابرة سعي خائب عقيم، يجدر بهم أن يعدلوا عنه فيقعدوا عن العمل والدأب، فأولئك هم الذين يبذرون زرعهم ويتكاسلون عن إزالة الأعشاب؛ «أمَّا المخالفون للنمط الطبيعي ﻓ…» يدفعون سيقان زرعهم للاستطالة كي ينمو سريعًا، فهم الذين يُشار إليهم بأنَّهم … «يضيعون الجهد ويفسدون الزرع» … فلا هم جنوا شيئًا من كدِّهم، ولا هم تركوا النبات لينمو حسب طبيعته.»

وراح كونسون شو يسأله: «فما معنى قولك إنَّك تعي تمامًا معاني كل الكلمات؟» فأجابه: «أقصد بذلك أنِّي عندما تكون الكلمات مائلةً (منحازةً) فأستطيع أن أهتدي إلى سر هذا الميل؛ فإذا كانت الكلمات ماجنةً فلا يصعب عليَّ أن أسبر غورها؛ وإذا كانت الكلمات فاسدةً بغيضة الغرض، فليس أيسر عليَّ من أن أدرك منطقها الماكر ومغزاها الخبيث؛ أمَّا إذا وجدت الكلمات مراوِغةً، فما أسرع أن أصل إلى منطلقاتها «الالتفافية» الخرقاء؛ فمثل تلك: الكلمات الصادرة عن اجتهادات النفوس، تحمل في طياتها أفدح المخاطر فيما يتصل بالشئون الحكومية؛ ذلك أنَّها إذا صارت موضع التطبيق في الجوانب المتعلقة بشئون الحكم الداخلي جلبت على الوطن الكوارث، وإنِّي لأقول لك قولًا إذا سمع به الحكماء القدامى قاموا من أجداثهم يسعون إليَّ، وما وسعهم إلَّا الموافقة على كلامي حرفًا حرفًا.»

فقال له كونسون شو: «كان كلٌّ من … «تسايوو»، و«زيكون» (تلميذي كونفوشيوس) … يُجيد الخطابة، أمَّ «رانيو» و«مين تسي» (اثنان من التابعين) فقد أجادا أصول الأخلاق وآداب المعاملات؛ وبالطبع فقد كان كونفوشيوس يجمع بين المهارتين، وبرغم ذلك فقد تحدَّث (في هذا الشأن)، فقال: «لساني في الخطابة عَيِيٌّ؛ فلم أُوهَب بيانًا فصيحًا ولا تعبيرًا بليغًا»، «فإذا كان الأمر كذلك عند كونفوشيوس!» فهل تستطيع أن تعدَّ نفسك، يا سيدي، واحدًا من الحكماء القديسين؟» فأجابه: «ويلك يا هذا، قد شطَّتْ بك الكلمات «أبَلَغ بك الاجتراء أن تتحدَّث في هذا أيضًا؟» كان زيكون (أحد أتباع المعلم الأكبر) قد سأل كونفوشيوس فيما مضى من الزمان، قائلًا: «أتراك يا سيدي جديرًا بلقب القديس حقًّا؟» فأجابه: «كلَّا، لم أبلغ بعدُ تلك الدرجة، فلست إلَّا واحدًا من الدارسين الذين لا يرهقهم طلب العلم، ومعلمًا لا يمل التدريس!» فقال له زيكون: «الدأب في طلب العلم حكمةٌ؛ والتدريس بغير ملل إنسانيةٌ ورحمةٌ، فما دمت قد جمعت بين هاتين الخصلتين فقد صرت قديسًا.»

فإذا كان كونفوشيوس نفسه لم يجرؤ على أن يدَّعي لنفسه درجة القديسين، فكيف «تسمح لنفسك بأن» تشطح بك الكلمات إلى هذا الحد؟»

قال كونسون شو: «قد بلغني من أخبار الحكماء مثل «زيشيا»، و«زيو»، و«زيجانغ» (أتباع كونفوشيوس) أنَّهم كانوا يتَّسِمون ببعض مزايا أستاذهم الأكبر؛ أمَّا «رانيو»، و«مين تسي»، و«يان يوان» (من التابعين أيضًا) فقد كانوا يقتربون من خصال أستاذهم في معظم الأحوال، إلَّا أنَّهم كانوا في غير قليل من المواضع يقصِّرون تقصيرًا بالغًا، فأين تجد نفسك من هؤلاء السادة؟»

فأجابه: «فلنُنَحِّ هذا الموضوع جانبًا، الآن!» فسأل السائل: «فما قولك في الحكيمَيْن «بويي» و«إيين»؟»

فقال: «شتَّان ما بيني وبينهما؛ وذلك لأنَّ المبدأ القائل «بأنَّه لا يُمكن للمرء أن يخدم إلَّا السيد الذي يراه محل تقديره، ولا يترأس نفرًا من المعاونين إلَّا الذين يراهم أهلًا للعمل معه، ولا ينبغي للمرء أن يعمل بوظيفة رسمية إلَّا في ظل أحوال مستقرة، فإذا ما اضطربت الظروف، كان الاعتزال هو الحل الأمثل.» … هذا المبدأ هو الذي يُسيطر على آراء وتوجهات «بويي»؛ أمَّا المبدأ الآخر الداعي لأنْ «يعملَ المرء تحت إمرة سيد ما دام هناك السيد الآمر، ويقوم على أمر العمال، ما دام هناك مَن يرغبون في العمل معه، ويتولى وظيفةً محترمةً، سواء استقرَّت الأحوال أو ساءت»، فهو المبدأ الذي ينادي به السيد «إيين».

فإذا قيل إنَّ هناك مبدأ آخر يدعو إلى أن «يلتحق المرء بوظيفة مناسبة إذا قامت الدواعي الموجبة لذلك، ويعتزل العمل العام إذا كانت هناك مبررات كافية ومقبولة، ويحتفظ المرء بمنصبه ما دامت الأحوال ملائمة، ويتصرف على نحو حازم إذا كان الحزم واجبًا» … فذلك هو المبدأ الذي كان يعمل كونفوشيوس بمقتضاه، فأولئك جميعًا بضعة من القديسين القدماء الذين لا أجد نفسي مؤهلًا للقيام بمثل أدوارهم، فإذا سألتني عمَّا أستطيعه، وعمَّا أحلم بإنجازه، إذن لقلتُ بأنِّي لا أطمح في شيء قدر طموحي إلى أن أظلَّ دارسًا وتلميذًا لكونفوشيوس (للمذهب القديم!).»

– «أترى أنَّ كلًّا من «بويي»، و«إيين»، ليسا جديرَيْن بمكانةٍ مساويةٍ لقيمة ما يُمثله المعلم الأكبر كونفوشيوس؟»

– «أجل، فلم يكن على الأرض منذ بدء الخليقة كفءٌ له، يساويه ويناظره علمًا ومكانةً.»

– «فهل تجمعهما وإياه صفات أو خصال مشتركة؟»

– «نعم؛ فمثلًا لو قدِّر لهذين الشيخَيْن الفاضلَين أن يصيرا ملوكًا فوق دولة تترامى حدودها وراء التخوم وأطراف الممالك (محيط أرضها مائة لي!) فسوف يبلغان من السؤدد مبلغًا تدين لهما به الأمراء وحكام المقاطعات والأقاليم، فيخضع الجميع لهما مهابةً وتعظيمًا، فتتحد الرايات وتأتلف الأقاليم إذعانًا لسلطانهما، فإذا دعتهم الضرورة إلى ظلم الأبرياء وانتهاك قواعد العدل، تحقيقًا للسيادة فوق الأرض، فسيعرضان عن ذلك في إباء شريف؛ فتلك هي المسألة التي يتفقان فيها مع أستاذهما.»

فعاد كونسون شو يسأله: «فهل لي أن أسألكم عمَّا يتناقضان فيه من خصال معه؟» فأجابه منشيوس: «إنَّ ثلاثةً من تلاميذ كونفوشيوس كانوا خير مَن يدرك خصال الحكماء «ويعملون بها»، وهم: «تسايوو» و«زيكون» و«يوروا»، ثم إنَّهم ما كانوا أبدًا — حتى في أسوأ الأحوال، وبافتراض تدني أخلاقهم! — لينافقوا أو يجمِّلوا صورة رجل أحبوه، وما كانوا أبدًا ليمجِّدوا صفات رجل وقع في قلوبهم موقعًا حسنًا فرضوا عنه فمدحوا خصاله، قال تسايوو (ذات مرةٍ): «إنِّي أرى كونفوشيوس أعظم كثيرًا من الإمبراطورَيْن الحكيمَيْن «ياو»، و«شون» [أنبياء العهد الصيني القديم، مع الفارق طبعًا!]»، وقال زيكون: «يُعرف الحكام بطقوسهم؛ ففي المراسم الملكية والطقوس تكمن ملامح السياسة، وفي الموسيقى التي تعزفها قصور الحُكم تكمن أُسس الأخلاقيات ومبادئ السلوك، «ومع ذلك فهناك حالة واحد يكفي فيها أن نطالع أحوال مائة جيل فائت …» فيُمكننا الاستدلال بأنَّ مائةً من الحكام والملوك فوق مائة عرش فيما هو قادم من السنين لن يسعهم إلَّا التزام أُسس الأخلاقيات ومبادئ السلوك التي أقرَّها «كونفوشيوس»، فهو الشيخ الأكبر الذي لم يكن في الدنيا كلها، منذ بدء الخليقة، نظيرٌ له في علمه ومكانته.»

وقال عنه «يوروا»: «لا تقتصر الفوارق على بَني البشر فقط، ولكن حتى في عالم الحيوان، فهناك تمايزات واختلافات أيضًا؛ فمثلًا يتميَّز «وحيد القرن» بصفات فريدة بين ذوات الأربع، والعنقاء ليست ككل الطيور، وبالمثل فإنَّ جبل «تايشان» نسيج وحده بين كل الكثبان والمرتفعات؛ ولا يُمكن أن يتساوى النهر الكبير بالجداول والغُدران، مع أنَّ كل أولئك يندرجون في أقسام مختلفة، كل قسم منها يُعد نوعًا قائمًا بذاته يشترك أعضاؤه في صفات واحدة؛ وكذلك القديسون والحكماء يشتركون أيضًا في صفات واحدة مع باقي الناس؛ إلَّا أنَّهم يتفوقون ويتميزون «عن بقية بني البشر»، فكذلك يتفرَّد كونفوشيوس وحده بمكانة شريفة وقدر عظيم بين الناس جميعًا، ولم يكن له منذ بدء الخليقة نظيرٌ من جنسه».»

(٣–٣) تحدَّث منشيوس فقال: «إنَّ اللجوء إلى القوة بوصفها الوسيلة (الذريعة) المُثلى لتحقيق العدالة والإنسانية يجعل من الحاكم ملكًا متوجًا ذا سطوة ونفوذ فوق الممالك والإمارات، ثم إنَّ الملك المتوَّج ذا العرش والسطوة فوق الممالك لا بد أن يكون تحت قيادته إمبراطورية قوية عملاقة «يستند إليها في بسط نفوذه، وتكون بمثابة التجسيد الملائم لقوته»؛ أمَّا اتخاذ الفضائل وسيلةً لتطبيق الرحمة والإنسانية فهو السيادة الحقة فوق عروش الممالك؛ حيث لا يتطلب الأمر وجود إمبراطورية أو مملكة مترامية الأطراف؛ «ومثلًا ﻓ…» لم يكن لدى الملك «شان طانغ» سوى أرض لا يزيد محيطها على سبعين ميلًا، ولم يكن تحت الملك أون (دولة جو الملكية) إلَّا أرض يبلغ محيطها مائة لي «هي كل موارده من القوة التي تحفظ له مكانته وهيبته في أعين الناس …»، إنَّ إخضاع الناس بالقهر لا يعني إمكان إقناعهم بذات الوسيلة؛ لأنَّها قد تذل أعناقهم، ويحال بينهم وبين القدرة على المقاومة، لكن نفوسهم تظل عنيدةً وتأبى الخنوع، أمَّا إقناعهم بواسطة الفضائل فهو الطريق الوحيد لضمان خضوعهم الطوعي بمحض إرادتهم، تمامًا مثلما هو الحال عند السبعين شيخًا من أتباع كونفوشيوس، أولئك الذين وردت بشأنهم تلك الأبيات من كتاب الشِّعر القديم، التي مطلعها:

«أقبَلَت من الغرب الوفود،
ومن جهة الشرق،
والشمال والجنوب.
أقبلت عليه من كل صوبٍ،
حشودٌ وراء حشود …
والكل تحت لوائه …
طاعة وإيمان».»

(٣–٤) إذا كان الأمير يحكم بالعدل والإنسانية، ففي هذا رفعة شأنه، أمَّا إذا كان على غير هذا النحو، فهنالك الخزي والعار، والماثل أمامنا أنَّهم (الملوك) يأنفون من كل ما يجلب لهم السوء، ومع ذلك، يتفيئون ظل سياسات غير عادلة، فمثلهم كمَن يكره أن تبتلَّ ملابسه برذاذ الماء؛ بينما يُقيم بأدنى منخفض عند مصب الأنهار (كمَن يكره البلل ويقعد حيث يصيبه وابل المطر!) ذلك أنَّ مَن بَغَض السوء حقًّا خليقٌ به أن يبذل اهتمامًا كبيرًا بالفضائل وتهذيب السلوك، ثم يُبجِّل الحكماء ويعظِّم الدارسين، فيُقرُّ لهم بالمكانة المتنفذة، ويكبر شأن الأكفاء فيوليهم الوظائف العامة، ولينتهز فرصة استقرار الأحوال فيُطالع المبادئ السياسية ويستبصر باللوائح القانونية، مما يُثير الرهبة في قلوب جيرانه الأقوياء [هكذا حرفيًّا]، وقد جاء في كتاب الشِّعر القديم ما نصه:

«ها قد أظلمت السماء،
وتكاثفت السحب،
وأوشك السيل أن ينهمر،
فلْأسرع قليلًا
إلى جذع شجرة،
أنزع عنها لحاءها؛
كي أواري ثَقبًا في الجدار،
وباب البيت،
ومصراع نافذة كاد أن ينكسر.
فمَن ذا يقدر، ساعتئذٍ،
أن يقتحم بيتي؛
فيهزأ بي ويوردني موارد الخطر.»

«وعندما طالع كونفوشيوس هذه الأبيات» قال: «إنَّ صاحب هذا الشِّعر يدرك المبادئ السياسية جيدًا، فهو يذهب إلى أنَّه بعد إذ استتبت الأوضاع الداخلية في الوطن، فلن يملك أحد أن يقوم بتهديده على أي نحوٍ.»

«ولئن كانت أوضاع الممالك الحاضرة مستقرةً تمامًا، فلم يعد الأمراء يعبئون إلَّا بحياة الترف والدَّعة، وهو ما سوف يقود إلى الكوارث، وعمومًا، وساء تعلَّق الأمر بالأفراح والمسرات، أو الكوارث والنازلات، فالإنسان وحده الذي يجلب لنفسه هذه أو تلك، حتى قيل في كتاب الشِّعر القديم:

«مَن اهتدى بهُدى السماء،
بلغ مصاف السعادة العظمى.»
وجاء في كتاب التاريخ (فصل تايجيا) ما مفاده:
«إذا تنزَّلت من السماء كارثة،
تنزَّلت من السماء نجاة منها وخلاص.
وإذا جلبت يد الإنسان الشر،
فليس مفر من
معاناة المحنة التي صنعها بنفسه الإنسان.»
فتلك هي غاية المعنى المقصود.»

(٣–٥) تحدَّث منشيوس فقال: «لو جرى تقدير ذوي الكفاءة واحترام الأماجد الفضلاء، ووزعت المناصب الرفيعة على المتميزين المشهود لهم بالدراية، لعمَّت البهجة قلوب رجال العلم، ولبذلوا جهدهم وعلمهم وسط أروقة البلاط، في ظل سلطان الحكم، بكل امتنان وتفانٍ؛ وإذا جرى عرض السلع في مخازن الأسواق دون فرض رسوم ضريبية عليها، لئلا تتكدس فتركد حركة البيع والشراء، فسوف يغتبط التجار لذلك، ويسارعون إلى عرض بضائعهم في الأسواق؛ وإذا اقتصر عمل نقاط التفتيش (بين المقاطعات) على فحص الأمتعة دون تحصيل الرسوم الضريبية فسوف يسعد المسافرون وتنشط حركة التنقل بين الأقاليم؛ وإذا صدر أمر ملكي يطلب من المزارعين المعاونة في أعمال الزراعة الجماعية — حسب النظام المعمول به في نمط إنتاجي، اسمه «نظام المربعات التسعة» — دون تحصيل رسوم ضريبية، فسوف يفرح الفلاحون بهذا الخبر، ويتطلعون إلى المشاركة في العمل؛ وإذا تقرَّر إعفاء السُّكَّان المقيمين في التجمعات الإيوائية (الأهلية) من إيجار الأراضي وضريبة الأجرة الإضافية (تلك التي يتم تحصيلها منهم مقابل تشغيلهم) فلسوف تعمُّ الفرحة كل الأهالي، ويتمنى الجميع لو أُتيحت لهم الفرصة أن يهجروا موطنهم ليأتوا ويقيموا في أرضك.

إذا استطاع الملك الحاكم أن يأخذ بهذه النقاط الخمس المذكورة «في الاعتبار» فسوف ينظر إليه أهالي الممالك المجاورة بوصف الأب الحاني والأم الرءوم «فإذا ما خطر في ذهن حكام الدويلات الغريبة أن تشن على مثل هذا الحاكم أيَّة حملة هجومية» فكيف يُمكن أن يتم تجنيد مثل هؤلاء الناس في حملة ضد مَن يعدُّونه في مكانة أمهم وأبيهم، «مع العلم …» أنَّه لم يحدث قط طوال تاريخ البشر على الأرض أن نجحت مثل تلك الحملات في أغراضها؛ ذلك أنَّ مثل هذا الصنف من الحكام لا يوجد له على الأرض أعداء، فإذا وُجِدَ بين الأمم ملك بغير أعداء، فهو بحق وزير السماء، ولم نسمع قط فيما مضى من تجارب الإنسانية أنَّ حاكمًا بلغ هذه المرتبة دون أن تتحقَّق على يديه وحدة الممالك التي فوق الأرض جميعًا.»

(٣–٦) قال منشيوس: «إنَّ التعاطف الإنساني فطرة جُبِل عليها البشر، وقد كان الملوك فيما مضى يمتازون بهذا الحس الإنساني على نحوٍ استفادوا به في تطوير سياسات حكم الممالك، مما جعل أمورَ الحكم «وتطبيقات» السياسة الداخلية في غاية اليسر والمرونة (وكأنَّ الحاكم يُدير شئون الحكم بين أصابعه) ولئن كنت أزعم أنَّ الناس جميعًا مفطورون على التعاطف، فدليلي على ذلك أنَّه ما من أحد من البشر رأى طفلًا قد أوشك على السقوط في بئر إلَّا فزعت نفسه وتحرَّكت فيه نوازع التعاطف والرحمة، حتى لو لم يكن من بين مقاصده الوفاء بحق صلة القربى أو صداقة حميمة تربط بين المرء وأهل ذلك الطفل، أو دافع يدفع المرء لنيل حظوة أو تقدير أو ثناء جيرانه وأقاربه، حتى بتأثير ما قد يبعثه بكاء الطفل وصراخه من ضيق أو حرج في نفس عابر سبيل.

بالتعمق في ملاحظة تلك الظاهرة، نجد أنَّ التعاطف طبيعة إنسانية أساسية، تمامًا كالإحساس المرهف، والخجل والتواضع، والإدراك السليم (التمييز الفطري بين الصواب والخطأ).

إنَّ التحلي بروح التعاطف هو أساس الإحسان، والحياء هو رأس الاستقامة؛ والتواضع أول طريق الخُلق القويم، والإدراك السليم مقدمة الحكمة.

فمَن حاز تلك المبادئ الأربعة، كان كمَن حسنت هيئته بتمام الخلقة، وقد وُلد بأطرافٍ أربعة كاملة وصحيحة، فإذا عجز المرء عن تقدير خصاله القوية، بما اكتسب من تلك المبادئ الأربعة، فقد اختلس حظ النفس من تمام القيمة (… بما فقدَ من الثقة في نفسه!)، ومَن ظنَّ أنَّ الأمير يعوزه شيء من تلك الخصال، فقد ظلم. إنَّ مَن يجد في نفسه شيئًا من تلك المبادئ الأربعة، فينبغي عليه أن يجدَّ في الحفاظ عليها وتنميتها، كأنَّها عين ماء انبجست تحت قدميه، أو شعلة نار اقتدحها بزنديه، إذا ثابر على موالاتها بالجد والرعاية أثمرت، ففاضت على الدنيا بأسرها «ماءً عذبًا، ونورًا وهَّاجًا»، وإذا أهملها كان أعجز عن أن يعول نفسه فضلًا عن والديه.»

(٣–٧) قال منشيوس: «هل من المعقول أن يكون صانع السهام أشد قسوةً ووحشية من صانع الدروع؟ بمعنى أنَّ صانع السهام يهمه في متانة بضاعته وجودة صنعته أن تكون قادرةً على الفتك بالناس؛ بينما تتحدد مهمة صانع الدروع في حماية الأرواح من شر السهام الطائرة. ثم إنَّ الطبيب الكاهن (الذي يعتمد على طرق سحرية من أسرار التعويذ في شفاء الأمراض)، وصانع التوابيت (النجَّار المتخصص في صناعة صناديق حفظ جثث الموتى) كلاهما ينطبق عليه الحال نفسه، «الطبيب يسعى في شفاء المرضى، والنجَّار المشار إليه يرجو ألَّا يطول بهم البقاء على قيد الحياة»، ومن ثم، نرى أنَّ اختيار المهنة أمر يتطلب منتهى الحذر. وقد قال كونفوشيوس ذات مرة: «ينبغي على الإنسان أن يجعل من الفضائل دار إقامة؛ إذ لا يجدر بالعاقل أن يقيم بمكان تجافت عنه الأخلاق!»

إنَّ الرحمة درجة شريفة تنزَّلت بها من السماء أعظم آيات الإجلال والتكريم، وهي أيسر موطن يقيم بين جنباته البشر، وليس للعاقل أن يبرح فناء الرحمة كلَّما وجد إلى ذلك سبيلًا (إذا ما ظلَّ قادرًا على ذلك دون أن تقف في سبيله العوائق)؛ ذلك أنَّ مَن تغاضى عن الرحمة، وتجافى عن الحكمة، فقد وقع في حمأة الظلم وسوء الأدب. «ومَن اقترف ذلك الخطأ فقد استوجب …» من ثم أن يصير ألعوبة في يد الناس تتقاذفها كيف تشاء، فمَن صارت هذه حاله، انحطَّ إلى حضيض العبودية ولقي خزيًا وهوانًا، فكأنَّه — في تلك الحال — مثل برَّاء السهام والأقواس الذي لا يجد في مهنته سوى الشعور بالخزي والعار، «فإذا كان الأمر، على هذا النحو …» أليس من الأفضل للمرء، إذن، أن يوطِّد نفسه على الرحمة، فالسالك في طريق الرحمة كالرامي عن القوس؛ ولمَّا كان الرامي يُهيئ لنفسه وضعًا مناسبًا، ويتخذ الإجراء المطلوب عند الرمي، فهو إن لم يصب الهدف، لا يلوم الرماة الذين ضربوا فسددوا؛ بل يستدير ليراجع موقفه ويحاسب نفسه وحده.»

(٣–٨) قال منشيوس: «كان «زيلو» (تلميذ كونفوشيوس) يفرح كثيرًا عندما يخبره الناس بما وقع فيه من أخطاء، وكذلك كان الإمبراطور «يو» (أشهر ملوك التاريخ القديم، المعروف بأنَّه أول حاكم لأسرة شيا، المشهور بالفضائل والخلق الكريم) ينشرح صدره لما يوجَّه إليه من النصح والإرشاد؛ بل إنَّ أعظم أباطرة العصر القديم «شون» (خليفة «يو» على العرش، ثاني أشهر الملوك القدامى من ذوي الفضائل الجمَّة) كان أبرز مَن اتَّسم بتلك الخصال الطيبة؛ إذ كان يتخذ قاعدة مراجعِه الأخلاقية مما وافق رأي جموع الناس من حوله، ولم يكن يستنكف أن يتراجع عن رأيه الشخصي «وأفكار رأسه!»، ويأخذ بما استقرَّ عليه رأي الناس، ما دام ذلك مؤديًا لعمل الخير، وقد كان طوال حياته، حتى (قبل أن يترقَّى إلى الوضع الذي مكَّنه من الوصول إلى مصاف الحكم الإمبراطوري) وهو يعمل مزارعًا بسيطًا في الأراضي، ثم وهو يعمل في صناعة الفَخَّار، أو عندما كان يحترف صيد الأسماك، وإلى أن صار ملك الملوك؛ لم يكن يتوانى عن التحلي بالفضائل واكتساب السمات الخلقية الفريدة مما يقترحه عليه ويُشير إليه به الناصحون.

إنَّ تعلم الفضائل من الناس لعمل الخير يُعدُّ أفضل وسيلةٍ لامتداح مبادئ السلوك العامة، ولا بد للعاقل من أن يجعل اهتمامه الأساسي مُنصَبًّا على امتداح الفضائل دعمًا للخير العام (للصالح العام)!»

(٣–٩) قال منشيوس: «لم يكن «بويي» ليسمح لنفسه بأن يتفانى ويعمل بكل إخلاص، إلَّا للأمير الذي يظن أنَّه أهلٌ لذلك؛ ولا كان يُصادق إلَّا مَن يستحق الصداقة عن جدارةٍ؛ «وهكذا …» فلم يكن له أن يلتحق بالعمل في بلاط مملكة فاسدة ولم يصادق رجلًا سيئ السمعة؛ «ذلك أنَّه كان يعتقد ﺑ» أن يعمل المرء في خدمة أمير فاسد، وأن يُصادق رفيقًا موصومًا، فمثله كمَن يرتدي أفخر الثياب ويتزيَّن بأبهى زينةٍ، ثم يجلس وسط الأوحال أو يستلقي على كومة من رماد.

فإذا تفحَّصنا حالته تلك بمزيد من الدقة «ورُحنا نتابع المزيد من التفاصيل في …» علاقته مع أهالي بلدته البسطاء، الذين إذا تصادف أن التقى بواحد منهم ووجد أنَّه لا يرتدي ثيابه [قبعته … حرفيًّا] على النحو اللائق (حسب الأصول والآداب المعهودة)، فما أسرع أن يستدير وينصرف عنه غاضبًا مشمئزًّا كأنَّه يبتعد عن قاذورات نتنة؛ «وهكذا …» فبالرغم من كل المحاولات التي بذلها كثير من الأمراء لملاطفته وملاينته سعيًا لتوظيفه «واستمالته في صفِّهم»، إلَّا أنَّه اعتذر عن عدم قبولها جميعًا، وكان السبب وراء ذلك هو أنَّه لا يُريد أن تكون هناك أيَّة صلة تربط بينه وبين أي من أولئك الأمراء والحكَّام.

غير أنَّ رجلًا آخر مثل ليو شياوي (أحد كبار رجال البلاط في دولة لو زمن الدول المتحاربة ٦٣٤ق.م.) لم يكن يخزيه أن يعمل في خدمة أمير ذائع الفساد، ولا كان يحط من قدره أن يعمل بوظيفة غير مرموقةٍ؛ بل كان يبذل جهده ليثبت قدرته وكفاءته على طيب نفسٍ منه، ما دام يعمل في البلاط الملكي؛ ولم يكن يشكو أو يتبرَّم إذا أهمله رؤساؤه «في الترقي» وتجافت عنه نظراتهم، ولا جزعت نفسه إذا ساءت حاله وأصابته الفاقة، وكثيرًا ما كان يقول: «ليلزم كل امرئ شأنه، فحال الناس ليس حالي، فإذا تعرَّى أحدهم وتجرَّد من ملابسه وجلس إلى جواري فلن ينقص ذلك من قدري شيئًا! لذلك فقد عاش حياةً سعيدةً تعرَّف فيها إلى أخلاط من الناس وألوان من البشر دون أن يُغيِّر شيئًا من عاداته أو أن تتبدَّل طبيعته، حتى إذا صدر له الأمر بالبقاء في خدمة الأمير (ولو جاء ذلك على غير ما يود ويرغب …) فسرعان ما كان يمتثل للأمر. وامتثاله، حينئذٍ، لا يعدو كونه نزولًا على الأمر الواقع، وصدوعًا بالأوامر، كما تقتضي القواعد والأصول» — وأتمَّ منشيوس كلامه قائلًا: «وأرى أنَّ «بويي» كان ضيق الأفق، قليل الصبر، بينما أنَّ ليوشياوي قليل الاعتداد بالنفس، لا مروءة له، ولا ينبغي للعاقل الحكيم أن يتخذ أحدهما أو كليهما نموذجًا ومثالًا».»

الجزء الثاني

جملته أربعة عشر فصلًا

(٤–١) قال منشيوس: «عندما تكون الظروف المناخية والجغرافية مواتيةً وملائمةً فعندئذٍ تصبح أفضل كثيرًا من ضربات الحظ» التي تأتي مصادفةً مع الزمان (المكان الملائم أفضل من الصدفة السعيدة)، ثم إنَّ التقاء العزم «عزم جموع الناس وإرادتهم» ووحدة الإرادة، أعظم من كل خيرات الأرض (الظروف الجغرافية المواتية).

إنَّ مدينةً عظيمةً محيطها ثلاثة لي، يدور حولها سورٌ هائلٌ، يبلغ متوسط محيطه سبعة لي، يُحاصرها العدو طويلًا، ويهاجمها، فلا يقدر على اقتحامها، على الرغم مما أكَّدته حسابات الوقت الملائم (الزمان) للهجوم، إلَّا أنَّ كل محاولات الاقتحام تبوء بالفشل؛ وذلك لأنَّ تلك الحسابات أخذت في اعتبارها عنصر الزمان دون مراعاة للخصائص والظروف الجغرافية والمناخية (هذا مثال لما أريد قوله، وهاك مثالًا آخر؛ ذلك …) أنَّ مدينةً أخرى يُحيط بها سورٌ عظيم الارتفاع، ونهر (مانع مائي) شديد العمق، ويتسلح أهلها بأمضى الأسلحة الهجومية والدفاعية «معًا»، ووراءهم مؤن وذخائر لا تنفد؛ لكنَّهم لا يصبرون على قتال، فإذا دهمهم العدو، هجروا الديار وولوا الأدبار؛ فذاك دليل على أنَّ احتمال البأس وشدة العزم ووحدة الإرادة أنفذ وأهم من الظروف الجغرافية والبيئية [الشروط المعنوية أبقى من الأحوال الطبيعية]؛ لذلك نقول بأنَّه «ليس ترسيم الحدود وتخطيط المواقع هو الذي يمنح السكان مكانًا للإقامة داخل وطنٍ، وليست حال الجبال والأنهار هي التي تُحدد درجة أهمية الموقع الجغرافي «… من الوجهة الأمنية» من حيث منعتُه كحاجز دفاعي على الحدود، وليست الأسلحة الفتَّاكة هي الضمان الوحيد لتهديد الأمم والممالك التي «تحت السماء» (يعني: في كل مكان) ليس هناك سوى السياسة الرشيدة هي التي تلقى كل مساندةٍ وتأييدٍ، فكلما جنحت أساليب الحكم بعيدًا عن مبادئ الرحمة والرشاد تناقص الأنصار، حتى إذا بلغوا الحد الأدنى تنكَّر الناس لملوكهم وأظهروا العصيان؛ أمَّا إذا كثر المبايعون للقصر الحاكم فهذا ضمان له بالتأييد التام، والهيبة الوافرة، مما يمكِّن (الحاكم) من تسليط قوة المناصرين على فلول العصيان والتمرد «فتردها إلى صوابها»، فمن ثم، كان العاقل الذي يتخذ من الرحمة سياسةً شرعيةً لا يجد نفسه في حاجة للجوء إلى القوة، فإذا دعته الظروف إلى ذلك فهو المنتصر المظفر.»

(٤–٢) لمَّا كان منشيوس يستعد للذهاب إلى القصر الملكي لمقابلة الملك، كان جلالته قد أرسل مبعوثًا من طرفه لمقابلة الفيلسوف الحكيم ليبلغه بما يلي … «كان من المقرر أن ألتقي بك، لكن الحُمَّى أصابتني فأرقدتني الفراش، وخشيت أن تتفاقم حالتي إذا خرجت للقائك، فإذا رأيت أن تحضر أنت فأبلغني حتى أقوم إلى الديوان فأستعد لاستقبالك، ولا أدري إن كنت ستتفضَّل بإتاحة الفرصة لنا كي نلقاك؟» … فكتب منشيوس ردًّا على الرسالة، بما نصه: «من سوء الحظ، أنِّي أنا أيضًا يا مولاي، قد أقعدني المرض عن الذهاب إلى القصر للقائك.»

وفي اليوم التالي، قصد منشيوس إلى منزل «دونكو» — كبير رجال القصر بدولة تشي — لتقديم واجب العزاء في فقيدٍ لديه، وهناك التقى بالسيد كونسون شو، الذي ابتدره قائلًا له: «أراك قد تذرعت يوم أمس بالمرض، ثم إذا بك تأتي اليوم للعزاء، ألا يبدو ذلك خرقًا لقواعد الآداب العامة على نحوٍ غير لائق؟» فأجابه قائلًا: «ولماذا ينبغي أن يبدو الأمر كذلك، ما دمت كنت مريضًا بالأمس ثم شفيت اليوم، فما الذي يحول دون القيام بواجب العزاء بعد إذ بَلَلْتُ من المرض؟»

وفي تلك الأثناء، كان جلالة الملكة قد أرسل إلى منشيوس في السؤال عن صحته، وأوفد مع الرسول طبيبًا يُمرِّضه، فخرج إليهم تلميذه وتابعه «منجوتسي» [تربطه بالفيلسوف صلة قرابة] فكلَّمهم، بغير اكتراث، قائلًا: «كان جلالة الملك قد أرسل بالأمس في استدعاء أستاذنا إليه، لكنَّه لم يستطع الذهاب بسبب وعكةٍ صحيةٍ طارئةٍ، فلمَّا تماثل اليوم للشفاء خرج مسرعًا إلى القصر، وربما يكون قد وصل الساعة إلى هناك أو كاد.»

ثم إنَّ منجوتسي أسرع من فوره بإرسال عدة أشخاص وأمرهم بانتظار منشيوس على قارعة الطريق، في أماكنَ مختلفةٍ وأن يُشيروا عليه، عند لقياه، بالتوجُّه مباشرةً إلى القصر الملكي دون إبطاء، إلَّا أنَّ منشيوس أصرَّ على أن يذهب خفيةً إلى بيت جين شو (أحد كبار رجال الحكومة في دولة تشي) ليبيت ليلته هناك، وكان أن قال له جين شو: «إنَّ أصول العلاقة الإنسانية تقوم على تمجيد الرابطة بين المرء وأبويه داخل المنزل، وتقديس العلاقة بين الفرد من ناحية والوزراء والملوك من ناحية أخرى، فيما يتعلق بالأمور العامة خارج العائلة؛ فالأساس في العلاقة بين المرء وأبويه هو العطف والإحسان؛ بينما تقوم العلاقة بين الفرد ورجال الدولة على مبدأ الاحترام والتبجيل، فما لي أرى جلالة الملك يبذل لك الاحترام الواجب دون أن تقوم نحوه بالمِثل؟» فأجابه: «عجبًا لقولك هذا، أما رأيت إلى أهل دولة تشي وهم يمتنعون رجالًا ونساءً عن أداء حقهم في تنبيه الملك إلى وجوب السير فيهم بسياسةٍ تقوم على الرحمة والعدل، أتراهم، إذن، يبغضون الرحمة والعدل؟ أبدًا، وإنَّما كل ما في الأمر أنَّهم في قرارة أنفسهم يرون أنَّ مثل ذلك الرجل «الحكيم» ليس أهلًا لمناقشتهم في أمور تتصل بالرحمة والعدل، وهذا في حد ذاته هو أفدح مثال لانتهاك قواعد الاحترام مع جلالة الحاكم. أمَّا فيما يخصني، فما كنت لأجسر أن أتحدَّث مع الملك حول تلك المسائل، لولا ما أرساه كل من الملكَيْن «ياو» و«شون» من مبادئ مقدسة في قديم الزمان، ومع ذلك فلم أجد بين أهالي دولة تشي مَن يُبدي للملك احترامًا يُساوي ما أشعر به تجاهه.»

فقال له جين شو مستنكرًا: «لم أقصد ما فهمت، وإنَّما أردت أن أذكِّرك بشيء ورد في «كتاب الطقوس» فيما نصه: «ليس لنداء الوالدين سوى الطاعة في صمت وهدوء، ولا لطلب الأمير إلا الامتثال الفوري دون إبطاء [حرفيًّا … دون انتظار حتى لعربة تجرها الجياد تُقِلُّني إليه!] لأنَّك كنت قصدت الذهاب إلى القصر في بادئ الأمر، فلمَّا جاءك الأمر بالمثول بين يدي جلالته، عدلت عمَّا اعتزمته من زيارته، فبدا ذلك منك مخالفًا للقواعد والآداب العامة!»»

فقال له منشيوس: «أمعقولٌ أن تذهب ظنونك فيَّ إلى هذا الحد؟ على أيَّة حال، فقد كنت سمعت «سنغ زي» (تلميذ كونفوشيوس)، يقول: «كان في حوزة دولتي «جين» و«تشو» من الغنى والثروة ما لا مثيل له في الممالك، ولئن كان ملكاها ينعمان بالجاه والمال، فإنِّي أملك ما لا يملكان، وهي الرحمة، فإذا كانا يملكان النبالة والشرف، ففي حوزتي العدل، فلست أنقصُ عنهما شيئًا»، والآن تأمَّل معي، أكان يُمكن لواحد مثل سنغ زي أن يقول كلامًا مثل هذا، لولا أنَّه يفيض رجاحةً وحكمةً؟

في الدنيا ثلاثة من أثمن وأعظم الأشياء جميعًا، وهي: المكانة الشريفة، والعمر الطويل، والفضائل الأخلاقية؛ فالمرتبة الاجتماعية الشريفة مكانها القصر الحاكم، والعمر الطويل هو ما يتفاضل به الناس في مجتمعاتهم التقليدية، أمَّا ما يسود به الأمراء على بقية الناس ويشد أزرهم ويقوي عزائمهم فهي الفضائل الأخلاقية، فمن أين، إذن، جاء تفضيل المرتبة والوجاهة الاجتماعية فوق الاثنتين الأُخرَيَين (العمر الطويل، والأخلاقيات) ومن ثم، فلا بد للأمير، ذي السلطة النافذة والسياسة القادرة، من أن يكون له وزراء يستدعيهم في أي وقت، فإن لم يجيبوه من فورهم، سعى بنفسه إليهم للتشاور في المسائل ذات الشأن.

ويجب دائمًا الاهتمام بالفضائل، والاجتهاد في تطبيق السياسات القائمة على الرحمة والإنسانية بكل تفانٍ وحب، وإلَّا «فمثل ذلك الأمير» لا يستحق أن يُبذل له أي قدر من التعاون.

ومن ثم فقد راح «الملك» شان طانغ يتعلَّم على يدي «إيين»، ثم راح يُرقِّيه حتى ولاه منصبًا وزاريًّا، مما مكَّنه في نهاية المطاف من أن يفرض سلطانه فوق الممالك، وهذا بالضبط ما فعله (الملك) «هوانكون» مع الحكيم «كوانجون» الذي تلقَّى العلم على يديه، ثم أنعم عليه فعيَّنه وزيرًا في الحكم، فعظم أمر «الحاكم» جدًّا واستطاع أن يقهر الممالك، ويُعلن نفسه «إمبراطورًا» تدين له الدول بالخضوع.

فإذا كانت الإمارات تتساوى اليوم، لا فرق بين صغيرها وكبيرها (لا تقوم فوقها دولة قوية تأخذ بناصية الأمور!)، والأفكار العامة تكاد تتوازى «دون إبداع!»، ولا يتفاضل أمير فوق آخر بشيء من مزايا التفوق؛ فليس هناك سوى سبب واحد «وراء كل ذلك»، وهو أنَّ الأمراء لا يُعيِّنون في المناصب الوزارية إلَّا مَن يصغون إلى آرائهم، ويبخلون بها على أساتذتهم ومعلميهم (يرشحون للمناصب مَن يصغي إليهم، لا مَن ينبغي أن يصغوا هم أنفسهم إليه!)

وهكذا فلم يجسر كل من «شان طانغ» و«هوانكون»، وهما الملكان المبجَّلان أن يقوما باستدعاء الحكيمين «إيين» و«كوانجون»، فإذا كان قرار الاستدعاء الملكي قد تجاوز واحدًا في مكانة «كوانجون»، أفلا يُمكن أن يغفل عن واحد أدنى كثيرًا من ذلك الفيلسوف الحكيم؟»

(٤–٣) راح تشين جين (تلميذ منشيوس) يسأل أستاذه قائلًا: «عندما كنت في دولة تشي منذ أيام قليلة، أرسل إليك الملك بمائة «يي» من الذهب [… نحو مائة وعشرين كيلوجرامًا] فلم تقبلها، ثم لمَّا ذهبت إلى دولة سونغ، أُرسلت إليك هدية قيمتها سبعون يي [نحو أربعة وثمانين كيلوجرامًا] من الذهب فقبلتها دون ترددٍ، ولمَّا كنت في طريقك عبر أراضي دولة «شيوي» جاءت هدية تُقدَّر بعشرة يي من الذهب الخالص [نحو اثني عشر كيلوجرامًا] فقبلتها أيضًا بكل ترحيبٍ، فإذا كان امتناعك عن قبول الهدايا فيما مضى هو الصواب بعينه، فإنَّ قبولك لها بعد ذلك خطأٌ لا يغتفر، وإذا كنت تقبلها اليوم بصدر رحب، فإنَّ رفضك لها من قبل لم يكن هو الصواب في شيء، وعلى أيَّة حال، فلا بد أن يكون تقديرك في هذه الأمور مبنيًّا على معيار محدد.»

فأجابه منشيوس: «بل كنت في ذلك كله على صواب، فعندما ذهبت إلى دولة «سونغ» كان طريق السفر المزمع طويلًا، وتكاليف الرحلة هائلة، فجاءت إلينا رسالة من القصر الحاكم تحتوي على مبلغ من المال، بوصفه هدية من عطايا الملك، نستعين لها على أداء مئونة السفر، مما لم يكن ممكنًا معه أن نرفض الهدية، فلمَّا كنت في دولة شيوي، عملت على اتخاذ كل التدابير الضرورية لمواجهة مخاطر الرحلة، فبلغتنا رسالة الأمير، بما نصه: «قد بلغنا أنَّكم تعملون على تفادي ما يُمكن أن يصادفكم من مخاطر الطريق، فأرسلت إليكم بمصاريف شراء ما يلزم من الأسلحة»، وبالطبع فلم يكن من المناسب رفض هذه الهدية.

أمَّا السببُ في رفض قبول أموال من دولة تشي، فهو أنَّه لم يكن هناك أصلًا أسباب تدعو لقبول أيَّة هدايا، فبدا العرض وكأنَّه رشوةٌ لشراء الذمة، وهل يُمكن للحكيم العاقل أن يبيع نفسه مقابل رشوة؟»

(٤–٤) لمَّا وصل منشيوس إلى بلدة «بين لو» (بلدة نائية عند حدود دولة تشي)، والتقى رئيس المدينة «كون جي شن»، فقد سأله قائلًا: «هب أنَّ أحد أفراد حرس الحدود عندك أهمل واجباته ثلاث مرات متتالية في يوم واحد، أما كنت تطرده من وظيفته؟»

فأجابه: «بل ما كنت أنتظر أن يهمل عمله ثلاث مرات؛ «كنت أُقصيه بعد ملاحظة إهماله لأول مرة»!»

فقال له منشيوس: «فماذا إذن وقد أهملت واجبات عملك أكثر من ثلاث مرات، أما رأيت أهالي المدينة، شبابًا وشيبة، وهم يهيمون في الوديان والآفاق البعيدة جَوعَى ومشردين، إثر المجاعة التي ضربت أطنابها فيكم؟ أما كنت هناك عندما تجاوزت أعداد الموتى والمشردين آلافًا مؤلفة؟»

فأجابه: «ذلك أمر لم يكن في طاقتي «بمفردي» أن أتدارك عواقبه»، فقال منشيوس: «فماذا لو قام عندك رجل بتبعة تربية ورعي قطعان الغنم والماشية وكيلًا عن صاحبها الأصلي، أما كان يجدر به أن يتخيَّر لها أحسن المرعى وأوفر العلف، فإذا لم يجد شيئًا من ذلك، أفلا يجب عليه حينئذٍ أن يُعيدها إلى مالكها، أم تراه يجلس جانبًا يتفرَّج عليها وهي تهلك أمام ناظريه جُوعًا؟»

وهنا أجابه «كون جي شي»: «أعترف لك الآن، بأنِّي مخطئ بكل تأكيد!»

ثم ما لبث منشيوس أن التقى بجلالة ملك تشي، فقال: «التقيت بخمسة من رؤساء المدن «الذين يعملون تحت تاجك» فلم أجد من بينهم مَن يملك الشجاعة على الإقرار بالوقوع في أخطاء جسيمة سوى واحد فقط، هو «ذلك المدعو» كون جي شن»، وراح منشيوس يقص على الملك تفاصيل الأمر، فما كان من جلالته إلَّا أن صاح بقوله: «بل أنا المخطئ الأول.»

(٤–٥) تكلَّم منشيوس مع تشيوا (أحد كبار موظفي دولة تشي) فقال له:

«أراك قد فعلت عين الصواب عندما تخلَّيت عن منصبك كرئيس لبلدة لين تشيو لتتولى العمل «في السلك القضائي» قاضيًا كبيرًا بالدولة، فموقعك الوظيفي الجديد يُمكِّنك من تقديم اقتراحاتك ونصائحك لجلالة الملك مباشرةً، لكن الغريب في الأمر أنَّك الآن، وبعد استلام مهام منصبك بفترة لا تقلُّ عن عدة أشهر، ما زلت لم تتقدَّم بشيء من الآراء أو الاقتراحات «لجلالته»، أتراك عاجزًا عن ذلك؟»

وبالفعل فقد تقدَّم «تشيوا» لجلالته بآراء واقتراحات شتى، لكنَّها لم تؤخذ بعين الاعتبار، مما كان سببًا في استقالته من وظيفته.

وهكذا راح البعض في دولة تشي يرددون بأنَّ «الرأي الذي «عرضه منشيوس، و …» أخذ به «تشيوا» كان جيدًا للغاية، لكن الطريقة التي تصرَّف بها هذا الأخير، هي التي طُويت ضمن ما انطوى من أسرار غير معلومة للكافة.»

والعهدة في هذه الرواية تقع على تلميذ منشيوس المدعو «كوندوتز»، «وهنالك» قال منشيوس: «إنَّه قد بلغني أنَّ مَن حِيل بينه وبين ممارسة مسئوليات وظيفته الرسمية، فلا بد له من الاستقالة، وكذلك مَن تقدَّم باقتراحات وتوصيات بحكم وظيفته الرسمية، وقوبلت جهوده بالتجاهل التام، فله أيضًا أن يعلن احتجاجه بالتخلي عن مهام وظيفته، أمَّا فيما يتعلق بي، وقد شاءت الظروف ألَّا يكون لي منصب وظيفي يخولني سلطة تقديم التوصيات؛ فمن حقي الذهاب إلى القصر وقتما أريد، أو الامتناع عن ذلك حسبما أرغب، ما دام أمامي مجال يسمح بالإقدام أو الإحجام بكل مرونة وسهولة، وسط أجواء هادئة تمامًا.»

(٤–٦) لمَّا تولى منشيوس منصبًا حكوميًّا مرموقًا في دولة تشي، صدرت إليه الأوامر بالتوجه إلى دولة «تنغ» في مهمة رسمية للقيام بواجب العزاء والمواساة، وأرسل معه حاكم تشي أحد رؤساء المدن، وهو المدعو «وان هوان» (رئيس بلدة «كيه» … وكان «وان هوان» من أكثر الموظفين الرسميين توددًا إلى جلالة الملك، حتى وثق به وجعله من خاصته)، ليكون مستشارًا ونائبًا له في مهمته، وهكذا سار معه هذا المسئول طوال مده تنقُّله بين البلدين، غير أنَّه لم يحدث أبدًا أن تحدَّث منشيوس إليه بشأن أي أمر من أمور المهمة الرسمية الموكولة إليهما، ومن ثم راح كونسون شو يسأل منشيوس قائلًا: «إنَّ المنصب الذي تشغله ليس بالعادي، والمسافة بين دولتي تشي وسنغ، ليست بالقصيرة، فكيف — على طول الطريق واتصال الصحبة — تُمسك عن محادثته في شئون بعثتكما الرسمية؟» فأجابه: «من ناحيته، فقد كان يتصرف فيما هو موكول إليه وحده دون تشاور معي، ففيمَ إذن كان لنا أن نتشاور؟»

(٤–٧) سافر منشيوس من دولة تشي إلى دولة «لو» لحضور مراسم دفن والدته، وفي طريق عودته إلى تشي توقَّف قليلًا عند بلدة «إينغ»، فجاء إليه أحد أتباعه (ويُدعى تشونيو)، وسأله: «كنتَ يا سيدي، فيما مضى قد تغاضيتَ عن جهلي وغباوتي ورضيتَ أن أصنع توابيت لموتاك؛ فلمَّا كنتَ «سيادتكم» مشغولًا آنذاك فقد خشيتُ أن أزعجك بأسئلتي؛ أمَّا الآن فقد حانت الفرصة كي أسألك عمَّا دعاك إلى اختيار أجود أنواع الأخشاب لصناعة التابوت الذي أودعت به جثمان والدتك؟» فأجابه: «اعلم أنَّ صناعة الأكفان الداخلية، والتوابيت الخارجية للموتى، في العصور القديمة، لم يكن يتبع نمطًا أو مقاييسَ محددةً، فلمَّا جاء العصر الوسيط، تمَّ تحديد سُمك التابوت الداخلي بما لا يزيد على سبع [تصون … أي بوصة] بوصات، على أن يسري القياس نفسه على التابوت الخارجي أيضًا، وجرى توحيد وتعميم تلك النِّسب على طقوس دفن العامة والخاصة، من الإمبراطور إلى أفراد الشعب البسطاء، باعتبار أنَّ مِثل ذلك الإجراء يحفظ مقاييس جمالية تتوافق حولها مشاعر الأبناء البررة؛ فلو كانت الطقوس تنص — مثلًا — على شراء أجود الخشب، بما لا تطيقه عامة الناس، لحزن الجميع على موتاهم، ولتحسروا لعدم مقدرتهم على الوفاء بعادات الدفن لضيق ذات اليد؛ لذلك اتبع الأقدمون نهجًا يوائم بين جودة الأخشاب المطلوبة لصناعة التوابيت؛ بحيث تكون أسعارها في متناول الجميع، فلئن كانت تلك عادة القدماء، فما الذي يجعلني أحيد عنها وحدي؟ وبالإضافة إلى ذلك كله، أفلا تظن أنَّه مما يُدخل السعادة على قلبي أن أحفظ جسد فقيدتي العزيزة بعيدًا عن الطين والتراب؟ وقد بلغني أنَّ العاقل لا يبخل على «طقوس جنازة» والديه بشيء مما يقوم به معاشه تحت السماء (في الحياة الدنيا)!»

(٤–٨) حدث أنَّ أحد كبار الوزراء بدولة تشي (وهو الوزير شنتون) تقدَّم إلى منشيوس بسؤال يستطلع فيه رأي الفيلسوف — من زاوية اهتمام شخصي غير رسمي — قائلًا: «أتظن أنَّ من الممكن مهاجمة دولة يان؟» فأجابه: «نعم، هذا ممكن جدًّا؛ «فلذلك» ينبغي على حاكم يان «تسيكواي» أن يُسلم قيادة بلاده إلى يدٍ أخرى، ولا يجب على رئيس وزرائه «تسي جي» أن يتسلَّم مقاليد الأمور من الملك تسيكواي «والمسألة، ببساطة يُمكن أن نضرب مثلًا لتوضيحها، على النحو التالي …» فإذا افترضنا أنَّك تصادق امرأً ما، وتُفضِّله على بقية الناس، وتخصه — سرًّا، ودون علم جلالة الملك — بأن تتنازل له طواعيةً عن رتبتك الاجتماعية وراتبك الملكي، ثم إنَّ هذا الشخص نفسه — دون علم الملك أيضًا، وبغير إذن رسمي — استولى خفيةً على صلاحيات منصبك ومخصصاتك المالية «وتصرَّف بها كيفما اتفق له»، فهل يُعد ذلك تصرفًا سليمًا؟ … فما الفرق، إذن، بين هذا المثال، وبين ما يُمكن أن يحدث في دولة يان؟»

وبالفعل، فقد هاجمت تشي دولة يان، وذهب أحدهم إلى منشيوس، وسأله:

«هل صحيح «ما بلغني من» أنَّك قد نصحت لدولة تشي بمهاجمة يان؟» فأجاب: «هذا غير صحيح! وإنَّما سألني «شنتون» (سرًّا) بقوله: «هل يُمكن مهاجمة دولة يان؟»، فأجبته حرفيًّا: «نعم، ممكن جدًّا» … فما كان «منهم» إلَّا أن قاموا بمهاجمة يان، أمَّا لو كان قد توجَّه إليَّ بسؤال آخر عمن يستطيع القيام بمهاجمة يان، لكنت أجبته على الفور بأنَّه ليس هناك سوى ملائكة (وزراء) السماء، وحدهم، هم الذين يقدرون على ذلك، «وللتوضيح فلنضرب مثلًا، فإذا كان …» هناك مجرم ارتكب جنايةً، وسألني واحد من الناس عمَّن ينبغي أن يقوم بقتل (الاقتصاص من) ذلك المجرم، لأجبته بأن ليس هناك سوى القاضي وحده هو الذي يملك سلطة قطع رأس الجاني.

لكن أن تقوم دولة تشي بمهاجمة يان (التي لا تقل عنها وحشية وقسوة) فهذا ما لا يُمكن أن أنصح به مطلقًا!»

(٤–٩) قام شعب دولة يان بأعمال المقاومة ضد احتلال بلاده (الإشارة هنا إلى قيام أهالي دولة يان بأعمال التمرد والعصيان ضد دولة تشي، وذلك في ٣١١ق.م.) وكان حاكم يان، الملك «زيكواي»، قد توفي إثر احتلال بلاده، وهرب رئيس الوزراء «تسيجي»، وشعر الأهالي بأنَّ تشي تريد ضمَّ بلادهم إلى أراضيها، وقاموا بعصيان أوامر بلاطها الإمبراطوري؛ مما اعتبرته تشي عملًا من أعمال العصيان والتمرد. وهنالك تحدَّث الملك شيوان حاكم تشي، فقال: «كم شعرت بالخجل من منشيوس؛ إذ قد اقترح عليه الفيلسوف الحكيم أن يُصدر أمرًا بإعادة المرضى والعجائز من الأسرى إلى ذويهم، وإيقاف أعمال السلب التي عمَّت دولة يان، وتنصيب حاكم جديد للبلاد استعدادًا للانسحاب، لكن الملك لم يأخذ برأيه، فقام الأهالي بالتمرد …» فقال له «تشن جيا» (أحد كبار رجال القصر في تشي): «لا تحزن يا مولاي، «وسأقول لجلالتكم شيئًا أثبت لكم به أنَّ الأمر لا يحتاج إلى ذلك الشعور بالأسف، واسمح لي بأن أسألكم …» أيكما أكثر حكمةً ورحمةً … جلالتكم أم جوكون (مؤسس أسرة جو)؟»، فأجابه الملك: «ما هذا القول؟ وأين أنا منه (… لست أهلًا لأن يُذكر اسمي مع اسمه، فكيف بك تقارن بيننا!).» فقال تشن جيا: «كان جوكون قد أرسل أخاه الأكبر كوانشو إلى دولة «يين» مشرفًا عامًّا على البلاد، بأمر الملك، ثم فوجئ جلالته بأنَّ أخاه هذا يقود دولة يين في عصيانها الشعبي الجارف ضده «فإذا تصَّورنا أن …» الملك جوكون كان يتوقَّع مثل هذا التصرف، وبرغم ذلك فقد ولَّى أخاه هذا المنصب، فذلك ما لا يتفق مع سياسةٍ تقوم على الإحسان والرحمة، أمَّا إذا قلنا بأنَّه ما كان يتوقَّع أن يتصرف أخوه على هذا النحو، وإلَّا لما عينه في وظيفته المشار إليها؛ فذلك مما ينزع عن الملك صفة الحكمة؛ بل ينفي عن جلالته الحلم والكياسة معًا، (فإذا كان ذلك هو الأمر مع جوكون، وهو مَن هو …) فما بالك لو كان الأمر بيدك؟ وأرجو من جلالتك أن تسمح لي بمقابلة منشيوس لأستوضح منه حقيقة تلك الأمور.»

فلمَّا التقى بمنشيوس ابتدره بسؤاله: «ما رأيك في جوكون؟»

فأجابه: «نِعم الرجلُ هو، كان من الحكماء والقديسين»، فقال له: «علمت أنَّه كان أرسل كوانشو مشرفًا على دولة يين، فإذا به يقود حملة عصيان عامة ضد سيده الذي أرسله ليحفظ النظام! ألم يكن ذلك هو ما حدث بالضبط؟»

– «بلى ذلك هو ما حدث تمامًا.»

– «وهل كان جوكون يدرك أنَّ سيحرِّض الأهالي على التمرد، فعيَّنه في منصبه على الرغم من ذلك؟»

– «أبدًا، لم يكن جوكون يعلم مسبقًا ما سيقدم عليه أخوه.»

– «إذن فالحكماء القديسون، هم أيضًا يخطئون!»

فقال منشيوس: «جوكون كان الأصغر سنًّا؛ بينما كوانشو هو الأخ الأكبر، ومن المعقول جدًّا أن يُخطئ الصغير، أليس كذلك؟ «أليس من المعقول أن تقوم بين الإخوة الأحقاد والضغائن!» ثم إنَّ السادة من ذوي الخلق الكريم كانوا، فيما مضى يُسارعون إلى تصحيح أخطائهم؛ أمَّا سادتنا الأفاضل في زماننا هذا، فيقعون في أخطاء بشعة ويغضُّون الطرف عن المراجعة والتصويب.

كانت أخطاء «الملوك» القدماء مثل كسوف الشمس وخسوف القمر، ظواهر كبرى تراها عيون الناس جميعًا، تختفي حينما تنصلح الأحوال ويصحو المخطئون من غفلتهم «فيصححون أخطاءهم»، ويتجلَّى صلاحهم لكل عين ناظرة؛ أمَّا أخطاء سادة هذا الزمان، فلطالما تُرك لها الحبل على الغارب، تسير وشأنها دون رقيب أو حسيب؛ بل تُحيط بها هالات من بديع الكلمات، تُداري عوارها وتزيِّن بالتزييف شنارها.»

(٤–١٠) استقال منشيوس من وظيفته التي كان مُعينًا بها (من قِبل دولة تشي)، وأخذ أهبته للعودة إلى بلاده، والتقى أثناء ذلك بملك تشي، الذي قال له:

«كنت أشتاق إلى التعرف إليك في أول الأمر دون جدوى، ثم أتيح لنا أن نلتقي معًا وأن نتعاون في كثير من الأمور، مما أشاع في قلبي السعادة؛ فأمَّا ما تزمع عليه اليوم من مغادرتنا والرحيل عنَّا «فهو يُحزننا كثيرًا … ويُثير التساؤل عمَّا …» إذا كان ممكنًا أن نلتقي بك ثانيةً؟»

فأجابه: «هذا ما لا أجسر أن أطلبه من جلالتك، لكنَّه عين ما أتطلَّع إليه وأتمناه.»

وبعد أيام التقى ملك تشي بأحد وزراء دولته «شيتز»، وقال له: «أريد أن أُقيم منزلًا لسُكنى منشيوس في قلب العاصمة، وأن أُمِده بكل ما يلزمه هو وتلاميذه من الطعام والشراب [حرفيًّا: له مئات الآلاف من أجولة الطعام] كي يقتدي به الوزراء، ويتعلَّم منه الأهالي، فلماذا لا تذهب إليه على الفور، فتكلمه في هذا الأمر عن لساني؟»

ثم ما لبث «شيتز» أن قام بتكليف «تشن تسي» (أحد تلاميذ منشيوس) بالتحدث مع أستاذه في هذا الشأن، وبالفعل قام تشن تسي بإبلاغ الحكيم بما كُلِّف بنقله، حرفيًّا.

فردَّ منشيوس على ذلك في دهشة، قائلًا: «ولماذا يتصوَّر «شيتز» أنَّ الأمر بعيد المنال، «وأقول بهذه المناسبة:» إنَّني لو كنت أريد الثروة والمال حقًّا فهل يُعقل أن أرفض راتبًا مقداره مائة ألف وزنة من المال، فيما كان متاحًا لي منذ زمان مضى، ثم أقبل هديةً لا يزيد مقدارها على عشرة آلاف وزنة فقط! كنت قد سمعت أحد أتباعي (جيسون) يقول ذات مرة: «ليس في الدنيا أغرب من المدعو «زيشوي»، ذلك الذي حاول جاهدًا أن يعمل بوظيفة رسمية (بالقصر الملكي) فلمَّا رُفض طلبه، راح يسعى جاهدًا لكي يُلحِق أخاه الأصغر في منصب حكومي مرموق.

وإذا كان من الطبيعي والمفهوم أن يسعى الناس إلى امتلاك الثروة والجاه، فإنَّ الشيء غير المفهوم بالمرة هو أن يسعى أحدهم إلى احتكار كل الثروات والمزايا لنفسه دون الآخرين. كان الناس قديمًا يتاجرون بمبادلة ما يملكون من أشياء مع ما يعرضه الآخرون مما يحتاجون إليه، على أنَّ عملية المبادلة لا تتم إلَّا تحت إشراف الأقسام الحكومية المسئولة، وأحيانًا كان أحد التجار من السفهاء وأولاد الطريق يُحاول أن يستأثر لنفسه بمكان بارز وسط السوق، يجعله محط الأنظار (يراه الزبائن إذا تطلَّعوا في أي اتجاه) فلا يفلت من حبالته صيد الربح الثمين، وكان مثل ذلك التاجر موضع كراهية وازدراء الناس جميعًا بوصفه سفيهًا لا خَلاق له؛ مما جعله عرضة «للعقاب الرسمي بواسطة» دفع مبلغ يلتزم به كضريبة، ومنذ ذلك الحين، وبسبب ذلك التاجر السفيه، نشأ نظام الضريبة».»

(٤–١١) مرَّ منشيوس في طريق رحيله عن دولة تشي ببلدة تشو (بلدة صغيرة على الحدود الجنوبية الغربية لدولة تشي)، فنزل بها ليبيت ليلته هناك، فجاء إليه أحد الأهالي وأراد أن يُضيِّفه في منزله «باسم جلالة الملك»، ثم جلس بكل الاحترام بين يديه، وتكلَّم معه ببالغ التوقير، إلَّا أنَّ منشيوس لم يكترث له ولم يحفل بكلامه؛ بل ظلَّ متكئًا على سريره يتثاءب في تكاسل واسترخاء، فغضب الرجل وصاح قائلًا: «لقد ظللت يقظًا «في انتظارك» منذ يومين، ولم يدخل جوفي فيهما طعامٌ حتى شرفتنا بزيارتك، فجئت أتحدَّث إليك، فتشاغلت عني بالتثاؤب، وضربت صفحًا عن محاورتي إياك، فلن أسعى، بعد اليوم، إلى مقابلتك!»

فقال له منشيوس: «أقبل واجلس ها هنا أكلمك، واسمع مني قولًا أحدثك به صراحةً؛ أما علمت أنَّ واحدًا مثل النبيل «لومو» ما كان له أن يُدخل الهدوء على قلب «زيس» (حفيد كونفوشيوس) إلَّا بما قام به من ترتيبات يضمن بها السهر على رعاية حفيد الشيخ الأكبر العظيم؛ وبالمثل أيضًا، فما كان ممكنًا ﻟ «لومو» نفسه أن يجد مَن يعتني به إلَّا بفضل ما بذله من أجله كل من «شيليو»، و«شين شيانغ» (إذ عهدا إلى خادم بمرافقته والقيام على راحته)، فكيف أصدق أنَّك تريد لي الراحة «وأنا الشيخ الهَرِم» وأنت لم تسلك معي بعدُ بالاحترام اللائق الذي بذله لومو ﻟ «زيس»؟ إلَّا أنَّك أنت الذي قصَّرت في واجبك نحوي، ولم أكن أنا الذي أخطأتُ في حقك!»

(٤–١٢) لمَّا غادر منشيوس أرض تشي؛ راح «يين تشي» (أحد الأهالي) يردد أمام الناس قولًا مفاده: «إن لم يكن منشيوس يدري، من أول الأمر، أنَّه سيعجز أن يصنع من الملك (حاكم تشي) رجلًا في قيمة «الملك المقدس» شان طانغ، أو في مكانة الإمبراطور العظيم «أو»، فهذا دليل على سذاجته وقلة تبصره؛ فأمَّا إذا كان قد جاء إلى جلالته وهو يعلم، منذ البداية، أنَّه لا جدوى من كل جهوده معه، فهو لم يأتِ، إذن، إلَّا سعيًا وراء المال والجاه والحظوة، ثم إنَّه بعد عناء السفر وطول الرحلة، لم يلبث إلَّا يسيرًا حتى وقع الشقاق بين الملك وبينه، ومع ذلك فقد راح يتلكأ في طريق عودته إلى بلاده، حتى أنَّه ظل يبيت عدة أيام في بلدة «جو» بدلًا من أن يُسرع الخطى براحلة السفر! يا لها من أمور تضيق بها النفس الكريمة!» … ثم إنَّ كاوتزي أبلغ منشيوس بمحصلة ذلك، فقال الفيلسوف الحكيم: «وكيف يُمكن ليين شي أن يُدرك خفايا شئوني الشخصية على هذا النحو؟ فلم أقطع المسافات الطوال سعيًا للقاء جلالة الملك؛ إلَّا لأني كنت آمل في التشرف بالمثول بين يديه، أمَّا أنِّي رحلت عن بلاده بعد أن تبدَّدت كل فرص التفاهم الودي، فهذا أمر لم أكن أريده ولا سعيت إليه؛ ولم يكن هناك مفر من مواجهته مهما فعلت! «تلك أحكام الضرورة»؛ ولئن أقمت في بلدة «تشو» ثلاث ليال؛ فلأنِّي كنت مرهقًا بسبب السفر، ثم إنِّي ندمت على التسرع في الرحيل، وظننت أنَّ جلالة الملك قد تراجع عن أفكاره وهو ما يعني أنَّه يُمكن أن يأمر باستدعائي للقائه، فلمَّا لم يحدث شيء من ذلك؛ رحلت عن البلدة المذكورة، وهو القرار الذي اتخذته بشكل قاطع، فهل يُمكن «على ضوء تلك الوقائع» الوصول إلى استنتاج بأنَّني تباعدت عن جلالة الملك!

هذا، ويعلم الجميع أنَّ ملك تشي يُراعي المصلحة العامة في كل قراراته، فإذا قرَّر أن يُسند إليَّ وظيفةً ما، فلا بد أنَّه يُدرك تمامًا أنِّي، من خلال ذلك المنصب، سأعمل لما فيه استقرار مواطني الممالك كافةً، ليس فقط أمن وسلام مملكة تشي وحدها، «وكثيرًا ما أتأمَّل وأفكر وأقول لنفسي …» لعل الملك يُغير موقفه (فيما بيني وبينه من نقاط الاختلاف،) فهذا ما أنتظره وأتمناه باستمرار، فليس لي أن أتصرف على نحو ما يفعل السفهاء «وقصيرو النظر أولئك …» الذين تتقلَّب جُنوبهم على لهيب الغضب ويتطاير من عيونهم شرر الاستنكار، إذا ما أغفل الملك آراءهم وتوصياتهم، ورفض الأخذ بنصائحهم، فيستقيلون من مناصبهم ويخوضون في متاهات وطرق السفر والترحال، ولا ينزلون عن رواحلهم إلَّا بعد طول مشقة وعذاب!»

فلما تناهت تلك الكلمات إلى سمع يين شي، تنهد قائلًا: يا لحقارتي وضعةِ نفسي!

(٤–١٣) تقدَّم «تشون يو» إلى منشيوس، وهو على طريق الرحيل عن دولة تشي، وسأله قائلًا: «ما لي أرى سحابات الحزن تغمر وجهك يا سيدي، وقد سمعتك تقول فيما مضى بأنَّه لا ينبغي للماجد الكريم أن يعبس بوجهه غضبًا من قدر السماء، ولا أن يطرق برأسه حزنًا من ظلم الأرض.»

فردَّ عليه منشيوس: «ما كان منذ حين فقد مضى في حينه، وما يكون الساعة فهو الكائن «وفي دورات التاريخ المتعاقبة» لا يكاد ينقضي من الزمان خمسمائة عام حتى يظهر حاكم قديس وأعوان تذيع شهرتهم في الأسماع، وإذا أحصينا الأعوام منذ بداية عصر أسرة جو «منذ أول سِني حكم الملك أو» حتى الآن، وجدنا أنَّها تبلغ سبعمائة عام تامة، فهي قد تجاوزت، بالأعداد، خمسمائة عام المشار إليها، أي أنَّه من المعهود أن تشهد الأحوال الحاضرة «ظهور القديس – الملك، وأعوانه» غير أنَّ إرادة السماء تأبى أن ينزل على الأرض السلام؛ ذلك أنَّها لا ترضى أن تمدني بمَن يشد أزري في مواجهة الأحوال العامة التي تُحيط بي من كل جانب، أفلا يصير ذلك مدعاةً للحزن والأسى؟»

(٤–١٤) لمَّا غادر منشيوس دولة تشي وأقام في بلدة شيو (القريبة من مسقط رأسه) ذهب إليه كونسون شو، وسأله: «هل من آداب المعاملات (المستقرة من قديم الأزل) أن يظل المرء قائمًا بمهام وظيفته الرسمية، حتى دون أن يتسلَّم راتبه المقرر؟» فأجابه: «لا، ليس ذلك من أصول المعاملات في شيء، «وحقيقة الأمر أنِّي» بعد لقائي بجلالة الملك في منطقة «تشون» عدت وفي نيتي أن أستقيل من وظيفتي، ولمَّا كنتُ قد عقدتُ العزم على ذلك، فلم يكن لي أن أقبل استلام أي راتب رسمي، وفي تلك الأثناء، قامت الحرب، وتعطَّلت إجراءات وترتيبات السفر، فاضطررت للإقامة الطويلة في تشي، وهو الأمر الذي لم يخطر لي ببالٍ ولا كنتُ أصبو إليه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤